إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

تأملات على وقع سبعة أشهر من الإ.باد ة في غز.ة.. عبثا يحاول نتنياهو إخفاء مخاوفه من الملاحقة..

 الجنائية الدولية بين الضغوط الأمريكية وغطرسة الاحتلال ..

تونس-الصباح

عبثا يحاول نتنياهو إخفاء مخاوفه من ملاحقة الجنائية الدولية بعد نهاية العدوان المفتوح على غزة، ولكن كل المؤشرات تؤكد حالة الهستيريا السائدة في حكومة الاحتلال الإسرائيلي من أن تذهب الجنائية الدولية لملاحقة القيادات السياسية والعسكرية في جرائمها ضد الإنسانية قبل وبعد العدوان على غزة.

والأكيد أن ما يقوله رئيس الوزراء الإسرائيلي في العلن غير ما يسعى إليه في السر، وإذا كان حريصا على التقليل والتشكيك في أي خطوة للجنائية الدولية بشأن اعتقال مسؤولين إسرائيليين متورطين في ارتكاب جرائم حرب في حق أهالي غزة، فإنه لا يدخر جهدا في المقابل لدفع الحليف الأمريكي للضغط على الجنائية الدولية وإجهاض أي محاولة في هذا الاتجاه. وحتى هذه المرحلة تمكن نتنياهو من دفع الخارجية الأمريكية الى إصدار بيان رافض ومعارض لأي خطوة من الجنائية الدولية لإيقاف أي مسؤول إسرائيلي رغم أن أمريكا ليست عضوا في هذه المحكمة والأمر ذاته حدث في الكونغرس الأمريكي.. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد فرضت واشنطن وتل أبيب ضغوطا غير مسبوقة لدفع مجموعة السبع بدورها الى معارضة هذه الخطوة. واستبق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأخبار المتداولة خلال الساعات القليلة الماضية بشأن إصدار الجنائية الدولية مذكرات اعتقال وشيكة في حق قائمة من كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين بالتأكيد على عدم جدوى أيّ مذكرات اعتقال قد تصدر عن الجنائية الدولية وأنها بالتالي لن تؤثر على تصرفات إسرائيل حتى وإن شكلت سابقة خطيرة في نظره. وبات واضحا أن نتنياهو اتصل ببايدن على عجل مطالبا بمنع إصدار مُذكرات اعتقال تستهدفه شخصيا أو تستهدف وزير الأمن في حكومته أو رئيس الأركان.

وأعلن نتنياهو على منصة "إكس" بعد يومين من تداول إعلام إسرائيلي تقارير تفيد باحتمالية إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال دولية بحق نتنياهو، ووزير الحرب يوآف غالانت، ورئيس أركان الجيش هرتسي هاليفي، على خلفية الممارسات الإسرائيلية خلال العدوان المستمر في غزة منذ أكثر من سبعة أشهر .

اختبار حاسم للعدالة الدولية

وفي انتظار تطورات الأحداث والصراع الخفي والمعلن لتطويع الجنائية الدولية وتحويل وجهتها يبقى نتنياهو وفيا لعقلية الزعيم الصهيوني العنصري المعادي لكل القواميس القانونية الدولية حيث اعتبر أنه "تحت قيادتي، لن تقبل إسرائيل أبدا بأي محاولة من جانب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لتقويض حقها الأساسي في الدفاع عن نفسها".

ومن المفارقات الصارخة أن يصف نتنياهو ما يجري بأنه فضيحة تستهدف ما يصفه بالديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، متوهما أن مثل هذا الخطاب لا يزال بالإمكان تمريره والاستفادة من الدعم المزدوج للوبيات الأمريكية المتنفذة ومن الغطاء الإعلامي الغربي الذي تخلى عن كل القيم المهنية ودور الإعلام المحايد وبات أسيرا في قبضة السردية الإسرائيلية. وحتى يؤكد إصراره على عدم الالتزام بأي قرار للجنائية الدولية لوح ناتنياهو بأنه سيواصل حربه على حماس وسيمضي قدما في تنفيذ اجتياح رفح رغم كل المحاذير الدولية ..

على أنه خلف هذا الموقف الإسرائيلي المتغطرس والرافض لكل القوانين والأعراف الدولية فإن هناك مخاوف حقيقية من أن تذهب الجنائية الدولية قدما في تنفيذ هذه الخطوة لا سيما أمام تواتر التقارير الدولية حول جرائم الاحتلال وتورطه في جرائم إبادة جماعية ولكن أيضا أمام تواتر الدعوات والأصوات المطالبة بمحاسبة مجرمي الحرب في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي كما في صفوف الحكومة الإسرائيلية. ويدرك نتنياهو جيدا أن الأمر ليس بهذه البساطة وقد سبق لمسؤولين إسرائيليين أن وجدوا أنفسهم يعودون أدراجهم الى تل أبيب خوفا من اعتقالهم من قبل سكوتلاند يارد في لندن. ومعلوم أنه في 2016 لم تتمكن وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني من تجنب اعتقالها بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة في 2008 و2009 دون تواطؤ مع السلطات البريطانية التي حذرت ليفني وجنبتها الإيقاف بقرار بريطاني يمنحها الحصانة خلال القيام بزيارة رسمية الى لندن وهو الحل الذي توصلت إليه السلطات الإسرائيلية والبريطانية لتجنب الأمر. علما وأن سكوتلاند يارد كانت أبلغت ليفني بالمثول أمام محققيها عبر رسالة بريدية دون إعلام السفارة الإسرائيلية بالأمر. وفي 2005 اضطر وزير الحرب الإسرائيلي عمير بيرتس لمغادرة لندن على عجل تجنبا للاعتقال .

وفي أعقاب إعلان القناة الـ12 الإسرائيلية قالت الأسبوع الماضي إن المحكمة الجنائية الدولية تدرس إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو بدأ نتنياهو تحركاته في الداخل والخارج والتقى بشكل عاجل وزراء الشؤون الإستراتيجية ديرمر والعدل ياريف ليفين والخارجية يسرائيل كاتس، لمناشدة الحلفاء الغربيين، ولاسيما الولايات المتحدة، المساعدة.

ولعله من المهم الإشارة الى أن الملف الذي قدمته العدل الدولية في لاهاي في جاني الماضي مختلف عن ملف الجنائية الدولية وإن كانت الوثائق والشهادات والأدلة مسألة يمكن اعتمادها في ملاحقة الجناة. ومعلوم أن محكمة العدل الدولية تابعة للأمم المتحدة وتعالج النزاعات بين الدول بينما تركز الجنائية الدولية على المسؤولية الجنائية الفردية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية.

ورغم صدور قرار من مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار فورا، ورغم أن محكمة العدل الدولية طالبتها باتخاذ تدابير فورية لمنع وقوع أعمال إبادة جماعية يواصل جيش الاحتلال ارتكاب جرائمه في حق أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع فيما تتواصل الحرب المنسية في الضفة حيث تواصل قطعان المستوطنين جرائمها بدعم من جيش الاحتلال ..

بالعودة الى الدور الأمريكي لسحب البساط أمام هذه الملاحقات لمجرمي الحرب الإسرائيليين فقد بدأ مجلس النواب الجمهوريين مساعيهم لصياغة ما سيصفونه بالرد على أي أوامر قضائية لملاحقة مسؤولين إسرائيليين .

