إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

قصة قصيرة: عويني قص ...

   بقلم: صالح الطرابلسي

عويني قص...عويني قص...صاح بها فسمعها صديقه الذي انتصب بجانبه ومنه تـنـتقل إلى آخر بنفس الطريقة...وماهي إلاّ دقائق حتّى ترفع كلّ بضاعة لتخبّأ في مكان معيّن لا يعرفه أحد سواه...فإذا سيّارات الشرطة تجوب النّهج في حملة لمقـاومة الانتصاب الفوضوي، فـياويل من يقع في قبضتهم، سيدفع الدّين مثنّى و ثلاث و رباع...

العويني عرفه نهج اسبانيا و تجّاره المتجوّلون منذ كان في الـحادية عشر من عـمره. جاءه من إحدى القرى النائية في تونس الأعماق فارّا من كابوس البطالة والخصاصة، عساه يجد هنا حـرفة تمكّـنه من توفـيـر ما به يسدّ الرّمق ويــدّخر نصــيبا منه نفقة على أفراد الأسرة ومصاريف العلاج لأبيه المريض طريح الفراش منذ مدّة...

واحد من أبناء عمومته قد سبقه هناك منذ سنوات...دعاه للاشتغال معه تاجرا متجوّلا فإذا به يجد نفــسـه فـردا من هـؤلاء الــتـجّار المنتصبين انتصابا فوضويّا عبر نهج اسبانيا هذا النهج المـوجود في قــلـب العاصمة...معرّضين أنـفـسـهـم لمـداهـمـات الــشرطة الــبلدية والأمــنية والاقــتـصادية الـتي كـثيرا ما تهاجمهم وتصادر بضاعتهم وقد يقع أحدهم في قبضة العدالة بتهمة تعاطي المخدّرا ت أو بيع أشياء من الممنوعات...

العويني الآن من أمهر التجار في هذا الشارع ...لقد اكتسب مهارة وذكاء مكّناه وأصحابه من الافلات من قبضة أعوان الأمن كلّما عنّ لهم أن يداهموهم للـــقيام بما يــتطلّبه واجبهم...لقد ابتدع العويني كلمة سرّ كلّما صاح بها يلتقطها رفيقه فـــيمرّرها لمن يليه وهكذا دواليك...فإذا البضاعة المبثوثة على الأرض تختفي كأنّ ساحرا قد خطفها فــإذا مــرّت القافلة الأمنيّة عادت البضاعة إلى أماكنها وعاد النّشاط إلى طبيعته...وقد تعوّد كلّ المنتصبين هناك على هذه الحيلة وقد يقع أحدهم في الفخّ مرّة فـ"يأكلها في جلده" وتــتواصل طــاحونة الشيء المعتاد في الدوران.

العــويـني مازال يــذكر اليوم الـذي قــرّر فيه الانـقطاع عن الدراسة. لقد كانت المدرسة على مسافة بعيدة من منزلهم والطريق شاقّــة وطويلة ولا وسائل نقل تحملهم إليها والعائلة قليلة ذات اليد، لا تكاد توفّر لقمة العيش والكساء البسيط للجسد ...

"ماعادش تجيني، ماعادش حاجتي بيك"...هـكذا جـاءه الخــطاب هاتـفـيّا من أبـيه...لقد لفظته العائلة نتيجة توتّر العلاقة بينه و بين أبيه فالعويني قد أطال انقطاعه عن زيارة الأسـرة إذ هو لم يتمكّن من ادّخار النّصيب الذي سيجعله نفقة للعائلة ، فالموارد لم تكن كافية لزيارة الأسرة بانتظام...

العويني الآن يعيش لحظات انقـطاع مختلفة وخطيرة .. انقـطاع عن الدّراسة...انقــطاع عن الأسرة ...انقطاع عن حدود النّظام إذ هو معــرّض دوما للـــعديد من الضّـغوطات والهرسلة المعنويّة نتيجة الملاحقات ...

"نحبّ نولي ضابط في الجيش" هــكذا كان حـلمه الـطّــفـولي إبّان كان العويني بالسنة الأولى ابتدائي...لكنّه اليوم أصبح يحلم بأن يصـبح من بارونات التجارة غير النظاميّة. يعرف جــيّـدا أنّه أسير امبراطور من أباطرة المهرّبين يستغلّ فقره واحتياجه فيشغّله بأبخس الأجور...لكن ما بالــيـد حـيـلـة، سـيـتـحمّل كلّ الضّـغوطات وكلّ الأتــعاب والمشــاقّ وسيرضى بالـمذلّة حتّى...عسى أن يحقّق حلمه الكبير...

أكـثـر من عــشـر سـنوات مرّت...إنّه يـــشعـر الآن أنّه قـاب قـوســين أو أدنـى مـن تـحقــيـق الهدف...سيصــبح يــوما ما يــريد! لكنّه ما أدرك أنّ الزّمان يخبّئ له ما لم يكن يتوقّع فالرّياح تجري بما لا تشتهيه السّفن!

مرّ يوم ...اثنان...ثلاثة...شهر...شهران...لم يأت العويني إلى النهج للانتصاب مع بقيّة الرّفاق كعادته...دبّت التّساؤلا ت في شــتّى أنــحاء الـنّهج...ترى أين يوجد العويني...ترى لماذا غاب وهو يعرف أنّ الرّفاق به يأنسون؟ وهو الذي كم وقاهم شرّ مصادرة بضائعهم بمجرّد إطلاقه لتلك الصّيحة العجيبة "عويني قص". ترى هل يكون عاد إلى قريته إذ هو قد علم منذ أيّام أنّ أباه على فراش المرض و قد حاق به الدّاء والشّكّ.

"العويني الغلايقي" شهر"العويني قص"... مبروك لقد أفرج عنك !

ثلاثة أشهر كاملة قضّـاها العـويني في الـسّجن المدني بتونس متّهما بتعاطي الزّطلة...إلى أين ياعويني وقد أدّى بك الهامش إلى ما أنت فيه...ترى ما الذي ينتظرك الآن؟!

هو ذا "سي العويني"يــمشي في الطريق عائدا إلى مأواه...اشترى جريدة "الشروق"من ذلك الكشك المقابل لســكناه...تـصفّـحهــا صفحة صفحة...فــإذا خـبر بالــملحق الاقـتـصادي يجلب نظره...فـيسـتند إلى الحائط متطلّعا يقرأ : "في نطاق تنظيم الاقتصاد الشّارعي وإعادة هـيكلته تسعى الدولة لإعداد برنامج يساعد التجّار ويشجّعهم بحوافز قـانونيّة وجـبائـيّـة حتى يهيكلوا أنشطتهم وذلك في نطاق هيكلة الاقـتصاد الـموازي لكي يـصبـح شـيئا فـشيئا نظاميّا ينـتفعون به وتنتفع الدّولة."

قصة قصيرة: عويني قص ...

   بقلم: صالح الطرابلسي

عويني قص...عويني قص...صاح بها فسمعها صديقه الذي انتصب بجانبه ومنه تـنـتقل إلى آخر بنفس الطريقة...وماهي إلاّ دقائق حتّى ترفع كلّ بضاعة لتخبّأ في مكان معيّن لا يعرفه أحد سواه...فإذا سيّارات الشرطة تجوب النّهج في حملة لمقـاومة الانتصاب الفوضوي، فـياويل من يقع في قبضتهم، سيدفع الدّين مثنّى و ثلاث و رباع...

العويني عرفه نهج اسبانيا و تجّاره المتجوّلون منذ كان في الـحادية عشر من عـمره. جاءه من إحدى القرى النائية في تونس الأعماق فارّا من كابوس البطالة والخصاصة، عساه يجد هنا حـرفة تمكّـنه من توفـيـر ما به يسدّ الرّمق ويــدّخر نصــيبا منه نفقة على أفراد الأسرة ومصاريف العلاج لأبيه المريض طريح الفراش منذ مدّة...

واحد من أبناء عمومته قد سبقه هناك منذ سنوات...دعاه للاشتغال معه تاجرا متجوّلا فإذا به يجد نفــسـه فـردا من هـؤلاء الــتـجّار المنتصبين انتصابا فوضويّا عبر نهج اسبانيا هذا النهج المـوجود في قــلـب العاصمة...معرّضين أنـفـسـهـم لمـداهـمـات الــشرطة الــبلدية والأمــنية والاقــتـصادية الـتي كـثيرا ما تهاجمهم وتصادر بضاعتهم وقد يقع أحدهم في قبضة العدالة بتهمة تعاطي المخدّرا ت أو بيع أشياء من الممنوعات...

العويني الآن من أمهر التجار في هذا الشارع ...لقد اكتسب مهارة وذكاء مكّناه وأصحابه من الافلات من قبضة أعوان الأمن كلّما عنّ لهم أن يداهموهم للـــقيام بما يــتطلّبه واجبهم...لقد ابتدع العويني كلمة سرّ كلّما صاح بها يلتقطها رفيقه فـــيمرّرها لمن يليه وهكذا دواليك...فإذا البضاعة المبثوثة على الأرض تختفي كأنّ ساحرا قد خطفها فــإذا مــرّت القافلة الأمنيّة عادت البضاعة إلى أماكنها وعاد النّشاط إلى طبيعته...وقد تعوّد كلّ المنتصبين هناك على هذه الحيلة وقد يقع أحدهم في الفخّ مرّة فـ"يأكلها في جلده" وتــتواصل طــاحونة الشيء المعتاد في الدوران.

العــويـني مازال يــذكر اليوم الـذي قــرّر فيه الانـقطاع عن الدراسة. لقد كانت المدرسة على مسافة بعيدة من منزلهم والطريق شاقّــة وطويلة ولا وسائل نقل تحملهم إليها والعائلة قليلة ذات اليد، لا تكاد توفّر لقمة العيش والكساء البسيط للجسد ...

"ماعادش تجيني، ماعادش حاجتي بيك"...هـكذا جـاءه الخــطاب هاتـفـيّا من أبـيه...لقد لفظته العائلة نتيجة توتّر العلاقة بينه و بين أبيه فالعويني قد أطال انقطاعه عن زيارة الأسـرة إذ هو لم يتمكّن من ادّخار النّصيب الذي سيجعله نفقة للعائلة ، فالموارد لم تكن كافية لزيارة الأسرة بانتظام...

العويني الآن يعيش لحظات انقـطاع مختلفة وخطيرة .. انقـطاع عن الدّراسة...انقــطاع عن الأسرة ...انقطاع عن حدود النّظام إذ هو معــرّض دوما للـــعديد من الضّـغوطات والهرسلة المعنويّة نتيجة الملاحقات ...

"نحبّ نولي ضابط في الجيش" هــكذا كان حـلمه الـطّــفـولي إبّان كان العويني بالسنة الأولى ابتدائي...لكنّه اليوم أصبح يحلم بأن يصـبح من بارونات التجارة غير النظاميّة. يعرف جــيّـدا أنّه أسير امبراطور من أباطرة المهرّبين يستغلّ فقره واحتياجه فيشغّله بأبخس الأجور...لكن ما بالــيـد حـيـلـة، سـيـتـحمّل كلّ الضّـغوطات وكلّ الأتــعاب والمشــاقّ وسيرضى بالـمذلّة حتّى...عسى أن يحقّق حلمه الكبير...

أكـثـر من عــشـر سـنوات مرّت...إنّه يـــشعـر الآن أنّه قـاب قـوســين أو أدنـى مـن تـحقــيـق الهدف...سيصــبح يــوما ما يــريد! لكنّه ما أدرك أنّ الزّمان يخبّئ له ما لم يكن يتوقّع فالرّياح تجري بما لا تشتهيه السّفن!

مرّ يوم ...اثنان...ثلاثة...شهر...شهران...لم يأت العويني إلى النهج للانتصاب مع بقيّة الرّفاق كعادته...دبّت التّساؤلا ت في شــتّى أنــحاء الـنّهج...ترى أين يوجد العويني...ترى لماذا غاب وهو يعرف أنّ الرّفاق به يأنسون؟ وهو الذي كم وقاهم شرّ مصادرة بضائعهم بمجرّد إطلاقه لتلك الصّيحة العجيبة "عويني قص". ترى هل يكون عاد إلى قريته إذ هو قد علم منذ أيّام أنّ أباه على فراش المرض و قد حاق به الدّاء والشّكّ.

"العويني الغلايقي" شهر"العويني قص"... مبروك لقد أفرج عنك !

ثلاثة أشهر كاملة قضّـاها العـويني في الـسّجن المدني بتونس متّهما بتعاطي الزّطلة...إلى أين ياعويني وقد أدّى بك الهامش إلى ما أنت فيه...ترى ما الذي ينتظرك الآن؟!

هو ذا "سي العويني"يــمشي في الطريق عائدا إلى مأواه...اشترى جريدة "الشروق"من ذلك الكشك المقابل لســكناه...تـصفّـحهــا صفحة صفحة...فــإذا خـبر بالــملحق الاقـتـصادي يجلب نظره...فـيسـتند إلى الحائط متطلّعا يقرأ : "في نطاق تنظيم الاقتصاد الشّارعي وإعادة هـيكلته تسعى الدولة لإعداد برنامج يساعد التجّار ويشجّعهم بحوافز قـانونيّة وجـبائـيّـة حتى يهيكلوا أنشطتهم وذلك في نطاق هيكلة الاقـتصاد الـموازي لكي يـصبـح شـيئا فـشيئا نظاميّا ينـتفعون به وتنتفع الدّولة."

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews