إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

رأي.. الرد الإيراني ولو بالذهاب إلى حافة الهاوية

 

بقلم: هاني مبارك

من الموضوعية قبل تقييم مدى نجاح الرد الإيراني أو إطلاق الأحكام جزافا له أو عليه أن يتم بدقة كبيرة توصيف أهدافه، وتحديد فيما إذا كانت للتدمير والقتل والانتقام، أم أنها لحفظ ماء الوجه والمحافظة على الحد الأدنى لدور إيران كلاعب إقليمي يبحث عن اعتراف به من هذا الطرف أو ذاك، أو أنها لإعادة رسم حدود  النفوذ أو غيرها من الأهداف دون الالتفات أو التوقف أمام أي من تلك الأهداف التي تنسجها خيالات بعض العقول أو تصنّعها لأغراض بعيدة كل البعد عن ما تزعمه من ادعاءات وأراجيف مختلقة.

وبداية لابد من الإعلان عن الاتفاق التام مع كافة الآراء التي تجمع على أن كلا من إيران والولايات المتحدة ليستا بصدد الذهاب إلى مواجهة شاملة من شأنها أن تؤدي الى حرب إقليمية واسعة النطاق، لارتداداتها -التي قد تصل إلى مدارات دولية -  مخاطر تهدد الأمن العالمي. ومن هذه المساحة الضيقة بالذات تُناقش فكرة الرد الإيراني وتحديد نوعية أهدافه كما تُناقش جهود الحيلولة دون وقوعه كما حاولت واشنطن أن تقوم به، إن بالضغط المباشر أو عبر الوسطاء، حيث أصبح الهدف العاجل للطرفين الأمريكي والإيراني هو تحقيق انتصار في حرب لم تندلع بعد، يكرس قواعد جديدة سواء للردع أو للاشتباك من خلال إعادة تقييم طبيعة وانتشار القوى الفاعلة في الإقليم.

وفيما حاولت الولايات المتحدة بكل قوة ثني إيران عن القيام بالرد وذلك للإيهام باستمرار وبقاء طبيعة القوة في الإقليم وانتشارها على ما هي عليه منذ ما بعد اجتياح بغداد عام 2003 لا بل إنها مالت أكثر لمصلحة أمريكا وحلفائها من اجل المحافظة على نفس قواعد الاشتباك، كانت إيران تصر بقوة كبيرة على استغلال الفرصة ولو بالذهاب إلى حافة الهاوية من اجل التأكيد على التغيرات الجوهرية التي طرأت على نوعية هذه القوة في الإقليم، وضرورة الاعتراف بما لها من مجالات تأثير جيوسياسية يجب وضعها موضع الاعتبار في التفاعلات المستقبلية.

والأرجح أن هذا ما حققته إيران فورا وبدأ يطفو على السطح مباشرة بعد انتهاء ردها، حيث أخذت الإدارة الأمريكية بمسارين متوازيين لكبح جماح نتنياهو عن الذهاب نحو تصعيد نوعي من شأنه أن يكشف ظهر إسرائيل ويضع أمريكا موضع الدولة الاستعمارية، من خلال الضغط المباشر عليه ومنعه من الإقدام على أية خطوة دون تنسيق مسبق معها، وفي نفس الوقت خلق  انطباع قوي في الشارع السياسي الإسرائيلي بإخفاق الهجوم الإيراني، الذي لن يعود عليها إلا بمزيد من العزلة الدولة حيث تعد الولايات المتحدة لاستبدال الرد العسكري برد دبلوماسي وأن أي رد عسكري إسرائيلي سينقذ إيران مما تردت فيه.

طبعا هذه الكياسة الأمريكية المفاجئة مردها هو الإدراك العميق والمتكرر لواشنطن بأن حليفتها المدللة صارت أصغر حجما من دورها الذي تأمله منها، وأنه يجب منعها من دخول امتحان آخر وهي لم تنه بعد من أوحال غزة التي تطبق عليها رغم كل أشكال الدعم الذي تقدمه لها، كذلك فانه لن يكون من المريح وربما المتاح في ظل تزايد بؤر التوتر في العالم لواشنطن أن تقوم كل عدة أشهر بتحريك قواتها ونقل بوارجها للشرق الأوسط لحمايتها من احتمالات اندلاع حرب في أية لحظة، وأنه أيضا لغياب بديل لها، فان حماية دورها من جنون غلاة قادتها يدخل في سياق الجهد الاستراتيجي لحماية المصالح العليا للولايات المتحدة، وهذا ما يفسر إسراعها بتقديم الدعم الفوري لها في كل مرة تكون فيها في وضع خرج، ولكن دون أن يفوق ذلك أرباحها، حيث ترى إدارة بايدن أن من شأن انخراطها في حرب إقليمية واسعة سيكون بلا أفق وأن نتائجها لن تكون أفضل من نتائج حربيها في العراق وأفغانستان.

وفي هذا السياق يصبح من المنطقي أن تذهب واشنطن نحو الحلول الوسط، إذ من المرجح أنها ستكون بحاجة إلى وقت أطول لإعادة تقييم الدور الإسرائيلي، وإعادة تأهيله بالصورة التي تتفق وقدراته الحقيقية التي لم تعد كما كانت عليه في سبعينيات القرن الماضي، بعد ان لم يعد احتكار مصادر القوة متاحا كما كان عليه الوضع سابقا، لهذا نجدها شديدة الحرص على استكمال صفقة التطبيع مع السعودية التي ستكون تمهيدا لبناء تحالف جماعي من دول المنطقة يكون بديلا عن الدور الإسرائيلي المنفرد والعاجز.

كذلك فإن إدراك إيران لهذه الحقائق ولمحاولة إعادة خلط الأوراق، وبناء تحالف مضاد، ولمحاولة الدخول على خط الزمن الأمريكي الذي أخذ يضيق أكثر فأكثر مع تزايد عدد بؤر التوتر والتحديات العالمية، جعلها ترفض الانصياع لكل محاولات التهديد الأمريكي بعدم الرد وذهبت للمجازفة والتحدي، لا لشيء إلا لكي تبعث برسائل شديدة اللهجة لأمريكا ولإسرائيل ولحلفائهما  المحتملين في بناء منظومة الدفاع الإقليمي الجماعي، أنها هي الأخرى بصدد بناء منظومة مماثلة وأن المعركة الحالية هي معركة رسم حدود النفوذ الجغرافي المستقبلية، وأنها الطرف الوحيد الذي يمكن التحدث إليه بشأن الإقليم.

وإن كان هنا ليس بوسع أحد التأكد مما إذا كان هذا الرد ذو الأهداف الجيوسياسية كافيا ليحقق لطهران ما تتطلع إليه الآن، فمن المؤكد انه سيكون كافيا لها على مستوى تقاسم الزمن والاستفادة القصوى منه في بناء القوة الذاتية وإعادة بناء تحالفاتها على الصعيدين الإقليمي والدولي قبل المعركة الحاسمة التي ستقرر مناطق النفوذ للمائة عام القادمة.

أستاذ الإعلام في جامعة منوبة

رأي..   الرد الإيراني ولو بالذهاب إلى حافة الهاوية

 

بقلم: هاني مبارك

من الموضوعية قبل تقييم مدى نجاح الرد الإيراني أو إطلاق الأحكام جزافا له أو عليه أن يتم بدقة كبيرة توصيف أهدافه، وتحديد فيما إذا كانت للتدمير والقتل والانتقام، أم أنها لحفظ ماء الوجه والمحافظة على الحد الأدنى لدور إيران كلاعب إقليمي يبحث عن اعتراف به من هذا الطرف أو ذاك، أو أنها لإعادة رسم حدود  النفوذ أو غيرها من الأهداف دون الالتفات أو التوقف أمام أي من تلك الأهداف التي تنسجها خيالات بعض العقول أو تصنّعها لأغراض بعيدة كل البعد عن ما تزعمه من ادعاءات وأراجيف مختلقة.

وبداية لابد من الإعلان عن الاتفاق التام مع كافة الآراء التي تجمع على أن كلا من إيران والولايات المتحدة ليستا بصدد الذهاب إلى مواجهة شاملة من شأنها أن تؤدي الى حرب إقليمية واسعة النطاق، لارتداداتها -التي قد تصل إلى مدارات دولية -  مخاطر تهدد الأمن العالمي. ومن هذه المساحة الضيقة بالذات تُناقش فكرة الرد الإيراني وتحديد نوعية أهدافه كما تُناقش جهود الحيلولة دون وقوعه كما حاولت واشنطن أن تقوم به، إن بالضغط المباشر أو عبر الوسطاء، حيث أصبح الهدف العاجل للطرفين الأمريكي والإيراني هو تحقيق انتصار في حرب لم تندلع بعد، يكرس قواعد جديدة سواء للردع أو للاشتباك من خلال إعادة تقييم طبيعة وانتشار القوى الفاعلة في الإقليم.

وفيما حاولت الولايات المتحدة بكل قوة ثني إيران عن القيام بالرد وذلك للإيهام باستمرار وبقاء طبيعة القوة في الإقليم وانتشارها على ما هي عليه منذ ما بعد اجتياح بغداد عام 2003 لا بل إنها مالت أكثر لمصلحة أمريكا وحلفائها من اجل المحافظة على نفس قواعد الاشتباك، كانت إيران تصر بقوة كبيرة على استغلال الفرصة ولو بالذهاب إلى حافة الهاوية من اجل التأكيد على التغيرات الجوهرية التي طرأت على نوعية هذه القوة في الإقليم، وضرورة الاعتراف بما لها من مجالات تأثير جيوسياسية يجب وضعها موضع الاعتبار في التفاعلات المستقبلية.

والأرجح أن هذا ما حققته إيران فورا وبدأ يطفو على السطح مباشرة بعد انتهاء ردها، حيث أخذت الإدارة الأمريكية بمسارين متوازيين لكبح جماح نتنياهو عن الذهاب نحو تصعيد نوعي من شأنه أن يكشف ظهر إسرائيل ويضع أمريكا موضع الدولة الاستعمارية، من خلال الضغط المباشر عليه ومنعه من الإقدام على أية خطوة دون تنسيق مسبق معها، وفي نفس الوقت خلق  انطباع قوي في الشارع السياسي الإسرائيلي بإخفاق الهجوم الإيراني، الذي لن يعود عليها إلا بمزيد من العزلة الدولة حيث تعد الولايات المتحدة لاستبدال الرد العسكري برد دبلوماسي وأن أي رد عسكري إسرائيلي سينقذ إيران مما تردت فيه.

طبعا هذه الكياسة الأمريكية المفاجئة مردها هو الإدراك العميق والمتكرر لواشنطن بأن حليفتها المدللة صارت أصغر حجما من دورها الذي تأمله منها، وأنه يجب منعها من دخول امتحان آخر وهي لم تنه بعد من أوحال غزة التي تطبق عليها رغم كل أشكال الدعم الذي تقدمه لها، كذلك فانه لن يكون من المريح وربما المتاح في ظل تزايد بؤر التوتر في العالم لواشنطن أن تقوم كل عدة أشهر بتحريك قواتها ونقل بوارجها للشرق الأوسط لحمايتها من احتمالات اندلاع حرب في أية لحظة، وأنه أيضا لغياب بديل لها، فان حماية دورها من جنون غلاة قادتها يدخل في سياق الجهد الاستراتيجي لحماية المصالح العليا للولايات المتحدة، وهذا ما يفسر إسراعها بتقديم الدعم الفوري لها في كل مرة تكون فيها في وضع خرج، ولكن دون أن يفوق ذلك أرباحها، حيث ترى إدارة بايدن أن من شأن انخراطها في حرب إقليمية واسعة سيكون بلا أفق وأن نتائجها لن تكون أفضل من نتائج حربيها في العراق وأفغانستان.

وفي هذا السياق يصبح من المنطقي أن تذهب واشنطن نحو الحلول الوسط، إذ من المرجح أنها ستكون بحاجة إلى وقت أطول لإعادة تقييم الدور الإسرائيلي، وإعادة تأهيله بالصورة التي تتفق وقدراته الحقيقية التي لم تعد كما كانت عليه في سبعينيات القرن الماضي، بعد ان لم يعد احتكار مصادر القوة متاحا كما كان عليه الوضع سابقا، لهذا نجدها شديدة الحرص على استكمال صفقة التطبيع مع السعودية التي ستكون تمهيدا لبناء تحالف جماعي من دول المنطقة يكون بديلا عن الدور الإسرائيلي المنفرد والعاجز.

كذلك فإن إدراك إيران لهذه الحقائق ولمحاولة إعادة خلط الأوراق، وبناء تحالف مضاد، ولمحاولة الدخول على خط الزمن الأمريكي الذي أخذ يضيق أكثر فأكثر مع تزايد عدد بؤر التوتر والتحديات العالمية، جعلها ترفض الانصياع لكل محاولات التهديد الأمريكي بعدم الرد وذهبت للمجازفة والتحدي، لا لشيء إلا لكي تبعث برسائل شديدة اللهجة لأمريكا ولإسرائيل ولحلفائهما  المحتملين في بناء منظومة الدفاع الإقليمي الجماعي، أنها هي الأخرى بصدد بناء منظومة مماثلة وأن المعركة الحالية هي معركة رسم حدود النفوذ الجغرافي المستقبلية، وأنها الطرف الوحيد الذي يمكن التحدث إليه بشأن الإقليم.

وإن كان هنا ليس بوسع أحد التأكد مما إذا كان هذا الرد ذو الأهداف الجيوسياسية كافيا ليحقق لطهران ما تتطلع إليه الآن، فمن المؤكد انه سيكون كافيا لها على مستوى تقاسم الزمن والاستفادة القصوى منه في بناء القوة الذاتية وإعادة بناء تحالفاتها على الصعيدين الإقليمي والدولي قبل المعركة الحاسمة التي ستقرر مناطق النفوذ للمائة عام القادمة.

أستاذ الإعلام في جامعة منوبة

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews