إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

عرفات ووحدة الصف الفلسطيني

 

 

نباهة وفراسة الزعامات الكبرى التي سمحت لعرفات من الخروج من المآزق والإفلات من محاولات الاغتيال في حياته

بقلم الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة

        بعد عقدين على رحيله، وما عرفته القضية من تطورات في تلك الفترة، يظل الرئيس ياسر عرفات في نظر المحللين والمراقبين السياسيين والمؤرخين أيضا، الزعيم الوطني الذي وفق بين كل الاتجاهات من وسط اليمين ووسط اليسار، محاولا بمهارة تجاوز الخلافات الإيديولوجية الوافدة على الأنتليجنسيا الفلسطينية من شتى أنحاء العالم العربي والاشتراكي والليبرالي، والتي تكون تأثيراتها كبيرة ومدمّرة في كثير من الأحيان على أية حركة تحرير وطني، تصبح تتقاذف مركبها الأمواج العاتية حد الغرق. وقد حرص عرفات بشهادة الكثيرين، حتى من بين معارضيه على الوقوف إلى جانب كل التيارات، من القومية، إلى القطرية، إلى اليسارية التقدمية، إلى الإسلامية المحافظة. وقد ترك بذلك حركة تحرير ناضجة سياسيا، تقارع المحتل بالوسائل السلمية: بالحجارة وقبضة اليد وبالقلم الصحفي وريشة الرسم وكاميرا السينما والإيمان بعدالة القضية.

    وهي في كل ذلك، تستند إلى الشرعية الدولية، حتى وإن كانت أملا خلّبًا وسرابا صحاريا، كما يردّد معارضو التّسْوَوِيّة المفرطة، التي كبح جماحها وهرولتها، عرفات الفطن بنفسه، وعاد إلى حضن المقاومة، معطيا لها شرعية ومشروعية، ووجودًا حتى دحْر العدو بمختلف أسلحة المقاومة المتوفّرة. وتحسم ذلك مجددا في معركة "طوفان الأقصى". كانت شخصية عرفات آسرة لكل من يلتقي به. وكان دائما بشوشا وديعا وخدوما للصحافيين، وهذا ما لاحظته خلال عملي في وكالة "وات" لنقل أخبار القضية الفلسطينية والتعريف بها من تونس.

وباعتبار عملي في دسك الأخبار العالمية والديبلوماسية في وكالة تونس إفريقيا للأنباء ، فقد كنت أقوم بنقل أخبار منظمة التحرير الفلسطينية بتونس. وكانت تلك التغطيات الإعلامية اليومية تتم استنادا إلى ما يصلنا من أخبار وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" ، أو عبر الهاتف والفاكس أو بالتحول إلى مقر القيادة الفلسطينية في الضاحية الشمالية للعاصمة أو مقر الدائرة السياسية الخارجية للمنظمة بقيادة فاروق القادومي (ابو اللطف) بنهج معاوية بن ابي سفيان بجهة المنزه السادس، غير بعيد عن مقر وكالة وات بالمنار الثاني. وكان التعامل جيدا مع صحفيي وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" كل من الصديق الزميل زياد عبد الفتاح مدير عام الوكالة، ثم لاحقا منذ 1984 الصحفي طاهر الشيخ، إضافة إلى الصحفي الصديق علي أبو سمرة وباقي زملائه على غرار محمد عواد وبشير البكر ومحمد الشرافي ويوسف قطب وسليمان أبو جاموس.

دور الإعلام الفلسطيني من تونس

ويقول الصحافي والباحث الفلسطيني محمد باسل سليمان في دراسة بعنوان "وكالة الأنباء الفلسطينية :من التأسيس إلى العودة"، أن وكالة "وفا" التي تأسست في بيروت عام 1972، قامت بدور إعلامي مركزي لفائدة قضية الشعب الفلسطيني . وقد تلقت منذ البدء ضربة تمثلت في اغتيال القادة الثلاثة في بيروت كمال ناصر، وكمال عدوان، ومحمد يوسف النجار الذين يعتبرون من الآباء المؤسسين لها . وتدعم هذا الدور النضالي مع انتقالها إلى جانب القيادة في تونس، فتدعمت بنيتها التحتية للبث وكوادرها الصحفية. وساعدتها في ذلك وكالة تونس إفريقيا للأنباء، حيث ظلت "وفا" تشتغل منذ عام 1983 في بناية الإعلام الفلسطيني في شارع أبو لبابة الانصاري في منطقة المنزه بضواحي العاصمة الشمالية حتى العودة إلى فلسطين عام 1994.

  وحتى اندلاع انتفاضة أطفال الحجارة عام 1987، كانت التغطية لفعاليات الانتفاضة في لحظتها وآنيتها . وكنت أعد يوميا نشرة أخبار ملخصة لتلك الفعاليات تبث في العشية في الساعة الربعة عصرا للمشتركين من الصحف والإذاعات ومراسلي وكالات الأنباء العربية . وتقوم بترجمتها إلى الفرنسية الصحفية حميدة بن صالح التي ستعمل لاحقا في مكتب تونس لوكالة الأنباء الفرنسية لأكثر من عشرين سنة ، وتقوم بدور متميز في نقل أخبار القضية الفلسطينية عبر العالم بالموضوعية المطلوبة وباللغة الفرنسية، بوابة اللغات في العالم، مساهمة في مقاومة التضليل الإعلامي الغربي والإسرائيلي .

   لقد سمح لي العمل سنوات في دائرة فلسطين بالدسك العالمي لوكالة وات بمواكبة أحداث الانتفاضة الأولى وما تلاها. وأصبحت أحفظ أسماء وجغرافيا كل مدن وقرى ومخيمات فلسطين المحتلة وأصبحت تلك الأسماء قريبة من نفسي وذاكرتي أكثر من ذاكرة المدن والقرى التونسية . وكانت لنا في الداسك الإخباري خريطة كبرى لفلسطين التاريخية بكل مدنها وقراها ومداشرها معلقة في حائط الداسك العالمي للاستعانة بها إلى جانب خرائط أخرى لمختلف قارات العالم .

وفي تلك الأحداث أصبحت وكالة "وات" مصدر أساسيا ومهما لدى حرفائها من التونسيين والأجانب وساهمت في التعريف بالقضية الفلسطينية وبتلك الثورة الشبابية لأطفال الحجارة التي هزت الكيان الصهيوني وعرّته أمام الرأي العام الدولي . وكانت تلك التغطيات فرصة لحضور ندوات صحفية عديدة لرئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أو إجراء استجوابات له أو لقياديين آخرين مثل صلاح خلف (أبو اياد) رئيس جهاز الاستعلامات أو خليل الوزير (ابو جهاد) مهندس ثورة الحجارة، بشأن مواقف القيادة من الأحداث .

  وكانت لي مع الزعيم ياسر عرفات عدة مواقف كانت ربما الأصعب اتصاليا في حياة ومسيرة هذا الزعيم الفذ، الحافلة بالمفاجآت والمخاطر. فقد كنت الصحفي الوحيد في انتظاره على عجل في قاعة الصحافة بمطار تونس قرطاج الدولي لتغطية عودته من دمشق في جوان 1983 بعد أن طرده الرئيس السوري حافظ الأسد وأعطاه ساعتين لجمع أوراقه وأدباشه وأركبه في أول طائرة تجارية متجهة إلى تونس، وذلك بسبب خلاف بين الرجلين الداهيتين الماكيافليّيْن ، حول عودة عرفات في تلك السنة إلى طرابلس لمساندة مقاتليه في مواجهة الجيش السوري الذي يريد السيطرة على مخيمات عاصمة الشمال اللبناني . وقد وصل عرفات إلى تونس في ذلك اليوم القائظ ومعالم الأسى والهزيمة مخلوطة بالقهر والغضب، تسيطر على وجهه ونبرته التي هي دائما متفائلة على عادته. وأدلى لي بتصريح صحفي متوتر وناري تحت وقع الصدمة، هاجم فيه بشدة الرئيس السوري حافظ الأسد، متهما إياه بالغدر بالشعب الفلسطيني، ومعلنا أن "جماهير مخيم اليرموك بسوريا تنتفض الآن"، ضد قرار الرئيس السوري طرد زعيمها.

   ولم تكن تلك المرة الأولى التي يطرد فيها عرفات من لبنان أو بلد استضافه وينجو فيها من الموت بأعجوبة . فهو صورة من حال الشعب الفلسطيني المشرد في الشتات. فقد أطرد عام 1970 من الأردن بعد مواجهات أيلول الأسود مع الجيش الأردني. ثم أطرد عام 1982 من بيروت إلى تونس في رحلة تيه عبر البحر.

ومن القصص الخبرية عن نباهة الرئيس عرفات وفراسته الأمنية أنه استقبل عام 1995 مراسلي وكالات الأنباء العربية في نقطة إعلامية في مقر إقامة السفير الفلسطيني حكم بلعاوي. وكنت جالسا حذو عرفات مباشرة في صالون اللقاء والى جانبي أحمد فتاني مراسل وكالة الأنباء الجزائرية "واج" . وفجأة انتقى عرفات إحدى آلات التسجيل التي كانت أمامه وحملها في يده قائلا: " لمن هذه الكاسيت؟. فقلت له "إنها لي" . فقال مبتسما :" لقد نسيت أن تشغلها في وضع التسجيل وليس القراءة فهي الآن تقرأ (بْلاَيْ)، فأعِدْ تشغيلها صحيحا حتى لا تفوتك التصريحات ولا تجد أثرا لها فيما بعد، وهي كارثة مهنية في عمل الصحفي". وفعلا فقد أخطأت في تشغيلها وتداركت الأمر. وقد استمع بأذنه الحساسة لصوت خافت للغاية منبعث منها لم يستمع إليه أحد من الحضور. وهي نباهة وفراسة الزعامات الكبرى التي سمحت لعرفات من الخروج من المآزق والإفلات من محاولات الاغتيال في حياته، وخاصة في بيروت المحاصرة في صيف 1982، حتى موته مسموما من الموساد الإسرائيلي وهو محاصر في مقر إقامته برام الله.

لقد كان الوجود الفلسطيني في تونس مؤقتا. وكان احتضان تونس للقضية الفلسطينية ولقيادتها لمدة اثنتي عشر سنة من 1982 إلى 1994، وجودا سلميا سليما ، لم يجد فيه الفلسطينيون غير الضيافة والاحترام والرعاية من مضيفيهم التونسيين، ولم يجد فيه التونسيون غير الاحترام والتقدير للدولة التونسية ولسيادتها. ولن تنته مرحة التيه الفلسطيني بين البلدان والقارات والبحار، إلا بضمان حق العودة في أدنى مستوياته، حيث عادت القيادة إلى مقر السلطة الوطنية الفلسطينية الفتية في رام الله بضمانات دولية وأممية .

وقبل المغادرة التاريخية نظمت القيادة التونسية حفل توديع مؤثر للقيادة الفلسطينية في قصر الرئاسة بقرطاج، جدد فيه الرئيس التونسي زين العابدين بن علي أمام نظيره الفلسطيني ياسر عرفات كل المساندة الشعبية والرسمية للشعب الفلسطيني في استرداد حقوقه الشرعية، ولو على مراحل تاريخية .

وسيكون هذا الموضوع محور كتابي الجديد الذي يصدر قريبا بعنوان "فلسطين وحروب التضليل الإعلامي" انطلاقا من حرب غزة الأخيرة وتداعياتها الجغراسياسية والإعلامية على مسارات القضية الفلسطينية .

 

 

 

عرفات ووحدة الصف الفلسطيني

 

 

نباهة وفراسة الزعامات الكبرى التي سمحت لعرفات من الخروج من المآزق والإفلات من محاولات الاغتيال في حياته

بقلم الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة

        بعد عقدين على رحيله، وما عرفته القضية من تطورات في تلك الفترة، يظل الرئيس ياسر عرفات في نظر المحللين والمراقبين السياسيين والمؤرخين أيضا، الزعيم الوطني الذي وفق بين كل الاتجاهات من وسط اليمين ووسط اليسار، محاولا بمهارة تجاوز الخلافات الإيديولوجية الوافدة على الأنتليجنسيا الفلسطينية من شتى أنحاء العالم العربي والاشتراكي والليبرالي، والتي تكون تأثيراتها كبيرة ومدمّرة في كثير من الأحيان على أية حركة تحرير وطني، تصبح تتقاذف مركبها الأمواج العاتية حد الغرق. وقد حرص عرفات بشهادة الكثيرين، حتى من بين معارضيه على الوقوف إلى جانب كل التيارات، من القومية، إلى القطرية، إلى اليسارية التقدمية، إلى الإسلامية المحافظة. وقد ترك بذلك حركة تحرير ناضجة سياسيا، تقارع المحتل بالوسائل السلمية: بالحجارة وقبضة اليد وبالقلم الصحفي وريشة الرسم وكاميرا السينما والإيمان بعدالة القضية.

    وهي في كل ذلك، تستند إلى الشرعية الدولية، حتى وإن كانت أملا خلّبًا وسرابا صحاريا، كما يردّد معارضو التّسْوَوِيّة المفرطة، التي كبح جماحها وهرولتها، عرفات الفطن بنفسه، وعاد إلى حضن المقاومة، معطيا لها شرعية ومشروعية، ووجودًا حتى دحْر العدو بمختلف أسلحة المقاومة المتوفّرة. وتحسم ذلك مجددا في معركة "طوفان الأقصى". كانت شخصية عرفات آسرة لكل من يلتقي به. وكان دائما بشوشا وديعا وخدوما للصحافيين، وهذا ما لاحظته خلال عملي في وكالة "وات" لنقل أخبار القضية الفلسطينية والتعريف بها من تونس.

وباعتبار عملي في دسك الأخبار العالمية والديبلوماسية في وكالة تونس إفريقيا للأنباء ، فقد كنت أقوم بنقل أخبار منظمة التحرير الفلسطينية بتونس. وكانت تلك التغطيات الإعلامية اليومية تتم استنادا إلى ما يصلنا من أخبار وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" ، أو عبر الهاتف والفاكس أو بالتحول إلى مقر القيادة الفلسطينية في الضاحية الشمالية للعاصمة أو مقر الدائرة السياسية الخارجية للمنظمة بقيادة فاروق القادومي (ابو اللطف) بنهج معاوية بن ابي سفيان بجهة المنزه السادس، غير بعيد عن مقر وكالة وات بالمنار الثاني. وكان التعامل جيدا مع صحفيي وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" كل من الصديق الزميل زياد عبد الفتاح مدير عام الوكالة، ثم لاحقا منذ 1984 الصحفي طاهر الشيخ، إضافة إلى الصحفي الصديق علي أبو سمرة وباقي زملائه على غرار محمد عواد وبشير البكر ومحمد الشرافي ويوسف قطب وسليمان أبو جاموس.

دور الإعلام الفلسطيني من تونس

ويقول الصحافي والباحث الفلسطيني محمد باسل سليمان في دراسة بعنوان "وكالة الأنباء الفلسطينية :من التأسيس إلى العودة"، أن وكالة "وفا" التي تأسست في بيروت عام 1972، قامت بدور إعلامي مركزي لفائدة قضية الشعب الفلسطيني . وقد تلقت منذ البدء ضربة تمثلت في اغتيال القادة الثلاثة في بيروت كمال ناصر، وكمال عدوان، ومحمد يوسف النجار الذين يعتبرون من الآباء المؤسسين لها . وتدعم هذا الدور النضالي مع انتقالها إلى جانب القيادة في تونس، فتدعمت بنيتها التحتية للبث وكوادرها الصحفية. وساعدتها في ذلك وكالة تونس إفريقيا للأنباء، حيث ظلت "وفا" تشتغل منذ عام 1983 في بناية الإعلام الفلسطيني في شارع أبو لبابة الانصاري في منطقة المنزه بضواحي العاصمة الشمالية حتى العودة إلى فلسطين عام 1994.

  وحتى اندلاع انتفاضة أطفال الحجارة عام 1987، كانت التغطية لفعاليات الانتفاضة في لحظتها وآنيتها . وكنت أعد يوميا نشرة أخبار ملخصة لتلك الفعاليات تبث في العشية في الساعة الربعة عصرا للمشتركين من الصحف والإذاعات ومراسلي وكالات الأنباء العربية . وتقوم بترجمتها إلى الفرنسية الصحفية حميدة بن صالح التي ستعمل لاحقا في مكتب تونس لوكالة الأنباء الفرنسية لأكثر من عشرين سنة ، وتقوم بدور متميز في نقل أخبار القضية الفلسطينية عبر العالم بالموضوعية المطلوبة وباللغة الفرنسية، بوابة اللغات في العالم، مساهمة في مقاومة التضليل الإعلامي الغربي والإسرائيلي .

   لقد سمح لي العمل سنوات في دائرة فلسطين بالدسك العالمي لوكالة وات بمواكبة أحداث الانتفاضة الأولى وما تلاها. وأصبحت أحفظ أسماء وجغرافيا كل مدن وقرى ومخيمات فلسطين المحتلة وأصبحت تلك الأسماء قريبة من نفسي وذاكرتي أكثر من ذاكرة المدن والقرى التونسية . وكانت لنا في الداسك الإخباري خريطة كبرى لفلسطين التاريخية بكل مدنها وقراها ومداشرها معلقة في حائط الداسك العالمي للاستعانة بها إلى جانب خرائط أخرى لمختلف قارات العالم .

وفي تلك الأحداث أصبحت وكالة "وات" مصدر أساسيا ومهما لدى حرفائها من التونسيين والأجانب وساهمت في التعريف بالقضية الفلسطينية وبتلك الثورة الشبابية لأطفال الحجارة التي هزت الكيان الصهيوني وعرّته أمام الرأي العام الدولي . وكانت تلك التغطيات فرصة لحضور ندوات صحفية عديدة لرئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية أو إجراء استجوابات له أو لقياديين آخرين مثل صلاح خلف (أبو اياد) رئيس جهاز الاستعلامات أو خليل الوزير (ابو جهاد) مهندس ثورة الحجارة، بشأن مواقف القيادة من الأحداث .

  وكانت لي مع الزعيم ياسر عرفات عدة مواقف كانت ربما الأصعب اتصاليا في حياة ومسيرة هذا الزعيم الفذ، الحافلة بالمفاجآت والمخاطر. فقد كنت الصحفي الوحيد في انتظاره على عجل في قاعة الصحافة بمطار تونس قرطاج الدولي لتغطية عودته من دمشق في جوان 1983 بعد أن طرده الرئيس السوري حافظ الأسد وأعطاه ساعتين لجمع أوراقه وأدباشه وأركبه في أول طائرة تجارية متجهة إلى تونس، وذلك بسبب خلاف بين الرجلين الداهيتين الماكيافليّيْن ، حول عودة عرفات في تلك السنة إلى طرابلس لمساندة مقاتليه في مواجهة الجيش السوري الذي يريد السيطرة على مخيمات عاصمة الشمال اللبناني . وقد وصل عرفات إلى تونس في ذلك اليوم القائظ ومعالم الأسى والهزيمة مخلوطة بالقهر والغضب، تسيطر على وجهه ونبرته التي هي دائما متفائلة على عادته. وأدلى لي بتصريح صحفي متوتر وناري تحت وقع الصدمة، هاجم فيه بشدة الرئيس السوري حافظ الأسد، متهما إياه بالغدر بالشعب الفلسطيني، ومعلنا أن "جماهير مخيم اليرموك بسوريا تنتفض الآن"، ضد قرار الرئيس السوري طرد زعيمها.

   ولم تكن تلك المرة الأولى التي يطرد فيها عرفات من لبنان أو بلد استضافه وينجو فيها من الموت بأعجوبة . فهو صورة من حال الشعب الفلسطيني المشرد في الشتات. فقد أطرد عام 1970 من الأردن بعد مواجهات أيلول الأسود مع الجيش الأردني. ثم أطرد عام 1982 من بيروت إلى تونس في رحلة تيه عبر البحر.

ومن القصص الخبرية عن نباهة الرئيس عرفات وفراسته الأمنية أنه استقبل عام 1995 مراسلي وكالات الأنباء العربية في نقطة إعلامية في مقر إقامة السفير الفلسطيني حكم بلعاوي. وكنت جالسا حذو عرفات مباشرة في صالون اللقاء والى جانبي أحمد فتاني مراسل وكالة الأنباء الجزائرية "واج" . وفجأة انتقى عرفات إحدى آلات التسجيل التي كانت أمامه وحملها في يده قائلا: " لمن هذه الكاسيت؟. فقلت له "إنها لي" . فقال مبتسما :" لقد نسيت أن تشغلها في وضع التسجيل وليس القراءة فهي الآن تقرأ (بْلاَيْ)، فأعِدْ تشغيلها صحيحا حتى لا تفوتك التصريحات ولا تجد أثرا لها فيما بعد، وهي كارثة مهنية في عمل الصحفي". وفعلا فقد أخطأت في تشغيلها وتداركت الأمر. وقد استمع بأذنه الحساسة لصوت خافت للغاية منبعث منها لم يستمع إليه أحد من الحضور. وهي نباهة وفراسة الزعامات الكبرى التي سمحت لعرفات من الخروج من المآزق والإفلات من محاولات الاغتيال في حياته، وخاصة في بيروت المحاصرة في صيف 1982، حتى موته مسموما من الموساد الإسرائيلي وهو محاصر في مقر إقامته برام الله.

لقد كان الوجود الفلسطيني في تونس مؤقتا. وكان احتضان تونس للقضية الفلسطينية ولقيادتها لمدة اثنتي عشر سنة من 1982 إلى 1994، وجودا سلميا سليما ، لم يجد فيه الفلسطينيون غير الضيافة والاحترام والرعاية من مضيفيهم التونسيين، ولم يجد فيه التونسيون غير الاحترام والتقدير للدولة التونسية ولسيادتها. ولن تنته مرحة التيه الفلسطيني بين البلدان والقارات والبحار، إلا بضمان حق العودة في أدنى مستوياته، حيث عادت القيادة إلى مقر السلطة الوطنية الفلسطينية الفتية في رام الله بضمانات دولية وأممية .

وقبل المغادرة التاريخية نظمت القيادة التونسية حفل توديع مؤثر للقيادة الفلسطينية في قصر الرئاسة بقرطاج، جدد فيه الرئيس التونسي زين العابدين بن علي أمام نظيره الفلسطيني ياسر عرفات كل المساندة الشعبية والرسمية للشعب الفلسطيني في استرداد حقوقه الشرعية، ولو على مراحل تاريخية .

وسيكون هذا الموضوع محور كتابي الجديد الذي يصدر قريبا بعنوان "فلسطين وحروب التضليل الإعلامي" انطلاقا من حرب غزة الأخيرة وتداعياتها الجغراسياسية والإعلامية على مسارات القضية الفلسطينية .

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews