إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الباحث أنس الشابي لـ"الصباح": المشهد الثقافي في تونس اليوم بائس.. غابت فيه الرموز وظهر أشباه الكُتًاب

تونس-الصباح

هو واحد من أبرز الوجوه الفكرية في تونس والوطن العربي على حد السواء.. رجل الانتصار للحرية المسؤولة التي تبني وتؤسس للفكر النير، دقيق في اختياراته، صارم في قراراته التي لها علاقة بالمواقف والآراء والاختيارات أيديولوجية كانت أم ثقافية فكرية أو اجتماعية.

الباحث أنس الشابي سليل عائلة عريقة ما انفك يثري المكتبة التونسية والعربية بالعديد من المؤلفات التي كشف من خلالها العديد من التجاوزات في حق الثقافة التونسية سياسيا وفكريا..، مؤلفات لاقت إقبالا كبيرا لدى جمهور معرض تونس الدولي للكتاب اعتبارا لقيمتها التاريخية والتوثيقية في إنصاف من تم "الاستيلاء" على جهودهم الإبداعية بدرجة أولى وهو ما توقفنا فيه معه من خلال هذا الحوار الممتع.

حوار: محسن بن أحمد

*تنتمي إلى عائلة الشابي الموسعة بصيتها الإبداعي الكبير لكنك لم تسلك منهجها فهل اختيار منك أن لا تكون شاعرا مثلا؟

- الشعر موهبة وليس حرفة أو صنعة يختارها الإنسان، قد يتقن الإنسان استعمال أوزان الشعر ولكنه ليس بالضرورة شاعر، إن لم يمتلك الموهبة فهو ناظم فقط، خذ مثلا أبو القاسم الشابي شاعر فعلا لأنه يمتلك الموهبة وقد برز لذلك من بين كوكبة كبيرة من الشعراء في وقته ويذكر الجميع أن مجلة العالم الأدبي أجرت استفتاء عن أعظم شاعر تونسي فاز فيه عبد الرزاق كرباكة ومحمود بورقيبة والطاهر القصار ولم يكن الشابي من بينهم ولكن الزمن أعطاه حقّه وأدام ذكره، ولمّا تفتح الجرائد القديمة خصوصا قبل الاستقلال تجد كمّا مهولا من القصائد المنشورة لطلبة وشيوخ جامع الزيتونة ولكنها تموت بعد نشرها لأنها لا تمتلك أسباب البقاء من صور فنية وتجديد في اللغة، والذي يؤكد هذا المعنى أننا نجد شعراء دراستهم بعيدة عن الأدب وفنونه ولكن الموهبة هي التي رشحتهم لذلك فالحبيب جاء وحدو صيدلي ولكنه شاعر وكذا إبراهيم ناجي طبيب وشاعر وبيرم التونسي وأحمد فؤاد نجم وغيرهم مع الاختلافات الموجودة بينهم ثم كلّ مسيّر لِما خلق له كما يقال.

* تقلبت في عديد المناصب أيّ تأثير لها على قناعاتك الفكرية؟

- القناعات الفكرية لا تغيّرها المناصب بل الجدل والنقاش والحوار هو الكفيل بتطويرها وتشذيبها أما المناصب فلا أثر لها إلا لدى ضعاف النفوس ومتواضعي البضاعة المعرفية الذين يغيّرون مواقفهم بحسب المنافع التي يحصلون عليها من هذا الموقع أو من ذاك.

*ماذا تحتفظ ذاكرتك من فترة ممارسة الرقابة على المصنفات الفكرية في صلب وزارة الداخلية؟

-الذكريات كثيرة من بينها أنني في أوّل يوم دخلت الوزارة قابلت أحد القدماء فيها وفي الحديث معه قال لي أسمع هنا يسألونك لماذا سمحت بالكتاب ولكنهم لا يسألونك لماذا منعته، وهو ما يفسر الحيرة التي تنتابنا لما نجد أن كتابا منع دون سبب محدّد إنه مجرد الحذر والتوقي من الوقوع تحت طائلة هذا السؤال غير أني لم أعمل بهذه النصيحة، نشر المرحوم الحبيب نويرة مذكراته تحت عنوان "ذكريات عصفت بي"، وإذا بالعنوان يصبح لدى الرقيب "ذكريات عِصْمَت بيه"، في دورة من دورات معرض الكتاب طلبت نسخة من كتاب عنوانه "السلطات العربية" للتثبت إن تحدث في السياسة أو اتخذ موقفا مناوئا ولمّا جلبوا الكتاب وجدت أنه يتحدث عن السَّلطات بفتح السين وتشديدها وهي الأكلة المعروفة وفي دورة أخرى شاركت دار سفير للنشر المختصّة في كتاب الطفل ومن بين منشوراتها كراسات للتلوين في صفحة منها وضعت علم السعودية وكتبت تحته "لَوِّن علم بلادك" فاعترضت على ترويج الكرّاس لأنّ علم الطفل التونسي ليس هو علم السعودية وقد لفت ذلك انتباه الناشرين المصريّين الذين دعوا صاحب الدار إلى وضع العلم المصري فيما يوزّع في مصر.

*هل حدث أن منعت مؤلفات من أن توزع في تونس؟

- بطبيعة الحال منعت عشرات العناوين الحركيّة من التوزيع وهي التي أعتبرها مناشير سياسيّة لأنها لا تستهدف ترقية الذوق وفتح الآفاق المعرفية بقدر ما تسعى إلى إيهام قارئها بأنه الأفضل والأعلى من غيره بإيمانه وأن بقية البشر دونه قيمة عليهم الواجبات وليس لهم أي حق سوى الإيمان أو دفع الجزية أو القتل.

*من يتابع كتاباتك اليوم يرى أنك لم تتخلص من عباءة الرقيب على كل ما يصدر هنا وهناك بالنقد والانتقاد والتوضيح وحتى التشهير؟

- الانتقاد يحمل معنى الافتعال وأنا أنقد ولا أنتقد أمّا التشهير فوصف لنتيجة ولا يمكن أن يكون مقصودا لذاته لأن الهدف من النقد هو توضيح مواطن الخطأ والزلل التي تحتاج إلى إصلاح ومراجعة هذا أوّلا، وثانيا من أفضال الله علي أن وهبني القدرة على النقد والعثور على ما يخفي الكاتب في ثنايا كتاباته حتى وإن لم يقصد ذلك ولكن النص يفضحه بجانب الصدق فيما أكتب بوضوح وصراحة، فقد تعوّدنا في تونس على سياسة "بوس خوك" في كل المجالات، فهل يعقل أننا بعد ما يقارب 70 سنة من الاستقلال لم ينشر لدينا إلا حوالي 30 كتابا أثارت نقاشا حولها رغم أن آلاف العناوين صدرت في نفس الفترة، وهو ما يعني أن النقد لدينا مغيّب تماما هذا إذا استثنينا الدكتور المنجي الكعبي الذي يمكن عدّه شيخ النقد في تونس لِما نشر من كتب ومقالات نقدية تناولت خصوصا المؤلفات الأدبية والتاريخية ممّا جلب له عداوات لا عدّ لها ولا حصر وحورب في قوته حيث منع من دخول الجامعة ليُحرم بذلك الطلبة من علمه، أما بالنسبة لي فإن نقدي لبعض المؤلفات بعد خروجي من وزارة الداخلية فله بعد سياسي لأن بلادنا ابتليت ببعض الكتاب الذين يحاولون ليّ عنق التاريخ بإيجاد علاقة وهمية بين الفاعلين السياسيين القدماء والمحدثين الذين لا يمكن أن يلتقوا إلا في المقابر أو يزوّرون الوقائع ويدلسون الأحداث وقد كتبت في ذلك عشرات المقالات ولكن الذين نقدتهم امتنعوا عن الرد وفضلوا السلامة فتجدهم يلجؤون إلى جبة الرقيب علها تغطي فضيحة جهلهم.

*كيف تنظر للمشهد الثقافي في تونس اليوم؟

- هو مشهد بائس غابت فيه الرموز وظهر أشباه الكتاب ممّن يخطون أسطرا لا رابط بينها يسميها البعض شعرا والبعض الآخر قصة فتمرّ السنة وراء الأخرى ولا تجد كتابا يفتح آفاقا أو يثير نقاشا كلّ ما هنالك خواطر واستيهامات، ومن مظاهر الهوان أن معدل طبع الكتاب الثقافي لا يتجاوز 500 نسخة لحوالي 12 مليون ساكن وحوالي 200 ألف مدرّس في مختلف المراحل و200 مؤسسة تعليم عال لتتجول هذه النسخ في مكتبات البلاد طولا وعرضا ثم تعود مرتجعات وحتى الكمية التي كانت تقتنيها الوزارة لمكتبات المطالعة العمومية لم تعد تغطي إلا جزءا يسيرا من المكتبات الجهوية فقط وهو رقم محزن يدل على الانهيار الذي شهدته الثقافة منذ تسعينات القرن الماضي وما قيل عن الكتاب ينطبق على باقي الفنون.

*"خطأ اليسار المميت يتمثل في حمله لبذرة التشتت منذ ولادته"، هذا الرأي لك، من وجهة نظرك هل بإمكانه اليوم تجاوز هذه الحالة مستقبلا؟

- فشل اليسار لدينا في كلّ المهام التاريخية التي كان من المفروض أن ينهض بها ومن مظاهر ذلك:

1) الفصل بين المعركة السياسية والمعركة الإيديولوجية ففي خصوص الحركات الإسلامية نجد أن اليسار إلا من رحم ربك يتعامل مع الحركات الإسلامية باعتبارها حركات سياسية والحال أن التعامل معها يجب أن يكون على قاعدة أنها حركات دينية لا يمكن الوثوق بها، فيسار 18 أكتوبر أمضى معها وثيقة لكنها لما وصلت إلى السلطة تراجعت عنها رغم بكاء حمة الهمامي وتذكيره بالأيام الخوالي.

2) عدم التفريق بين ما هو ثانوي وما هو رئيسي بين ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي، من ذلك أن بعض قوى اليسار تضع التجمّع الدستوري والنظام السابق في نفس السلة مع الحركات الإسلامية بدعوى أن المعركة هي معركة الحرية للجميع وما هي كذلك لأن النظام السابق رغم الأخطاء التي لا يسلم منها أي نظام حقق مكتسبات مدنية وتقدمية كان من المفروض أن توضع في الاعتبار لأن الحركات الإسلامية تستهدف النمط المجتمعي الذي بنته دولة الاستقلال وشتان بين من نختلف معه في بعض التفاصيل وبين النقيض الذي يستهدف تغيير البنية ذاتها.

3) لم تتوقف قيادات هذا اليسار عن تأجيل المعركة الإيديولوجية بحجة أن المعركة اليوم معركة سياسية ولهذا السبب بالذات تبحث عن كراس في أي مسألة تعبر عن رأيه فلن تعثر إلا على بيانات في منتهى الخواء والبؤس، تبعا لذلك لم تتمكن هذه الفصائل على كثرتها من تربية قيادات ذات إشعاع وقدرة على التجميع والإقناع لنجد اليوم يسارا اعترته أمراض الشيخوخة جميعها ولم يتجاوز بعد مرحلة المراهقة على المستوى النظري.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الباحث أنس الشابي لـ"الصباح":  المشهد الثقافي في تونس اليوم بائس.. غابت فيه الرموز وظهر أشباه الكُتًاب

تونس-الصباح

هو واحد من أبرز الوجوه الفكرية في تونس والوطن العربي على حد السواء.. رجل الانتصار للحرية المسؤولة التي تبني وتؤسس للفكر النير، دقيق في اختياراته، صارم في قراراته التي لها علاقة بالمواقف والآراء والاختيارات أيديولوجية كانت أم ثقافية فكرية أو اجتماعية.

الباحث أنس الشابي سليل عائلة عريقة ما انفك يثري المكتبة التونسية والعربية بالعديد من المؤلفات التي كشف من خلالها العديد من التجاوزات في حق الثقافة التونسية سياسيا وفكريا..، مؤلفات لاقت إقبالا كبيرا لدى جمهور معرض تونس الدولي للكتاب اعتبارا لقيمتها التاريخية والتوثيقية في إنصاف من تم "الاستيلاء" على جهودهم الإبداعية بدرجة أولى وهو ما توقفنا فيه معه من خلال هذا الحوار الممتع.

حوار: محسن بن أحمد

*تنتمي إلى عائلة الشابي الموسعة بصيتها الإبداعي الكبير لكنك لم تسلك منهجها فهل اختيار منك أن لا تكون شاعرا مثلا؟

- الشعر موهبة وليس حرفة أو صنعة يختارها الإنسان، قد يتقن الإنسان استعمال أوزان الشعر ولكنه ليس بالضرورة شاعر، إن لم يمتلك الموهبة فهو ناظم فقط، خذ مثلا أبو القاسم الشابي شاعر فعلا لأنه يمتلك الموهبة وقد برز لذلك من بين كوكبة كبيرة من الشعراء في وقته ويذكر الجميع أن مجلة العالم الأدبي أجرت استفتاء عن أعظم شاعر تونسي فاز فيه عبد الرزاق كرباكة ومحمود بورقيبة والطاهر القصار ولم يكن الشابي من بينهم ولكن الزمن أعطاه حقّه وأدام ذكره، ولمّا تفتح الجرائد القديمة خصوصا قبل الاستقلال تجد كمّا مهولا من القصائد المنشورة لطلبة وشيوخ جامع الزيتونة ولكنها تموت بعد نشرها لأنها لا تمتلك أسباب البقاء من صور فنية وتجديد في اللغة، والذي يؤكد هذا المعنى أننا نجد شعراء دراستهم بعيدة عن الأدب وفنونه ولكن الموهبة هي التي رشحتهم لذلك فالحبيب جاء وحدو صيدلي ولكنه شاعر وكذا إبراهيم ناجي طبيب وشاعر وبيرم التونسي وأحمد فؤاد نجم وغيرهم مع الاختلافات الموجودة بينهم ثم كلّ مسيّر لِما خلق له كما يقال.

* تقلبت في عديد المناصب أيّ تأثير لها على قناعاتك الفكرية؟

- القناعات الفكرية لا تغيّرها المناصب بل الجدل والنقاش والحوار هو الكفيل بتطويرها وتشذيبها أما المناصب فلا أثر لها إلا لدى ضعاف النفوس ومتواضعي البضاعة المعرفية الذين يغيّرون مواقفهم بحسب المنافع التي يحصلون عليها من هذا الموقع أو من ذاك.

*ماذا تحتفظ ذاكرتك من فترة ممارسة الرقابة على المصنفات الفكرية في صلب وزارة الداخلية؟

-الذكريات كثيرة من بينها أنني في أوّل يوم دخلت الوزارة قابلت أحد القدماء فيها وفي الحديث معه قال لي أسمع هنا يسألونك لماذا سمحت بالكتاب ولكنهم لا يسألونك لماذا منعته، وهو ما يفسر الحيرة التي تنتابنا لما نجد أن كتابا منع دون سبب محدّد إنه مجرد الحذر والتوقي من الوقوع تحت طائلة هذا السؤال غير أني لم أعمل بهذه النصيحة، نشر المرحوم الحبيب نويرة مذكراته تحت عنوان "ذكريات عصفت بي"، وإذا بالعنوان يصبح لدى الرقيب "ذكريات عِصْمَت بيه"، في دورة من دورات معرض الكتاب طلبت نسخة من كتاب عنوانه "السلطات العربية" للتثبت إن تحدث في السياسة أو اتخذ موقفا مناوئا ولمّا جلبوا الكتاب وجدت أنه يتحدث عن السَّلطات بفتح السين وتشديدها وهي الأكلة المعروفة وفي دورة أخرى شاركت دار سفير للنشر المختصّة في كتاب الطفل ومن بين منشوراتها كراسات للتلوين في صفحة منها وضعت علم السعودية وكتبت تحته "لَوِّن علم بلادك" فاعترضت على ترويج الكرّاس لأنّ علم الطفل التونسي ليس هو علم السعودية وقد لفت ذلك انتباه الناشرين المصريّين الذين دعوا صاحب الدار إلى وضع العلم المصري فيما يوزّع في مصر.

*هل حدث أن منعت مؤلفات من أن توزع في تونس؟

- بطبيعة الحال منعت عشرات العناوين الحركيّة من التوزيع وهي التي أعتبرها مناشير سياسيّة لأنها لا تستهدف ترقية الذوق وفتح الآفاق المعرفية بقدر ما تسعى إلى إيهام قارئها بأنه الأفضل والأعلى من غيره بإيمانه وأن بقية البشر دونه قيمة عليهم الواجبات وليس لهم أي حق سوى الإيمان أو دفع الجزية أو القتل.

*من يتابع كتاباتك اليوم يرى أنك لم تتخلص من عباءة الرقيب على كل ما يصدر هنا وهناك بالنقد والانتقاد والتوضيح وحتى التشهير؟

- الانتقاد يحمل معنى الافتعال وأنا أنقد ولا أنتقد أمّا التشهير فوصف لنتيجة ولا يمكن أن يكون مقصودا لذاته لأن الهدف من النقد هو توضيح مواطن الخطأ والزلل التي تحتاج إلى إصلاح ومراجعة هذا أوّلا، وثانيا من أفضال الله علي أن وهبني القدرة على النقد والعثور على ما يخفي الكاتب في ثنايا كتاباته حتى وإن لم يقصد ذلك ولكن النص يفضحه بجانب الصدق فيما أكتب بوضوح وصراحة، فقد تعوّدنا في تونس على سياسة "بوس خوك" في كل المجالات، فهل يعقل أننا بعد ما يقارب 70 سنة من الاستقلال لم ينشر لدينا إلا حوالي 30 كتابا أثارت نقاشا حولها رغم أن آلاف العناوين صدرت في نفس الفترة، وهو ما يعني أن النقد لدينا مغيّب تماما هذا إذا استثنينا الدكتور المنجي الكعبي الذي يمكن عدّه شيخ النقد في تونس لِما نشر من كتب ومقالات نقدية تناولت خصوصا المؤلفات الأدبية والتاريخية ممّا جلب له عداوات لا عدّ لها ولا حصر وحورب في قوته حيث منع من دخول الجامعة ليُحرم بذلك الطلبة من علمه، أما بالنسبة لي فإن نقدي لبعض المؤلفات بعد خروجي من وزارة الداخلية فله بعد سياسي لأن بلادنا ابتليت ببعض الكتاب الذين يحاولون ليّ عنق التاريخ بإيجاد علاقة وهمية بين الفاعلين السياسيين القدماء والمحدثين الذين لا يمكن أن يلتقوا إلا في المقابر أو يزوّرون الوقائع ويدلسون الأحداث وقد كتبت في ذلك عشرات المقالات ولكن الذين نقدتهم امتنعوا عن الرد وفضلوا السلامة فتجدهم يلجؤون إلى جبة الرقيب علها تغطي فضيحة جهلهم.

*كيف تنظر للمشهد الثقافي في تونس اليوم؟

- هو مشهد بائس غابت فيه الرموز وظهر أشباه الكتاب ممّن يخطون أسطرا لا رابط بينها يسميها البعض شعرا والبعض الآخر قصة فتمرّ السنة وراء الأخرى ولا تجد كتابا يفتح آفاقا أو يثير نقاشا كلّ ما هنالك خواطر واستيهامات، ومن مظاهر الهوان أن معدل طبع الكتاب الثقافي لا يتجاوز 500 نسخة لحوالي 12 مليون ساكن وحوالي 200 ألف مدرّس في مختلف المراحل و200 مؤسسة تعليم عال لتتجول هذه النسخ في مكتبات البلاد طولا وعرضا ثم تعود مرتجعات وحتى الكمية التي كانت تقتنيها الوزارة لمكتبات المطالعة العمومية لم تعد تغطي إلا جزءا يسيرا من المكتبات الجهوية فقط وهو رقم محزن يدل على الانهيار الذي شهدته الثقافة منذ تسعينات القرن الماضي وما قيل عن الكتاب ينطبق على باقي الفنون.

*"خطأ اليسار المميت يتمثل في حمله لبذرة التشتت منذ ولادته"، هذا الرأي لك، من وجهة نظرك هل بإمكانه اليوم تجاوز هذه الحالة مستقبلا؟

- فشل اليسار لدينا في كلّ المهام التاريخية التي كان من المفروض أن ينهض بها ومن مظاهر ذلك:

1) الفصل بين المعركة السياسية والمعركة الإيديولوجية ففي خصوص الحركات الإسلامية نجد أن اليسار إلا من رحم ربك يتعامل مع الحركات الإسلامية باعتبارها حركات سياسية والحال أن التعامل معها يجب أن يكون على قاعدة أنها حركات دينية لا يمكن الوثوق بها، فيسار 18 أكتوبر أمضى معها وثيقة لكنها لما وصلت إلى السلطة تراجعت عنها رغم بكاء حمة الهمامي وتذكيره بالأيام الخوالي.

2) عدم التفريق بين ما هو ثانوي وما هو رئيسي بين ما هو تكتيكي وما هو استراتيجي، من ذلك أن بعض قوى اليسار تضع التجمّع الدستوري والنظام السابق في نفس السلة مع الحركات الإسلامية بدعوى أن المعركة هي معركة الحرية للجميع وما هي كذلك لأن النظام السابق رغم الأخطاء التي لا يسلم منها أي نظام حقق مكتسبات مدنية وتقدمية كان من المفروض أن توضع في الاعتبار لأن الحركات الإسلامية تستهدف النمط المجتمعي الذي بنته دولة الاستقلال وشتان بين من نختلف معه في بعض التفاصيل وبين النقيض الذي يستهدف تغيير البنية ذاتها.

3) لم تتوقف قيادات هذا اليسار عن تأجيل المعركة الإيديولوجية بحجة أن المعركة اليوم معركة سياسية ولهذا السبب بالذات تبحث عن كراس في أي مسألة تعبر عن رأيه فلن تعثر إلا على بيانات في منتهى الخواء والبؤس، تبعا لذلك لم تتمكن هذه الفصائل على كثرتها من تربية قيادات ذات إشعاع وقدرة على التجميع والإقناع لنجد اليوم يسارا اعترته أمراض الشيخوخة جميعها ولم يتجاوز بعد مرحلة المراهقة على المستوى النظري.