إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

قصة قصيرة.. رَجُلٌ من قــشّ

 

: بقلم صلاح بوزيّان / تونس

تنفّس الرّبيع منذ أيّامٍ ،الشمسُ تخاتلُ، مرّة تشرقُف تخترق الأرض ومن عليها ، وَأخرى تحتجبُ وراء السّحب و تهطلُ أمطار و تهبُّ رياح .. فيتألّم باعة الآجر والجصّ والحمير والبغال والأغنام والإبل والتّمور والصّخور.. وتحدث شنائع وتشيع الصّكوك ، والنّاس في وجَلٍ من تقلّبات الجوّ...اليوم الطّقس دافئ ربيعيّ قبالة البحر وقُربَ اٌلْمقهى الفسيح..فجأة دخل الحاج لطفي قاعة المقهى مسرعا، وردت عليه أموال ناقصة منذ الصّباح، فوجب عليه المكوث في البيت والتّثبت ، ولمّا استيقن سلامة الحسابات ، انفلت من قيد التّعداد وها هو الآن يلوذ بالمقهى.. رخام ناصع البياض يسرُّ النّاظرين..القاعة واسعة فخمة ..على الجدار ساعة كَبيرة مشدودة بحبل غليظ ، تشيرُ إلى وقت غير واضح عقاربها لا تفي بالوعد ولا تُتقن دورها ، الأمر أقلق الزّبائن ، وأحرج الخدم والعسس.. اُلْمقهى  متمرّد على الزّمن ، وحَالَمَا تدخله تعتريك سكينة ويجتاحك هدوء يبدّد اضطرابك ويلمّ تبعثرك..تزحفُ نحوك روائح شذيّة.. عطور الطُّهر..وسط هذا اُلْمكان تأخذ اُلْأفكار واُلْأحلام تتنامى.. تـنُطّ بسرعة إلى ذهنك.. وأنت تضع قدمك الأولى داخل هذا اُلْفضاء العجيب.. لكلّ زبون شأن يغنيه..اُلْهمسُ سيّد اُلْموقف.. وتندلِعُ قهقهات عذبة مسكونة باُلْغرام بين اُلْفينة واٌلْأخرى.. كان اُلْحاج لُطفي يفرُّ من بيته إلى المقهى خلسة دون انتباه زوجته زينة.. يفعَلُ ذلك كلّما تمثّل ماضيه وزحفت ذكرياتٌ وتوقّد حنينه إلى الحيّ القديم .. لا شيء يقدرُ على جبر خاطره لا خزائن المال ولا العمائر الكثيرة التي شيّدها .. ولا أولئك الأصحاب الأشتات ، ولا دعوة مسكين هرع إليه فاستخلص دينه ودسّ في جيبه مائة دينار..كان يأتي في سيّارته الفاخرة ثلاث مرّات في الأسبوع في أوقات مختلفة.. يضعُ جريدة اُلصّباح على جبينه ويحضن كتاب ألف ليلة وليلة..وهو يتّقي اُلمحامين وأرباب اُلتّجارة..والهمسات :" الفلوس حلّت.. هاهو الثّري.. سيترشّح للرئاسة وسيملأ البلاد بطيخا.. ويُطارد السّحرة والمشعوذين ويشجّع الهاربين والمتهرّبين ؟لا أعتقد أنّه قادر على .. " كانت كلمات الزبائن تنهال عليه من كلّ جهة، تحرقه وتؤذيه فيسرع خطواته إلى مقعده المعتاد خلف السّارية أمام النّافذة المطلّة على البحر.. هناك حيث تحلو الأحلام وتجوز الطّهارة ..يأوي إلى ركن قصيّ ويمكث وحده شبه ناسك ، يوغل في تأمّل الأوراق وألبوم اُلصّور وبين الفينة واُلْأخرى يقرأ بعض المقاطع من ألف ليلة وليلة .. يرتحلُ مع البحّارة وتهاجمهم العواصف .. يُباغتهم سمك القرش،وتتعطّب السفينة في الأعماق حينا، وتتحطّم سفينة أخرى في رحلة مختلفة ، وينجو مع أمير أو تاجر أو يعلق بخشبة.. وفي قِصصٍ يقع في قبضة القراصنة ، أو يسجنه الوحوش في جزيرتهم .. يشعلون النّار من حوله .. وعند الفجر يفرّ وينجو في قارب..كان يستمتع بالرّحلات والانتصارات ومقارعة الخطوب .. ويصغي إلى أصوات الجُند والصّيادين والتّجار في تجاويف القصص.. ويراهم أمامه ويشمّ رائحة السّمك ويرى علامات البؤس على وجوه الغلابى وهُمْ يتنازعون أمر الأرغفة بينهم، ويتشوّف إلى الفرج بين السّطور ، ويسأم تغليط شهرزاد وتشديدها ، وبين الفينة والأخرى كان يودّ تبديل أطوار القصّة ، إلاّ أنّه يغرقُ في التفاصيل وينبتُّ عن معارك القوت وكذب السياسيين وينسى طمع العسس ، فجأة وافاه صوتٌ أنثويٌّ يقول: "الحاج لطفي مال وجاه ومعروف ، ساعد الفقراء واستصلح أراض كثيرة في قريته ".. تبسّم اُلْحاج لطفي واعتكف  يتأمّل فواتير المصنع وكان يحاول تصميم مخطّط لمصنعه اُلثّاني في اُلْمغرب .. اُلْحاج لطفي فَشِلَ في دراسته ولم يجتز الصّف الخامس ابتدائي .. اختلط بكبار الجامع .. تعلّم منهم الدّهاء والحكمة والصّبر على الأذى .. استمع إلى قصصهم وكان يخدمهم ويتودّدُ إليهم .. وكان أحيانا يصعد إلى مغارة سيدي بلحسن ليلتقي الأتباع ..يترصدّ وجهاء المدينة ثمّ يبحث عن مسارب إليهم ..حجّ خمس عشرة حجّة.. كان يريدُ أن يكون رئيس المنتظم الدّولي للتّجار.. ويغدو أمير البلاد صاحب دواوين وفقيه الأمّة.. ودفعه الوهم إلى مفازات أخطر من هذه .. حتّى أنّه رأى في المنام أنّه حاكم البحار والمحيطات .. ولعلّ سبب ذلك أنّه اعتاد تخليط الأطعمة ولا يقلع عن أكل اللحم المشويّ والأجبان والشكلاطة ..هذه بعض غرائب هذا الجنس الآدمي معقّد التّركيب غامض الأطوار.. ها هو قد غفا إغفاءة قصيرة رأى فيها حبيبته اُلْبيضاء والحنّاء في قدميها والوشم في يديها.. تزّوجها على اُلْعُرف اُلجاري..وطفق يُنفق عليها ولا يبالي ،تمنّى ساعتها لو كانت حبيبته معه، الآن استحضر صورة الشّابة الفاتنة وأبقى عينيه مغمضتين واستلذّ الوقت معها وساورته سعادة الماضي، ها هو يراها في قاعة الجلوس  وهو يروي لها مغامراته في الغابون والسينغال وساحل العاج ، وسفراته إلى باريس.. إنّه يتذكّرليلة رأس اُلسّنة اُلْميلاديّة ، بات في حضنها يحكي لها قصص أمّه ويبكي وهو يصّور لها كرم الحاجّة علجية مع أهلها وجيرانها .. اُلْحاج لطفي ذاق أطعمة اٌلدّنيا حتّى أنّه صار امبراطور التجارة والسمسرة..وبينما هو غارق في بحر الذّكرى تحدّرت الدّموع على خدّيه ..لا يخدج الذّكريات ولا ينقصها..النّادلُ واقف أمامه متجمّد حائر أحْيَرُ من ضبّ في حمّارة قيظ ..يتأمّل  الوجه الباكي ولا ينبسُ .. هذا الوجه الذي ألفه في شاشة التّلفاز وعلى جدران العاصمة، وفي مقبرة الجلاّز وفي سوق البركة وفي سوق بومنديل وفي سوق سيدي محرز وفي مسرح البالماريوم .. وجه مقدود من طين غريب .. أسمر نقيّ مرتوٍ و أنف طويل وعينان خضروان، وأسنان مصفوفة كعقد لؤلؤ ..وما إن أفاق من غفوته حتّى قال له:" سي لطفي لا باس ،نجيبلك قهوتك ؟".سحب الحاج لطفي منديلا من جيبه.. مسح الدّموع.. مُنهكٌ منكسرٌ لا تثيره الأموال ولاَ الأملاك ، صَلْـبٌ في المواقف التي تجتذبه حتّى أنّ الرّائي لا يصدّق أنّ هذا الرّجل الجالس أمامه هو أمامه هوالحاج لطفي بن مصطفى بن إسماعيل بن علي بن خزندار بن اُلشمقماقي باشا .. لعلّه ورث من أجداده الأمراء سيفا يدفع به الأذى ومكر أهل المدينة..عاد النّادل يدفع عربة فيها إبريق القهوة وفنجان مذهّبٌ وطبق حلويات وملعقة فضّية وإناء فيه السّكر وصحن مكسّرات وقنينة ماء وكأس فيه قطع ليمون مفتّتة .. مطّ شفتيه ، ووضع المتاع كلّه مرتّبا على الطّاولة بحذر وقال في بِشر وملاطفة :" بالشفاء" ومضى. مدّ الحاج لطفي يده إلى الإبريق صبّ القهوة في الفنجان رنّ جرس الهاتف النّقال فجاست به المخاوف مسارب موحشة ، أيردّ على المكالمة أم لا؟ أسكت الرّنات وتركه يهتزّ علّه يكلّ .. شغلته منذ أيّام شحنة القهوة .. أرسلها من كينيا عبر ميناء طرابلس. أخرج قنينة العطر ونثر قطرات في كفّه ومسح تحت أذنيه .. وأحسّ أريج الطّيب يملأ روحه وعقله ..أفغم المقهى .. اشرأبّت الأعناق لهذا النّوع الرّفيع السّاحر المذهل .. تحكّم اُلْحاج لطفي الخزنداري اُلشمقماقي في الرّقاب فهي ملتوية تُخالس النّظر..فباغتته فتاة قفزت من كرّسيها حياله .. لم يتفاجأ بقدوم الصبية ولم يزعجه ذلك ، قالت : " صباح الخير ، أنت الحاج لطفي التّاجر المشهور صاحب المصانع ، أليس كذلك ؟  عرفتك بنوع العطر الذي تتطيّب به " فردّ : " شكرا فرصة سعيدة ، تفضّلي " ، جلست الفتاة مذهلة بيضاء طويلة شعرها أسود طويل .. و سارعها :" تفضّلي أطلبي مشروبا " فقالت : " لا لا ، لا أريد مشروبا ، فقط أطلب منك أن ترفع يدك عن الدّقيق والسُّكر والزّيت والبنّ ، أفرِغْ مخازنك ودهاليزك ، متى نستريح من ظلم السّوق وغلاء السّوق وشقاء السّوق ؟ متى نأمن حرب المُضاربين ونرتاح من جشع التُّجار ؟ تعبنا يا سي لطفي ، ولا تغرنّك هذه المقاهي وزينة الحياة ، نحن الغلابى نعيشُ في دخان ، في أوهام متفاوتة الحجم، نأكل البقول ونلبسُ الروبافيكيا لم نعد قادرين على شراء الخُبز لأولادنا ولا الدّجاج ولا السّمك ، ألمَّ بنا الضّيق والغلاء ، أرجوك أنت نُعِتَّ بفعل الخيرات وحبّ المساكين ، اترك لنا الدّقيق والسّكر والحليب والبنّ ، أنت لست في حاجة إلى هذه التّجارة، اتركها تذكّر أيامك الأولى ، أيّام الفقر والجوع والتّشرّد ". كانت تحدّثه وهو يضحك كأنّه سكران ، ولمّا أيقنت من حمقه صرخت في وجهه: " أنت رجل من قشّ ستفتكُ بك الأيّام .. زبد بحر .. حُطام قذفته أمواج الحياة.. ويلك من شجرة الكافور العتيقة " تركته، وهي تردّد:" لن تجد ما تقيم به وأدك  ".

   قصة قصيرة..   رَجُلٌ من قــشّ

 

: بقلم صلاح بوزيّان / تونس

تنفّس الرّبيع منذ أيّامٍ ،الشمسُ تخاتلُ، مرّة تشرقُف تخترق الأرض ومن عليها ، وَأخرى تحتجبُ وراء السّحب و تهطلُ أمطار و تهبُّ رياح .. فيتألّم باعة الآجر والجصّ والحمير والبغال والأغنام والإبل والتّمور والصّخور.. وتحدث شنائع وتشيع الصّكوك ، والنّاس في وجَلٍ من تقلّبات الجوّ...اليوم الطّقس دافئ ربيعيّ قبالة البحر وقُربَ اٌلْمقهى الفسيح..فجأة دخل الحاج لطفي قاعة المقهى مسرعا، وردت عليه أموال ناقصة منذ الصّباح، فوجب عليه المكوث في البيت والتّثبت ، ولمّا استيقن سلامة الحسابات ، انفلت من قيد التّعداد وها هو الآن يلوذ بالمقهى.. رخام ناصع البياض يسرُّ النّاظرين..القاعة واسعة فخمة ..على الجدار ساعة كَبيرة مشدودة بحبل غليظ ، تشيرُ إلى وقت غير واضح عقاربها لا تفي بالوعد ولا تُتقن دورها ، الأمر أقلق الزّبائن ، وأحرج الخدم والعسس.. اُلْمقهى  متمرّد على الزّمن ، وحَالَمَا تدخله تعتريك سكينة ويجتاحك هدوء يبدّد اضطرابك ويلمّ تبعثرك..تزحفُ نحوك روائح شذيّة.. عطور الطُّهر..وسط هذا اُلْمكان تأخذ اُلْأفكار واُلْأحلام تتنامى.. تـنُطّ بسرعة إلى ذهنك.. وأنت تضع قدمك الأولى داخل هذا اُلْفضاء العجيب.. لكلّ زبون شأن يغنيه..اُلْهمسُ سيّد اُلْموقف.. وتندلِعُ قهقهات عذبة مسكونة باُلْغرام بين اُلْفينة واٌلْأخرى.. كان اُلْحاج لُطفي يفرُّ من بيته إلى المقهى خلسة دون انتباه زوجته زينة.. يفعَلُ ذلك كلّما تمثّل ماضيه وزحفت ذكرياتٌ وتوقّد حنينه إلى الحيّ القديم .. لا شيء يقدرُ على جبر خاطره لا خزائن المال ولا العمائر الكثيرة التي شيّدها .. ولا أولئك الأصحاب الأشتات ، ولا دعوة مسكين هرع إليه فاستخلص دينه ودسّ في جيبه مائة دينار..كان يأتي في سيّارته الفاخرة ثلاث مرّات في الأسبوع في أوقات مختلفة.. يضعُ جريدة اُلصّباح على جبينه ويحضن كتاب ألف ليلة وليلة..وهو يتّقي اُلمحامين وأرباب اُلتّجارة..والهمسات :" الفلوس حلّت.. هاهو الثّري.. سيترشّح للرئاسة وسيملأ البلاد بطيخا.. ويُطارد السّحرة والمشعوذين ويشجّع الهاربين والمتهرّبين ؟لا أعتقد أنّه قادر على .. " كانت كلمات الزبائن تنهال عليه من كلّ جهة، تحرقه وتؤذيه فيسرع خطواته إلى مقعده المعتاد خلف السّارية أمام النّافذة المطلّة على البحر.. هناك حيث تحلو الأحلام وتجوز الطّهارة ..يأوي إلى ركن قصيّ ويمكث وحده شبه ناسك ، يوغل في تأمّل الأوراق وألبوم اُلصّور وبين الفينة واُلْأخرى يقرأ بعض المقاطع من ألف ليلة وليلة .. يرتحلُ مع البحّارة وتهاجمهم العواصف .. يُباغتهم سمك القرش،وتتعطّب السفينة في الأعماق حينا، وتتحطّم سفينة أخرى في رحلة مختلفة ، وينجو مع أمير أو تاجر أو يعلق بخشبة.. وفي قِصصٍ يقع في قبضة القراصنة ، أو يسجنه الوحوش في جزيرتهم .. يشعلون النّار من حوله .. وعند الفجر يفرّ وينجو في قارب..كان يستمتع بالرّحلات والانتصارات ومقارعة الخطوب .. ويصغي إلى أصوات الجُند والصّيادين والتّجار في تجاويف القصص.. ويراهم أمامه ويشمّ رائحة السّمك ويرى علامات البؤس على وجوه الغلابى وهُمْ يتنازعون أمر الأرغفة بينهم، ويتشوّف إلى الفرج بين السّطور ، ويسأم تغليط شهرزاد وتشديدها ، وبين الفينة والأخرى كان يودّ تبديل أطوار القصّة ، إلاّ أنّه يغرقُ في التفاصيل وينبتُّ عن معارك القوت وكذب السياسيين وينسى طمع العسس ، فجأة وافاه صوتٌ أنثويٌّ يقول: "الحاج لطفي مال وجاه ومعروف ، ساعد الفقراء واستصلح أراض كثيرة في قريته ".. تبسّم اُلْحاج لطفي واعتكف  يتأمّل فواتير المصنع وكان يحاول تصميم مخطّط لمصنعه اُلثّاني في اُلْمغرب .. اُلْحاج لطفي فَشِلَ في دراسته ولم يجتز الصّف الخامس ابتدائي .. اختلط بكبار الجامع .. تعلّم منهم الدّهاء والحكمة والصّبر على الأذى .. استمع إلى قصصهم وكان يخدمهم ويتودّدُ إليهم .. وكان أحيانا يصعد إلى مغارة سيدي بلحسن ليلتقي الأتباع ..يترصدّ وجهاء المدينة ثمّ يبحث عن مسارب إليهم ..حجّ خمس عشرة حجّة.. كان يريدُ أن يكون رئيس المنتظم الدّولي للتّجار.. ويغدو أمير البلاد صاحب دواوين وفقيه الأمّة.. ودفعه الوهم إلى مفازات أخطر من هذه .. حتّى أنّه رأى في المنام أنّه حاكم البحار والمحيطات .. ولعلّ سبب ذلك أنّه اعتاد تخليط الأطعمة ولا يقلع عن أكل اللحم المشويّ والأجبان والشكلاطة ..هذه بعض غرائب هذا الجنس الآدمي معقّد التّركيب غامض الأطوار.. ها هو قد غفا إغفاءة قصيرة رأى فيها حبيبته اُلْبيضاء والحنّاء في قدميها والوشم في يديها.. تزّوجها على اُلْعُرف اُلجاري..وطفق يُنفق عليها ولا يبالي ،تمنّى ساعتها لو كانت حبيبته معه، الآن استحضر صورة الشّابة الفاتنة وأبقى عينيه مغمضتين واستلذّ الوقت معها وساورته سعادة الماضي، ها هو يراها في قاعة الجلوس  وهو يروي لها مغامراته في الغابون والسينغال وساحل العاج ، وسفراته إلى باريس.. إنّه يتذكّرليلة رأس اُلسّنة اُلْميلاديّة ، بات في حضنها يحكي لها قصص أمّه ويبكي وهو يصّور لها كرم الحاجّة علجية مع أهلها وجيرانها .. اُلْحاج لطفي ذاق أطعمة اٌلدّنيا حتّى أنّه صار امبراطور التجارة والسمسرة..وبينما هو غارق في بحر الذّكرى تحدّرت الدّموع على خدّيه ..لا يخدج الذّكريات ولا ينقصها..النّادلُ واقف أمامه متجمّد حائر أحْيَرُ من ضبّ في حمّارة قيظ ..يتأمّل  الوجه الباكي ولا ينبسُ .. هذا الوجه الذي ألفه في شاشة التّلفاز وعلى جدران العاصمة، وفي مقبرة الجلاّز وفي سوق البركة وفي سوق بومنديل وفي سوق سيدي محرز وفي مسرح البالماريوم .. وجه مقدود من طين غريب .. أسمر نقيّ مرتوٍ و أنف طويل وعينان خضروان، وأسنان مصفوفة كعقد لؤلؤ ..وما إن أفاق من غفوته حتّى قال له:" سي لطفي لا باس ،نجيبلك قهوتك ؟".سحب الحاج لطفي منديلا من جيبه.. مسح الدّموع.. مُنهكٌ منكسرٌ لا تثيره الأموال ولاَ الأملاك ، صَلْـبٌ في المواقف التي تجتذبه حتّى أنّ الرّائي لا يصدّق أنّ هذا الرّجل الجالس أمامه هو أمامه هوالحاج لطفي بن مصطفى بن إسماعيل بن علي بن خزندار بن اُلشمقماقي باشا .. لعلّه ورث من أجداده الأمراء سيفا يدفع به الأذى ومكر أهل المدينة..عاد النّادل يدفع عربة فيها إبريق القهوة وفنجان مذهّبٌ وطبق حلويات وملعقة فضّية وإناء فيه السّكر وصحن مكسّرات وقنينة ماء وكأس فيه قطع ليمون مفتّتة .. مطّ شفتيه ، ووضع المتاع كلّه مرتّبا على الطّاولة بحذر وقال في بِشر وملاطفة :" بالشفاء" ومضى. مدّ الحاج لطفي يده إلى الإبريق صبّ القهوة في الفنجان رنّ جرس الهاتف النّقال فجاست به المخاوف مسارب موحشة ، أيردّ على المكالمة أم لا؟ أسكت الرّنات وتركه يهتزّ علّه يكلّ .. شغلته منذ أيّام شحنة القهوة .. أرسلها من كينيا عبر ميناء طرابلس. أخرج قنينة العطر ونثر قطرات في كفّه ومسح تحت أذنيه .. وأحسّ أريج الطّيب يملأ روحه وعقله ..أفغم المقهى .. اشرأبّت الأعناق لهذا النّوع الرّفيع السّاحر المذهل .. تحكّم اُلْحاج لطفي الخزنداري اُلشمقماقي في الرّقاب فهي ملتوية تُخالس النّظر..فباغتته فتاة قفزت من كرّسيها حياله .. لم يتفاجأ بقدوم الصبية ولم يزعجه ذلك ، قالت : " صباح الخير ، أنت الحاج لطفي التّاجر المشهور صاحب المصانع ، أليس كذلك ؟  عرفتك بنوع العطر الذي تتطيّب به " فردّ : " شكرا فرصة سعيدة ، تفضّلي " ، جلست الفتاة مذهلة بيضاء طويلة شعرها أسود طويل .. و سارعها :" تفضّلي أطلبي مشروبا " فقالت : " لا لا ، لا أريد مشروبا ، فقط أطلب منك أن ترفع يدك عن الدّقيق والسُّكر والزّيت والبنّ ، أفرِغْ مخازنك ودهاليزك ، متى نستريح من ظلم السّوق وغلاء السّوق وشقاء السّوق ؟ متى نأمن حرب المُضاربين ونرتاح من جشع التُّجار ؟ تعبنا يا سي لطفي ، ولا تغرنّك هذه المقاهي وزينة الحياة ، نحن الغلابى نعيشُ في دخان ، في أوهام متفاوتة الحجم، نأكل البقول ونلبسُ الروبافيكيا لم نعد قادرين على شراء الخُبز لأولادنا ولا الدّجاج ولا السّمك ، ألمَّ بنا الضّيق والغلاء ، أرجوك أنت نُعِتَّ بفعل الخيرات وحبّ المساكين ، اترك لنا الدّقيق والسّكر والحليب والبنّ ، أنت لست في حاجة إلى هذه التّجارة، اتركها تذكّر أيامك الأولى ، أيّام الفقر والجوع والتّشرّد ". كانت تحدّثه وهو يضحك كأنّه سكران ، ولمّا أيقنت من حمقه صرخت في وجهه: " أنت رجل من قشّ ستفتكُ بك الأيّام .. زبد بحر .. حُطام قذفته أمواج الحياة.. ويلك من شجرة الكافور العتيقة " تركته، وهي تردّد:" لن تجد ما تقيم به وأدك  ".