الأيام الخوالي حكت لنا عن فريق من أدباء تونس ثاروا على أساليب القدامى في الكتابة.. وتزعم هذا الفريق الشاعر الخالد أبو القاسم الشابي.. ثم تطورت هذه الفكرة أولا : في نتاجات (جماعة تحت السور)
وبالخصوص في آثار علي الدوعاجي، والهادي العبيدي، وآبن تومرت، ومحمود بورقيبة، ومصطفى خريّف، ثم نمت فيما بعد على أيدي كل من :عز الدين المدني،ومنور صمادح، والمنصف الوهايبي، والصغير أولاد أحمد، والمكي الهمامي، والبشير المشرقي، وجميلة الماجري، وحفيظة قارة بيبان، وفضيلة الشابي، والتهامي الهاني..
الهاني.. في عالم الحضور :
حينما تتجه الأنظار إلى مواكبة الحركات الأدبية والفكرية في الوطن العربي نجد جيلا جديدا من الأدباء نهل من المعارف، وتأثر بكتابات العقاد، وطه حسين، وملحم كرم، وشوقي ضيف، والشابي، ومحمد الفاضل بن عاشور، والطاهر الحداد، ونجيب محفوظ، و(بنت الشاطئ)، والرافعي، والمسعدي، والبشير بن سلامة وأضرابهم..
ومن هذا الجيل كنا نتلقف ما يأتينا منه من علم وأدب، وأخلاق وفكر، وسجايا حميدة.. ومن أدباء تونس ؛ الذين واكبوا المواقف الثائرة وعشقوا التاريخ والأدب والمطارحات الفكرية أذكر الكاتب التهامي الهاني.
(والهاني) إذا ما أردتم أن تتعرفوا عليه أقول عنه : هو أديب كبير تخلق بأخلاق (القرآن الكريم)وأزدان قلمه بالدقة وبالمباديء السامية .. وللرجل مساهمات في المقاومة الوطنية في مسقط رأسه (سيدي بوزيد).. وهذا الكاتب إذا ما أراد أن يتحدث إليك .. يحدثك عن النضالات الشعبية؛ التي وحدت وطنه، ويحدثك عن الأوطان العربية ؛ وعن ثورات الجنوب التونسي،وعن خليفة بن عسكر، والدغباجي وعن (ثوار قفصة والمرازيق) وغيرها.
ويحدثك عن المجاهدين في الجبال، وعن القادة في الأحزاب أمثال : عبد العزيز الثعالبي، والحبيب بورقيبة، وصالح بن يوسف، وعلي البلهوان، وأحمد التليلي .. ويثني كثيرا على بطولات هؤلاء قائلا : هم وطنيون بحق، وإسهاماتهم في مراحل المقاومة ثابتة، وعاشوا في حياتهم شجعانا مع عزة النفس واحترام الذات..
و(الهاني المؤمن بقضايا أمته العربية) ؛والذي توجه ذات يوم إلى الله ليلهمه السداد في الرأي قائلا : (اللهم يا رب ألهمني القول حتى يكون في الرأي سداد) .. هو صبور في زمن الشدائد، وعروبي حتى النخاع.. وعاش في نضالاته شجاعا ومخلصا لقضايا أمته.. ومن مواقفه التي لا تنسى تحديه لافتراءات المستشرقين ؛ الذين أخطئوا في حق الإسلام على امتداد القرون ؛ فقد واجههم بالحجج الدامغة في كتابه : (القرآن والمستشرقون) الصادر في عام 2019م وقد سبق لي أن كتبت عن هذا الأثر الخالد في صحيفة (الصباح) التونسية قائلا عن المؤلف والكتاب : (إن هذا المثقف جال وأجاد في هذا البحث الجيد.. وكان نابها ومتمكنا من ثقافة موسوعية إستمدها من الحقبات الموغلة في التاريخ ومن أصول الإسلام وعقيدته..)
و(الهاني.. القامة الفكرية) والكاتب المتميز لم تختلط عليه الأحاسيس أو (الرؤيا الشعرية)؛ لينسى وطنه وأوجاع أمته العربية ؛ فقد عاش معنا في (جدار الزمن) حاضرا ومقيما يحكي عن آليات الكتابة، وعما يتعافى فيه الواقع .. ونقل إلينا ماهو ماثل أمام عينيه في منطق الحلم وفي خضم الأحداث .. كما حدثنا عن والديه وقدم لنا أمثلة تحتذى في كرم النفس ومحبة للخيريين.
وذكرنا أيضا بأساسيات (حب الوطن)،و(عشق اللغة العربية)، وأوصانا برعايتها ؛ لكونها تشير إلى القواسم المشتركة بين العرب، كما أصبحت اليوم جزء مهما في بناء (الكيان العروبي) ولسان حاله.
ويجدر التذكير بأن لهذه اللغة جذور وأصول، وخارطة طريق، في الترحال بقطار العروبة الشامخ، وأمتعتنا بأحلى الأصوات فيما نسمعه ونقرؤه من كتابات تهتدي بها الأجيال.
والهاني.. الأديب والكاتب والحريص على الإضافة في (اللغة العربية وفي معاجمها) لم يتنكر قط إلى اللهجات المحلية.. ولعله كان يرى في بعضها مثالا رائعا في منجز مدارات (الإختلاف اللغوي).. والاختلاف هنا له أسبابه ومبرراته أو تم بسبب (التّباعد الجغرافي).. وتلك هي نظرية الدكتور طه حسين ؛الذي عبر عن سعادته عند سماعه للهجة أهالي بغداد.. فيومها قال : (إن هذه اللهجة هي أقرب لهجة إلى اللغة العربية الفحصى) .
هذا ومن المعلوم أن لكل لغة من لغات العالم مجموعة من اللهجات ومنها : اللغة العربية ؛ إذ فيها لهجات إقليمية رئيسة متميزة كـ : (المصرية)، و(الشامية)، و(العراقية / الخليجية)، و(العربية في المغرب العربي) بالإضافة إلى تنوع لهجات (المملكة العربية السعودية) ؛ إذ بلغت 23 لهجة .
•الهاني.. الكاتب والأديب :
والتهامي الهاني ؛ هو مؤرخ، وشاعر، وأديب، وحضوره في الساحة الفكرية انبنى على خلفية ذكية هي : (عين الشاعر والأديب) المنفتحة على التاريخ وعلى سلامة التراكيب اللغوية، وعلى الموجة الواقعية الجديدة في النقد، وعلى تصوير الحقيقة والتغلغل في الأسباب والظروف، وهو اتجاه جيّد ؛ وسليم نبغ فيه الدكتور محمد مندور، وتأثر به أدباء آخرون يوم عالجوا العيوب الاجتماعية في أوطانهم كـ : عبد الرحمان الشرقاوي صاحب رواية (الأرض)، وعز الدين المدني في (الحلاج).
وفي تقديري كانت تجرية الهاني في الكتابة متسمة بالوضوح والصدق، وأثمرت جهوده في سياقات البذور الاجتماعية المستقرة في نفسه على إثر احتكاكه بالعمال التونسيين .. وهنا رأيناه يكتب عنهم وعن نضالاتهم، كما وجدناه في محطة أخرى مؤازرا للحركات النقابية العربية يوم ألف كتابه المعروف : (الإتحاد العربي للنقابات).. وفيه يقول في (المقدمة) وفي ص 5.. (.. العالم شهد تحولات عميقة، ولا يمكن أن يبقى معها الوضع العربي المتردي الراهن مستمرا.. وإن واجب الحركة النقابية العمالية يفرض على العمال والفئات الضعيفة في المجتمع أن تكون في طليعة المتصدين للظلم والإستبداد والحيف الإجتماعي...وعلى العمال أن يناضلوا من أجل حقوقهم في التنظيم والانتساب والهيكلة والتحرك من أجل الدفاع عن حقوقهم وآستحقاقات الشعب والوطن.. وهذا ما نراه غائبا في تاريخ الحركة النقابية العمالية العربية ..)
إذن : فيتضح من هذه النصوص أن الهاني يؤكد من جديد على القيم الثابتة في الحركات النقابية، وهو صادق فيما يؤمن به ويؤكد عليه.. وبالخصوص في المجالات التالية:
أولا : في السير في منحى (قداسة الفكر والقيم).
ثانيا : وفي مقاومة جميع أشكال الضغط الاستعماري على الأمة العربية.
ثالثا : في الإلحاح في مطلب الحرية للكاتب ؛ لينتج فكرا يتسم بالصراحة والجرأة.
وفي ظل هذه السياقات والمبادئ استقل (الهاني برأيه) وبشخصيته الأدبية، وأصبح له اعتبارا في (الموقف الاتصالي العام).. وحظوة في تقويم العملية الاتصالية على أسس بناء الواقع والحياة معا حسب (نظرية جيو) : (1854-1888م)
هذا وللتهامي الهاني عديد المؤلفات الفكرية والأدبية الهامة منها : (الإتحاد العربي للنقابات)، و(القرآن والمستشرقون)، و(دروب الشمس)، و(محمد الطالبي وقضايا إسلامية) ؛ و(محمد أركون ومحنة العقل الإسلامي)، و(الوطن والمرأة في شعر نزار قباني) وغيرها.. كما له دراسات أدبية ممتعة منها : دراسة عن : (العرب.. والشعر) نشرها في (مجلة المصير التونسية).. ونقتطف منها ما يلي :
(إن العرب أمة تفاخر بشعرها ولم تكن لهم (نظرية الشعرية) في مرحلة ما قبل الإسلام، وربطوا الشعر بالعديد من الأسباب في النص : (القصد).. فكان الإلهام والوحي والرؤية، وكان الشيطان والجنّ والهاتف مصادر للشعر).
ويقول أيضا :
(كان العرب يولون أهمية كبيرة للحسب والنسب، ويعتبر شرف الشاعر شرطا أساسيا في تحديد (قيمة شعرية القصيدة) ويقدمون الدلائل على ذلك.. وقد أتى آبن قتيبة في كتابه : (الشعر والشعراء) على ذلك. و يختم مقاله قائلا : إن (الشعرية يحس بها المرء ويتفاعل معها، ولا يقدر أن يقننها..لذا نقول إن (الشعرية) : هي نتاج يشترك في تحقيقه الباني، والمتقبل، وصاحب المطبعة، والمخرج وما قام به الخليل بن أحمد الفراهيدي ؛ هو جهد نقدره .. لكنه لا يحدد (الشعرية) .. بل ويلغيها.. ويبقى السؤال الدائم والأزلي : أي شعرية نريد؟)
فهذا هو الباحث التهامي الهاني صاحب (دار القلم) والقائل عن هذه الدار : هي دار نشر بوسط البلاد.. لكنها تتعامل مع جميع أدباء العرب. والقائل إلينا معرفا بنفسه :
حزينا أجرّ قيود السنيــــــــــــــن وأبحث عن مــــاضي العرب
وجسمي لهيب يضم الحنيــن يفور عبيقــــــــــــــــا من الغضــب
على الظالمين، على القـــــــانعين على وطن مربــــــع الصخب
فصوت المنادي يقول لنــــــــــــــا ألا فآنهضوا يــــــا بني العرب
هو أديب تونسي وألمعي، وعاشق للكتابة وللغة العربية، وتتوالد في قلمه العواطف بعضا من بعض في رحم عجيب..
يتراءى عالي أحيانا شاعرا حالما بين ثنايا الرومانسية والواقعية..وأحيانا أراه كسياسي يتحدث عن همومنا وطموحاتنا !..
وفي أطوار أخرى.. أراه حائرا بين الموجود والمنشود.. وبين ماهو قائم بنفسه ووالج إليها بالشوق والتوق !..
وفي بعض المحطات.. ألمحه ساعيا لوحدة الحضارات البشرية بكل ما تمثله من حلقات متصلة بحب الأرض على امتداد الأزمنة.. وداعيا للحفاظ على تراثنا، وعلى هويتنا التي تميزنا عن الآخرين..
وفي محفل آخر : أجده ثائرا مع ثوار فلسطين، ومدافعا عن الهوية العربية، وعاشقا للأديب الراحل نجيب محفوظ ويقول عن هذا الكاتب : إن محفوظ ليس لمصر فقط ؛ بل هو إضافة جديدة لفكر الأمة العربية في مجال التنوير والإبداع الروائي العربي.
وفي مراحل العمر ؛ يذكرني التهامي الهاني ببعض كتابات الثائرين على اليأس، وبحيرة (الحلاج).. وحتى بحزن شاعر العراق الكبير بلند الحيدري القائل عن أرض العرب :
تلك هي الأرض فلا تعجبني
إن مرّ بي الفجر وما مرّ بي
فذاك هو الأديب والباحث التهامي الهاني في أحلامه..وفيما أعطى للحياة معنى وأمتد إلى أعلى !..
بقلم : رشيـــــــــــد الذوادي
الأيام الخوالي حكت لنا عن فريق من أدباء تونس ثاروا على أساليب القدامى في الكتابة.. وتزعم هذا الفريق الشاعر الخالد أبو القاسم الشابي.. ثم تطورت هذه الفكرة أولا : في نتاجات (جماعة تحت السور)
وبالخصوص في آثار علي الدوعاجي، والهادي العبيدي، وآبن تومرت، ومحمود بورقيبة، ومصطفى خريّف، ثم نمت فيما بعد على أيدي كل من :عز الدين المدني،ومنور صمادح، والمنصف الوهايبي، والصغير أولاد أحمد، والمكي الهمامي، والبشير المشرقي، وجميلة الماجري، وحفيظة قارة بيبان، وفضيلة الشابي، والتهامي الهاني..
الهاني.. في عالم الحضور :
حينما تتجه الأنظار إلى مواكبة الحركات الأدبية والفكرية في الوطن العربي نجد جيلا جديدا من الأدباء نهل من المعارف، وتأثر بكتابات العقاد، وطه حسين، وملحم كرم، وشوقي ضيف، والشابي، ومحمد الفاضل بن عاشور، والطاهر الحداد، ونجيب محفوظ، و(بنت الشاطئ)، والرافعي، والمسعدي، والبشير بن سلامة وأضرابهم..
ومن هذا الجيل كنا نتلقف ما يأتينا منه من علم وأدب، وأخلاق وفكر، وسجايا حميدة.. ومن أدباء تونس ؛ الذين واكبوا المواقف الثائرة وعشقوا التاريخ والأدب والمطارحات الفكرية أذكر الكاتب التهامي الهاني.
(والهاني) إذا ما أردتم أن تتعرفوا عليه أقول عنه : هو أديب كبير تخلق بأخلاق (القرآن الكريم)وأزدان قلمه بالدقة وبالمباديء السامية .. وللرجل مساهمات في المقاومة الوطنية في مسقط رأسه (سيدي بوزيد).. وهذا الكاتب إذا ما أراد أن يتحدث إليك .. يحدثك عن النضالات الشعبية؛ التي وحدت وطنه، ويحدثك عن الأوطان العربية ؛ وعن ثورات الجنوب التونسي،وعن خليفة بن عسكر، والدغباجي وعن (ثوار قفصة والمرازيق) وغيرها.
ويحدثك عن المجاهدين في الجبال، وعن القادة في الأحزاب أمثال : عبد العزيز الثعالبي، والحبيب بورقيبة، وصالح بن يوسف، وعلي البلهوان، وأحمد التليلي .. ويثني كثيرا على بطولات هؤلاء قائلا : هم وطنيون بحق، وإسهاماتهم في مراحل المقاومة ثابتة، وعاشوا في حياتهم شجعانا مع عزة النفس واحترام الذات..
و(الهاني المؤمن بقضايا أمته العربية) ؛والذي توجه ذات يوم إلى الله ليلهمه السداد في الرأي قائلا : (اللهم يا رب ألهمني القول حتى يكون في الرأي سداد) .. هو صبور في زمن الشدائد، وعروبي حتى النخاع.. وعاش في نضالاته شجاعا ومخلصا لقضايا أمته.. ومن مواقفه التي لا تنسى تحديه لافتراءات المستشرقين ؛ الذين أخطئوا في حق الإسلام على امتداد القرون ؛ فقد واجههم بالحجج الدامغة في كتابه : (القرآن والمستشرقون) الصادر في عام 2019م وقد سبق لي أن كتبت عن هذا الأثر الخالد في صحيفة (الصباح) التونسية قائلا عن المؤلف والكتاب : (إن هذا المثقف جال وأجاد في هذا البحث الجيد.. وكان نابها ومتمكنا من ثقافة موسوعية إستمدها من الحقبات الموغلة في التاريخ ومن أصول الإسلام وعقيدته..)
و(الهاني.. القامة الفكرية) والكاتب المتميز لم تختلط عليه الأحاسيس أو (الرؤيا الشعرية)؛ لينسى وطنه وأوجاع أمته العربية ؛ فقد عاش معنا في (جدار الزمن) حاضرا ومقيما يحكي عن آليات الكتابة، وعما يتعافى فيه الواقع .. ونقل إلينا ماهو ماثل أمام عينيه في منطق الحلم وفي خضم الأحداث .. كما حدثنا عن والديه وقدم لنا أمثلة تحتذى في كرم النفس ومحبة للخيريين.
وذكرنا أيضا بأساسيات (حب الوطن)،و(عشق اللغة العربية)، وأوصانا برعايتها ؛ لكونها تشير إلى القواسم المشتركة بين العرب، كما أصبحت اليوم جزء مهما في بناء (الكيان العروبي) ولسان حاله.
ويجدر التذكير بأن لهذه اللغة جذور وأصول، وخارطة طريق، في الترحال بقطار العروبة الشامخ، وأمتعتنا بأحلى الأصوات فيما نسمعه ونقرؤه من كتابات تهتدي بها الأجيال.
والهاني.. الأديب والكاتب والحريص على الإضافة في (اللغة العربية وفي معاجمها) لم يتنكر قط إلى اللهجات المحلية.. ولعله كان يرى في بعضها مثالا رائعا في منجز مدارات (الإختلاف اللغوي).. والاختلاف هنا له أسبابه ومبرراته أو تم بسبب (التّباعد الجغرافي).. وتلك هي نظرية الدكتور طه حسين ؛الذي عبر عن سعادته عند سماعه للهجة أهالي بغداد.. فيومها قال : (إن هذه اللهجة هي أقرب لهجة إلى اللغة العربية الفحصى) .
هذا ومن المعلوم أن لكل لغة من لغات العالم مجموعة من اللهجات ومنها : اللغة العربية ؛ إذ فيها لهجات إقليمية رئيسة متميزة كـ : (المصرية)، و(الشامية)، و(العراقية / الخليجية)، و(العربية في المغرب العربي) بالإضافة إلى تنوع لهجات (المملكة العربية السعودية) ؛ إذ بلغت 23 لهجة .
•الهاني.. الكاتب والأديب :
والتهامي الهاني ؛ هو مؤرخ، وشاعر، وأديب، وحضوره في الساحة الفكرية انبنى على خلفية ذكية هي : (عين الشاعر والأديب) المنفتحة على التاريخ وعلى سلامة التراكيب اللغوية، وعلى الموجة الواقعية الجديدة في النقد، وعلى تصوير الحقيقة والتغلغل في الأسباب والظروف، وهو اتجاه جيّد ؛ وسليم نبغ فيه الدكتور محمد مندور، وتأثر به أدباء آخرون يوم عالجوا العيوب الاجتماعية في أوطانهم كـ : عبد الرحمان الشرقاوي صاحب رواية (الأرض)، وعز الدين المدني في (الحلاج).
وفي تقديري كانت تجرية الهاني في الكتابة متسمة بالوضوح والصدق، وأثمرت جهوده في سياقات البذور الاجتماعية المستقرة في نفسه على إثر احتكاكه بالعمال التونسيين .. وهنا رأيناه يكتب عنهم وعن نضالاتهم، كما وجدناه في محطة أخرى مؤازرا للحركات النقابية العربية يوم ألف كتابه المعروف : (الإتحاد العربي للنقابات).. وفيه يقول في (المقدمة) وفي ص 5.. (.. العالم شهد تحولات عميقة، ولا يمكن أن يبقى معها الوضع العربي المتردي الراهن مستمرا.. وإن واجب الحركة النقابية العمالية يفرض على العمال والفئات الضعيفة في المجتمع أن تكون في طليعة المتصدين للظلم والإستبداد والحيف الإجتماعي...وعلى العمال أن يناضلوا من أجل حقوقهم في التنظيم والانتساب والهيكلة والتحرك من أجل الدفاع عن حقوقهم وآستحقاقات الشعب والوطن.. وهذا ما نراه غائبا في تاريخ الحركة النقابية العمالية العربية ..)
إذن : فيتضح من هذه النصوص أن الهاني يؤكد من جديد على القيم الثابتة في الحركات النقابية، وهو صادق فيما يؤمن به ويؤكد عليه.. وبالخصوص في المجالات التالية:
أولا : في السير في منحى (قداسة الفكر والقيم).
ثانيا : وفي مقاومة جميع أشكال الضغط الاستعماري على الأمة العربية.
ثالثا : في الإلحاح في مطلب الحرية للكاتب ؛ لينتج فكرا يتسم بالصراحة والجرأة.
وفي ظل هذه السياقات والمبادئ استقل (الهاني برأيه) وبشخصيته الأدبية، وأصبح له اعتبارا في (الموقف الاتصالي العام).. وحظوة في تقويم العملية الاتصالية على أسس بناء الواقع والحياة معا حسب (نظرية جيو) : (1854-1888م)
هذا وللتهامي الهاني عديد المؤلفات الفكرية والأدبية الهامة منها : (الإتحاد العربي للنقابات)، و(القرآن والمستشرقون)، و(دروب الشمس)، و(محمد الطالبي وقضايا إسلامية) ؛ و(محمد أركون ومحنة العقل الإسلامي)، و(الوطن والمرأة في شعر نزار قباني) وغيرها.. كما له دراسات أدبية ممتعة منها : دراسة عن : (العرب.. والشعر) نشرها في (مجلة المصير التونسية).. ونقتطف منها ما يلي :
(إن العرب أمة تفاخر بشعرها ولم تكن لهم (نظرية الشعرية) في مرحلة ما قبل الإسلام، وربطوا الشعر بالعديد من الأسباب في النص : (القصد).. فكان الإلهام والوحي والرؤية، وكان الشيطان والجنّ والهاتف مصادر للشعر).
ويقول أيضا :
(كان العرب يولون أهمية كبيرة للحسب والنسب، ويعتبر شرف الشاعر شرطا أساسيا في تحديد (قيمة شعرية القصيدة) ويقدمون الدلائل على ذلك.. وقد أتى آبن قتيبة في كتابه : (الشعر والشعراء) على ذلك. و يختم مقاله قائلا : إن (الشعرية يحس بها المرء ويتفاعل معها، ولا يقدر أن يقننها..لذا نقول إن (الشعرية) : هي نتاج يشترك في تحقيقه الباني، والمتقبل، وصاحب المطبعة، والمخرج وما قام به الخليل بن أحمد الفراهيدي ؛ هو جهد نقدره .. لكنه لا يحدد (الشعرية) .. بل ويلغيها.. ويبقى السؤال الدائم والأزلي : أي شعرية نريد؟)
فهذا هو الباحث التهامي الهاني صاحب (دار القلم) والقائل عن هذه الدار : هي دار نشر بوسط البلاد.. لكنها تتعامل مع جميع أدباء العرب. والقائل إلينا معرفا بنفسه :
حزينا أجرّ قيود السنيــــــــــــــن وأبحث عن مــــاضي العرب
وجسمي لهيب يضم الحنيــن يفور عبيقــــــــــــــــا من الغضــب
على الظالمين، على القـــــــانعين على وطن مربــــــع الصخب
فصوت المنادي يقول لنــــــــــــــا ألا فآنهضوا يــــــا بني العرب
هو أديب تونسي وألمعي، وعاشق للكتابة وللغة العربية، وتتوالد في قلمه العواطف بعضا من بعض في رحم عجيب..
يتراءى عالي أحيانا شاعرا حالما بين ثنايا الرومانسية والواقعية..وأحيانا أراه كسياسي يتحدث عن همومنا وطموحاتنا !..
وفي أطوار أخرى.. أراه حائرا بين الموجود والمنشود.. وبين ماهو قائم بنفسه ووالج إليها بالشوق والتوق !..
وفي بعض المحطات.. ألمحه ساعيا لوحدة الحضارات البشرية بكل ما تمثله من حلقات متصلة بحب الأرض على امتداد الأزمنة.. وداعيا للحفاظ على تراثنا، وعلى هويتنا التي تميزنا عن الآخرين..
وفي محفل آخر : أجده ثائرا مع ثوار فلسطين، ومدافعا عن الهوية العربية، وعاشقا للأديب الراحل نجيب محفوظ ويقول عن هذا الكاتب : إن محفوظ ليس لمصر فقط ؛ بل هو إضافة جديدة لفكر الأمة العربية في مجال التنوير والإبداع الروائي العربي.
وفي مراحل العمر ؛ يذكرني التهامي الهاني ببعض كتابات الثائرين على اليأس، وبحيرة (الحلاج).. وحتى بحزن شاعر العراق الكبير بلند الحيدري القائل عن أرض العرب :
تلك هي الأرض فلا تعجبني
إن مرّ بي الفجر وما مرّ بي
فذاك هو الأديب والباحث التهامي الهاني في أحلامه..وفيما أعطى للحياة معنى وأمتد إلى أعلى !..