وانضمّ رئيس مجلس النواب مايك جونسون، من الحزب الجمهوري، إلى العديد من النواب الجمهوريين الذين انتقدوا المحكمة الجنائية الدولية بشدة في الأيام الأخيرة. وقال جونسون: "إذا لم تعترض إدارة بايدن على ذلك، يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تنشئ وتتولى سلطة غير مسبوقة لإصدار أوامر اعتقال ضد القادة السياسيين والدبلوماسيين والعسكريين الأميركيين"، داعيا إلى “المطالبة الفورية والقاطعة بتنحي المحكمة الجنائية الدولية” واستخدام كل أداة متاحة لمنع مثل هذا الرجس.. وباتت أصوات كثيرة في الكونغرس تطلب الانسحاب من اتفاقية روما ..

الواقع أن جرائم الإبادة المستمرة في غزة والتي تحدث تحت أنظار العالم تجعل من حرب الإبادة في غزة الأفظع في تاريخ الإنسانية وستظل الحرب الوحيدة التي لا يحتاج المحققون فيها للبحث عن الأدلة في ارتكاب الجرائم حيث تتكدس على كل شبر من أرض غزة أشلاء الضحايا من مختلف الأجيال وتكاد المقابر الجماعية تشهد على ما ارتكبه جيش الاحتلال في حق أكثر من مليوني فلسطيني محاصرين برا وبحرا وجوا ..

صحيح أن إسرائيل ليست عضوا في المحكمة الجنائية وأنها لا تعترف بولايتها القضائية لكن المدعية العامة السابقة بن سودا وقبل نهاية ولايتها أقرت بأن ما يجري على الأراضي الفلسطينية المحتلة يدخل ضمن صلاحياتها بعد أن جرى قبول عضوية فلسطين في 2015.

ولم يكن بإمكان كريم خان المدعي العام الجديد البريطاني من أصول باكستانية التنصل من ذلك وسبق أن صرح في أكتوبر الماضي أن المحكمة لها ولاية قضائية للتحقيق في أي مزاعم جرائم حرب بحق مقاتلي حركة المقاومة حماس في إسرائيل والإسرائيليين في قطاع غزة. ولكن خان لم يبد بعد العدوان الإسرائيلي على غزة تحمسا للتحقيق في جرائم الاحتلال وظل مترددا في زيارة القطاع أو التواصل مع الضحايا في الوقت الذي كان على اتصال بعائلات الأسرى الإسرائيليين .

الجنائية الدولية تُحقق في الجرائم الإسرائيلية بمستشفيات غزة

وقبل أيام بدأ ممثلو الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية اتصالاتهم مع الطواقم الطبية في المستشفيات في غزة للوقوف على الحقائق على الأرض. وحسب بعض التسريبات فقد حصل محققو المحكمة الجنائية على شهادات من موظفين كانوا يعملون في مستشفى الشفا ومجمع ناصر كل ذلك في ظل اكتشاف مزيد المقابر الجماعية التي تشهد على جرائم الاحتلال ..

لم تستثن قوات الاحتلال في القصف العشوائي موقعا أو مستشفى أو مدرسة أو حيا سكنيا في تحد صارخ واستعلاء على اتفاقيات جنيف الرابعة ..

طبعا سيكون من السابق لأوانه الانتشاء بنتائج وشيكة لهذه المحاكمة التي تستوجب سنوات طويلة قبل أن تنشر نتائجها، وقد بات واضحا أن هناك تحركات على أكثر من جبهة للضغط على الجنائية الدولية ومنعها من مواصلة هذا التحقيق على عكس ما حدث بشان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المتهم بإبعاد عشرات الأطفال من مواقع النزاع في الحرب الروسية الأوكرانية.. وأمس حث دبلوماسيون من دول مجموعة السبع الصناعية الكبرى الجنائية الدولية على عدم الإعلان عن اتهامات ضد إسرائيل بارتكاب جرائم حرب بدعوى المخاوف من أن مثل هذه الخطوة قد تعرقل فرص تحقيق انفراج في محادثات وقف إطلاق النار الجارية في العاصمة المصرية ..

رد الفعل الإسرائيلي يؤكد وجود مخاوف جدية لدى نتنياهو وزمرته وهو ما دفعه للتحرك للضغط على المحكمة رغم أنه لا وجود حتى الآن لأي قرار اعتقال رسمي.. من الواضح أن التحركات الإسرائيلية في المرحلة القادمة تتجه الى دفع السفارات الإسرائيلية للاستعداد لحملة دعائية إعلامية تجعل كيان الاحتلال في موضع الضحية وفي مواجهة معاداة السامية استعدادا لأي أوامر اعتقال قد تستهدف نتنياهو وغالانت وهاليفي.

واقع الحال وفي ظل الاحتجاجات الواسعة وانتفاضة الجامعات الأمريكية وامتدادها عبر مختلف الجامعات في الغرب سيكون اكبر خطا ان يعمد نتنياهو الى الاستعلاء على الجنائية الدولية والاستقواء بالقوى الكبرى لمنحه الحصانة وإنقاذه من مساءلة محتومة والأرجح أن أي خطوة في هذا الاتجاه ستعزز الانتقادات ضد الكيان الإسرائيلي المارق وتعزز المطالب بحظر السلاح عن إسرائيل والمضي قدما في ملاحقة مجرمي الحرب في هذا الكيان ..

الأكيد أن ما يحدث يشكل اختبارا مصيريا حاسما للجنائية الدولية وللقانون الدولي في حرب الإبادة المستمرة في غزة. والأكيد أن نتائجها ستحدد مسار العدالة الإنسانية وما إذا سيتجه العالم الى تصويب البوصلة والتخلي عن سياسة المكيالين المفضوحة التي تنتصر للجلاد وتستهين بالضحية وتدفع الى مزيد تقسيم العالم والدفع الى استفحال الصراعات والتسابق على التسلح وحتى الى دفع الدول الصغرى الى الحصول على السلاح النووي سلاح الردع الذي يعرف بسلاح الفقراء..

لقد أصدرت الجنائية الدولية منذ تأسيسها في 2002 خمسة قرارات إدانة بارتكاب جرائم حرب وجرائم بحق الإنسانية، جميعهم من قادة المليشيات في إفريقيا من الكونغو الديمقراطية ومالي وأوغندا. وراوحت الأحكام الصادرة بالحبس بين 9 سنوات و30 سنة، وأسقط المدّعون 3 قضايا رئيسة على الأقل، أو أخفقوا في جمع الأدلة في قضايا أخرى بما يكفي للمضي قدما في إجراءات المحاكمة. فهل يمكن للمحكمة هذه المرة أن تكسر الطوق وتخرج من قيد وأسر القوى الكبرى وصناع القرار في العالم الذين لا يتوانون عن دعم وتأييد كيان الاحتلال في كل ما يقترفه من جرائم ضد الإنسانية وتمويله بأعتى وأحدث أنواع السلاح وأشده فتكا، حتى أن الأطباء في غزة يتحدثون عن تداعيات خطيرة على أجساد الضحايا بفعل الأسلحة المحظورة التي تتسبب في حرق الجسم وإذابة الأعضاء.. ولعل في المقابر الجماعية التي رفع عنها الغطاء قبل أيام ما يشهد بأن الأفظع لم يظهر بعد وأن الصدمة التي تنتظر الرأي العام الدولي قادمة.. وأنه سيتعين على الجنائية الدولية الانتباه الى التحولات الحاصلة في العالم وفي صفوف الشعوب الحية والمجتمع المدني والشباب في الجامعات الذي يرفض السردية الإسرائيلية ويحتكم للعقل في التعاطي مع جذور القضية الفلسطينية ويطالب دون تردد برفع الغطاء عن جرائم الاحتلال والامتناع عن استغلال أموال دافعي الضرائب لتمويل كيان لا موقع لحقوق الإنسان وللشعب الفلسطيني وحقه في الحياة على أرضه في حساباته ..

آسيا العتروس

 

 

 

 

 

تأملات على وقع سبعة أشهر من الإ.باد ة في غز.ة..  عبثا يحاول نتنياهو إخفاء مخاوفه من الملاحقة..

 الجنائية الدولية بين الضغوط الأمريكية وغطرسة الاحتلال ..

تونس-الصباح

عبثا يحاول نتنياهو إخفاء مخاوفه من ملاحقة الجنائية الدولية بعد نهاية العدوان المفتوح على غزة، ولكن كل المؤشرات تؤكد حالة الهستيريا السائدة في حكومة الاحتلال الإسرائيلي من أن تذهب الجنائية الدولية لملاحقة القيادات السياسية والعسكرية في جرائمها ضد الإنسانية قبل وبعد العدوان على غزة.

والأكيد أن ما يقوله رئيس الوزراء الإسرائيلي في العلن غير ما يسعى إليه في السر، وإذا كان حريصا على التقليل والتشكيك في أي خطوة للجنائية الدولية بشأن اعتقال مسؤولين إسرائيليين متورطين في ارتكاب جرائم حرب في حق أهالي غزة، فإنه لا يدخر جهدا في المقابل لدفع الحليف الأمريكي للضغط على الجنائية الدولية وإجهاض أي محاولة في هذا الاتجاه. وحتى هذه المرحلة تمكن نتنياهو من دفع الخارجية الأمريكية الى إصدار بيان رافض ومعارض لأي خطوة من الجنائية الدولية لإيقاف أي مسؤول إسرائيلي رغم أن أمريكا ليست عضوا في هذه المحكمة والأمر ذاته حدث في الكونغرس الأمريكي.. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد فرضت واشنطن وتل أبيب ضغوطا غير مسبوقة لدفع مجموعة السبع بدورها الى معارضة هذه الخطوة. واستبق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأخبار المتداولة خلال الساعات القليلة الماضية بشأن إصدار الجنائية الدولية مذكرات اعتقال وشيكة في حق قائمة من كبار المسؤولين السياسيين والعسكريين الإسرائيليين بالتأكيد على عدم جدوى أيّ مذكرات اعتقال قد تصدر عن الجنائية الدولية وأنها بالتالي لن تؤثر على تصرفات إسرائيل حتى وإن شكلت سابقة خطيرة في نظره. وبات واضحا أن نتنياهو اتصل ببايدن على عجل مطالبا بمنع إصدار مُذكرات اعتقال تستهدفه شخصيا أو تستهدف وزير الأمن في حكومته أو رئيس الأركان.

وأعلن نتنياهو على منصة "إكس" بعد يومين من تداول إعلام إسرائيلي تقارير تفيد باحتمالية إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتقال دولية بحق نتنياهو، ووزير الحرب يوآف غالانت، ورئيس أركان الجيش هرتسي هاليفي، على خلفية الممارسات الإسرائيلية خلال العدوان المستمر في غزة منذ أكثر من سبعة أشهر .

اختبار حاسم للعدالة الدولية

وفي انتظار تطورات الأحداث والصراع الخفي والمعلن لتطويع الجنائية الدولية وتحويل وجهتها يبقى نتنياهو وفيا لعقلية الزعيم الصهيوني العنصري المعادي لكل القواميس القانونية الدولية حيث اعتبر أنه "تحت قيادتي، لن تقبل إسرائيل أبدا بأي محاولة من جانب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي لتقويض حقها الأساسي في الدفاع عن نفسها".

ومن المفارقات الصارخة أن يصف نتنياهو ما يجري بأنه فضيحة تستهدف ما يصفه بالديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، متوهما أن مثل هذا الخطاب لا يزال بالإمكان تمريره والاستفادة من الدعم المزدوج للوبيات الأمريكية المتنفذة ومن الغطاء الإعلامي الغربي الذي تخلى عن كل القيم المهنية ودور الإعلام المحايد وبات أسيرا في قبضة السردية الإسرائيلية. وحتى يؤكد إصراره على عدم الالتزام بأي قرار للجنائية الدولية لوح ناتنياهو بأنه سيواصل حربه على حماس وسيمضي قدما في تنفيذ اجتياح رفح رغم كل المحاذير الدولية ..

على أنه خلف هذا الموقف الإسرائيلي المتغطرس والرافض لكل القوانين والأعراف الدولية فإن هناك مخاوف حقيقية من أن تذهب الجنائية الدولية قدما في تنفيذ هذه الخطوة لا سيما أمام تواتر التقارير الدولية حول جرائم الاحتلال وتورطه في جرائم إبادة جماعية ولكن أيضا أمام تواتر الدعوات والأصوات المطالبة بمحاسبة مجرمي الحرب في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي كما في صفوف الحكومة الإسرائيلية. ويدرك نتنياهو جيدا أن الأمر ليس بهذه البساطة وقد سبق لمسؤولين إسرائيليين أن وجدوا أنفسهم يعودون أدراجهم الى تل أبيب خوفا من اعتقالهم من قبل سكوتلاند يارد في لندن. ومعلوم أنه في 2016 لم تتمكن وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني من تجنب اعتقالها بتهمة ارتكاب جرائم حرب في غزة في 2008 و2009 دون تواطؤ مع السلطات البريطانية التي حذرت ليفني وجنبتها الإيقاف بقرار بريطاني يمنحها الحصانة خلال القيام بزيارة رسمية الى لندن وهو الحل الذي توصلت إليه السلطات الإسرائيلية والبريطانية لتجنب الأمر. علما وأن سكوتلاند يارد كانت أبلغت ليفني بالمثول أمام محققيها عبر رسالة بريدية دون إعلام السفارة الإسرائيلية بالأمر. وفي 2005 اضطر وزير الحرب الإسرائيلي عمير بيرتس لمغادرة لندن على عجل تجنبا للاعتقال .

وفي أعقاب إعلان القناة الـ12 الإسرائيلية قالت الأسبوع الماضي إن المحكمة الجنائية الدولية تدرس إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو بدأ نتنياهو تحركاته في الداخل والخارج والتقى بشكل عاجل وزراء الشؤون الإستراتيجية ديرمر والعدل ياريف ليفين والخارجية يسرائيل كاتس، لمناشدة الحلفاء الغربيين، ولاسيما الولايات المتحدة، المساعدة.

ولعله من المهم الإشارة الى أن الملف الذي قدمته العدل الدولية في لاهاي في جاني الماضي مختلف عن ملف الجنائية الدولية وإن كانت الوثائق والشهادات والأدلة مسألة يمكن اعتمادها في ملاحقة الجناة. ومعلوم أن محكمة العدل الدولية تابعة للأمم المتحدة وتعالج النزاعات بين الدول بينما تركز الجنائية الدولية على المسؤولية الجنائية الفردية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية.

ورغم صدور قرار من مجلس الأمن الدولي بوقف إطلاق النار فورا، ورغم أن محكمة العدل الدولية طالبتها باتخاذ تدابير فورية لمنع وقوع أعمال إبادة جماعية يواصل جيش الاحتلال ارتكاب جرائمه في حق أكثر من مليوني فلسطيني في القطاع فيما تتواصل الحرب المنسية في الضفة حيث تواصل قطعان المستوطنين جرائمها بدعم من جيش الاحتلال ..

بالعودة الى الدور الأمريكي لسحب البساط أمام هذه الملاحقات لمجرمي الحرب الإسرائيليين فقد بدأ مجلس النواب الجمهوريين مساعيهم لصياغة ما سيصفونه بالرد على أي أوامر قضائية لملاحقة مسؤولين إسرائيليين .

وانضمّ رئيس مجلس النواب مايك جونسون، من الحزب الجمهوري، إلى العديد من النواب الجمهوريين الذين انتقدوا المحكمة الجنائية الدولية بشدة في الأيام الأخيرة. وقال جونسون: "إذا لم تعترض إدارة بايدن على ذلك، يمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تنشئ وتتولى سلطة غير مسبوقة لإصدار أوامر اعتقال ضد القادة السياسيين والدبلوماسيين والعسكريين الأميركيين"، داعيا إلى “المطالبة الفورية والقاطعة بتنحي المحكمة الجنائية الدولية” واستخدام كل أداة متاحة لمنع مثل هذا الرجس.. وباتت أصوات كثيرة في الكونغرس تطلب الانسحاب من اتفاقية روما ..

الواقع أن جرائم الإبادة المستمرة في غزة والتي تحدث تحت أنظار العالم تجعل من حرب الإبادة في غزة الأفظع في تاريخ الإنسانية وستظل الحرب الوحيدة التي لا يحتاج المحققون فيها للبحث عن الأدلة في ارتكاب الجرائم حيث تتكدس على كل شبر من أرض غزة أشلاء الضحايا من مختلف الأجيال وتكاد المقابر الجماعية تشهد على ما ارتكبه جيش الاحتلال في حق أكثر من مليوني فلسطيني محاصرين برا وبحرا وجوا ..

صحيح أن إسرائيل ليست عضوا في المحكمة الجنائية وأنها لا تعترف بولايتها القضائية لكن المدعية العامة السابقة بن سودا وقبل نهاية ولايتها أقرت بأن ما يجري على الأراضي الفلسطينية المحتلة يدخل ضمن صلاحياتها بعد أن جرى قبول عضوية فلسطين في 2015.

ولم يكن بإمكان كريم خان المدعي العام الجديد البريطاني من أصول باكستانية التنصل من ذلك وسبق أن صرح في أكتوبر الماضي أن المحكمة لها ولاية قضائية للتحقيق في أي مزاعم جرائم حرب بحق مقاتلي حركة المقاومة حماس في إسرائيل والإسرائيليين في قطاع غزة. ولكن خان لم يبد بعد العدوان الإسرائيلي على غزة تحمسا للتحقيق في جرائم الاحتلال وظل مترددا في زيارة القطاع أو التواصل مع الضحايا في الوقت الذي كان على اتصال بعائلات الأسرى الإسرائيليين .

الجنائية الدولية تُحقق في الجرائم الإسرائيلية بمستشفيات غزة

وقبل أيام بدأ ممثلو الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية اتصالاتهم مع الطواقم الطبية في المستشفيات في غزة للوقوف على الحقائق على الأرض. وحسب بعض التسريبات فقد حصل محققو المحكمة الجنائية على شهادات من موظفين كانوا يعملون في مستشفى الشفا ومجمع ناصر كل ذلك في ظل اكتشاف مزيد المقابر الجماعية التي تشهد على جرائم الاحتلال ..

لم تستثن قوات الاحتلال في القصف العشوائي موقعا أو مستشفى أو مدرسة أو حيا سكنيا في تحد صارخ واستعلاء على اتفاقيات جنيف الرابعة ..

طبعا سيكون من السابق لأوانه الانتشاء بنتائج وشيكة لهذه المحاكمة التي تستوجب سنوات طويلة قبل أن تنشر نتائجها، وقد بات واضحا أن هناك تحركات على أكثر من جبهة للضغط على الجنائية الدولية ومنعها من مواصلة هذا التحقيق على عكس ما حدث بشان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المتهم بإبعاد عشرات الأطفال من مواقع النزاع في الحرب الروسية الأوكرانية.. وأمس حث دبلوماسيون من دول مجموعة السبع الصناعية الكبرى الجنائية الدولية على عدم الإعلان عن اتهامات ضد إسرائيل بارتكاب جرائم حرب بدعوى المخاوف من أن مثل هذه الخطوة قد تعرقل فرص تحقيق انفراج في محادثات وقف إطلاق النار الجارية في العاصمة المصرية ..

رد الفعل الإسرائيلي يؤكد وجود مخاوف جدية لدى نتنياهو وزمرته وهو ما دفعه للتحرك للضغط على المحكمة رغم أنه لا وجود حتى الآن لأي قرار اعتقال رسمي.. من الواضح أن التحركات الإسرائيلية في المرحلة القادمة تتجه الى دفع السفارات الإسرائيلية للاستعداد لحملة دعائية إعلامية تجعل كيان الاحتلال في موضع الضحية وفي مواجهة معاداة السامية استعدادا لأي أوامر اعتقال قد تستهدف نتنياهو وغالانت وهاليفي.

واقع الحال وفي ظل الاحتجاجات الواسعة وانتفاضة الجامعات الأمريكية وامتدادها عبر مختلف الجامعات في الغرب سيكون اكبر خطا ان يعمد نتنياهو الى الاستعلاء على الجنائية الدولية والاستقواء بالقوى الكبرى لمنحه الحصانة وإنقاذه من مساءلة محتومة والأرجح أن أي خطوة في هذا الاتجاه ستعزز الانتقادات ضد الكيان الإسرائيلي المارق وتعزز المطالب بحظر السلاح عن إسرائيل والمضي قدما في ملاحقة مجرمي الحرب في هذا الكيان ..

الأكيد أن ما يحدث يشكل اختبارا مصيريا حاسما للجنائية الدولية وللقانون الدولي في حرب الإبادة المستمرة في غزة. والأكيد أن نتائجها ستحدد مسار العدالة الإنسانية وما إذا سيتجه العالم الى تصويب البوصلة والتخلي عن سياسة المكيالين المفضوحة التي تنتصر للجلاد وتستهين بالضحية وتدفع الى مزيد تقسيم العالم والدفع الى استفحال الصراعات والتسابق على التسلح وحتى الى دفع الدول الصغرى الى الحصول على السلاح النووي سلاح الردع الذي يعرف بسلاح الفقراء..

لقد أصدرت الجنائية الدولية منذ تأسيسها في 2002 خمسة قرارات إدانة بارتكاب جرائم حرب وجرائم بحق الإنسانية، جميعهم من قادة المليشيات في إفريقيا من الكونغو الديمقراطية ومالي وأوغندا. وراوحت الأحكام الصادرة بالحبس بين 9 سنوات و30 سنة، وأسقط المدّعون 3 قضايا رئيسة على الأقل، أو أخفقوا في جمع الأدلة في قضايا أخرى بما يكفي للمضي قدما في إجراءات المحاكمة. فهل يمكن للمحكمة هذه المرة أن تكسر الطوق وتخرج من قيد وأسر القوى الكبرى وصناع القرار في العالم الذين لا يتوانون عن دعم وتأييد كيان الاحتلال في كل ما يقترفه من جرائم ضد الإنسانية وتمويله بأعتى وأحدث أنواع السلاح وأشده فتكا، حتى أن الأطباء في غزة يتحدثون عن تداعيات خطيرة على أجساد الضحايا بفعل الأسلحة المحظورة التي تتسبب في حرق الجسم وإذابة الأعضاء.. ولعل في المقابر الجماعية التي رفع عنها الغطاء قبل أيام ما يشهد بأن الأفظع لم يظهر بعد وأن الصدمة التي تنتظر الرأي العام الدولي قادمة.. وأنه سيتعين على الجنائية الدولية الانتباه الى التحولات الحاصلة في العالم وفي صفوف الشعوب الحية والمجتمع المدني والشباب في الجامعات الذي يرفض السردية الإسرائيلية ويحتكم للعقل في التعاطي مع جذور القضية الفلسطينية ويطالب دون تردد برفع الغطاء عن جرائم الاحتلال والامتناع عن استغلال أموال دافعي الضرائب لتمويل كيان لا موقع لحقوق الإنسان وللشعب الفلسطيني وحقه في الحياة على أرضه في حساباته ..

آسيا العتروس