إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

مع عرفات .. حب متبادل بين تونس وفلسطين

 

 

كان عرفات يكرر لصحافيي وكالات الإنباء العربية أن الصورة ستظل وردية ومبهرة في قلبه وذهنه وهو يشاهد بورقيبة يهبّ مستقبلا إياهم في عز صيف أوت 1982

بقلم الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة

      عام 1994 كان الزعيم الفلسطيني عرفات فخورا بمنجزه المحدود والرمزي في الإنتقال من المنفى الدائم خارج فلسطين في بيروت أو تونس ، إلى شبر من أرض فلسطين التاريخية في رام الله ، تسمح له على الأقل بإصدار جوازات سفر فلسطينية إلى شعب مشتت كانت تتكرم عليه بذلك البلدان الشقيقة المحيطة بإسرائيل، رغم أن تلك الجوازات تكون حسب ما تحدده سلطات الاحتلال، طبق اتفاقيات أوسلو الخاوية، خواء فؤاد أم موسى.

     ولكن عرفات الذي يطلق عليه لقب "الخِتْيارْ" (العميد)، كان يعتقد ببراغماتيته الفطنة أنها مرحلة من مراحل المرحلية التحريرية التي حصلت بها تونس على استقلالها . ولكن فلسطين ليست تونس، حيث المعطيات الجغراسياسية والدينية والتاريخية المعقدة، تختلف كثيرا عن تونس، وتجعل القوى العظمي في العالم تقف إلى جانب إسرائيل خوفا منها ومن بطش من يقف وراءها، من قوى المال والسياسة والفكر والإعلام والحشد الدولي المتحكم في مصير العالم منذ عقود طويلة إلى حين. وستجد القضية حلا عادلا وسلميا للطرفين، إذا تغيرت التوازنات الدولية وأصبح العالم متعدد الأقطاب في المستقبل المنظور، حيث يصبح لا نصير للظالمين الإسرائيليين في فيتو مجلس الأمن أو في الساحة الدولية الجديدة : عندها يتحقق الحل التاريخي للدولة الواحدة أو للدولتين المتعايشتين بضمانات دولية صادقة وناجزة ، بعيدا عن الابتزاز والتهديد والعدوان وبقايا إفرازات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي لم يكن فيها للعرب والفلسطينيين أي دور في محرقة اليهود التي، على شماعتها وإلى اليوم، عُلّقت السردية التاريخية المضلّلة لتأسيس إسرائيل ونصرتها .

  كان عرفات يكرر لصحافيي وكالات الإنباء العربية في العاصمة التونسية، في تلك السنوات الخوالي للثمانينات من التواجد في تونس بلد الأنس والمحبة والنصرة وقت الشدة، أن الصورة ظلت وردية ومبهرة في قلبه وذهنه وهو يشاهد الرئيس بورقيبة يهبّ مستقبلا لهم في عز صيف أوت 1982 وقد بلغ الثمانين من العمر رفقة زوجته وسيلة بن عمار الملقبة ب"الماجدة" ، التي كانت تحمل القضية الفلسطينية في وجدانها، في حين كان بورقيبة المحامي يؤكد في خطبه ومواقفه، أن القضية الفلسطينية هي القضية التي يحملها في قلبه، كما حمل قضية شعبه التونسي ودافع عنها بكل حماس المرافعة القانونية وكل آليات المقاومة السلمية والمسلحة حتى الاستقلال على مراحل. وكان دعا الفلسطينين في خطاب مشهور في أريحا منذ عام 1965 إلى التعويل على أنفسهم وعلى إمكاناتهم الذاتية وقبول الشرعية الدولية في مرحلة أولى وقرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، رغم صعوبة أو استحالة قبول إسرائيل بذلك بسبب تطرف الإسرائيليين وتطورات الأوضاع الميدانية، وضعف الدول العربية المكبّلة بقرون من الانحطاط الحضاري وعقود من الخضوع للاستعمار. بل إن إسرائيل كانت تخطط في تلك السنة من الخطاب لشن عدوان توسعي شامل نفذته في جوان 1967 واحتلت فيه بسهولة في خمسة أيام أراضي جديدة من فلسطين ومصر(غزة وسيناء) والأردن( الضفة الغربية) وسوريا (الجولان) .

حرية التحرك الإعلامي الفلسطيني

   لقد وفر بورقيبه لضيوفه في تونس كل إمكانيات الحماية والتحرك الإعلامي المستقل لهم. وكان لي كصحفي لوكالة الأنباء التونسية الوطنية شرف تغطية أنشطة منظمة التحرير الفلسطينية بتونس لسنوات عدة من الداسك الإخباري وخارجه ، لفائدة الوكالة ومحاورة قياديين من المنظمة ونقل أنشطة أبو عمار ومختلف لقاءاته الصحفية والندوات التي كان يعقدها للصحفيين العرب المنتدبين بالعاصمة التونسية، عاصمة المنفي المفيد للقضية وتجذيرها في محور البناء الوطني بمختلف تجلياته المستحيلة، أو الممكنة، ودعم الصمود والتصدي ومقاومة عنجهية العدو بالحنكة والرويّة والثبات على المبدإ.

   وكان لي معه حديث صحفي خص به وكالة "وات" على هامش إعلان الدولة الوطنية الفلسطينية في 15 نوفمبر 1988 في الدورة 19 للمجلس الوطني الفلسطيني (البرلمان في المنفى) في العاصمة الجزائرية التي غطيتها كمبعوث خاص لوكالة "وات". وكانت تلك فرصة لمحاورة القيادات التاريخية لمنظمة التحرير الفلسطينية يتقدمهم ياسر عرفات، وأبو إياد، وأبو جهاد، والحكيم جورج حبش الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ونايف حواتمة الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين .. كلهم أيقونات كاريزمية للمقاومة الفلسطينية إن سلما أو حربا.

   وكانت لحظة مميزة في ذلك الاجتماع التاريخي الرمزي لإعلان الدولة الفلسطينية صفقت فيها بحرارة كصحفي ملتزم بالقضية العادلة مع نواب الشعب الفلسطيني الحاضرين. وكانت تغطياتي لوكالة "وات" معبرة عن أجواء النخوة والاعتزاز الفلسطيني السائد في ذلك الاجتماع كمرحلة من مراحل التحرير الحتمي اليوم أو غدا.

في ذلك الاجتماع صفقت بحرارة مع الحاضرين ممثلي الشعب الفلسطيني إيمانا مني بأنها الخطوة الأولى لبناء الدولة الفلسطينية ذات السيادة .

    وهذا الموقف لا يتناقض مع دور الصحفي المطلوب في الحياد والموضوعية. وهو إيمان شخصي ووقوف ملتزم إلى جانب الحق ضد الباطل، وذلك هو الإصطفاف الإيجابي مع الحرص دوما على البحث عن الحقيقة النسبية دوْما . وكانت ترنّ في أذني دوما مقولة الزعيم بورقيبة التي يكرر فيها أن مأساة الشعب الفلسطيني هي " مظلمة القرن العشرين"، والتي كررها بحثا وتحليلا تاريخيا وسياسيا في الخطب التي ألقاها أمام طلبة معهد الصحافة وعلوم الأخبار بتونس منتصف سبعينات القرن الماضي. وكان يستهلّ بها دروس السنة الجامعية بالمعهد متوجها بذلك إلى صحافي الغد، مذكرا الطلبة بأنه استعمل الصحافة وكتابة المقالات الملتزمة لمقارعة المستعمر الفرنسي بسلاح المقاومة الإعلامية لتحسيس الشعب المضطهد بالرهانات التحريرية، وحشد الأصدقاء في الخارج، ومقاومة التضليل الإعلامي الذي يقوم به المستعمر من أجل إدامة وضع الاحتلال.

     كان انحيازي لقضية الشعب المظلوم انحيازا أخلاقيا لدحض الباطل وسرديته الدعائية المغشوشة، التي وجب التصدي لها، إحقاقا للحق، وتكريسا لدور الإعلام في كشف الحقيقة، بالتوازي مع إعلاء شأن السردية الفلسطينية، سردية الحق والمظلومين، الذين لا نصير لهم غير حملة أقلام الحقيقة.

في ذلك الاجتماع التاريخي في عاصمة الجزائر، رمز المقاومة المسلحة للتحرير والانعتاق، عقدت الفصائل المعارضة في بهو قصر الأمم ندوات صحفية عدة لعرض موقفها ومؤاخذاتها على الوثيقة السياسية . وكانت أبرزها الندوة التي عقدها الحكيم جورج حبش الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عبر فيها عن احترازا ته من وثيقة السلام المقترحة على نواب الشعب في المنفي، وهو ما دعا عرفات إلى عقد اجتماعات جانبية ماراتونية مغلقة في قاعات اللجان البرلمانية للإقناع والدفاع عن التوجهات الاستراتيجية للقضية الوطنية، وهي في مفترق الطرق الداخلية والخارجية . وحضرت إحدى تلك الاجتماعات الداخلية، بعد أن جذبني زميلي الصحفي في وكالة الأنباء الفلسطينية للدخول معه بسرعة إلى القاعة قبل أن تغلق الأبواب لتلك الجلسة المغلقة، معتبرا إيّاي صحفيا فلسطينيا له الحق في حضور الجلسات المغلقة، وثقة منه في شخصي للاطلاع على الأسرار الداخلية، كخلفية صحفية، دون كشفها بحثا عن الإثارة والبوز. وفي ذلك الاجتماع الداخلي انطلق عرفات في حِجاجه الإقناعي بكل الوسائل الخطابية والمنطقية والعاطفية والنكات ذات الايحاءات الاجتماعية من أعماق المجتمع الفلسطيني . وكان في ذلك شبيها ببورقيبة الذي نعرفه في تكتيكاته الخطابية . وعرفتُ مجددا وقتها في تلك الجلسة المغلقة، درجة سحر عرفات للقيادات الفلسطينية وقدرته على المناورة وقلب موازين القوى وتوجيه البوصلة داخل الحركة نحو الحل السياسي، مثله مثل الزعيم الحبيب بورقيبة في المواقف التاريخية المصيرية داخل الحزب الدستوري التونسي في معركة التحرير من الاستعمار طويلة النفس مثل مؤتمر صفاقس المصيري لتونس عام 1955. وعكس ذلك اللقاء درجة النقاش الديمقراطي داخل هياكل منظمة التحرير الفلسطينية الأهلية والحزبية والتشريعية، بما يمثل انطلاق ربيع ديمقراطي فلسطيني في تلك السنة ستعرف مثله الدول العربية، مع إطلالة عام 1988 ، بعضها سينجح والبعض الأخر سيكْبو ويترنح ويتحول إلى عشرية سوداء دموية في عشرية لاحقة تستهدف تخريب وإضعاف الدول المحيطة بإسرائيل وتقليم أظافرها، مقابل، تقوية إسرائيل، في ربيع ديمقراطي عَربي عِبري غَربي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مع عرفات .. حب متبادل بين تونس وفلسطين

 

 

كان عرفات يكرر لصحافيي وكالات الإنباء العربية أن الصورة ستظل وردية ومبهرة في قلبه وذهنه وهو يشاهد بورقيبة يهبّ مستقبلا إياهم في عز صيف أوت 1982

بقلم الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة

      عام 1994 كان الزعيم الفلسطيني عرفات فخورا بمنجزه المحدود والرمزي في الإنتقال من المنفى الدائم خارج فلسطين في بيروت أو تونس ، إلى شبر من أرض فلسطين التاريخية في رام الله ، تسمح له على الأقل بإصدار جوازات سفر فلسطينية إلى شعب مشتت كانت تتكرم عليه بذلك البلدان الشقيقة المحيطة بإسرائيل، رغم أن تلك الجوازات تكون حسب ما تحدده سلطات الاحتلال، طبق اتفاقيات أوسلو الخاوية، خواء فؤاد أم موسى.

     ولكن عرفات الذي يطلق عليه لقب "الخِتْيارْ" (العميد)، كان يعتقد ببراغماتيته الفطنة أنها مرحلة من مراحل المرحلية التحريرية التي حصلت بها تونس على استقلالها . ولكن فلسطين ليست تونس، حيث المعطيات الجغراسياسية والدينية والتاريخية المعقدة، تختلف كثيرا عن تونس، وتجعل القوى العظمي في العالم تقف إلى جانب إسرائيل خوفا منها ومن بطش من يقف وراءها، من قوى المال والسياسة والفكر والإعلام والحشد الدولي المتحكم في مصير العالم منذ عقود طويلة إلى حين. وستجد القضية حلا عادلا وسلميا للطرفين، إذا تغيرت التوازنات الدولية وأصبح العالم متعدد الأقطاب في المستقبل المنظور، حيث يصبح لا نصير للظالمين الإسرائيليين في فيتو مجلس الأمن أو في الساحة الدولية الجديدة : عندها يتحقق الحل التاريخي للدولة الواحدة أو للدولتين المتعايشتين بضمانات دولية صادقة وناجزة ، بعيدا عن الابتزاز والتهديد والعدوان وبقايا إفرازات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي لم يكن فيها للعرب والفلسطينيين أي دور في محرقة اليهود التي، على شماعتها وإلى اليوم، عُلّقت السردية التاريخية المضلّلة لتأسيس إسرائيل ونصرتها .

  كان عرفات يكرر لصحافيي وكالات الإنباء العربية في العاصمة التونسية، في تلك السنوات الخوالي للثمانينات من التواجد في تونس بلد الأنس والمحبة والنصرة وقت الشدة، أن الصورة ظلت وردية ومبهرة في قلبه وذهنه وهو يشاهد الرئيس بورقيبة يهبّ مستقبلا لهم في عز صيف أوت 1982 وقد بلغ الثمانين من العمر رفقة زوجته وسيلة بن عمار الملقبة ب"الماجدة" ، التي كانت تحمل القضية الفلسطينية في وجدانها، في حين كان بورقيبة المحامي يؤكد في خطبه ومواقفه، أن القضية الفلسطينية هي القضية التي يحملها في قلبه، كما حمل قضية شعبه التونسي ودافع عنها بكل حماس المرافعة القانونية وكل آليات المقاومة السلمية والمسلحة حتى الاستقلال على مراحل. وكان دعا الفلسطينين في خطاب مشهور في أريحا منذ عام 1965 إلى التعويل على أنفسهم وعلى إمكاناتهم الذاتية وقبول الشرعية الدولية في مرحلة أولى وقرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، رغم صعوبة أو استحالة قبول إسرائيل بذلك بسبب تطرف الإسرائيليين وتطورات الأوضاع الميدانية، وضعف الدول العربية المكبّلة بقرون من الانحطاط الحضاري وعقود من الخضوع للاستعمار. بل إن إسرائيل كانت تخطط في تلك السنة من الخطاب لشن عدوان توسعي شامل نفذته في جوان 1967 واحتلت فيه بسهولة في خمسة أيام أراضي جديدة من فلسطين ومصر(غزة وسيناء) والأردن( الضفة الغربية) وسوريا (الجولان) .

حرية التحرك الإعلامي الفلسطيني

   لقد وفر بورقيبه لضيوفه في تونس كل إمكانيات الحماية والتحرك الإعلامي المستقل لهم. وكان لي كصحفي لوكالة الأنباء التونسية الوطنية شرف تغطية أنشطة منظمة التحرير الفلسطينية بتونس لسنوات عدة من الداسك الإخباري وخارجه ، لفائدة الوكالة ومحاورة قياديين من المنظمة ونقل أنشطة أبو عمار ومختلف لقاءاته الصحفية والندوات التي كان يعقدها للصحفيين العرب المنتدبين بالعاصمة التونسية، عاصمة المنفي المفيد للقضية وتجذيرها في محور البناء الوطني بمختلف تجلياته المستحيلة، أو الممكنة، ودعم الصمود والتصدي ومقاومة عنجهية العدو بالحنكة والرويّة والثبات على المبدإ.

   وكان لي معه حديث صحفي خص به وكالة "وات" على هامش إعلان الدولة الوطنية الفلسطينية في 15 نوفمبر 1988 في الدورة 19 للمجلس الوطني الفلسطيني (البرلمان في المنفى) في العاصمة الجزائرية التي غطيتها كمبعوث خاص لوكالة "وات". وكانت تلك فرصة لمحاورة القيادات التاريخية لمنظمة التحرير الفلسطينية يتقدمهم ياسر عرفات، وأبو إياد، وأبو جهاد، والحكيم جورج حبش الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ونايف حواتمة الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين .. كلهم أيقونات كاريزمية للمقاومة الفلسطينية إن سلما أو حربا.

   وكانت لحظة مميزة في ذلك الاجتماع التاريخي الرمزي لإعلان الدولة الفلسطينية صفقت فيها بحرارة كصحفي ملتزم بالقضية العادلة مع نواب الشعب الفلسطيني الحاضرين. وكانت تغطياتي لوكالة "وات" معبرة عن أجواء النخوة والاعتزاز الفلسطيني السائد في ذلك الاجتماع كمرحلة من مراحل التحرير الحتمي اليوم أو غدا.

في ذلك الاجتماع صفقت بحرارة مع الحاضرين ممثلي الشعب الفلسطيني إيمانا مني بأنها الخطوة الأولى لبناء الدولة الفلسطينية ذات السيادة .

    وهذا الموقف لا يتناقض مع دور الصحفي المطلوب في الحياد والموضوعية. وهو إيمان شخصي ووقوف ملتزم إلى جانب الحق ضد الباطل، وذلك هو الإصطفاف الإيجابي مع الحرص دوما على البحث عن الحقيقة النسبية دوْما . وكانت ترنّ في أذني دوما مقولة الزعيم بورقيبة التي يكرر فيها أن مأساة الشعب الفلسطيني هي " مظلمة القرن العشرين"، والتي كررها بحثا وتحليلا تاريخيا وسياسيا في الخطب التي ألقاها أمام طلبة معهد الصحافة وعلوم الأخبار بتونس منتصف سبعينات القرن الماضي. وكان يستهلّ بها دروس السنة الجامعية بالمعهد متوجها بذلك إلى صحافي الغد، مذكرا الطلبة بأنه استعمل الصحافة وكتابة المقالات الملتزمة لمقارعة المستعمر الفرنسي بسلاح المقاومة الإعلامية لتحسيس الشعب المضطهد بالرهانات التحريرية، وحشد الأصدقاء في الخارج، ومقاومة التضليل الإعلامي الذي يقوم به المستعمر من أجل إدامة وضع الاحتلال.

     كان انحيازي لقضية الشعب المظلوم انحيازا أخلاقيا لدحض الباطل وسرديته الدعائية المغشوشة، التي وجب التصدي لها، إحقاقا للحق، وتكريسا لدور الإعلام في كشف الحقيقة، بالتوازي مع إعلاء شأن السردية الفلسطينية، سردية الحق والمظلومين، الذين لا نصير لهم غير حملة أقلام الحقيقة.

في ذلك الاجتماع التاريخي في عاصمة الجزائر، رمز المقاومة المسلحة للتحرير والانعتاق، عقدت الفصائل المعارضة في بهو قصر الأمم ندوات صحفية عدة لعرض موقفها ومؤاخذاتها على الوثيقة السياسية . وكانت أبرزها الندوة التي عقدها الحكيم جورج حبش الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عبر فيها عن احترازا ته من وثيقة السلام المقترحة على نواب الشعب في المنفي، وهو ما دعا عرفات إلى عقد اجتماعات جانبية ماراتونية مغلقة في قاعات اللجان البرلمانية للإقناع والدفاع عن التوجهات الاستراتيجية للقضية الوطنية، وهي في مفترق الطرق الداخلية والخارجية . وحضرت إحدى تلك الاجتماعات الداخلية، بعد أن جذبني زميلي الصحفي في وكالة الأنباء الفلسطينية للدخول معه بسرعة إلى القاعة قبل أن تغلق الأبواب لتلك الجلسة المغلقة، معتبرا إيّاي صحفيا فلسطينيا له الحق في حضور الجلسات المغلقة، وثقة منه في شخصي للاطلاع على الأسرار الداخلية، كخلفية صحفية، دون كشفها بحثا عن الإثارة والبوز. وفي ذلك الاجتماع الداخلي انطلق عرفات في حِجاجه الإقناعي بكل الوسائل الخطابية والمنطقية والعاطفية والنكات ذات الايحاءات الاجتماعية من أعماق المجتمع الفلسطيني . وكان في ذلك شبيها ببورقيبة الذي نعرفه في تكتيكاته الخطابية . وعرفتُ مجددا وقتها في تلك الجلسة المغلقة، درجة سحر عرفات للقيادات الفلسطينية وقدرته على المناورة وقلب موازين القوى وتوجيه البوصلة داخل الحركة نحو الحل السياسي، مثله مثل الزعيم الحبيب بورقيبة في المواقف التاريخية المصيرية داخل الحزب الدستوري التونسي في معركة التحرير من الاستعمار طويلة النفس مثل مؤتمر صفاقس المصيري لتونس عام 1955. وعكس ذلك اللقاء درجة النقاش الديمقراطي داخل هياكل منظمة التحرير الفلسطينية الأهلية والحزبية والتشريعية، بما يمثل انطلاق ربيع ديمقراطي فلسطيني في تلك السنة ستعرف مثله الدول العربية، مع إطلالة عام 1988 ، بعضها سينجح والبعض الأخر سيكْبو ويترنح ويتحول إلى عشرية سوداء دموية في عشرية لاحقة تستهدف تخريب وإضعاف الدول المحيطة بإسرائيل وتقليم أظافرها، مقابل، تقوية إسرائيل، في ربيع ديمقراطي عَربي عِبري غَربي.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews