إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

أمام ضعف الرقابة وفقدان بعضها من الصيدليات .. تجارة الأدوية بالسوق السوداء تزدهر.. والضحايا بالعشرات ..

 

تونس- الصباح

لفظت آخر أنفاسها وهي بين يدي والدها بمصحة خاصة بالقيروان.. لم تكن وفاة صابرة، الفتاة ذات الواحد والعشرين ربيعا، عادية، فقد لقيت حتفها بسبب جرثومة نتيجة لتسمم اجتاح جسدها بعد تناولها لدواء مخصّص لإنقاص الوزن اشترته من إحدى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي..

يقول والدها حسونة بحرقة وألم:"تسمّمت ابنتي بعد دواء اشترته من صفحات "الفايسبوك"، فبعد مماتها أعلمنا الأطباء بمستشفى وسيلة بورقيبة بالمنستير أنها تعرضت للتسمم جراء هذا الدواء".

وأضاف غاضبا:"أريد من الدولة والقضاء إظهار حق ابنتي، خسرت عملي خارج تراب الوطن بسبب هذه الحادثة، لم أعد أتحمل غيابها..".

وتضيف والدة صابرة وعلامات الحزن بادية على محياها:"(.. ) نصحت ابنتي بأن لا تشتري هذا الدواء، لكنها أصرّت على شرائه وتناولته، وبعد سويعات قليلة أصيبت بدوار..، لن أسامح صاحبة هذا المنتوج الذي قتل ابنتي..".

ما حصل لصابرة حصل للعشرات غيرها من التونسيين الذين وقعوا ضحايا، إما من خلال التطبب العشوائي عبر اقتناء أدوية عبر مسالك موازية مجهولة المصدر في أغلب الأحيان، أو عبر استهلاك أدوية مقتناة من السوق السوداء وعن طريق التجارة الالكترونية دون دراية بكيفية استعمالها أو استشارة الطبيب.. في أحيان أخرى..

يكشف هذا التحقيق تفاقم ظاهرة بيع الأدوية عبر شبكات مواقع التواصل الاجتماعي مما قد يتسبب في أضرار صحية جسيمة على المستهلكين وصلت في بعض الحالات إلى الوفاة أو التسبب في عاهات مستديمة، خاصة مع نقص الرقابة بأنواعها على هذا الصنف من التجارة وصعوبة تتبع من يقفون وراءها، وغياب إطار تشريعي ينظم التجارة الإلكترونية..

إعداد: وفاء الطرابلسي (*)

تقول الدكتورة مارغريت تشان، المديرة العامة لمنظمة الصحة العالمية:" العالم في حاجة إلى حارس أمين على صحته، يحرس القيم ويحمي الصحة ويدافع عنها، بما في ذلك الحق في الصحة".

فالدولة يجب أن تضمن الحق في الصحة لجميع مواطنيها دون استثناء، وهي مطالبة بتهيئة الظروف التي يمكن فيها لكل فرد أن يكون موفور الصحة بقدر الإمكان. وتتراوح هذه الظروف بين ضمان توفير الخدمات الصحية وظروف العمل الصحية والآمنة والسكن الملائم والأطعمة المغذية، علاوة على حماية هذا الحق ورقابته، والحرص على توفير السلامة تحت رقابة الدولة..

وحين تتراجع الدولة عن ضمان الحق في الصحة بما فيها توفير الأدوية الضرورية للعلاج، من الطبيعي أن تظهر المسالك الموازية وذلك بسبب خلل في الرقابة سيما أن مجال تجارة الأدوية يدرّ أرباحا باهظة، وتفاقمت ظاهرة بيع الأدوية الطبية وشبه الطبية عبر مواقع التواصل الاجتماعي ما جعل هناك سوقا موازية للأدوية يلتجئ إليها المواطنون في ظل عدم تواجد بعض الأدوية عند الصيدليات، فقد أصبحت هذه المواقع منصات لتبادل وشراء الأدوية دون وصفة طبية..

سوق أدوية مفتوح بمواقع التواصل الاجتماعي

دخلنا أهم أحد مواقع التجارة الإلكترونية في تونس، وجدنا خانة خاصة ببيع وشراء الأدوية وكانت بهذا العنوانachat/vente médicaments et traitements a prix pas cher، حيث وجدنا قائمة من الأدوية غير متحصلة على علامةAMM(الأدوية الحاصلة على رخصة التداول في السوق) لكنها تقدم على أنها أدوية للكحة/البرد/..الخ علاوة على بعض المعدات الخاصة بالتقويم.

وللتأكد، قمنا بشراء دواء السعال (الكحة) يحمل العلامة التجارية "triplex" وقد كتب في وصفه أنه دواء يعالج الكحة في فترة قصيرة، يمكن تناوله بداية من عمر الستة أشهر وصالح للأطفال والكبار.

يقول نوفل عميرة رئيس النقابة التونسية لأصحاب الصيدليات الخاصة، في تصريح لـ"الصباح" تعليقا على تنامي ظاهرة بيع وشراء الأدوية بصفة غير قانونية وعبر مسالك التجارة الالكترونية، أن بعض المواقع الإلكترونية أو الصفحات الفايسبوكية تتداول الأدوية الطبية وشبه الطبية بعضها مجهول المصدر، حيث أن المبدأ أن الاختصاص الحصري لبيع هذه الأدوية هي الصيدليات. ويؤكد عميرة على أن النقابة قامت بشكاية جزائية حول هذا الموضوع ولم يتم البت فيها إلى حد هذه اللحظة.

تحصلنا على تقرير طبي صادر عن دكتورة الطب العام جيهان بن جراد، حيث تبين فيه أن مريضة تبلغ من العمر 40 سنة، اقتنت دواء مزيلا للتصبّغات من موقع إلكتروني بعد أن اطلعت على آراء إيجابية في شأنه من بعض من قام باستخدامه.

تقول الدكتورة بن جراد في هذا الإطار:"هذا الدواء الذي استخدمته المريضة لا يباع إلا بالوصفة الطبية من ناحية، وهو دواء مستورد من مخبر مصري غير مصرح به في تونس، من ناحية أخرى، حيث أن المريضة استعملته في المنطقة الحميمية ما سبب لها حروقا جلدية من درجة ثانية، علاوة على العواقب النفسية".

وتابعت:"لا يوجد على الموقع أي تنبيهات أو شروط بخصوص استعمال هذا الدواء".

بدورها، قالت ناجية العلوي وهي تعمل مبنجة بالمستشفى الجهوي بالقصرين:"إن ظاهرة توزيع وبيع الأدوية الطبية وشبه الطبية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت متفاقمة في السنوات الأخيرة في تونس، وهو ما أقرت به وزارة الصحة ونقابة الصيدليات الخاصة، حيث قامت هذه الأخيرة برفع دعاوى قضائية ضد مواقع الكترونية وشركات خاصة لبيع الأدوية الطبية وشبه الطبية".

وتضيف:"حسب إحصائيات قامت بها وزارة الصحة، والصيدلية المركزية فإن من بين أسباب تفاقم هذه الظاهرة هو نقص الأدوية من ناحية، وتدني المقدرة الشرائية للمواطن التونسي من ناحية أخرى حيث لم يعد قادرا على الذهاب للطبيب لمده بالوصفة الطبية".

وتؤكد العلوي أن الدولة تتحمل مسؤولية توزيع الأدوية لأنه اختصاص حصري لها، حيث أن الأدوية المتداولة وغير المرخص لها تعود بالمضرة على مستهلكيها. علاوة على ضرورة توعية المواطن بخطورة هذه الأدوية المتداولة عبر مسالك غير قانونية.

خطر على الصحة العامة

في حوارنا معه، يقول الأستاذ فارس المناعي المحامي لدى الاستئناف، أن ظاهرة تجارة الأدوية بالسوق الموازية وبالأخص عبر صفحات "الفايسبوك" تمثل خطرا على الصحة العامة، كما أن تجارة الأدوية تزدهر خاصة مع نقصها المسجل في المسالك النظامية..

وقال:"إن مسألة عدم قانونية مسالك التوزيع المستندة إلى مواقع التواصل الاجتماعي ثابت ومخالف لأحكام الفصل 2 من قانون 1973 المتعلق بتنظيم مهنة الصيادلة بالإضافة إلى التراتيب المتعلقة بمسالك التوزيع الخاضعة لوزارة التجارة والحاجة اليوم ملحة إلى مزيد عصرنة النظام القانوني من جهة وإحكام منافذ التوزيع من جهة أخرى".

كما ذكّر بأحكام الفصل 31 من قانون المنظم لمهنة الصيدلة في نسخته الأولى أهم ركيزة قانونية حيث نص على أنه:"يحجّر على كل شخص ولو كان محرزا على شهادة الصيدلة بيع الأدوية وعرضها وتوزيعها في الطريق العام وفي الأسواق والغازات غير المخصصة لصيدلة البيع بالتفصيل".

وأشار المنّاعي إلى أن الفصل 31 من قانون1973 حجّر البيع في الأسواق والمغازات ولو من صيدلي، فما بالك بشخص غير صيدلي ويقوم بعرض تلك المواد الكيميائية على صفحات التواصل الاجتماعي بل وفي بعض الحالات نشاهد أشخاص يقومون بالإشهار لتلك المواد في مواقع مثل "الفايسبوك" أو "الإنستغرام" دون أي مرجع طبي أو مستند علمي وذلك فقط لغاية الربح المادي فقط.

كما تبقى العقوبات الزجرية والتأديبية والمدنية قاصرة حيث تبقى منحصرة ونافذة على الصيادلة سواء أمام هيئة الصيادلة أو القضاء العدلي دون وجود نظام قانوني واضح منطبق على غيرهم من الأشخاص حيث يبقى دائما اللجوء إلى نصوص زجرية منها انتحال صفة الصيدلي أو ممارسة الصيدلة دون الشهائد العلمية اللازمة هو المدخل القانوني للوصول إلى العقوبات الجزائية اللازمة خاصة أمام خطورة المواد التي يتم عرضها أساسا في البيع خارج مسالك التوزيع الرسمية بما قد يتسبب في مضار للسلامة الصحية للمواطنين.

ما يمكن الإشارة إليه، في سنة 2018 عرض بعض النواب مقترح قانون عدد 44/2018 المتعلق بتنقيح القانون عدد 55 لسنة 1973 منقحا أحكام الفصل 32 مكرر ليكون كما يلي: "يعاقب بالسجن من شهر إلى تسعة أشهر وخطية مالية من ألف دينار إلى خمسة آلاف دينار أو إحدى العقوبتين كل من يمارس نشاط استغلال المواد الصيدلية؛ باستثناء الأدوية المذكورة في الفصل 101 و102 من قانون 54-69 الصادر بتاريخ 26 جويلية 1969؛ خارج المنشآت المذكورة بالفصل الثاني من هذا القانون".

إلا أن مقترح القانون بقي حبرا على ورق وتبقى إذن المناداة إلى تنقيح القانون ومزيد الإحكام الجزري لهذه الظاهرة ضرورة ملحة اليوم.

مسالك للأدوية.. عبر "الانستغرام"

أثارت المؤثرة عبر منصة "انستغرام" سوسن المصمودي ضجة كبيرة بخصوص موضوع اقتناء الأدوية عبر شبكات مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تتلخص وقائع الحادثة أنها اشترت دواء للتنحيف من موقع عبر منصة تواصل اجتماعي، لكن ما راعها أن هذا الدواء غير فعال ويتم بيعه عبر مسالك غير قانونية ودون رخصة من الطبيب.. والأخطر من ذلك أن كل الذين اشتروا هذا الدواء تزودوا بمضاد اكتئاب، (دون وصفة طبية أو استشارة طبيب متخصص) حسب ما صرحت به المصمودي.

حاولنا مراسلة وزارة الصحة للتثبت من صحة هذه المعلومة علاوة على التأكد من أن هذا الدواء متحصل فعلا على شهادة طبية مصادق عليها من وزارة الصحة أم لا، غير أننا لم نحظ برد أو إجابة.

ورغم تجاهلها لطلب النفاذ إلى المعلومة الأول، إلا أن وزارة الصحة أجابت على مطلب النفاذ الثاني المقدم لها بتاريخ 20 سبتمبر 2023، وذلك بتاريخ 22 نوفمبر 2023 أي بتأخير يناهز الشهرين، وذلك بعد الآجال القانونية المحددة بعشرين يوما وفقا لقانون النفاذ إلى المعلومة المؤرخ في 24 مارس 2016.

غير أن الإجابة لم تكن وفق انتظاراتنا، إذ اكتفت الوزارة برد عام ومقتضب بخصوص طلبنا التعرف على الإجراءات التي تتخذها الوزارة للتصدي للتجارة الموازية للأدوية الطبية وشبه الطبية عبر المواقع الالكترونية، وقالت إنها "تعمل بالتنسيق مع وزارتي الداخلية والتجارة للتصدي لهذه الظاهرة".

في المقابل، كشف العميد شكري الجبري الناطق الرسمي باسم الديوانة لـ"الصباح" في حوارنا معه مفسّرا أسباب تنامي ظاهرة تهريب الأدوية وبيعها في المسالك الموازية، قائلا:"إن الأدوية التي تهرّب هي مثل بقية البضائع، يطمع بها المهرب وذلك لفقدانها من ناحية في السوق التونسية، أو لخضوعها لضرائب مرتفعة عند التوريد. وللإشارة إن توريد الأدوية هو من اختصاص الصيدلية المركزية فقط".

وأضاف:"الديوانة تعطي أهمية مطلقة لمثل هذه البضائع وذلك لأنها تمس من صحة المواطن، حيث تقوم الديوانة بمراقبة المعابر الحدودية من خلال تفتيش المسافرين والشحنات التجارية".

وأشار الجبري إلى أن الأدوية المهربة تختلف أنواعها بين أدوية بيطرية المعدة للحيوانات، أو أدوية خاصة بالمؤثرات عقلية كالحبوب المخدّرة ..الخ.

عموما، تختلف نسب الأدوية المهرّبة حيث ارتفعت عمليات التهريب طيلة فترة انتشار فيروس كورونا وذلك بسبب الاستعمال المكثف للأدوية والمعدات الطبية.

---------------

ممثلة إدارة التفقد الصيدلي بوزارة الصحة

الظاهرة موجودة.. وننسّق مع وزارة الداخلية لمراقبتها

اتصلنا بوزارة الصحة، لتبيان موقفها من انتشار ظاهرة التجارة بالأدوية في السوق السوداء أو عبر التجارة الالكترونية ومعرفة الإجراءات الرقابية والردعية التي اتخذتها للحد منها أو مكافحتها.. كما حاولنا الاتصال بالهيئة الوطنية للصيادلة لنفس الغرض..

وفي هذا الصدد أقرّت الدكتورة ريم فريخة ممثلة إدارة التفقد الصيدلي بوزارة الصحة في حديث لـ"الصباح" أن ظاهرة التجارة بالأدوية بمواقع التواصل الاجتماعي هي فعلا موجودة ومنتشرة..

وكشفت أن التفقد مبدئيا يتجه للمسالك القانونية مثل الهياكل المكلفة بصناعة الدواء وتوزيعه وبيعه، حيث تخضع هذه الهياكل لرقابة روتينية مستمرة.

أما بالنسبة للمسالك غير القانونية، فقالت:" هيكل التفقد الصيدلي ليست له الإمكانيات للتدقيق وراء المواقع الإلكترونية أو الصفحات التي تبيع الدواء عبر شبكات التواصل الاجتماعي". مستدركة بأن وزارة الصحة تعمل بالتنسيق مع بقية الوزارات وخاصة وزارة الداخلية لرصد المخالفات وتتبع المخالفين.

وأوضحت في هذا السياق أن هيكل التفقد بوزارة الصحة "يقوم بمراسلة وزارة الداخلية بعد تلقي تشكيات في بيع الأدوية عبر مسالك غير القانونية، ثم يتم معاينة مصدر بيع الدواء".

وأكدت فريخة أن وزارة الصحة تتجه حاليا لإحداث خلية سريعة وذلك بغاية التقاط مثل هذه الصفحات الالكترونية المشتبه بها بشكل يضمن سرعة التدخل ونجاعته..

وعن طبيعة المخالفات المرصودة أفادت قائلة: "رصدنا مؤخرا صفحة بموقع "فايسبوك" تبيع حليب الرضّع، وتقوم ببيعه بثمن أقل من السوق، وبعد البحث تبين أن الحليب مستورد من الخارج..".

وأوضحت، بعد سؤالنا حول مسألة تهريب الأدوية من المستشفيات وبيعها في السوق السوداء أو خارج تونس، أن هذا التجاوز موجود وهو محور عمل إدارة التفقد الصيدلي بالوزارة، وأكدت على ضرورة توعية المستهلكين بعدم شراء الأدوية إلا من الصيدليات، حيث توجد أدوية غير حاصلة على الرخص القانونية، ويتم تداولها خارج المسالك القانونية من ناحية، محذّرة من بعض الأدوية المعروضة للبيع هي بالأساس مكمّلات غذائية وتسوّق على أنها أدوية، من ناحية أخرى..

تبقى المسؤولية محمولة على سلطات الإشراف كوزارة الصحة ووزارة التجارة لحماية الصحة العامة للمواطنين ومكافحة ظاهرة بيع الأدوية عبر مواقع الكترونية ليس لها علاقة بالمجال الطبي أو شبه الطبي.

*تم إنتاج هذا التحقيق في إطار النسخة الثانية من مشروع أكاديمية الصحافة الاستقصائية لمنظمة المادة 19

 

 

 

 

 

 

 

أمام ضعف الرقابة وفقدان بعضها من الصيدليات .. تجارة الأدوية بالسوق السوداء تزدهر.. والضحايا بالعشرات ..

 

تونس- الصباح

لفظت آخر أنفاسها وهي بين يدي والدها بمصحة خاصة بالقيروان.. لم تكن وفاة صابرة، الفتاة ذات الواحد والعشرين ربيعا، عادية، فقد لقيت حتفها بسبب جرثومة نتيجة لتسمم اجتاح جسدها بعد تناولها لدواء مخصّص لإنقاص الوزن اشترته من إحدى صفحات مواقع التواصل الاجتماعي..

يقول والدها حسونة بحرقة وألم:"تسمّمت ابنتي بعد دواء اشترته من صفحات "الفايسبوك"، فبعد مماتها أعلمنا الأطباء بمستشفى وسيلة بورقيبة بالمنستير أنها تعرضت للتسمم جراء هذا الدواء".

وأضاف غاضبا:"أريد من الدولة والقضاء إظهار حق ابنتي، خسرت عملي خارج تراب الوطن بسبب هذه الحادثة، لم أعد أتحمل غيابها..".

وتضيف والدة صابرة وعلامات الحزن بادية على محياها:"(.. ) نصحت ابنتي بأن لا تشتري هذا الدواء، لكنها أصرّت على شرائه وتناولته، وبعد سويعات قليلة أصيبت بدوار..، لن أسامح صاحبة هذا المنتوج الذي قتل ابنتي..".

ما حصل لصابرة حصل للعشرات غيرها من التونسيين الذين وقعوا ضحايا، إما من خلال التطبب العشوائي عبر اقتناء أدوية عبر مسالك موازية مجهولة المصدر في أغلب الأحيان، أو عبر استهلاك أدوية مقتناة من السوق السوداء وعن طريق التجارة الالكترونية دون دراية بكيفية استعمالها أو استشارة الطبيب.. في أحيان أخرى..

يكشف هذا التحقيق تفاقم ظاهرة بيع الأدوية عبر شبكات مواقع التواصل الاجتماعي مما قد يتسبب في أضرار صحية جسيمة على المستهلكين وصلت في بعض الحالات إلى الوفاة أو التسبب في عاهات مستديمة، خاصة مع نقص الرقابة بأنواعها على هذا الصنف من التجارة وصعوبة تتبع من يقفون وراءها، وغياب إطار تشريعي ينظم التجارة الإلكترونية..

إعداد: وفاء الطرابلسي (*)

تقول الدكتورة مارغريت تشان، المديرة العامة لمنظمة الصحة العالمية:" العالم في حاجة إلى حارس أمين على صحته، يحرس القيم ويحمي الصحة ويدافع عنها، بما في ذلك الحق في الصحة".

فالدولة يجب أن تضمن الحق في الصحة لجميع مواطنيها دون استثناء، وهي مطالبة بتهيئة الظروف التي يمكن فيها لكل فرد أن يكون موفور الصحة بقدر الإمكان. وتتراوح هذه الظروف بين ضمان توفير الخدمات الصحية وظروف العمل الصحية والآمنة والسكن الملائم والأطعمة المغذية، علاوة على حماية هذا الحق ورقابته، والحرص على توفير السلامة تحت رقابة الدولة..

وحين تتراجع الدولة عن ضمان الحق في الصحة بما فيها توفير الأدوية الضرورية للعلاج، من الطبيعي أن تظهر المسالك الموازية وذلك بسبب خلل في الرقابة سيما أن مجال تجارة الأدوية يدرّ أرباحا باهظة، وتفاقمت ظاهرة بيع الأدوية الطبية وشبه الطبية عبر مواقع التواصل الاجتماعي ما جعل هناك سوقا موازية للأدوية يلتجئ إليها المواطنون في ظل عدم تواجد بعض الأدوية عند الصيدليات، فقد أصبحت هذه المواقع منصات لتبادل وشراء الأدوية دون وصفة طبية..

سوق أدوية مفتوح بمواقع التواصل الاجتماعي

دخلنا أهم أحد مواقع التجارة الإلكترونية في تونس، وجدنا خانة خاصة ببيع وشراء الأدوية وكانت بهذا العنوانachat/vente médicaments et traitements a prix pas cher، حيث وجدنا قائمة من الأدوية غير متحصلة على علامةAMM(الأدوية الحاصلة على رخصة التداول في السوق) لكنها تقدم على أنها أدوية للكحة/البرد/..الخ علاوة على بعض المعدات الخاصة بالتقويم.

وللتأكد، قمنا بشراء دواء السعال (الكحة) يحمل العلامة التجارية "triplex" وقد كتب في وصفه أنه دواء يعالج الكحة في فترة قصيرة، يمكن تناوله بداية من عمر الستة أشهر وصالح للأطفال والكبار.

يقول نوفل عميرة رئيس النقابة التونسية لأصحاب الصيدليات الخاصة، في تصريح لـ"الصباح" تعليقا على تنامي ظاهرة بيع وشراء الأدوية بصفة غير قانونية وعبر مسالك التجارة الالكترونية، أن بعض المواقع الإلكترونية أو الصفحات الفايسبوكية تتداول الأدوية الطبية وشبه الطبية بعضها مجهول المصدر، حيث أن المبدأ أن الاختصاص الحصري لبيع هذه الأدوية هي الصيدليات. ويؤكد عميرة على أن النقابة قامت بشكاية جزائية حول هذا الموضوع ولم يتم البت فيها إلى حد هذه اللحظة.

تحصلنا على تقرير طبي صادر عن دكتورة الطب العام جيهان بن جراد، حيث تبين فيه أن مريضة تبلغ من العمر 40 سنة، اقتنت دواء مزيلا للتصبّغات من موقع إلكتروني بعد أن اطلعت على آراء إيجابية في شأنه من بعض من قام باستخدامه.

تقول الدكتورة بن جراد في هذا الإطار:"هذا الدواء الذي استخدمته المريضة لا يباع إلا بالوصفة الطبية من ناحية، وهو دواء مستورد من مخبر مصري غير مصرح به في تونس، من ناحية أخرى، حيث أن المريضة استعملته في المنطقة الحميمية ما سبب لها حروقا جلدية من درجة ثانية، علاوة على العواقب النفسية".

وتابعت:"لا يوجد على الموقع أي تنبيهات أو شروط بخصوص استعمال هذا الدواء".

بدورها، قالت ناجية العلوي وهي تعمل مبنجة بالمستشفى الجهوي بالقصرين:"إن ظاهرة توزيع وبيع الأدوية الطبية وشبه الطبية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت متفاقمة في السنوات الأخيرة في تونس، وهو ما أقرت به وزارة الصحة ونقابة الصيدليات الخاصة، حيث قامت هذه الأخيرة برفع دعاوى قضائية ضد مواقع الكترونية وشركات خاصة لبيع الأدوية الطبية وشبه الطبية".

وتضيف:"حسب إحصائيات قامت بها وزارة الصحة، والصيدلية المركزية فإن من بين أسباب تفاقم هذه الظاهرة هو نقص الأدوية من ناحية، وتدني المقدرة الشرائية للمواطن التونسي من ناحية أخرى حيث لم يعد قادرا على الذهاب للطبيب لمده بالوصفة الطبية".

وتؤكد العلوي أن الدولة تتحمل مسؤولية توزيع الأدوية لأنه اختصاص حصري لها، حيث أن الأدوية المتداولة وغير المرخص لها تعود بالمضرة على مستهلكيها. علاوة على ضرورة توعية المواطن بخطورة هذه الأدوية المتداولة عبر مسالك غير قانونية.

خطر على الصحة العامة

في حوارنا معه، يقول الأستاذ فارس المناعي المحامي لدى الاستئناف، أن ظاهرة تجارة الأدوية بالسوق الموازية وبالأخص عبر صفحات "الفايسبوك" تمثل خطرا على الصحة العامة، كما أن تجارة الأدوية تزدهر خاصة مع نقصها المسجل في المسالك النظامية..

وقال:"إن مسألة عدم قانونية مسالك التوزيع المستندة إلى مواقع التواصل الاجتماعي ثابت ومخالف لأحكام الفصل 2 من قانون 1973 المتعلق بتنظيم مهنة الصيادلة بالإضافة إلى التراتيب المتعلقة بمسالك التوزيع الخاضعة لوزارة التجارة والحاجة اليوم ملحة إلى مزيد عصرنة النظام القانوني من جهة وإحكام منافذ التوزيع من جهة أخرى".

كما ذكّر بأحكام الفصل 31 من قانون المنظم لمهنة الصيدلة في نسخته الأولى أهم ركيزة قانونية حيث نص على أنه:"يحجّر على كل شخص ولو كان محرزا على شهادة الصيدلة بيع الأدوية وعرضها وتوزيعها في الطريق العام وفي الأسواق والغازات غير المخصصة لصيدلة البيع بالتفصيل".

وأشار المنّاعي إلى أن الفصل 31 من قانون1973 حجّر البيع في الأسواق والمغازات ولو من صيدلي، فما بالك بشخص غير صيدلي ويقوم بعرض تلك المواد الكيميائية على صفحات التواصل الاجتماعي بل وفي بعض الحالات نشاهد أشخاص يقومون بالإشهار لتلك المواد في مواقع مثل "الفايسبوك" أو "الإنستغرام" دون أي مرجع طبي أو مستند علمي وذلك فقط لغاية الربح المادي فقط.

كما تبقى العقوبات الزجرية والتأديبية والمدنية قاصرة حيث تبقى منحصرة ونافذة على الصيادلة سواء أمام هيئة الصيادلة أو القضاء العدلي دون وجود نظام قانوني واضح منطبق على غيرهم من الأشخاص حيث يبقى دائما اللجوء إلى نصوص زجرية منها انتحال صفة الصيدلي أو ممارسة الصيدلة دون الشهائد العلمية اللازمة هو المدخل القانوني للوصول إلى العقوبات الجزائية اللازمة خاصة أمام خطورة المواد التي يتم عرضها أساسا في البيع خارج مسالك التوزيع الرسمية بما قد يتسبب في مضار للسلامة الصحية للمواطنين.

ما يمكن الإشارة إليه، في سنة 2018 عرض بعض النواب مقترح قانون عدد 44/2018 المتعلق بتنقيح القانون عدد 55 لسنة 1973 منقحا أحكام الفصل 32 مكرر ليكون كما يلي: "يعاقب بالسجن من شهر إلى تسعة أشهر وخطية مالية من ألف دينار إلى خمسة آلاف دينار أو إحدى العقوبتين كل من يمارس نشاط استغلال المواد الصيدلية؛ باستثناء الأدوية المذكورة في الفصل 101 و102 من قانون 54-69 الصادر بتاريخ 26 جويلية 1969؛ خارج المنشآت المذكورة بالفصل الثاني من هذا القانون".

إلا أن مقترح القانون بقي حبرا على ورق وتبقى إذن المناداة إلى تنقيح القانون ومزيد الإحكام الجزري لهذه الظاهرة ضرورة ملحة اليوم.

مسالك للأدوية.. عبر "الانستغرام"

أثارت المؤثرة عبر منصة "انستغرام" سوسن المصمودي ضجة كبيرة بخصوص موضوع اقتناء الأدوية عبر شبكات مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تتلخص وقائع الحادثة أنها اشترت دواء للتنحيف من موقع عبر منصة تواصل اجتماعي، لكن ما راعها أن هذا الدواء غير فعال ويتم بيعه عبر مسالك غير قانونية ودون رخصة من الطبيب.. والأخطر من ذلك أن كل الذين اشتروا هذا الدواء تزودوا بمضاد اكتئاب، (دون وصفة طبية أو استشارة طبيب متخصص) حسب ما صرحت به المصمودي.

حاولنا مراسلة وزارة الصحة للتثبت من صحة هذه المعلومة علاوة على التأكد من أن هذا الدواء متحصل فعلا على شهادة طبية مصادق عليها من وزارة الصحة أم لا، غير أننا لم نحظ برد أو إجابة.

ورغم تجاهلها لطلب النفاذ إلى المعلومة الأول، إلا أن وزارة الصحة أجابت على مطلب النفاذ الثاني المقدم لها بتاريخ 20 سبتمبر 2023، وذلك بتاريخ 22 نوفمبر 2023 أي بتأخير يناهز الشهرين، وذلك بعد الآجال القانونية المحددة بعشرين يوما وفقا لقانون النفاذ إلى المعلومة المؤرخ في 24 مارس 2016.

غير أن الإجابة لم تكن وفق انتظاراتنا، إذ اكتفت الوزارة برد عام ومقتضب بخصوص طلبنا التعرف على الإجراءات التي تتخذها الوزارة للتصدي للتجارة الموازية للأدوية الطبية وشبه الطبية عبر المواقع الالكترونية، وقالت إنها "تعمل بالتنسيق مع وزارتي الداخلية والتجارة للتصدي لهذه الظاهرة".

في المقابل، كشف العميد شكري الجبري الناطق الرسمي باسم الديوانة لـ"الصباح" في حوارنا معه مفسّرا أسباب تنامي ظاهرة تهريب الأدوية وبيعها في المسالك الموازية، قائلا:"إن الأدوية التي تهرّب هي مثل بقية البضائع، يطمع بها المهرب وذلك لفقدانها من ناحية في السوق التونسية، أو لخضوعها لضرائب مرتفعة عند التوريد. وللإشارة إن توريد الأدوية هو من اختصاص الصيدلية المركزية فقط".

وأضاف:"الديوانة تعطي أهمية مطلقة لمثل هذه البضائع وذلك لأنها تمس من صحة المواطن، حيث تقوم الديوانة بمراقبة المعابر الحدودية من خلال تفتيش المسافرين والشحنات التجارية".

وأشار الجبري إلى أن الأدوية المهربة تختلف أنواعها بين أدوية بيطرية المعدة للحيوانات، أو أدوية خاصة بالمؤثرات عقلية كالحبوب المخدّرة ..الخ.

عموما، تختلف نسب الأدوية المهرّبة حيث ارتفعت عمليات التهريب طيلة فترة انتشار فيروس كورونا وذلك بسبب الاستعمال المكثف للأدوية والمعدات الطبية.

---------------

ممثلة إدارة التفقد الصيدلي بوزارة الصحة

الظاهرة موجودة.. وننسّق مع وزارة الداخلية لمراقبتها

اتصلنا بوزارة الصحة، لتبيان موقفها من انتشار ظاهرة التجارة بالأدوية في السوق السوداء أو عبر التجارة الالكترونية ومعرفة الإجراءات الرقابية والردعية التي اتخذتها للحد منها أو مكافحتها.. كما حاولنا الاتصال بالهيئة الوطنية للصيادلة لنفس الغرض..

وفي هذا الصدد أقرّت الدكتورة ريم فريخة ممثلة إدارة التفقد الصيدلي بوزارة الصحة في حديث لـ"الصباح" أن ظاهرة التجارة بالأدوية بمواقع التواصل الاجتماعي هي فعلا موجودة ومنتشرة..

وكشفت أن التفقد مبدئيا يتجه للمسالك القانونية مثل الهياكل المكلفة بصناعة الدواء وتوزيعه وبيعه، حيث تخضع هذه الهياكل لرقابة روتينية مستمرة.

أما بالنسبة للمسالك غير القانونية، فقالت:" هيكل التفقد الصيدلي ليست له الإمكانيات للتدقيق وراء المواقع الإلكترونية أو الصفحات التي تبيع الدواء عبر شبكات التواصل الاجتماعي". مستدركة بأن وزارة الصحة تعمل بالتنسيق مع بقية الوزارات وخاصة وزارة الداخلية لرصد المخالفات وتتبع المخالفين.

وأوضحت في هذا السياق أن هيكل التفقد بوزارة الصحة "يقوم بمراسلة وزارة الداخلية بعد تلقي تشكيات في بيع الأدوية عبر مسالك غير القانونية، ثم يتم معاينة مصدر بيع الدواء".

وأكدت فريخة أن وزارة الصحة تتجه حاليا لإحداث خلية سريعة وذلك بغاية التقاط مثل هذه الصفحات الالكترونية المشتبه بها بشكل يضمن سرعة التدخل ونجاعته..

وعن طبيعة المخالفات المرصودة أفادت قائلة: "رصدنا مؤخرا صفحة بموقع "فايسبوك" تبيع حليب الرضّع، وتقوم ببيعه بثمن أقل من السوق، وبعد البحث تبين أن الحليب مستورد من الخارج..".

وأوضحت، بعد سؤالنا حول مسألة تهريب الأدوية من المستشفيات وبيعها في السوق السوداء أو خارج تونس، أن هذا التجاوز موجود وهو محور عمل إدارة التفقد الصيدلي بالوزارة، وأكدت على ضرورة توعية المستهلكين بعدم شراء الأدوية إلا من الصيدليات، حيث توجد أدوية غير حاصلة على الرخص القانونية، ويتم تداولها خارج المسالك القانونية من ناحية، محذّرة من بعض الأدوية المعروضة للبيع هي بالأساس مكمّلات غذائية وتسوّق على أنها أدوية، من ناحية أخرى..

تبقى المسؤولية محمولة على سلطات الإشراف كوزارة الصحة ووزارة التجارة لحماية الصحة العامة للمواطنين ومكافحة ظاهرة بيع الأدوية عبر مواقع الكترونية ليس لها علاقة بالمجال الطبي أو شبه الطبي.

*تم إنتاج هذا التحقيق في إطار النسخة الثانية من مشروع أكاديمية الصحافة الاستقصائية لمنظمة المادة 19

 

 

 

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews