إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الشاعرة المهاجرة فائزة بنمسعود لـ"الصباح": تهيئة أجيال تُحب القراءة تعني خلق سوق لترويج الكتاب وفك عقال دور النشر

 

 

**المهرجانات الشعرية اغلبها مجرد لقاءات لا روح فيها تخضع لنوع من اللوبي الثقافي المسيء للمشهد والمحط من قيمة الابداع

**المشهد الثقافي التونسي زاخر بطاقات إبداعية تحتاج التشجيع وتثمين مجهوداتها

**معرض تونس الدولي للكتاب في حاجة لمراجعة قانونه وطريقة تنظيمه وبرامجه

** على أرصفة الغياب كتبت القصيدة، وفي قطارات الغربة تعرت شاعريتي

حوار : محسن بن احمد

تونس-الصباح

اختارت عن روية الهجرة والاستقرار في الكندا وهناك شقت طريقها في عالم الإبداع لتصوغ اشعارا وقصائد نحتتها من رحم الإحساس بالغربة والاغتراب على حد تعبيرها مستحضرة ذكريات ومتوقفة عند احداث ومعبرة عن أحاسيس ومشاعر تزخر بالكثير من الحنين والشوق والحب والاعتزاز بالانتماء لربوع تونس الجميلة والشامخة بتاريخها وحضارتها الإنسانية الضاربة جذورها في اعماق التاريخ فائزة بنمسعود كانت واحدة من أبرز المشاركات في الدورة الأخيرة لمعرض تونس الدولي الذي مثل لها فرصة للتعريف بابداعاتها الشعرية بدرجة أولى فكان الإجماع حول ثراء وتنوع هذه التجربة الإبداعية التي امتزجت فيها رائحة الوطن بمشاعر الحنين والشموخ والطموح والتوق الى معانقة الشمس..

فائزة بنمسعود تحدثت لـ"الصباح" عن تجربة الغربة في ابداعها الشعري وعن مشاركتها مؤخرا في معرض الكتاب لتتوقف عند عديد الإشكاليات التي لها علاقة بالشعر والشعراء والنشر

**كيف كانت بداية العلاقة مع الشعر؟

-علاقتي بـالشعر بدأت بالاستماع لأبي رحمه الله وهو يقول كلاما له إيقاع شجي يشدني(الشعبي) جدا -وسرعان ما أنسى الكلمات فأحاول أن أعثر عليها فلا أتذكرها.. ولكن على نفس إيقاعها أقول غيرها تماما ومع الوقت زاد غرامي بالمطالعة وقراءة الشعر حتى دون ان أفقه معناه ونما فيَّ هذا الحب فكتبت.. وشجعني أساتذتي وبعض الأصدقاء وهكذا جمعت كتاباتي في ديوانين سلّمتهما على شكل مخطوطين في سنة1998 لإحدى المطابع بالعاصمة ، لأسعد بمولد أحدهما على الأقل ولكنهما رغم حرصي وتعدد اتصالاتي قُبِرا إلى يوم الناس هذا.. وما استطعت حتى استعادة المخطوطين وما كنت أملك حتى المسودات وضاع مني أروع حلم ثم أن الظروف المادية والنفور من دور النشر والمطابع والتزاماتي الأسرية كأم وسفري ، كل هذا جعلني اكتب وأحتفظ بكتاباتي ريثما تتهيّأ الاسباب لترى أشعاري النور وهكذا صدر لي ديوان أول بعنوان ("كلام بلا ذاكرة" 2018) على نفقتي الخاصة واقتناه مني الأقارب والأصدقاء وما كان في ذهني عملية تسويقه بل كانت فلسفتي ترك أثر لا غير ومع انتشار شبكة التواصل الاجتماعي وتشجيع القراء نشرت دواوين أخرى بلغت السبعة وآخرها صدر عن دار الوجيز للنشر(عزف امرأة غاوية) ولي تجارب في القصة القصيرة (صدر لي ثلاث مجموعات قصصية) ورواية تصدر قريبا عن دار الوجيز ولكن كلها كتبت بقلب شاعرة ونفس شاعري.

**من اي باب تدخلين الشعر باب الذكريات ام باب الطفولة ام باب الاعتراف الوجداني ام باب الإنسان وقضاياه؟

-الشعر عندي متعدد الأبواب والمداخل، والقصيدة تدخلني من أي باب تشاء وقد قلت في قصيدة لي أنا لا أكتب الشعر والشعر يكتبني.. أدخله من باب الطفولة كقصيدة (هل ذات يوم كنت طفلة؟) ومن باب الاعتراف الوجداني كقصيدة (الرجل الذي أحببته مرتين) ومن باب الانتصار لذاتي كامرأة في قصيدة (تلك الأنثى) ومن باب الوطنيات والقضية الفلسطينية في قصيدة (يا رفيقي -وغيرها كثر) ومن الأماكن كالمدينة والشوارع والأرصفة والحواري الخلفية كقصيدة (الوجه الآخر للمدينة) ومن الباب الواسع أي باب الجنس الآخر واعني الرجل كقصيدة (قلوب الرجال) وللذكريات نصيب وللحكمة نصيب وللجسد نصيب كما في قصيدة (امرأة في مقتبل الجنون) وهكذا…يسيل الشعر عندي.

**أي تأثير للغربة في نحت ملامح شخصيتك الشعرية؟

-شخصيا عشت الاغتراب قبل الغربة والاغتراب هو شعور الإنسان الواعي بحاجته إلى وطن، مع وجوده في الوطن الذي ولد فيه وكان اغترابي فكريا حيث في الأول كتبت آرائي وقد تكون عكرت مزاج من يرون أن نشرها قد يؤدي إلى انتشارها وانتشارها قد يسفر عنه تمرد القطيع أراسل الصحف وقتها فلا يعود لي صداها أبدا…فعشت سرية الكتابة اكتب لنفسي وأقرأ لنفسي وقد انفعل وأمزّق ما كتبت…مما ندمت عليه اليوم وفي غربتي كنت أكره (وطني) وكرهي له ما كان إلا حبا لا حد له وعتبا حزينا وأملا كبيرا في غد أفضل وهذه الغربة لم تكن خارجية بقدر ما كانت داخلية أنا من اجتمع عليّ الاغتراب والغربة كنت أكتب مكاني الأول في مكاني الجديد واكتشفت ضياعي في شوارع وحواري مدني الأولى وعشقت هذا الضياع الجميل -وعلى أرصفة الغياب كتبت القصيدة- وفي قطارات الغربة تعرت شاعريتي وأظن أن ملامح شخصيتي الشعرية كانت مستترة ورابضة وراء المرايا والغربة سحبتها بهدوء وأوقفتها وجها لوجه أمام المرآة فتعرت قصائدي ورأيت وطني على هيئة رجل أحببته وكتبت لهذا (الرجل الوطن) بكل عنفوان لغة العشق وأريج عطر الحنين وفي قصيدتي (بيني وبينك) حضر تاريخ وجغرافية وطني ووطني الموسع (العربي) بقوة .

** لمن تتوجهين بأشعارك؟

-أكتب للآخر أي القارئ هذا الحَكَم الذي لا يخطئ حكمه ولو طال اكتشافه الخطأ.. لأجله أكتب لأنه هو الضامن الوحيد للاستمرارية ما اكتبه هذا القارئ الذي يعرف بالحدس متى الشاعر يستعمل تعابير عامة يغدقها باردة في أيّ وقت وأيّ مكان فتأتي باردة بلا حرارة ولا تحرّك قارئها، ومتى الشاعر يختطف كلماته من واقعه النابض ويُخرِجُ بها شعراً صادقاً، تعابيره نابعة من واقعه، مزيّنة بخياله، زاخرة بصدقه، متجهة الى القلب قبل العقل، عازفة على وتر الوجدان هذا القارئ الذي يرى القصيدة بنت الحدث الواقعي الذي يخلق الحالة الشعرية، لا بنت الحالة الموهومة التي تخترع الحدث.. اكتب لهذا القارئ الذي يرى الشعر حقيقة لا وهما ويدرك برهافة حسه أن الشاعر ابن هذه الحقيقة… والشعر بالنسبة لي هو رسائل غالبا مشفرة وهنيئا لمن داعبت إحساسه وغذت خياله وفكّ طلاسمها.

** كيف تنظرين لظاهرة المهرجانات الشعرية المنتشرة هنا وهناك في البلاد ؟

-قد تكون ظاهرة صحية إذا كانت تستجيب لطموح الشعراء وتكون لها أهداف واضحة المعالم تنهض بهذا الجنس الأدبي وتساعده على تهذيب الذائقة الحسية للقراء وتكون ارضية لنشأة حراك نقدي يدفع إلى الامام ولكن أرى ان اغلبها مجرد لقاءات لا روح فيها تخضع لنوع من اللوبي الثقافي الذي يسيء للمشهد ويحط من قيمة الابداع إلى جانب النفاق المتبادل على الساحة وغياب الإعلام الهادف الذي يثمن الايجابيات ويسطر تحت السلبيات ليتم تفاديها وهذه التظاهرات تحولت إلى نوع من التهريج المشروع في غياب جدية الاهتمام وجدية المتابعة ووضع حد لكل هذا السرك.

**كيف تقدمين تجربة دار الوجيز للنشر وانت عضو فاعل فيها حسب ما استنتجته من منشوراتها؟

-دار الوجيز للنشر هي دار فتية قادمة على مهل ولكنها دخلت من الباب الواسع عالم النشر حيث رأت النور في فضاء المعرض الدولي للكتاب في إطلالة أولى لها مع باكورة إصداراتها التي شملت كل الأجناس الادبية (الشعر ،القصة القصيرة القصة القصيرة جدا،الرواية،الترجمة من العربية، إلى الفرنسية -الكتاب المدرسي) هذا بفضل سياسة صاحب الدار (الاديب والناقد حمد حاجي -والفريق العامل معه ودوري في هذه الدار(منسقة عامة) فأنا حلقة الربط بين الكاتب والناشر كما أنني عضو قارّ في لجنة القراءة وعددنا خمسة بالإضافة إلى ان الدار انتدبت محررا خفي الاسم ولكنه أكاديمي متخصص فيما يكلف به ودور المحرر يتمثل في أن يعمل مع المؤلف لجعل النص مناسبا للغرض والجنس الادبي والنوع اللذين كتب لأجلهما …فهو أي المحرر يعدل المخطوط ويساهم في تجويد وتحسين النص بالمحو او اعادة الكتابة أو الشطب إنه يستخدم خبرته الأكاديمية وحدسه الادبي ليضمن خروج النص جذابا بين الفن الادبي والفن التسويقي وأعد تجربة دار الوجيز للنشر في خطوتها الاولى واعدة كما أعدها كوة ضوء لبعض الكتّاب الذين يتطلعون لنشر ما حبروا وما استطالوا إلى ذلك سبيلا للظروف المادية خاصة وغيرها .

**-قطاع النشر في تونس اليوم ماهي أكبر معضلة له حسب رأيك؟

-أكبر معضلة هي بالأساس المقروئية وترويج الكتاب.. صحيح بين فترة وأخرى يقام معرض للكتاب هنا أو هناك تتخللها توقيعات لكتّاب ومبدعين والحاصل مردودية هزيلة، ويظل النقاش حول قضايا الكتاب والمقروئية والتلقي ومشاكل التوزيع والترويج نقاشا قائما مع محاولات متفاوتة الجدية لاستنباط سبل التسويق والحقيقة ان معضلة دور النشر متأتية من كساد رواج الكتاب وكساد عملية بيعه …وهذا الكساد—لو حفرنا أعمق، نجد أن له جذورا في قطاع آخر جد حيوي ألا وهو قطاع التعليم والتربية حيث ترتبط نسبة المقروئية وتداول الكتاب بوضعية المدرسة والنظام التربوي والسبب، أن مجال التربية والتعليم هو من يساهم بالنصيب الوافر والحاسم في خلق أو خنق واغتيال ملكة القراءة لدى الناشئة ومن البديهي أن تهيئة أجيال تحب القراءة تعني خلق سوق لترويج الكتاب وفك عقال دور النشر.

**هل انت مع الرأي الذي يقول :"ان الشعر اليوم يعاني من ازمة القارئ له"؟

- السؤال يقتضي التريث لأن الإجابة يجب ان تكون منطقية ومقنعة سواء أكنت مع أو ضد وعلينا أن نعترف أن الشعر العربي يمر بأزمة عميقة، سواءٌ فيما يتعلق بالعناصر الشكلية والتجربة الوجودية، وخاصة فيما يتعلق بطرق استقباله من لدن القارئ هذا القارئ الذي صار عنده الادب عموما أقل أهمية —وسيطرة الرواية على المشهد الأدبي دونا عن غيرها من الأشكال الأدبية جميعها، وأخذت القارئ اليها..وسبقت الشعر بخطوات واسعة من حيث أرقام التوزيع وتركيز ضوء النقد والدراسة على هذا الشكل الذي يبدو أقرب إلى نثر الحياة اليومية وتفاصيلها وأقرب إلى القارئ؟ ولا ننسى هيمنة النثر(السرديات) على الفنون وأشكال التواصل الجماهيري من سنيما ودراما تلفزية وكتابات صحفية ابداعية تعتمد القالب القصصي كل هذا يجعلني أميل إلى أن (الشعر يعاني من أزمة القارئ له) لان كل ما ذكرته هو عوامل من شأنها جعل الشعر في درجة متدنية في سلم الأجناس الادبية وعزائي أنني أومن بقوة أن الشعر كان وما زال نخبويا حيث له قرّاء من النخبة ومريدون يتنادوْن إليه والشعر في ثورته وتمرده على البحور الخليلية تجدد وتتطور وطفا على الساحة الادبية والدليل عدد منتدياته(بكل هناتها) وأزمة قراءة الشعر عالمية لو تابعنا عن قرب ذلك.

**معرض تونس الدولي للكتاب، هل حقق الاضافة للكتاب التونسي؟

- أي معرض ليحقق الإضافة المنشودة عليه أن يعمل على تفادي سلبيات ما سبقه ودعم إيجابياته فما بالك إذا كان (معرض الكتاب) أما إذا نكرر التجربة بنفس الأدوات المؤدية إلى نفس النتيجة فتحقيق الإضافة والقفزة النوعية ينتفي مثلا ما شاهدت تخصيص قاعة متكاملة للتعريف بالكتاب التونسي وبالتالي بالكتّاب من طرف أهل الذكر كما تمنيت تخصيص ركن لفعاليات المبادرات المجتمعية الثقافية ولاحظت غياب المقاهي الثقافي ولا رأيت إمضاء توأمة بين دور النشر التونسية وغيرها من دون النشر العربية مثلا..ولا حتى تبادل الكتب للترويج لها في بلد الناشر العارض مع كل هذا لا يمكن الحديث عن الإضافة المطلقة إذ قد توجد إضافات ايجابية على الصعيد الفردي ولكن معرض الكتاب كل ولا يتجزّأ… —

**-كنت مشاركة في معرض تونس الدولي للكتاب مؤخرا ماذا بقي في ذاكرتك؟

-بقي في ذاكرتي عطر الكتب وحديثي للأطفال عن أهمية الكتاب كنت أقول لكل واحد منهم —لامس الكتاب افتحه شم رائحته داعب كلماته مارس هذا الحق انه مجاني وبلا مقابل فيفعلون في تردد للوهلة الاولى ثم أراهم يستأنسون ورأيت سعادة العيون وروح الكتاب تسري فيهم وطبع في ذاكرتي فرحة أصغر شارية ( لديواني المعروض للبيع(عزف امرأة غاوية) وأنا أوقع لها تسلمته وضمتها لصدرها علق في ذهني حديث طالب واختصاصه علمي حين سألني ( عن أي شيء كتبت أول مرة وكان جوابي-كتبت عن نفسي- بهت وقال حتى أنا اكتب عن نفسي ولكن أمزّق ما اكتبه ظنا مني أنه لا شيء قلت لا تمزق أبدا ما تكتبه احتفظ به ويوما ما سيكون لك شأن علق بذهني طلب مجموعة من الشباب أن أقرأ لهم من شعري ففعلت ودعوتهم كي يقرؤوا هم من اي ديوان معروض في جناح الوجيز ففعلوا بكل أريحية وثمنت قراءاتهم ورأيت الفرحة في عيونهم وغادروا وهم يناقشون قصيدتي –"مرسوم بهدر دم أنثى عاشقة"

**علاقتك بالمشهد الثقافي التونسي وكيف بدأ لك اليوم؟

-بعد 2011 برز سرب أشباه المثقفين يندبون حظ تونس التي عاشت التصحر الثقافي والواقع ان تونس في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، عاشت انتعاشة ثقافية جديدة وغادرت معتقل السبعينيات الذي تميز، بتشديد الرقابة على الفنون والآداب وسُـمِح لبعضٍ الحركات المعارضة المعتدلة بالنشاط وبإصدار صحف ومجلات. وبرز شعراء وكتاب نستطيع ان نقول أنهم مكنوا الثقافة المضادة ان تفرض نفسها حيث أجبرت الثقافة الرسمية التي كانت مهيمنة على التراجع والانكفاء- وفي التسعينيات وفر النظام كل الوسائل المادية والمعنوية والسلطوية لتقوم مقام جدار الصد للثقافة المضادة ولكن أي النظام باء بالفشل لأنها قاومت وحافظت على وجودها واستقلاليتها وهذا انعكس على العديد من الأعمال الشعرية والقصصية والروائية والمسرح والموسيقى والفن والرسم - ما اردت أن اصل اليه هو ان المشهد الثقافي في تونس عريق ولا يمكن الاستهانه به ومشع بفضل المبادرات الفردية من المثقفين واليوم كما دائما تـوجد طاقات ابداعية تحتاج التشجيع والدفع وتثمين مجهوداتها.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 الشاعرة المهاجرة فائزة بنمسعود لـ"الصباح":  تهيئة أجيال تُحب القراءة تعني خلق سوق لترويج الكتاب وفك عقال دور النشر

 

 

**المهرجانات الشعرية اغلبها مجرد لقاءات لا روح فيها تخضع لنوع من اللوبي الثقافي المسيء للمشهد والمحط من قيمة الابداع

**المشهد الثقافي التونسي زاخر بطاقات إبداعية تحتاج التشجيع وتثمين مجهوداتها

**معرض تونس الدولي للكتاب في حاجة لمراجعة قانونه وطريقة تنظيمه وبرامجه

** على أرصفة الغياب كتبت القصيدة، وفي قطارات الغربة تعرت شاعريتي

حوار : محسن بن احمد

تونس-الصباح

اختارت عن روية الهجرة والاستقرار في الكندا وهناك شقت طريقها في عالم الإبداع لتصوغ اشعارا وقصائد نحتتها من رحم الإحساس بالغربة والاغتراب على حد تعبيرها مستحضرة ذكريات ومتوقفة عند احداث ومعبرة عن أحاسيس ومشاعر تزخر بالكثير من الحنين والشوق والحب والاعتزاز بالانتماء لربوع تونس الجميلة والشامخة بتاريخها وحضارتها الإنسانية الضاربة جذورها في اعماق التاريخ فائزة بنمسعود كانت واحدة من أبرز المشاركات في الدورة الأخيرة لمعرض تونس الدولي الذي مثل لها فرصة للتعريف بابداعاتها الشعرية بدرجة أولى فكان الإجماع حول ثراء وتنوع هذه التجربة الإبداعية التي امتزجت فيها رائحة الوطن بمشاعر الحنين والشموخ والطموح والتوق الى معانقة الشمس..

فائزة بنمسعود تحدثت لـ"الصباح" عن تجربة الغربة في ابداعها الشعري وعن مشاركتها مؤخرا في معرض الكتاب لتتوقف عند عديد الإشكاليات التي لها علاقة بالشعر والشعراء والنشر

**كيف كانت بداية العلاقة مع الشعر؟

-علاقتي بـالشعر بدأت بالاستماع لأبي رحمه الله وهو يقول كلاما له إيقاع شجي يشدني(الشعبي) جدا -وسرعان ما أنسى الكلمات فأحاول أن أعثر عليها فلا أتذكرها.. ولكن على نفس إيقاعها أقول غيرها تماما ومع الوقت زاد غرامي بالمطالعة وقراءة الشعر حتى دون ان أفقه معناه ونما فيَّ هذا الحب فكتبت.. وشجعني أساتذتي وبعض الأصدقاء وهكذا جمعت كتاباتي في ديوانين سلّمتهما على شكل مخطوطين في سنة1998 لإحدى المطابع بالعاصمة ، لأسعد بمولد أحدهما على الأقل ولكنهما رغم حرصي وتعدد اتصالاتي قُبِرا إلى يوم الناس هذا.. وما استطعت حتى استعادة المخطوطين وما كنت أملك حتى المسودات وضاع مني أروع حلم ثم أن الظروف المادية والنفور من دور النشر والمطابع والتزاماتي الأسرية كأم وسفري ، كل هذا جعلني اكتب وأحتفظ بكتاباتي ريثما تتهيّأ الاسباب لترى أشعاري النور وهكذا صدر لي ديوان أول بعنوان ("كلام بلا ذاكرة" 2018) على نفقتي الخاصة واقتناه مني الأقارب والأصدقاء وما كان في ذهني عملية تسويقه بل كانت فلسفتي ترك أثر لا غير ومع انتشار شبكة التواصل الاجتماعي وتشجيع القراء نشرت دواوين أخرى بلغت السبعة وآخرها صدر عن دار الوجيز للنشر(عزف امرأة غاوية) ولي تجارب في القصة القصيرة (صدر لي ثلاث مجموعات قصصية) ورواية تصدر قريبا عن دار الوجيز ولكن كلها كتبت بقلب شاعرة ونفس شاعري.

**من اي باب تدخلين الشعر باب الذكريات ام باب الطفولة ام باب الاعتراف الوجداني ام باب الإنسان وقضاياه؟

-الشعر عندي متعدد الأبواب والمداخل، والقصيدة تدخلني من أي باب تشاء وقد قلت في قصيدة لي أنا لا أكتب الشعر والشعر يكتبني.. أدخله من باب الطفولة كقصيدة (هل ذات يوم كنت طفلة؟) ومن باب الاعتراف الوجداني كقصيدة (الرجل الذي أحببته مرتين) ومن باب الانتصار لذاتي كامرأة في قصيدة (تلك الأنثى) ومن باب الوطنيات والقضية الفلسطينية في قصيدة (يا رفيقي -وغيرها كثر) ومن الأماكن كالمدينة والشوارع والأرصفة والحواري الخلفية كقصيدة (الوجه الآخر للمدينة) ومن الباب الواسع أي باب الجنس الآخر واعني الرجل كقصيدة (قلوب الرجال) وللذكريات نصيب وللحكمة نصيب وللجسد نصيب كما في قصيدة (امرأة في مقتبل الجنون) وهكذا…يسيل الشعر عندي.

**أي تأثير للغربة في نحت ملامح شخصيتك الشعرية؟

-شخصيا عشت الاغتراب قبل الغربة والاغتراب هو شعور الإنسان الواعي بحاجته إلى وطن، مع وجوده في الوطن الذي ولد فيه وكان اغترابي فكريا حيث في الأول كتبت آرائي وقد تكون عكرت مزاج من يرون أن نشرها قد يؤدي إلى انتشارها وانتشارها قد يسفر عنه تمرد القطيع أراسل الصحف وقتها فلا يعود لي صداها أبدا…فعشت سرية الكتابة اكتب لنفسي وأقرأ لنفسي وقد انفعل وأمزّق ما كتبت…مما ندمت عليه اليوم وفي غربتي كنت أكره (وطني) وكرهي له ما كان إلا حبا لا حد له وعتبا حزينا وأملا كبيرا في غد أفضل وهذه الغربة لم تكن خارجية بقدر ما كانت داخلية أنا من اجتمع عليّ الاغتراب والغربة كنت أكتب مكاني الأول في مكاني الجديد واكتشفت ضياعي في شوارع وحواري مدني الأولى وعشقت هذا الضياع الجميل -وعلى أرصفة الغياب كتبت القصيدة- وفي قطارات الغربة تعرت شاعريتي وأظن أن ملامح شخصيتي الشعرية كانت مستترة ورابضة وراء المرايا والغربة سحبتها بهدوء وأوقفتها وجها لوجه أمام المرآة فتعرت قصائدي ورأيت وطني على هيئة رجل أحببته وكتبت لهذا (الرجل الوطن) بكل عنفوان لغة العشق وأريج عطر الحنين وفي قصيدتي (بيني وبينك) حضر تاريخ وجغرافية وطني ووطني الموسع (العربي) بقوة .

** لمن تتوجهين بأشعارك؟

-أكتب للآخر أي القارئ هذا الحَكَم الذي لا يخطئ حكمه ولو طال اكتشافه الخطأ.. لأجله أكتب لأنه هو الضامن الوحيد للاستمرارية ما اكتبه هذا القارئ الذي يعرف بالحدس متى الشاعر يستعمل تعابير عامة يغدقها باردة في أيّ وقت وأيّ مكان فتأتي باردة بلا حرارة ولا تحرّك قارئها، ومتى الشاعر يختطف كلماته من واقعه النابض ويُخرِجُ بها شعراً صادقاً، تعابيره نابعة من واقعه، مزيّنة بخياله، زاخرة بصدقه، متجهة الى القلب قبل العقل، عازفة على وتر الوجدان هذا القارئ الذي يرى القصيدة بنت الحدث الواقعي الذي يخلق الحالة الشعرية، لا بنت الحالة الموهومة التي تخترع الحدث.. اكتب لهذا القارئ الذي يرى الشعر حقيقة لا وهما ويدرك برهافة حسه أن الشاعر ابن هذه الحقيقة… والشعر بالنسبة لي هو رسائل غالبا مشفرة وهنيئا لمن داعبت إحساسه وغذت خياله وفكّ طلاسمها.

** كيف تنظرين لظاهرة المهرجانات الشعرية المنتشرة هنا وهناك في البلاد ؟

-قد تكون ظاهرة صحية إذا كانت تستجيب لطموح الشعراء وتكون لها أهداف واضحة المعالم تنهض بهذا الجنس الأدبي وتساعده على تهذيب الذائقة الحسية للقراء وتكون ارضية لنشأة حراك نقدي يدفع إلى الامام ولكن أرى ان اغلبها مجرد لقاءات لا روح فيها تخضع لنوع من اللوبي الثقافي الذي يسيء للمشهد ويحط من قيمة الابداع إلى جانب النفاق المتبادل على الساحة وغياب الإعلام الهادف الذي يثمن الايجابيات ويسطر تحت السلبيات ليتم تفاديها وهذه التظاهرات تحولت إلى نوع من التهريج المشروع في غياب جدية الاهتمام وجدية المتابعة ووضع حد لكل هذا السرك.

**كيف تقدمين تجربة دار الوجيز للنشر وانت عضو فاعل فيها حسب ما استنتجته من منشوراتها؟

-دار الوجيز للنشر هي دار فتية قادمة على مهل ولكنها دخلت من الباب الواسع عالم النشر حيث رأت النور في فضاء المعرض الدولي للكتاب في إطلالة أولى لها مع باكورة إصداراتها التي شملت كل الأجناس الادبية (الشعر ،القصة القصيرة القصة القصيرة جدا،الرواية،الترجمة من العربية، إلى الفرنسية -الكتاب المدرسي) هذا بفضل سياسة صاحب الدار (الاديب والناقد حمد حاجي -والفريق العامل معه ودوري في هذه الدار(منسقة عامة) فأنا حلقة الربط بين الكاتب والناشر كما أنني عضو قارّ في لجنة القراءة وعددنا خمسة بالإضافة إلى ان الدار انتدبت محررا خفي الاسم ولكنه أكاديمي متخصص فيما يكلف به ودور المحرر يتمثل في أن يعمل مع المؤلف لجعل النص مناسبا للغرض والجنس الادبي والنوع اللذين كتب لأجلهما …فهو أي المحرر يعدل المخطوط ويساهم في تجويد وتحسين النص بالمحو او اعادة الكتابة أو الشطب إنه يستخدم خبرته الأكاديمية وحدسه الادبي ليضمن خروج النص جذابا بين الفن الادبي والفن التسويقي وأعد تجربة دار الوجيز للنشر في خطوتها الاولى واعدة كما أعدها كوة ضوء لبعض الكتّاب الذين يتطلعون لنشر ما حبروا وما استطالوا إلى ذلك سبيلا للظروف المادية خاصة وغيرها .

**-قطاع النشر في تونس اليوم ماهي أكبر معضلة له حسب رأيك؟

-أكبر معضلة هي بالأساس المقروئية وترويج الكتاب.. صحيح بين فترة وأخرى يقام معرض للكتاب هنا أو هناك تتخللها توقيعات لكتّاب ومبدعين والحاصل مردودية هزيلة، ويظل النقاش حول قضايا الكتاب والمقروئية والتلقي ومشاكل التوزيع والترويج نقاشا قائما مع محاولات متفاوتة الجدية لاستنباط سبل التسويق والحقيقة ان معضلة دور النشر متأتية من كساد رواج الكتاب وكساد عملية بيعه …وهذا الكساد—لو حفرنا أعمق، نجد أن له جذورا في قطاع آخر جد حيوي ألا وهو قطاع التعليم والتربية حيث ترتبط نسبة المقروئية وتداول الكتاب بوضعية المدرسة والنظام التربوي والسبب، أن مجال التربية والتعليم هو من يساهم بالنصيب الوافر والحاسم في خلق أو خنق واغتيال ملكة القراءة لدى الناشئة ومن البديهي أن تهيئة أجيال تحب القراءة تعني خلق سوق لترويج الكتاب وفك عقال دور النشر.

**هل انت مع الرأي الذي يقول :"ان الشعر اليوم يعاني من ازمة القارئ له"؟

- السؤال يقتضي التريث لأن الإجابة يجب ان تكون منطقية ومقنعة سواء أكنت مع أو ضد وعلينا أن نعترف أن الشعر العربي يمر بأزمة عميقة، سواءٌ فيما يتعلق بالعناصر الشكلية والتجربة الوجودية، وخاصة فيما يتعلق بطرق استقباله من لدن القارئ هذا القارئ الذي صار عنده الادب عموما أقل أهمية —وسيطرة الرواية على المشهد الأدبي دونا عن غيرها من الأشكال الأدبية جميعها، وأخذت القارئ اليها..وسبقت الشعر بخطوات واسعة من حيث أرقام التوزيع وتركيز ضوء النقد والدراسة على هذا الشكل الذي يبدو أقرب إلى نثر الحياة اليومية وتفاصيلها وأقرب إلى القارئ؟ ولا ننسى هيمنة النثر(السرديات) على الفنون وأشكال التواصل الجماهيري من سنيما ودراما تلفزية وكتابات صحفية ابداعية تعتمد القالب القصصي كل هذا يجعلني أميل إلى أن (الشعر يعاني من أزمة القارئ له) لان كل ما ذكرته هو عوامل من شأنها جعل الشعر في درجة متدنية في سلم الأجناس الادبية وعزائي أنني أومن بقوة أن الشعر كان وما زال نخبويا حيث له قرّاء من النخبة ومريدون يتنادوْن إليه والشعر في ثورته وتمرده على البحور الخليلية تجدد وتتطور وطفا على الساحة الادبية والدليل عدد منتدياته(بكل هناتها) وأزمة قراءة الشعر عالمية لو تابعنا عن قرب ذلك.

**معرض تونس الدولي للكتاب، هل حقق الاضافة للكتاب التونسي؟

- أي معرض ليحقق الإضافة المنشودة عليه أن يعمل على تفادي سلبيات ما سبقه ودعم إيجابياته فما بالك إذا كان (معرض الكتاب) أما إذا نكرر التجربة بنفس الأدوات المؤدية إلى نفس النتيجة فتحقيق الإضافة والقفزة النوعية ينتفي مثلا ما شاهدت تخصيص قاعة متكاملة للتعريف بالكتاب التونسي وبالتالي بالكتّاب من طرف أهل الذكر كما تمنيت تخصيص ركن لفعاليات المبادرات المجتمعية الثقافية ولاحظت غياب المقاهي الثقافي ولا رأيت إمضاء توأمة بين دور النشر التونسية وغيرها من دون النشر العربية مثلا..ولا حتى تبادل الكتب للترويج لها في بلد الناشر العارض مع كل هذا لا يمكن الحديث عن الإضافة المطلقة إذ قد توجد إضافات ايجابية على الصعيد الفردي ولكن معرض الكتاب كل ولا يتجزّأ… —

**-كنت مشاركة في معرض تونس الدولي للكتاب مؤخرا ماذا بقي في ذاكرتك؟

-بقي في ذاكرتي عطر الكتب وحديثي للأطفال عن أهمية الكتاب كنت أقول لكل واحد منهم —لامس الكتاب افتحه شم رائحته داعب كلماته مارس هذا الحق انه مجاني وبلا مقابل فيفعلون في تردد للوهلة الاولى ثم أراهم يستأنسون ورأيت سعادة العيون وروح الكتاب تسري فيهم وطبع في ذاكرتي فرحة أصغر شارية ( لديواني المعروض للبيع(عزف امرأة غاوية) وأنا أوقع لها تسلمته وضمتها لصدرها علق في ذهني حديث طالب واختصاصه علمي حين سألني ( عن أي شيء كتبت أول مرة وكان جوابي-كتبت عن نفسي- بهت وقال حتى أنا اكتب عن نفسي ولكن أمزّق ما اكتبه ظنا مني أنه لا شيء قلت لا تمزق أبدا ما تكتبه احتفظ به ويوما ما سيكون لك شأن علق بذهني طلب مجموعة من الشباب أن أقرأ لهم من شعري ففعلت ودعوتهم كي يقرؤوا هم من اي ديوان معروض في جناح الوجيز ففعلوا بكل أريحية وثمنت قراءاتهم ورأيت الفرحة في عيونهم وغادروا وهم يناقشون قصيدتي –"مرسوم بهدر دم أنثى عاشقة"

**علاقتك بالمشهد الثقافي التونسي وكيف بدأ لك اليوم؟

-بعد 2011 برز سرب أشباه المثقفين يندبون حظ تونس التي عاشت التصحر الثقافي والواقع ان تونس في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، عاشت انتعاشة ثقافية جديدة وغادرت معتقل السبعينيات الذي تميز، بتشديد الرقابة على الفنون والآداب وسُـمِح لبعضٍ الحركات المعارضة المعتدلة بالنشاط وبإصدار صحف ومجلات. وبرز شعراء وكتاب نستطيع ان نقول أنهم مكنوا الثقافة المضادة ان تفرض نفسها حيث أجبرت الثقافة الرسمية التي كانت مهيمنة على التراجع والانكفاء- وفي التسعينيات وفر النظام كل الوسائل المادية والمعنوية والسلطوية لتقوم مقام جدار الصد للثقافة المضادة ولكن أي النظام باء بالفشل لأنها قاومت وحافظت على وجودها واستقلاليتها وهذا انعكس على العديد من الأعمال الشعرية والقصصية والروائية والمسرح والموسيقى والفن والرسم - ما اردت أن اصل اليه هو ان المشهد الثقافي في تونس عريق ولا يمكن الاستهانه به ومشع بفضل المبادرات الفردية من المثقفين واليوم كما دائما تـوجد طاقات ابداعية تحتاج التشجيع والدفع وتثمين مجهوداتها.