إحساس غريب ينتابك وانت تجالس الأستاذ عز الدين المدني...هذا الهرِمُ المتفرّدُ... هذه القامة التونسية الثقافية الشّاهقة... تشعر وانت تنصت اليه بالاعتزاز والسّعادة والشّموخ عندما يتجوّل بك في أروقة إبداعاته الفلسفية والأدبية...ويدعوك لزيارة زوايا معبده الثقافي لتغوص معه في بحار عباراته العميقة الثائرة وكلماته المتمرّدة السائلة المسائلة الباحثة عن الأنقى والأرقى.
فهو فارس من فرسان الحداثة وقلم نذر حياته لإرساء مفاهيم الحداثة النبيلة النقيّة، وناضل لنشر أطروحات إنسانية عميقة سامية، تطرح قضايا الإنسان المصيرية المفعمة بالبعد الجمالي والذوق العالي..
سعى طيلة مشواره ولازال إلى تحريك السّواكن، وتغيير السائد من خلال ترجمته وقراءاته للأحداث التاريخية الكونية المتعاقبة، ومن أعماق مخزوننا ورصيدنا التراثي التونسي بكل أشكاله وتجلّياته. وعمل على تطويع كل هذا الزّخم وتسخيره وتمريره لبني جنسه من متابعيه، من خلال رواياته ومسرحياته وقصصه ومقالاته المنشورة وغير المنشورة، بلغة متحرّكة سلسة جاعلا منها أداة ترتقي بالفكر الإنساني، تفتح أمامه السبل لإعمال العقل وتهيؤه للثورة الهادئة والرّصانة الخلاقة. وتحرّضه على الإبداع والتحرّر والتخلّص من المتحجّر، وتحفّزه على كسر أغلال التقيّد ...وتدغدغ فكره على التمرّد على الجامد والنمطية...وتحثّه على قبول الآخر.
ويعتبر سي عز الدين أحد المكونات الرئيسية لمدرسة تونسية كونية تجديدية طلائعية معاصرة، تحمل فيها مسؤولياته بجسارة وجرأة ومسؤولية.
وفيما يلي نص الحوار
فاخر الرويسي
سي عزالدين ...متى بدأت اهتماماتك بالصحافة الثقافية؟ وكيف كانت بداياتك في عالم الكتابة؟
لقد انجذبت نحو الصحافة انجذابا لا يقاوم، صحافة الجرائد والمجلات التونسية... أوّل مقال كتبته وطلبت نشره سنة 1957 قرأه أستاذي محمّد المرزوقي المسؤول الثقافي والأدبي إمّا في جريدة النهضة أو في جريدة الزهرة المسائيتين ونشر فقرات منه... قال لي "اكتب يا عز الدين! إني وراءك! "
عميد الصحافيين التونسيين بلا منازع هو الأستاذ توفيق بوغدير، وهو الذي علّمني الصحافة في وكالة تونس إفريقيا للأنباء(وات). اتصلت به بين سنة 1961 وسنة 1962... كنت مكلّفا برئاسة تحرير مجلّة "اللغات" من قبل مديرها أحمد بلخوجة مدير معهد اللغات الحيّة بالخلدونية. وهي مجلة لغوية تصدر بالعربية والفرنسية والإنكليزية والألمانية. ومحرّروها كانوا من علية المثقفين التونسيين كالدكتور محمد فريد غازي والدكتور الطاهر الخميري والى جانبهما آخرون. وفي نفس تلك الفترة أو إثرها بقليل أصدر الدكتور محمد فريد غازي مجلّته "عبْقر" ودعاني إلى الاهتمام بها والمشاركة في التحرير فيها، بوصفي أحبُّ أحبابه إليه.
لقد عرّفني توفيق بوغدير عميد الصحفيين التونسيين يومئذ بالخبر وبمعناه وبقيمته وبكيفيات تحريره بعد أن أعطاني ورقة صغيرة عليها جملتان مطبوعتان بحروف "التيلاكس" الفرنسية. وطلب منّي أن أترجم نصّ ما في الورقة بلغة عربية مفهومة. فترجمت النصّ إلى اللغة العربية الأدبية. فتأمل وقال لي: ترجم هذا الخبر ترجمة صحافية لا أدبية ولا فقهية!
ومن الغد قدّمني توفيق بوغدير إلى أحد رؤساء تحرير الوكالة حسبما فهمت.
وفي سنة 1968 شرعت في التعامل مع جريدة" العمل" لسان الحزب الحر الدستوري ورئيس تحريرها الأستاذ صلاح الدين بن حميدة.
ثم تطوّر عملي في جريدة العمل فعيّنني سي صلاح الدين مسؤولا عن الصّفحة الثقافية بالجريدة التي كانت منتظمة الصدور بالمقالات الثقافية والصّور، ثلاثة او أربعة أيام في الأسبوع. تطوّر بالتالي وضعي الصحفي من "بيجيست" الى رئيس تحرير مساعد مكلّف بالثقافة في الجريدة. وبها الصفحة الثقافية شبه اليومية والملحق الثقافي كذلك.
في بداية خمسينات القرن الماضي تأسست رابطة القلم الجديد، كيف كانت علاقتك مع هذه الرابطة...ما هو مدى اسهاماتك فيها وكيف تعاملت مع أنشطتها؟
لم انخرط في أي حزب سياسي ولا في أية منظمة اقتصادية واجتماعية في حياتي كلها. فانا متحرّر منها جميعا، وانأ حرّ غير منتم لهذا او لذاك رغم أنّ الأحزاب
والمنظمات كانت متوفّرة أيام انفتاح وعيي وضميري وفكري على الدنيا والمجتمع والناس في الدّاخل والخارج.
إنّي انخرطت في "رابطة القلم الجديد" ربّما تمّ لي ذلك في أواخر السنوات الخمسين من القرن العشرين. وهو أوّل انخراط في جمعية قمت به محبّة للأدب وشغفا بالفكر. وكان رئيس "الرّابطة" حسب ما أتذكّر الشاعر منوّر صمادح والكاتب العام الشّاعر علي شلفوح والأعضاء عبد الرؤوف الخنيسي وخميس بوشهدة والهادي نعمان. ثم تولّى رئاسة " الرّابطة" لشهرين او ثلاثة الدكتور محمد فريد غازي وبعده تولاّها البشير خريّف لمدة وجيزة وأخيرا ترأسها عبد المجيد التلاتلي الشّاعر باللّغة الفرنسية والمتحصّل على جائزة قرطاج للشّعر الفرنسي في أواخر عهد الحماية الفرنسية.
كانت فعاليات "رابطة القلم الجديد" مضطربة لا يضبطها ضابط ويغلب عليها الارتجال والمزاج والحماس والعاطفة والجهويات!
غادرت "الرّابطة"، بل أهملت الانخراط فيها مع مرور الأيّام إذ لا فائدة كانت ترجى منها.
في سنة 1968 نشرت "الحزب الأول" من قصتي التجريبية" الانسان الصّفر" التي طلبت نشرها من الأستاذ البشير بن سلامة رئيس تحرير مجلة "الفكر" فوافق على نشرها ولكن بعد موافقة الأستاذ محمد مزالي مدير المجلة والمسؤول الحزبي والحكومي الشهير. فوافق على نشرها بما أنها "قصة تجريبية". ولا أدرى إلى هذا اليوم ما كان يعنيه محمد مزالي بكلمة "تجريبية" لديه ولم اسأله عن ذلك تماما. فهل حسبها مجرّد تجربة أدبية لا غير، ام تحمل معنى إضافي آخر؟ سؤال بقي معلّقا إلى يومنا هذا.
وفي سنة 1968 أيضا أصدرت لي الدار التونسية للنشر مجموعتي القصصية الأولى ضمن سلسلة مجلة "قصص" وعنوانها "خرافات". وأسندت وزارة الثقافة جائزتها الأدبية الأولى لهذا الكتاب.
وفي سنة 1968 أنهيت كتابة مسرحيتي "ثورة صاحب الحمار" وقرأت نصها على اخي وعشيري ومعاوني في السّرّاء والضرّاء فرحات يامون رحمه الله وهو الذي عرفني عند المخرج العبقري علي بن عيّاد وعرّفه بعملي لديه.
كيف تأسّس نادي القصة ومن هم رواد هذا النادي العريق؟
خلال أواسط عقد السنوات الستين من القرن العشرين شاركت في تأسيس نادي القصة وفي مجلته "قصص" وفي سلسلة كتب أعضائه التي أصدرتها الدار التونسية للنشر. ورئيس النادي كان الشيخ محمد العروسي المطوي، من المشاركين في تأسيسه محمد صالح الجابري ومحمد يحي وأحمد الهرڤام وحسن نصر. ثم التحق بالنادي سمير العيادي ومختار بن جنات ومحمود التونسي ورضوان الكوني واحمد ممّو وغيرهم.
وكان النادي يعقد اجتماعا أسبوعيا كل يوم سبت مساء لأنّ أعضاءه كلهم من الجيل الأوّل للاستقلال بحكم سنّهم وأنّ بعضهم ينتمون للتعليم وبعضهم الآخر
للصّحافة أوالوظيف. وهي مناسبة أسبوعية لكي يقرأ كل عضو قصة جديدة كتبها لتطرح فيما بعد للنقد والتقييم أو للاستفسار والتقويم.
وثقافة أعضاء النادي المؤسّسين أغلبها زيتونية ومشرقية من ذوي اللّغة الوحيدة أي اللّغة العربية بالإضافة إلى معرفة سطحية باللغة الفرنسية. واقلّها صادقيّة أفرادها...يحسنون القراءة والكتابة بالعربية وبالفرنسية معا ولهم اطّلاع لغوي على الإنكليزية.
والحق أنّ جميع الأعضاء بلا استثناء كان كل واحد منهم يرغب في أن يكتب قصة فنّية جديدة حسب المواصفات الجمالية التي ضبطها العصر الحديث في البلدان الأوروبية منذ القرن التاسع عشر فسارت الأقطار العربية على هذه السكّة فقلّدت تلك المواصفات وطبّقتها واعتقدت أنها هي الحداثة في الكتابة القصصية. والنتيجة أن بعض النقاشات الأسبوعية المستفيضة في هذا الموضوع ومعانيه تدّعي أن الجاحظ كان يكتب حكاياته في" الحيوان" او في "البخلاء" كتابة أدبية فصيحة ولكن على عواهنها! كأنه كان لا يفكر فيما يكتب، ويقصّ ويحكي ولا يترقّب الأحداث ولا يصف الشّخصيات ومواقفها. وكذلك الشأن والحكم على أبي الفرج الأصفهاني وعلى بديع الزّمان الهمذاني وعلى مصنّف كليلة ودمنة وعلى كتاب رسالة الغفران، وعلى قصة حي بن يقظان، والقائمة مازالت طويلة...أما فيما يتعلق بكتاب ألف ليلة وليلة فان الشّك قد انتابه فيما يتعلق بلغته العربية إذ لم يقع الإدراك الصّحيح عند البعض بأن عربية الكتابة قد تختلف في أشياء عن عربية الكلام والخطاب، وقد بين ذلك المسعودي في " مروج الذهب ومعادن الجوهر" حين روى حكاية جرت في عهد الخليفة المأمون (بالجزء الرابع من الكتاب).
قمنا بمراجعة الصّحافة التونسية من جرائد ومجلات ونشريات تونسية صدرت إبّان شروق القرن العشرين بوصفها الحافظة للتراث الأدبي التونسي الحديث والخازنة له والحارسة لأن تونس لم تكن فيها دور للنشر المنظّم المسؤول، إلى أن أمر الرئيس الحبيب بورقيبة المثقّف الكبير الوزير الشاذلي القليبي بتأسيس دار للنشر لا مجرد مطبعة تجارية تحتضن الأعمال الفكرية التونسية اليوم.
.
ولا بدّ أن أذكر أنّي اكتشفت أوّل نصّ مسرحي تونسي في تلك الأيام وأخرجها سليمان القرداحي رئيس الفرقة المسرحية المصرية التي بعثها خديوي مصر إلى
تونس كهدية أدبية فنّية لما للبلدين العربيين من قرابة على أكثر من صعيد! أخرجها قبل أن يتوفّى في تونس.
هل كان نادي القصة منغلقا على بعض المثقفين والأدباء أم انه انفتح على المبدعين الشبان وكل من له موهبة في الكتابة؟
كان نادي القصّة مفتوح الباب والفكر والقلب، يُرغّب كُتاب القصة القليلي العدد يومئذ الذين نشروا بعض قصصهم في المجلات الأدبية خلال النصف الأول من السّنوات الستّين وتُرجمت إلى اللّغة الفرنسية ضمن منتخبات قصصية عربية للتعريف بالكُتاب القصاصين العرب في أوروبا. كما كان النادي يُرغب الكُتاب الشُبّان من ذوي المواهب الإبداعية لا "الخَنتبيّهْ" ولا" الخَرْبَشيّهْ" بل الإبداعية الحقيقية، فالتحق بالمؤسسين الرُوّاد سمير العيادي ومحمود التونسي ورضوان الكوني ومختار جنّات وأحمد ممّو وعمر بن سالم وعروسية النالوتي.
وبانتماء الكُتّاب الشبان الموهوبين تعزو جانب نادي القصة الذي شرع في إصدار كتب الرّعيل الأول من المؤسّسين وإصدار مجلّة قصص الحافلة بقصص الكُتاب الأعضاء والضيوف، وأصبح الاجتماع الأسبوعي ندوة فكرية وجمالية ومعرفية يشارك فيها من أراد من الحاضرين لمناقشة محتوى القصّة التي قرأها كاتبها في النّادي مناقشة صريحة ذات آراء وفكر ووجهات نظر حرّة تقارعها وجهات نظر مخالفة ومعلومات وأمثلة مختلفة وأخرى.وكان من الحاضرين أبو القاسم محمد كرّو والبشير خريف وغيرهما عندما تسمح لهم أوقاتهم وظروفهم بالحضور.
كانت الاجتماعات الأسبوعية التي عقدها نادي القصة أعطت نتائجها الإبداعية المهمّة وأثمرت وبدأ صوت تونس الفكري يرتفع في العالم العربي وبدأ يلفت انتباه النقاد العرب والأجانب...
بداية من ستينات القرن الماضي كنت من أبرز العناصر الفاعلة في حركة الطليعة الأدبية التي اعتبرت ثورة على المفاهيم الثقافية السّائدة وقتئذ، ومنعرجا أثّر في المشهد الثقافي التونسي، كيف برزت هذه الحركة الفكرية؟ وما هو مدى تأثيرها على المسارات الثقافية التونسية؟
كان بين أعضاء نادي القصة ثلاثة لهم ثقافة أدبية تتألف من الأدب العربي والأدب الفرنسي. بينما كان باقي الأعضاء الآخرين من ذوي الثقافة الأدبية العربية القديمة والحديثة، وتعني القديمة كلاسيكيات الشعر والنثر، وتعني الحديثة ما تمّ نشره في مصر – في الأغلب الأعم – وفي أقطار عربية أخرى- من قصص وروايات وكتابات أدبية
بالإضافة الى ذلك كان هؤلاء الأعضاء الثلاثة لهم تربية فنية. كان سمير العيادي ذو تكوين مسرحي (في التمثيل والإخراج) وسينمائي. وكان محمود التونسي رسّاما ونحّاتا. وكان كاتب هذه السطور ذو تكوين متعدّد.
كان هؤلاء الثلاثة النواة القويّة المتماسكة بين جماعة المثقفين والفنّانين الذين أطلق عليهم اسم جماعة "الطليعة".
والطليعة هي ترجمة Avant-garde المصطلح العسكري المحارب باللّغة الفرنسية.
ذلك أن " الطلائع" الأوروبية كالدادائية والسريالية والبنائية قد رفضت السّابق والآخر واعدمتهما اعداما بينما الطليعة التونسية العربية تتهيأ للبذر والزّرع والإنماء والفتح والانفتاح والفعل والتفعيل والتفاعل والشراكة والتشارك والتجربة والتجريب هذا كله له علاقة بنظريات الطلائع الأوروبية.
وكان هؤلاء الكتّاب الثلاثة يحضرون الاجتماعات التي يعقدها نادي القصّة ويساهمون بأعمالهم القصصية في إعداد مجلّة قصص تحت إشراف الرئيس محمد العروسي المطوي...
ماذا عن بيان الأدب التجريبي ومجلة الطلائع الرائدة؟
كان من واجب الكتّاب أن يُبدعُوا وأن يخترعُوا وأن يسْتنْبطوا نماذج أدبية وفنّية أخرى! وأتى هذا الوقت المطلوب لإصدار بيان الأدب التجريبي ولنشر مجلّة طلائعية وهي "ثقافة" بإدارة سمير العيادي وبمساهمة ثلّة من الكتّاب والشعراء الطلائعيين الى جانب ما كان ينشره لهم الملحق الثقافي لجريدة العمل من أشعار ومقالات وقصص. وبيان الأدب التجريبي هو أوّل بيان أدبي تونسي دون شك ولا خلاف. وقد سبق صدور بيانات الشّاعر الطاهر الهمامي حول الشعر سمّاه "بيان في غير العمودي والحر" ". هذا الاتجاه الأدبي التّونسي قد ابتكره البشير بن سلامة ثم تبنّاه الطاهر الهمامي، والدّعوة التي وجهها هذا البيان. وفي تلك الفترة هاجمت هجوما عنيفا بيان الواقعية الاشتراكية للأديبين الرّوسيين السّوفياتيين "دانيال" و"سينياتفسكي" قصد تجنيد الكتاب السوفيات والكتاب الشيوعيين بشتى الجنسيات في العالم ولتسخيرهم بغية إعدادهم للدفاع عن أهداف الإتحاد السوفياتي وغاياته الكليانية التي يصفها بالدّيمقراطية لكنّها ديمقراطية شكلانية وهمية!
وهاجمت أيضا التهديدات والمحاكمات "الماكرتيّة" المروّعة في مجلس الشيوخ الأمريكي للكتاب مثل "شتاينبك" والفنانين من أمثال "إلياقازان" النابغة و"شارلي شابلان" العبقري عبر جميع العصور والمسرحيين كـ"برتولدبراشت"Bertolt Brecht وغيرهم كثيرون...
وقد قرّرت بعد إلقائه في دار الثقافة ابن خلدون نشره وكان ذلك في سنة 1968 أيضا.
لقد حضر عدد لا بأس به من المثقفين والصحفيّين والكتّاب وأساتذة من التعليم الثانوي والتعليم العالي. وامتلأت بهم قاعة المحاضرات والنّدوات في دار الثقافة ابن خلدون بطابقها الأوّل.
وأقول لأوّل مرّة وأكرّره: إنّ بياني الأوّل يدعو إلى تأسيس أدب إبداعي تونسي صميم ولكنه مفتوح على العالم، غير متقوقع ولا منغلق ولا محلّي...
تلك هي خلاصة معنى هذا البيان وذلك هو جوهره.
كنت مديرا للمركز الثقافي الدولي بالحمامات، فما هي مساهماتك في دعم هذا المركز؟ وما هو الدور الذي لعبه المركز في تطوير المشهد الثقافي الدّاخلي والتعريف بالثقافة التونسية في الخارج؟
تأسّس المركز الثقافي الدّولي بالحمامات في منتصف السّنوات الستّين من القرن العشرين أي بعد عشر سنوات من استقلال تونس تقريبا.
وقد قرّر الرئيس بورقيبة تخصيص المركز للثقافة التونسية مع انفتاحه على المغرب الكبير وعلى الأقطار المتوسّطية وعلى العالم العربي، إذ لم تكن في البلاد مؤسسة وطنية تجمع المثقفين وأعمالهم الثقافية قبل ذلك التاريخ لا بالتشجيع والمساعدة والاحتضان المادي خاصة ولا بالنشر والتوزيع في الخارج للتعريف بهم ورعاية أشعارهم.
والثقافة الوطنية المعنية بهذا الأمر هي الثّقافة الحديثة المعروفة في بحر القرن العشرين والمنتشرة عبر أقطار العالم: فنون السّرد من قصّة ورواية وفروعها وفنون الفرجة من مسرح وأوبرا وبالي وغناء وعروض أوركسترالية بالإضافة إلى عقد مؤتمرات وندوات ومحاورات ولقاءات في نطاق الآداب والفنون والعلوم الصّحيحة والاجتماعية والإنسانية إلى جانب الفلسفة والتاريخ.
ووقع الاتفاق بين تونس والبرتغال على أن تموّل مؤسسة "قولبانكاين"CalousteGulbenkian البرتغالية بناء مسرح الهواء الطلق ولوازمه داخل المساحة المخصّصة للمركز، وفيها " الدّار الكبيرة" وعدد من الغرف المستقلة وحديقة واسعة الأطراف. وكل المساحة تقدر بحوالي تسع هكتارات مشرفة على شاطئ البحر وتقع على الطريق المؤدي إلى مدينة الحمامات التي تبعد كيلومترين اثنين تقريبا.
كما تمّ من قبل رئاسة الجمهورية إصدار أمر بتسمية المثقّف اللّبناني سيسيل حورانيCecil Hourani مديرا عامّا للمركز الثقافي الدولي بالحمّامات. وهو صديق الرّئيس بورقيبة، وقد أعانه في الخارج عندما كان ينشر قضيّة تونس واستقلالها وحرّيّتها في الولايات المتّحدة الأمريكية. وخصّص السّيد الرئيس ميزانية تصرّف وتشجيع ثقافي، فجلب سيسيل حوراني "بالي القرن العشرين" ومديرها الفنّان موريس بيجارMaurice Béjartمن المسرح الملكي البلجيكي ببروكسال.
بعد شهور تقرر إلحاق المركز بوزارة الثقافة فعيّن الوزير الشاذلي القليبي الأستاذ الطاهر ڤيڤة مديرا خلفا لسيسيل حوراني.
كان الطّاهر ڤيڤة أستاذ التعليم في ثانوية خزندار الصّادقية، مستقيم السلوك، ذكيا ملاحظا دقيقا في ملاحظاته، مباشرا في مخاطبته ومحاوراته معك، مناقشا بلا عناد ولا وثوقيّة، مرجّحا للصّواب، منتقدا العادي والمبتذل، متحفّزا دائما للعمل المصيب للهدف.
وقبل أن ينتقل الأستاذ الطاهر ڤيڤة الى وظيفه الجديد في المنظّمة العربية للتّربية والثقافة والعلوم أوصى الوزير المباشر يومئذ لوزارة الثقافة بان أخلفه في إدارة المركز الثقافي الدولي بالحمامات سنة 1979.
وفي أثناء عملي خضت معركة الكتابة الإبداعية المسرحية، فسلّمت نص مسرحيّتي "ثورة صاحب الحمار" اليه بين سنة 1968 وسنة 1969 وأبلغته بأني عرضتها على علي بن عيّاد مدير فرقة مدينة تونس للمسرح فقبلها بعد الفحص والقيل والقال والاستشارة ومراجعة عربيّتها مراجعة قاموسية أكاديمية متزمّتة، ففرح بها شديد الفرح حتّى أنّه ذهب للتبشير بها لدى المسرحيين على قلتهم يومئذ والهواة والمتابعين والمتحمّسين وقرأ بعض مقاطع منها على أحبابه المقرّبين، وقد علمت بكلّ هذا بعد سنة أو سنتين.
وكان بن عياد يشكو من ضالّة الابتكار المسرحي عند التّونسيين ما عدا الكاتب الوزير الحبيب بولعراس مؤلف "مراد الثّالث" وهي من أهمّ ما أخرج علي بن عيّاد بعد "كاليقولا" Caligulaلـ ألبار كامو Alber Camus بترجمة المرحوم حسن الزمرلي.
وبعد تأسيس المهرجان الدولي بالحمامات (وهو وليد المركز) واستياء الجمهور من مسرحية"قريتي" التي كتبها أحد الممثلين التونسيين ، تم سنة1972 في افتتاح المهرجان تقديم مسرحية "ديوان الزنج" بإخراج الفنّان المنصف السويسي وبإدارة فرقته بالكاف. وقد نجحت المسرحية نجاحا بالغا عظيما مازال بعض الجمهور اليوم يتذكّر عرضها وخصائصه الفنية في الإخراج والتمثيل والتقنيات في المسرح وشكله وما يحيط به.
كان فنّ المسرح هو أسمى الأهداف الفنّية والفكرية العالية التي كنّا نهدف اليها: الوزير الشاذلي القليبي والمدير الأستاذ الطّاهر قيقة وأنا منذ إنشاء المركز ووليده المهرجان.
والحق أنّ مسرحيّتي "ديوان الزنج" قد ركّزت بافتتاحها لمهرجان الحمامات الدّولي قيمة الفنّ المسرحي ككلّ وقيمة المركز في احتضان ورعاية فنّ المسرح التونسي، كدفع ديناميكي نحو الأمام ونحو التقدّم ونحو الرقيّ وأخيرا ولا آخرا نحو ازدهار فن المسرح الوطني التونسي الإبداعي المتفرّد الأصيل المستقل عن التأثيرات الأجنبيّة...وصار من السّنن الحميدة أن يفتتح المسرح التونسي بإبداع قوي عميق كلّ سنة المهرجان الدولي بالحمامات إلى أن أصبح الافتتاح المسرحي تقليدا واجبا
ثم قمت بافتتاح المهرجان في كل سنة من السنوات الموالية: فافتتحت بـ "رحلة الحلّاج" ثم بـ"تعازي فاطمية" ثم بـ "حمّودة باشا والثورة الفرنسية" ثم بـ"شذرات ابن رشد" ثم بـ"رسائل الحرّية" و"الله ينصر سيدنا" و "ريشارد الثالث" وقدمت مسرحيات أخرى في أثناء البرامج السنوية لمهرجان الحمّامات منها" التربيع والتدوير" و "على البحر الوافر". وكنت أعتزم تقديم مسرحيّتي" شجرة الدّر" بعد عرضها الأوّل في المعهد العربي بباريس.
ولقد كتبت إلى هذا اليوم أربعين مسرحية بإخراجات متعدّدة من الفنّانين علي بن عياد، المنصف السويسي، محمد كوكة وحافظ خليفة ...
كل ما كتبته لفنّ المسرح التونسي إنما هو هويّة صارت لمهرجان الحمامات الدولي والمركز الثقافي الدولي، فصرت مشهورا بأنّي صاحب المهرجان بل صاحب المركز قبل أن أعيّن مديرا عاما له.
وكيف كانت العلاقة بباقي المؤسسات الثقافية؟
تطابق اسمي مع المركز والمهرجان عندما ربطت علاقات مثمرة جدا مع تجديد مهرجان دقة بولاية باجة ومهرجان طبرقة ومهرجان ڨابس ومهرجان قرطاج ومهرجان المنستير الدّولي ومهرجان المنستير الجامعي ومهرجان أيّام قرطاج المسرحيّة ونظيره مهرجان أيّام قرطاج السنيمائية دون ذكر المهرجانات المحلّية.
صار اسم المركز الثقافي الدّولي بالحمّامات كالمنارة الثقافية والحضارية تشعّ لا على المسرح التونسي فحسب بل على الثقافة التونسية الإبداعية ككلّ، وذلك عن طريق النّصيحة والاستشارة والتشاور والتكاتف والتعاون والتضامن.
ذكر الحفلات الغنائية والموسيقية والرّاقصة الفنّية يطول كما يطول ذكر المعارض للفنون التشكيلية التونسية والأجنبية وفنّانيها إلى أن أقيمت بالمركز وخارجه.
وعيّنتني وزارة الثقافة مرّات كثيرة لأتكلّم باسم تونس في ندوات عربية حول موضوع المسرح وتلقيت دعوات شخصية لألقي محاضرات عن المسرح الذي أبدعته إلى جانب ندوة انعقدت في جامعة "السوربون" لتقييم أعمالي المسرحية. وأصدرت كلية الآداب بـ "الجامعة الحرّة" ببروكسال كتابا عن أعمالي المسرحية. وأرادت مؤسسة أمريكية أن تستضيفني بمقرّها لكتابة مشروع مسرحية "شذرات من السيرة الرّشديّة" واستضافتني مؤسسة مجريّة ببودابيست Budapest للتحاور مع مؤلفين مسرحيّين وروائيين ونقّاد موسيقيين مجريّين خلال ندوة فكرية.
عز الدين المدني في سطور
ولد الأستاذ عز الدين المدني بتونس سنة 1938
عضو في المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة" بقرطاج
مشارك في تأسيس "نادي القصة" بالوردية وفي إصدار مجلة "قصص" وسلسلة مجموعات قصصها بأقلام أعضاء النادي: حسن نصر وسمير العيّادي ومحمد صالح الجابري ومحمد يحي...
أصدرت الدار العربية للنشر "أعماله القصصية الكاملة" في 4 مجلّدات ومجموعة قصصية أخرى اسمها الإكمال لم تنشر بعد.
ألّف 40 مسرحية باللغة العربية غالبها، وعددا منها باللهجة الدّارجة التونسية.
تعاون على تقديمها إلى الجمهور مع أهمّ المخرجين: علي بن عيّاد والمنصف السويسي ومحمد كوكة وحافظ خليفة ودانيال بودوان والشريف خزندار. كما تعاون مع أهم المخرجين المصريين لانجاز عدد من مسرحياته في مسرح الطليعة بالقاهرة ومسرح الهناڤر ومسرح البالون ومسرح الجمهورية، ترجم عدد منها إلى لغات أوروبية: فرنسية والأنڤليزية واسبانية وألمانية، وصدرت حولها دراسات نقدية بأقلام كبار النقاد المصريين والعرب من بينهم د. علي الراعي والأستاذ عبد الغني داود.
أعدّ دراسات وبحوث عن عدد منها في السّربون بباريس، وفي " الجامعة الحرّة" ببروكسال (بلجيكيا) وفي مؤسسة أمريكية، ودراسات وبحوث نقدية أخرى في العراق وسورية والكويت والمغرب والأردن وقام بتدريسها وتعليمها في المعهد العالي للمسرح في بغداد وفي القاهرة وفي دمشق وذلك حسب اختيارات كل معهد.
كوّن عددا من الشبان ثقافيا وإبداعيا في الأدب والفكر
عمل بمسرح الرون بوان Théâtre du Rond-Point بباريس.
سماه النقّاد رئيسا للطليعة الأدبية والفنية والفكرية.
مختص في نقد الفنون التشكيلية التونسية نقدا غير أكاديمي ولا مبوّبا حسب القوانين الأوروبية.
تناول تراجم وأعمال الفنانين: عمّار فرحات، والزبير التركي، ونجيب بلخوجة، ونجا المهداوي، وعماد بوجميل، و ڤينار، وسعاد الشهيبي، ومحمد السّجلماني، وبلكاهية، وشبعة، والشعابنيّة، وجاك بيراز، وعلي عبيد.
كتب في الفلسفة: "مقالات حول الكندي وابن رشد والفلاسفة قبل سقراط" (ترجمة)، وعن سارتر، وكيكڤارد، ومرتان هيدڤر، وپول ريكور. وكتب في فلسفة "البدايات" منشورة في مجلّة البحرين بدولة البحرين وفي فلسفة" التراث". وألّف كتاب"الأدب التجريبي" المصنّف ككتاب عربي أوّل في مكتبة الكنغرس الأمريكي.
كتب روايات لم تنشر بعد:" افتتاح موسم الصّيد في غابات الشك"، و"معراج"، و"العدوان"(هذه الأخيرة منشورة بتونس (وترجمتها بالانڤليزية) لكنه نشر أيضا "أيّام سعيدة" في جزئين.
حقق "أعمال علي الدوعاجي" ونشرها مجموعة في كتاب نشر دار الإبداع العربي تونس وحقق أعمالا أدبية تونسية أخرى لكتّاب قدامى تونسيين في مجلة قصص ومجلة الفكر ومجلة ثقافة.
تعاون مع المرحوم محمد السقانجي لإصدار مختارات لنصوص مسرحية تونسية تمّ تأليفها في النصف الأول من القرن العشرين وهي لمؤلّفين مسرحيين تونسيين.
كتب "الانسان الصفر" (فصولا منها فقط): ترجع كتابة أول فصل منها لسنة 1962، الفصل الخامس منها "قصر المحمدية".
ألّف 15 عملا أدبيا تم منع نشرهم او توزيعهم.
تحصل على جائزة سلطان العويس العربية في القصة والرواية والمسرحية دون تجزئة الأجناس وذلك سنة 2006/2007
رشّحه "بيت الحكمة لنيل جائزة نوبل العالمية.
كتب في نقد الكتب والمجلات (أكثر من 500.)
تونس-الصباح
إحساس غريب ينتابك وانت تجالس الأستاذ عز الدين المدني...هذا الهرِمُ المتفرّدُ... هذه القامة التونسية الثقافية الشّاهقة... تشعر وانت تنصت اليه بالاعتزاز والسّعادة والشّموخ عندما يتجوّل بك في أروقة إبداعاته الفلسفية والأدبية...ويدعوك لزيارة زوايا معبده الثقافي لتغوص معه في بحار عباراته العميقة الثائرة وكلماته المتمرّدة السائلة المسائلة الباحثة عن الأنقى والأرقى.
فهو فارس من فرسان الحداثة وقلم نذر حياته لإرساء مفاهيم الحداثة النبيلة النقيّة، وناضل لنشر أطروحات إنسانية عميقة سامية، تطرح قضايا الإنسان المصيرية المفعمة بالبعد الجمالي والذوق العالي..
سعى طيلة مشواره ولازال إلى تحريك السّواكن، وتغيير السائد من خلال ترجمته وقراءاته للأحداث التاريخية الكونية المتعاقبة، ومن أعماق مخزوننا ورصيدنا التراثي التونسي بكل أشكاله وتجلّياته. وعمل على تطويع كل هذا الزّخم وتسخيره وتمريره لبني جنسه من متابعيه، من خلال رواياته ومسرحياته وقصصه ومقالاته المنشورة وغير المنشورة، بلغة متحرّكة سلسة جاعلا منها أداة ترتقي بالفكر الإنساني، تفتح أمامه السبل لإعمال العقل وتهيؤه للثورة الهادئة والرّصانة الخلاقة. وتحرّضه على الإبداع والتحرّر والتخلّص من المتحجّر، وتحفّزه على كسر أغلال التقيّد ...وتدغدغ فكره على التمرّد على الجامد والنمطية...وتحثّه على قبول الآخر.
ويعتبر سي عز الدين أحد المكونات الرئيسية لمدرسة تونسية كونية تجديدية طلائعية معاصرة، تحمل فيها مسؤولياته بجسارة وجرأة ومسؤولية.
وفيما يلي نص الحوار
فاخر الرويسي
سي عزالدين ...متى بدأت اهتماماتك بالصحافة الثقافية؟ وكيف كانت بداياتك في عالم الكتابة؟
لقد انجذبت نحو الصحافة انجذابا لا يقاوم، صحافة الجرائد والمجلات التونسية... أوّل مقال كتبته وطلبت نشره سنة 1957 قرأه أستاذي محمّد المرزوقي المسؤول الثقافي والأدبي إمّا في جريدة النهضة أو في جريدة الزهرة المسائيتين ونشر فقرات منه... قال لي "اكتب يا عز الدين! إني وراءك! "
عميد الصحافيين التونسيين بلا منازع هو الأستاذ توفيق بوغدير، وهو الذي علّمني الصحافة في وكالة تونس إفريقيا للأنباء(وات). اتصلت به بين سنة 1961 وسنة 1962... كنت مكلّفا برئاسة تحرير مجلّة "اللغات" من قبل مديرها أحمد بلخوجة مدير معهد اللغات الحيّة بالخلدونية. وهي مجلة لغوية تصدر بالعربية والفرنسية والإنكليزية والألمانية. ومحرّروها كانوا من علية المثقفين التونسيين كالدكتور محمد فريد غازي والدكتور الطاهر الخميري والى جانبهما آخرون. وفي نفس تلك الفترة أو إثرها بقليل أصدر الدكتور محمد فريد غازي مجلّته "عبْقر" ودعاني إلى الاهتمام بها والمشاركة في التحرير فيها، بوصفي أحبُّ أحبابه إليه.
لقد عرّفني توفيق بوغدير عميد الصحفيين التونسيين يومئذ بالخبر وبمعناه وبقيمته وبكيفيات تحريره بعد أن أعطاني ورقة صغيرة عليها جملتان مطبوعتان بحروف "التيلاكس" الفرنسية. وطلب منّي أن أترجم نصّ ما في الورقة بلغة عربية مفهومة. فترجمت النصّ إلى اللغة العربية الأدبية. فتأمل وقال لي: ترجم هذا الخبر ترجمة صحافية لا أدبية ولا فقهية!
ومن الغد قدّمني توفيق بوغدير إلى أحد رؤساء تحرير الوكالة حسبما فهمت.
وفي سنة 1968 شرعت في التعامل مع جريدة" العمل" لسان الحزب الحر الدستوري ورئيس تحريرها الأستاذ صلاح الدين بن حميدة.
ثم تطوّر عملي في جريدة العمل فعيّنني سي صلاح الدين مسؤولا عن الصّفحة الثقافية بالجريدة التي كانت منتظمة الصدور بالمقالات الثقافية والصّور، ثلاثة او أربعة أيام في الأسبوع. تطوّر بالتالي وضعي الصحفي من "بيجيست" الى رئيس تحرير مساعد مكلّف بالثقافة في الجريدة. وبها الصفحة الثقافية شبه اليومية والملحق الثقافي كذلك.
في بداية خمسينات القرن الماضي تأسست رابطة القلم الجديد، كيف كانت علاقتك مع هذه الرابطة...ما هو مدى اسهاماتك فيها وكيف تعاملت مع أنشطتها؟
لم انخرط في أي حزب سياسي ولا في أية منظمة اقتصادية واجتماعية في حياتي كلها. فانا متحرّر منها جميعا، وانأ حرّ غير منتم لهذا او لذاك رغم أنّ الأحزاب
والمنظمات كانت متوفّرة أيام انفتاح وعيي وضميري وفكري على الدنيا والمجتمع والناس في الدّاخل والخارج.
إنّي انخرطت في "رابطة القلم الجديد" ربّما تمّ لي ذلك في أواخر السنوات الخمسين من القرن العشرين. وهو أوّل انخراط في جمعية قمت به محبّة للأدب وشغفا بالفكر. وكان رئيس "الرّابطة" حسب ما أتذكّر الشاعر منوّر صمادح والكاتب العام الشّاعر علي شلفوح والأعضاء عبد الرؤوف الخنيسي وخميس بوشهدة والهادي نعمان. ثم تولّى رئاسة " الرّابطة" لشهرين او ثلاثة الدكتور محمد فريد غازي وبعده تولاّها البشير خريّف لمدة وجيزة وأخيرا ترأسها عبد المجيد التلاتلي الشّاعر باللّغة الفرنسية والمتحصّل على جائزة قرطاج للشّعر الفرنسي في أواخر عهد الحماية الفرنسية.
كانت فعاليات "رابطة القلم الجديد" مضطربة لا يضبطها ضابط ويغلب عليها الارتجال والمزاج والحماس والعاطفة والجهويات!
غادرت "الرّابطة"، بل أهملت الانخراط فيها مع مرور الأيّام إذ لا فائدة كانت ترجى منها.
في سنة 1968 نشرت "الحزب الأول" من قصتي التجريبية" الانسان الصّفر" التي طلبت نشرها من الأستاذ البشير بن سلامة رئيس تحرير مجلة "الفكر" فوافق على نشرها ولكن بعد موافقة الأستاذ محمد مزالي مدير المجلة والمسؤول الحزبي والحكومي الشهير. فوافق على نشرها بما أنها "قصة تجريبية". ولا أدرى إلى هذا اليوم ما كان يعنيه محمد مزالي بكلمة "تجريبية" لديه ولم اسأله عن ذلك تماما. فهل حسبها مجرّد تجربة أدبية لا غير، ام تحمل معنى إضافي آخر؟ سؤال بقي معلّقا إلى يومنا هذا.
وفي سنة 1968 أيضا أصدرت لي الدار التونسية للنشر مجموعتي القصصية الأولى ضمن سلسلة مجلة "قصص" وعنوانها "خرافات". وأسندت وزارة الثقافة جائزتها الأدبية الأولى لهذا الكتاب.
وفي سنة 1968 أنهيت كتابة مسرحيتي "ثورة صاحب الحمار" وقرأت نصها على اخي وعشيري ومعاوني في السّرّاء والضرّاء فرحات يامون رحمه الله وهو الذي عرفني عند المخرج العبقري علي بن عيّاد وعرّفه بعملي لديه.
كيف تأسّس نادي القصة ومن هم رواد هذا النادي العريق؟
خلال أواسط عقد السنوات الستين من القرن العشرين شاركت في تأسيس نادي القصة وفي مجلته "قصص" وفي سلسلة كتب أعضائه التي أصدرتها الدار التونسية للنشر. ورئيس النادي كان الشيخ محمد العروسي المطوي، من المشاركين في تأسيسه محمد صالح الجابري ومحمد يحي وأحمد الهرڤام وحسن نصر. ثم التحق بالنادي سمير العيادي ومختار بن جنات ومحمود التونسي ورضوان الكوني واحمد ممّو وغيرهم.
وكان النادي يعقد اجتماعا أسبوعيا كل يوم سبت مساء لأنّ أعضاءه كلهم من الجيل الأوّل للاستقلال بحكم سنّهم وأنّ بعضهم ينتمون للتعليم وبعضهم الآخر
للصّحافة أوالوظيف. وهي مناسبة أسبوعية لكي يقرأ كل عضو قصة جديدة كتبها لتطرح فيما بعد للنقد والتقييم أو للاستفسار والتقويم.
وثقافة أعضاء النادي المؤسّسين أغلبها زيتونية ومشرقية من ذوي اللّغة الوحيدة أي اللّغة العربية بالإضافة إلى معرفة سطحية باللغة الفرنسية. واقلّها صادقيّة أفرادها...يحسنون القراءة والكتابة بالعربية وبالفرنسية معا ولهم اطّلاع لغوي على الإنكليزية.
والحق أنّ جميع الأعضاء بلا استثناء كان كل واحد منهم يرغب في أن يكتب قصة فنّية جديدة حسب المواصفات الجمالية التي ضبطها العصر الحديث في البلدان الأوروبية منذ القرن التاسع عشر فسارت الأقطار العربية على هذه السكّة فقلّدت تلك المواصفات وطبّقتها واعتقدت أنها هي الحداثة في الكتابة القصصية. والنتيجة أن بعض النقاشات الأسبوعية المستفيضة في هذا الموضوع ومعانيه تدّعي أن الجاحظ كان يكتب حكاياته في" الحيوان" او في "البخلاء" كتابة أدبية فصيحة ولكن على عواهنها! كأنه كان لا يفكر فيما يكتب، ويقصّ ويحكي ولا يترقّب الأحداث ولا يصف الشّخصيات ومواقفها. وكذلك الشأن والحكم على أبي الفرج الأصفهاني وعلى بديع الزّمان الهمذاني وعلى مصنّف كليلة ودمنة وعلى كتاب رسالة الغفران، وعلى قصة حي بن يقظان، والقائمة مازالت طويلة...أما فيما يتعلق بكتاب ألف ليلة وليلة فان الشّك قد انتابه فيما يتعلق بلغته العربية إذ لم يقع الإدراك الصّحيح عند البعض بأن عربية الكتابة قد تختلف في أشياء عن عربية الكلام والخطاب، وقد بين ذلك المسعودي في " مروج الذهب ومعادن الجوهر" حين روى حكاية جرت في عهد الخليفة المأمون (بالجزء الرابع من الكتاب).
قمنا بمراجعة الصّحافة التونسية من جرائد ومجلات ونشريات تونسية صدرت إبّان شروق القرن العشرين بوصفها الحافظة للتراث الأدبي التونسي الحديث والخازنة له والحارسة لأن تونس لم تكن فيها دور للنشر المنظّم المسؤول، إلى أن أمر الرئيس الحبيب بورقيبة المثقّف الكبير الوزير الشاذلي القليبي بتأسيس دار للنشر لا مجرد مطبعة تجارية تحتضن الأعمال الفكرية التونسية اليوم.
.
ولا بدّ أن أذكر أنّي اكتشفت أوّل نصّ مسرحي تونسي في تلك الأيام وأخرجها سليمان القرداحي رئيس الفرقة المسرحية المصرية التي بعثها خديوي مصر إلى
تونس كهدية أدبية فنّية لما للبلدين العربيين من قرابة على أكثر من صعيد! أخرجها قبل أن يتوفّى في تونس.
هل كان نادي القصة منغلقا على بعض المثقفين والأدباء أم انه انفتح على المبدعين الشبان وكل من له موهبة في الكتابة؟
كان نادي القصّة مفتوح الباب والفكر والقلب، يُرغّب كُتاب القصة القليلي العدد يومئذ الذين نشروا بعض قصصهم في المجلات الأدبية خلال النصف الأول من السّنوات الستّين وتُرجمت إلى اللّغة الفرنسية ضمن منتخبات قصصية عربية للتعريف بالكُتاب القصاصين العرب في أوروبا. كما كان النادي يُرغب الكُتاب الشُبّان من ذوي المواهب الإبداعية لا "الخَنتبيّهْ" ولا" الخَرْبَشيّهْ" بل الإبداعية الحقيقية، فالتحق بالمؤسسين الرُوّاد سمير العيادي ومحمود التونسي ورضوان الكوني ومختار جنّات وأحمد ممّو وعمر بن سالم وعروسية النالوتي.
وبانتماء الكُتّاب الشبان الموهوبين تعزو جانب نادي القصة الذي شرع في إصدار كتب الرّعيل الأول من المؤسّسين وإصدار مجلّة قصص الحافلة بقصص الكُتاب الأعضاء والضيوف، وأصبح الاجتماع الأسبوعي ندوة فكرية وجمالية ومعرفية يشارك فيها من أراد من الحاضرين لمناقشة محتوى القصّة التي قرأها كاتبها في النّادي مناقشة صريحة ذات آراء وفكر ووجهات نظر حرّة تقارعها وجهات نظر مخالفة ومعلومات وأمثلة مختلفة وأخرى.وكان من الحاضرين أبو القاسم محمد كرّو والبشير خريف وغيرهما عندما تسمح لهم أوقاتهم وظروفهم بالحضور.
كانت الاجتماعات الأسبوعية التي عقدها نادي القصة أعطت نتائجها الإبداعية المهمّة وأثمرت وبدأ صوت تونس الفكري يرتفع في العالم العربي وبدأ يلفت انتباه النقاد العرب والأجانب...
بداية من ستينات القرن الماضي كنت من أبرز العناصر الفاعلة في حركة الطليعة الأدبية التي اعتبرت ثورة على المفاهيم الثقافية السّائدة وقتئذ، ومنعرجا أثّر في المشهد الثقافي التونسي، كيف برزت هذه الحركة الفكرية؟ وما هو مدى تأثيرها على المسارات الثقافية التونسية؟
كان بين أعضاء نادي القصة ثلاثة لهم ثقافة أدبية تتألف من الأدب العربي والأدب الفرنسي. بينما كان باقي الأعضاء الآخرين من ذوي الثقافة الأدبية العربية القديمة والحديثة، وتعني القديمة كلاسيكيات الشعر والنثر، وتعني الحديثة ما تمّ نشره في مصر – في الأغلب الأعم – وفي أقطار عربية أخرى- من قصص وروايات وكتابات أدبية
بالإضافة الى ذلك كان هؤلاء الأعضاء الثلاثة لهم تربية فنية. كان سمير العيادي ذو تكوين مسرحي (في التمثيل والإخراج) وسينمائي. وكان محمود التونسي رسّاما ونحّاتا. وكان كاتب هذه السطور ذو تكوين متعدّد.
كان هؤلاء الثلاثة النواة القويّة المتماسكة بين جماعة المثقفين والفنّانين الذين أطلق عليهم اسم جماعة "الطليعة".
والطليعة هي ترجمة Avant-garde المصطلح العسكري المحارب باللّغة الفرنسية.
ذلك أن " الطلائع" الأوروبية كالدادائية والسريالية والبنائية قد رفضت السّابق والآخر واعدمتهما اعداما بينما الطليعة التونسية العربية تتهيأ للبذر والزّرع والإنماء والفتح والانفتاح والفعل والتفعيل والتفاعل والشراكة والتشارك والتجربة والتجريب هذا كله له علاقة بنظريات الطلائع الأوروبية.
وكان هؤلاء الكتّاب الثلاثة يحضرون الاجتماعات التي يعقدها نادي القصّة ويساهمون بأعمالهم القصصية في إعداد مجلّة قصص تحت إشراف الرئيس محمد العروسي المطوي...
ماذا عن بيان الأدب التجريبي ومجلة الطلائع الرائدة؟
كان من واجب الكتّاب أن يُبدعُوا وأن يخترعُوا وأن يسْتنْبطوا نماذج أدبية وفنّية أخرى! وأتى هذا الوقت المطلوب لإصدار بيان الأدب التجريبي ولنشر مجلّة طلائعية وهي "ثقافة" بإدارة سمير العيادي وبمساهمة ثلّة من الكتّاب والشعراء الطلائعيين الى جانب ما كان ينشره لهم الملحق الثقافي لجريدة العمل من أشعار ومقالات وقصص. وبيان الأدب التجريبي هو أوّل بيان أدبي تونسي دون شك ولا خلاف. وقد سبق صدور بيانات الشّاعر الطاهر الهمامي حول الشعر سمّاه "بيان في غير العمودي والحر" ". هذا الاتجاه الأدبي التّونسي قد ابتكره البشير بن سلامة ثم تبنّاه الطاهر الهمامي، والدّعوة التي وجهها هذا البيان. وفي تلك الفترة هاجمت هجوما عنيفا بيان الواقعية الاشتراكية للأديبين الرّوسيين السّوفياتيين "دانيال" و"سينياتفسكي" قصد تجنيد الكتاب السوفيات والكتاب الشيوعيين بشتى الجنسيات في العالم ولتسخيرهم بغية إعدادهم للدفاع عن أهداف الإتحاد السوفياتي وغاياته الكليانية التي يصفها بالدّيمقراطية لكنّها ديمقراطية شكلانية وهمية!
وهاجمت أيضا التهديدات والمحاكمات "الماكرتيّة" المروّعة في مجلس الشيوخ الأمريكي للكتاب مثل "شتاينبك" والفنانين من أمثال "إلياقازان" النابغة و"شارلي شابلان" العبقري عبر جميع العصور والمسرحيين كـ"برتولدبراشت"Bertolt Brecht وغيرهم كثيرون...
وقد قرّرت بعد إلقائه في دار الثقافة ابن خلدون نشره وكان ذلك في سنة 1968 أيضا.
لقد حضر عدد لا بأس به من المثقفين والصحفيّين والكتّاب وأساتذة من التعليم الثانوي والتعليم العالي. وامتلأت بهم قاعة المحاضرات والنّدوات في دار الثقافة ابن خلدون بطابقها الأوّل.
وأقول لأوّل مرّة وأكرّره: إنّ بياني الأوّل يدعو إلى تأسيس أدب إبداعي تونسي صميم ولكنه مفتوح على العالم، غير متقوقع ولا منغلق ولا محلّي...
تلك هي خلاصة معنى هذا البيان وذلك هو جوهره.
كنت مديرا للمركز الثقافي الدولي بالحمامات، فما هي مساهماتك في دعم هذا المركز؟ وما هو الدور الذي لعبه المركز في تطوير المشهد الثقافي الدّاخلي والتعريف بالثقافة التونسية في الخارج؟
تأسّس المركز الثقافي الدّولي بالحمامات في منتصف السّنوات الستّين من القرن العشرين أي بعد عشر سنوات من استقلال تونس تقريبا.
وقد قرّر الرئيس بورقيبة تخصيص المركز للثقافة التونسية مع انفتاحه على المغرب الكبير وعلى الأقطار المتوسّطية وعلى العالم العربي، إذ لم تكن في البلاد مؤسسة وطنية تجمع المثقفين وأعمالهم الثقافية قبل ذلك التاريخ لا بالتشجيع والمساعدة والاحتضان المادي خاصة ولا بالنشر والتوزيع في الخارج للتعريف بهم ورعاية أشعارهم.
والثقافة الوطنية المعنية بهذا الأمر هي الثّقافة الحديثة المعروفة في بحر القرن العشرين والمنتشرة عبر أقطار العالم: فنون السّرد من قصّة ورواية وفروعها وفنون الفرجة من مسرح وأوبرا وبالي وغناء وعروض أوركسترالية بالإضافة إلى عقد مؤتمرات وندوات ومحاورات ولقاءات في نطاق الآداب والفنون والعلوم الصّحيحة والاجتماعية والإنسانية إلى جانب الفلسفة والتاريخ.
ووقع الاتفاق بين تونس والبرتغال على أن تموّل مؤسسة "قولبانكاين"CalousteGulbenkian البرتغالية بناء مسرح الهواء الطلق ولوازمه داخل المساحة المخصّصة للمركز، وفيها " الدّار الكبيرة" وعدد من الغرف المستقلة وحديقة واسعة الأطراف. وكل المساحة تقدر بحوالي تسع هكتارات مشرفة على شاطئ البحر وتقع على الطريق المؤدي إلى مدينة الحمامات التي تبعد كيلومترين اثنين تقريبا.
كما تمّ من قبل رئاسة الجمهورية إصدار أمر بتسمية المثقّف اللّبناني سيسيل حورانيCecil Hourani مديرا عامّا للمركز الثقافي الدولي بالحمّامات. وهو صديق الرّئيس بورقيبة، وقد أعانه في الخارج عندما كان ينشر قضيّة تونس واستقلالها وحرّيّتها في الولايات المتّحدة الأمريكية. وخصّص السّيد الرئيس ميزانية تصرّف وتشجيع ثقافي، فجلب سيسيل حوراني "بالي القرن العشرين" ومديرها الفنّان موريس بيجارMaurice Béjartمن المسرح الملكي البلجيكي ببروكسال.
بعد شهور تقرر إلحاق المركز بوزارة الثقافة فعيّن الوزير الشاذلي القليبي الأستاذ الطاهر ڤيڤة مديرا خلفا لسيسيل حوراني.
كان الطّاهر ڤيڤة أستاذ التعليم في ثانوية خزندار الصّادقية، مستقيم السلوك، ذكيا ملاحظا دقيقا في ملاحظاته، مباشرا في مخاطبته ومحاوراته معك، مناقشا بلا عناد ولا وثوقيّة، مرجّحا للصّواب، منتقدا العادي والمبتذل، متحفّزا دائما للعمل المصيب للهدف.
وقبل أن ينتقل الأستاذ الطاهر ڤيڤة الى وظيفه الجديد في المنظّمة العربية للتّربية والثقافة والعلوم أوصى الوزير المباشر يومئذ لوزارة الثقافة بان أخلفه في إدارة المركز الثقافي الدولي بالحمامات سنة 1979.
وفي أثناء عملي خضت معركة الكتابة الإبداعية المسرحية، فسلّمت نص مسرحيّتي "ثورة صاحب الحمار" اليه بين سنة 1968 وسنة 1969 وأبلغته بأني عرضتها على علي بن عيّاد مدير فرقة مدينة تونس للمسرح فقبلها بعد الفحص والقيل والقال والاستشارة ومراجعة عربيّتها مراجعة قاموسية أكاديمية متزمّتة، ففرح بها شديد الفرح حتّى أنّه ذهب للتبشير بها لدى المسرحيين على قلتهم يومئذ والهواة والمتابعين والمتحمّسين وقرأ بعض مقاطع منها على أحبابه المقرّبين، وقد علمت بكلّ هذا بعد سنة أو سنتين.
وكان بن عياد يشكو من ضالّة الابتكار المسرحي عند التّونسيين ما عدا الكاتب الوزير الحبيب بولعراس مؤلف "مراد الثّالث" وهي من أهمّ ما أخرج علي بن عيّاد بعد "كاليقولا" Caligulaلـ ألبار كامو Alber Camus بترجمة المرحوم حسن الزمرلي.
وبعد تأسيس المهرجان الدولي بالحمامات (وهو وليد المركز) واستياء الجمهور من مسرحية"قريتي" التي كتبها أحد الممثلين التونسيين ، تم سنة1972 في افتتاح المهرجان تقديم مسرحية "ديوان الزنج" بإخراج الفنّان المنصف السويسي وبإدارة فرقته بالكاف. وقد نجحت المسرحية نجاحا بالغا عظيما مازال بعض الجمهور اليوم يتذكّر عرضها وخصائصه الفنية في الإخراج والتمثيل والتقنيات في المسرح وشكله وما يحيط به.
كان فنّ المسرح هو أسمى الأهداف الفنّية والفكرية العالية التي كنّا نهدف اليها: الوزير الشاذلي القليبي والمدير الأستاذ الطّاهر قيقة وأنا منذ إنشاء المركز ووليده المهرجان.
والحق أنّ مسرحيّتي "ديوان الزنج" قد ركّزت بافتتاحها لمهرجان الحمامات الدّولي قيمة الفنّ المسرحي ككلّ وقيمة المركز في احتضان ورعاية فنّ المسرح التونسي، كدفع ديناميكي نحو الأمام ونحو التقدّم ونحو الرقيّ وأخيرا ولا آخرا نحو ازدهار فن المسرح الوطني التونسي الإبداعي المتفرّد الأصيل المستقل عن التأثيرات الأجنبيّة...وصار من السّنن الحميدة أن يفتتح المسرح التونسي بإبداع قوي عميق كلّ سنة المهرجان الدولي بالحمامات إلى أن أصبح الافتتاح المسرحي تقليدا واجبا
ثم قمت بافتتاح المهرجان في كل سنة من السنوات الموالية: فافتتحت بـ "رحلة الحلّاج" ثم بـ"تعازي فاطمية" ثم بـ "حمّودة باشا والثورة الفرنسية" ثم بـ"شذرات ابن رشد" ثم بـ"رسائل الحرّية" و"الله ينصر سيدنا" و "ريشارد الثالث" وقدمت مسرحيات أخرى في أثناء البرامج السنوية لمهرجان الحمّامات منها" التربيع والتدوير" و "على البحر الوافر". وكنت أعتزم تقديم مسرحيّتي" شجرة الدّر" بعد عرضها الأوّل في المعهد العربي بباريس.
ولقد كتبت إلى هذا اليوم أربعين مسرحية بإخراجات متعدّدة من الفنّانين علي بن عياد، المنصف السويسي، محمد كوكة وحافظ خليفة ...
كل ما كتبته لفنّ المسرح التونسي إنما هو هويّة صارت لمهرجان الحمامات الدولي والمركز الثقافي الدولي، فصرت مشهورا بأنّي صاحب المهرجان بل صاحب المركز قبل أن أعيّن مديرا عاما له.
وكيف كانت العلاقة بباقي المؤسسات الثقافية؟
تطابق اسمي مع المركز والمهرجان عندما ربطت علاقات مثمرة جدا مع تجديد مهرجان دقة بولاية باجة ومهرجان طبرقة ومهرجان ڨابس ومهرجان قرطاج ومهرجان المنستير الدّولي ومهرجان المنستير الجامعي ومهرجان أيّام قرطاج المسرحيّة ونظيره مهرجان أيّام قرطاج السنيمائية دون ذكر المهرجانات المحلّية.
صار اسم المركز الثقافي الدّولي بالحمّامات كالمنارة الثقافية والحضارية تشعّ لا على المسرح التونسي فحسب بل على الثقافة التونسية الإبداعية ككلّ، وذلك عن طريق النّصيحة والاستشارة والتشاور والتكاتف والتعاون والتضامن.
ذكر الحفلات الغنائية والموسيقية والرّاقصة الفنّية يطول كما يطول ذكر المعارض للفنون التشكيلية التونسية والأجنبية وفنّانيها إلى أن أقيمت بالمركز وخارجه.
وعيّنتني وزارة الثقافة مرّات كثيرة لأتكلّم باسم تونس في ندوات عربية حول موضوع المسرح وتلقيت دعوات شخصية لألقي محاضرات عن المسرح الذي أبدعته إلى جانب ندوة انعقدت في جامعة "السوربون" لتقييم أعمالي المسرحية. وأصدرت كلية الآداب بـ "الجامعة الحرّة" ببروكسال كتابا عن أعمالي المسرحية. وأرادت مؤسسة أمريكية أن تستضيفني بمقرّها لكتابة مشروع مسرحية "شذرات من السيرة الرّشديّة" واستضافتني مؤسسة مجريّة ببودابيست Budapest للتحاور مع مؤلفين مسرحيّين وروائيين ونقّاد موسيقيين مجريّين خلال ندوة فكرية.
عز الدين المدني في سطور
ولد الأستاذ عز الدين المدني بتونس سنة 1938
عضو في المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة" بقرطاج
مشارك في تأسيس "نادي القصة" بالوردية وفي إصدار مجلة "قصص" وسلسلة مجموعات قصصها بأقلام أعضاء النادي: حسن نصر وسمير العيّادي ومحمد صالح الجابري ومحمد يحي...
أصدرت الدار العربية للنشر "أعماله القصصية الكاملة" في 4 مجلّدات ومجموعة قصصية أخرى اسمها الإكمال لم تنشر بعد.
ألّف 40 مسرحية باللغة العربية غالبها، وعددا منها باللهجة الدّارجة التونسية.
تعاون على تقديمها إلى الجمهور مع أهمّ المخرجين: علي بن عيّاد والمنصف السويسي ومحمد كوكة وحافظ خليفة ودانيال بودوان والشريف خزندار. كما تعاون مع أهم المخرجين المصريين لانجاز عدد من مسرحياته في مسرح الطليعة بالقاهرة ومسرح الهناڤر ومسرح البالون ومسرح الجمهورية، ترجم عدد منها إلى لغات أوروبية: فرنسية والأنڤليزية واسبانية وألمانية، وصدرت حولها دراسات نقدية بأقلام كبار النقاد المصريين والعرب من بينهم د. علي الراعي والأستاذ عبد الغني داود.
أعدّ دراسات وبحوث عن عدد منها في السّربون بباريس، وفي " الجامعة الحرّة" ببروكسال (بلجيكيا) وفي مؤسسة أمريكية، ودراسات وبحوث نقدية أخرى في العراق وسورية والكويت والمغرب والأردن وقام بتدريسها وتعليمها في المعهد العالي للمسرح في بغداد وفي القاهرة وفي دمشق وذلك حسب اختيارات كل معهد.
كوّن عددا من الشبان ثقافيا وإبداعيا في الأدب والفكر
عمل بمسرح الرون بوان Théâtre du Rond-Point بباريس.
سماه النقّاد رئيسا للطليعة الأدبية والفنية والفكرية.
مختص في نقد الفنون التشكيلية التونسية نقدا غير أكاديمي ولا مبوّبا حسب القوانين الأوروبية.
تناول تراجم وأعمال الفنانين: عمّار فرحات، والزبير التركي، ونجيب بلخوجة، ونجا المهداوي، وعماد بوجميل، و ڤينار، وسعاد الشهيبي، ومحمد السّجلماني، وبلكاهية، وشبعة، والشعابنيّة، وجاك بيراز، وعلي عبيد.
كتب في الفلسفة: "مقالات حول الكندي وابن رشد والفلاسفة قبل سقراط" (ترجمة)، وعن سارتر، وكيكڤارد، ومرتان هيدڤر، وپول ريكور. وكتب في فلسفة "البدايات" منشورة في مجلّة البحرين بدولة البحرين وفي فلسفة" التراث". وألّف كتاب"الأدب التجريبي" المصنّف ككتاب عربي أوّل في مكتبة الكنغرس الأمريكي.
كتب روايات لم تنشر بعد:" افتتاح موسم الصّيد في غابات الشك"، و"معراج"، و"العدوان"(هذه الأخيرة منشورة بتونس (وترجمتها بالانڤليزية) لكنه نشر أيضا "أيّام سعيدة" في جزئين.
حقق "أعمال علي الدوعاجي" ونشرها مجموعة في كتاب نشر دار الإبداع العربي تونس وحقق أعمالا أدبية تونسية أخرى لكتّاب قدامى تونسيين في مجلة قصص ومجلة الفكر ومجلة ثقافة.
تعاون مع المرحوم محمد السقانجي لإصدار مختارات لنصوص مسرحية تونسية تمّ تأليفها في النصف الأول من القرن العشرين وهي لمؤلّفين مسرحيين تونسيين.
كتب "الانسان الصفر" (فصولا منها فقط): ترجع كتابة أول فصل منها لسنة 1962، الفصل الخامس منها "قصر المحمدية".
ألّف 15 عملا أدبيا تم منع نشرهم او توزيعهم.
تحصل على جائزة سلطان العويس العربية في القصة والرواية والمسرحية دون تجزئة الأجناس وذلك سنة 2006/2007