إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

بورتريه: عرفات ورحلة البحث عن السلام المفقود

 

 

في حرب الصورة والقلم جعل عرفات من الكوفية الفلسطينية التي كان يلبسها طيلة حياته تعبيرا عن الهوية الفلسطينية أمام العالم

بقلم الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة

    يمثل الزعيم ياسر عرفات رمز فلسطين المكافحة بمختلف أنواع العمل السياسي والعسكري الثوري، ربط حياته بواقع ومستقبل فلسطين التي فداها بروحه، وانتهى بشرف الخالدين، ميّتا مسموما بمادة البولونيوم المشع في بلاد الغربة، في إحدى مصحات العاصمة الفرنسية التي نقل إليها لمعالجة التسمم الذي زرعه العدو في عروقه وأنسجته، كما زُرع الاحتلال الإسرائيلي في جسد فلسطين منذ عام 1948.

    لقد توفي عام 2005، دون أن يتمكن من تحقيق السلام والدولة الفلسطينية كاملة السيادة، التي حلم بها وعمل من أجلها منذ 1965 ، إلى جانب إسرائيل مسالمة اعترف بها. ولكن النزعة العدوانية التوسعية الإسرائيلية قضت على الحلم الذي راوده مع الإسرائيلي إسحاق رابين الذي وقع معه اتفاق السلام في أوسلو عام 1993، وهو الاتفاق الذي تم هدمه على مراحل بمعاول المتطرفين الإسرائيليين الذين ظلوا يقضمون، كما في بداية تكوين إسرائيل، أراضي الفلسطينيين.

   منذ البداية بادر عرفات في 28 ماي 1964 بالقدس، بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لتكون ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، لمواجهة التجاذبات الداخلية والإقليمية والدولية المسلطة على شعب فلسطين. وكانت تضم فصائل عدة على رأسها حركة "فتح" (وسط يمين) التي يرأسها عرفات والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين برئاسة جورج حبش (يسار) والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين برئاسة نايف حواتمة (قومي يساري). وضمنت بذلك تعددية المشهد السياسي الفلسطيني .

   لقد كانت منظمة التحرير التي تضم أيضا برلمانا في المنفى ( المجلس الوطني الفلسطيني) الإطار القانوني الذي أصبح يمثل الشعب الفلسطيني . وقد صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 نوفمبر 1974 على منح منظمة التحرير صفة مراقب في الأمم المتحدة . وألقى عرفات بتلك الصفة خطابه الشهير في الأمم المتحدة وهو يحمل غصن زيتون أمام المجموعة الدولية، داعيا إلى حل سلمي للقضية طبق قرارات الشرعية الدولية والأمم المتحدة، مخاطبا رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة النمساوي كورت فالدْهايم، بقوله :" جئتكم سيادة الرئيس بغصن الزيتون في يدي، وببندقية الثائر في يدي. فلا تسقط الغصن الأخضر من يدي".

وفي حرب الصورة والقلم جعل عرفات من الكوفية الفلسطينية التي كان يلبسها طيلة حياته تعبيرا عن الهوية الفلسطينية أمام العالم، والتي تريد إسرائيل وحلفاؤها من الأوروبيين والأمريكان فسخها وطمسها بكل الوسائل. وكان يتفنن في اللقاءات والندوات الصحفية التي يعقدها، في تعهد تلك الكوفية بالضبط والاستواء بترتيبها الهندسي في شكل ثلاثي الأطراف فوق الجبين جاعلا منها أداة إزالة الحرج ومقاومة التوتر في مواجهة الصحافة ووسائل الإعلام المتنمرة به في العديد من اللقاءات الصحفية . وقد جعل منها عرفات روحا ثورية ملهمة في زمن الصورة، تُنبِئ عن شخصية كاريزماتية للابسها الأنيق المتفنّن دوما في تهذيبها، حتى لا تؤخذ منها صورة من طرف صحفي متربص ومتحرش به يريد صورة تظهر فيها الكوفية الفلسطينية مبعثرة أو فوضوية الشكل غير مضبوطة، كحال الوضع أحيانا داخل فتح أو منظمة التحرير الفلسطيني. وفي نظر كثيرين من خبراء الصورة والاتصال، فقد تمكن عرفات بذلك في حرب الصورة الإعلامية ، من إزاحة الصور الأيقونية التي روجتها الحركة الصهيونية لمؤسسي دولة إسرائيل وهم غولدا مايير، كامرأة حديدية هزمت القادة "الرجال" من العرب، أو دافيد بن غوريون، كداعية يختبئ وراء شعر كثّ لدماغ مفكّر عبقري بشكل فيلسوف فوضوي، مثل تلك الصورة التي جمعته مع عالم الفيزياء ألبارت أينشتاين، صاحب الصور الفوضوية حد الجنون العبقري، والتي تعج بها الموسوعة العالمية لشبكة الانترنات.

سلام أوسلو ولد ميتا

    لقد سهر عرفات على تعهد المسار السلمي الذي أطلقه بعد سنوات من الأخذ والردّ وبدء المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والأمريكي في تونس، ثم بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وتم التوقيع على اتفاقات السلام بأوسلو. ولكن ذلك الاتفاق لعام 1993 ولد ميتا، رغم ضمانات أمريكا بقيادة الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، الذي جمع في صورة تذكارية احتفائية في أوسلو، كلاّ من الرئيس الفلسطيني عرفات الذي سيموت مسموما من الإسرائيليين، ورئيس الحكومة الإسرائيلية إسحاق رابين، الذي سيموت مقتولا من طرف أحد المتطرفين الإسرائيليين المناهضين للسلام ومن دعاة الحرب والإبادة الجماعية .

    وبموجب ذلك الاتفاق عاد عرفات إلى فلسطين المحتلة في مدينة رام الله، مقر السلطة الوطنية الفتية المهداة على طبق من ذهب مغشوش. ولكن العقبات والخداع الإسرائيلي كان في انتظاره، حيث حوصرت سلطته الشكلية من طرف السلطات الإسرائيلية التي ظلت تتحرش به وبسلطته المتواضعة وتتوسع في بناء المستوطنات، خلافا لاتفاق السلام الذي هلّل له العالم . ولم تجرؤ أيّ من الدول الكبرى الراعية للاتفاق، أن تخالف إسرائيل أو تردعها أو تدعوها إلى احترام الاتفاقات الموقعة .

   كانت سنواته الأخيرة بعد العودة من تونس وانتصابه في رام الله المحاصرة، فصلا أخر من مأساته الطويلة، طول مأساة شعبه . فقد تحول الأمل في دولة فلسطينية إلى سراب خُلّب وكان أقسى من المنفى، ومن حصار بيروت، حيث كان يعيش والمصفحات الإسرائيلية تحاصر مقر الرئاسة الشرفية لأكثر من ثلاث سنوات . ذاق عرفات الويلات وتجرع مرارة الخيبات والعزلة بسبب الحصار الذي فرضه عليه وزير الحرب أريال شارون الذي كان لاحقه حتى بيروت كمصاص دماء "نُوسْفِيرَاتُو" وحاصره هناك في صيف 1982. ولكنه أفلت من قبضته ولجأ إلى تونس بضمانات دولية عظمى، عبَر فيها مقاتلوه الألف البحر على مراكب كانت انطلقت من بيروت نحو تونس الفينيقية المضيافة ، وأرست في ميناء بنزرت تحت حماية القوة متعددة الجنسيات وقطع بحرية فرنسية .

   كان عرفات في ذلك الحصار والمنفى، خارج فلسطين وداخلها، يصرح للصحافيين الأجانب القلائل الذين يستقبلهم في رام الله، تحت المراقبة الأمنية الإسرائيلية، أن مراهنته على السلام فشلت، وأن الباب مفتوح على مصراعيه أمام المقاومة المسلحة لاسترداد الحقوق المغتصبة.

لقد قضى حياته الممتدة من 1929 إلى 2004 في قلب معترك الحياة السياسية والدبلوماسية الدولية وفي دروب المقاومة والتصدي للعدو في أكثر من خندق قتالي.

   خلال إقامته في تونس إلى جانب القيادة الفلسطينية من 1982، تاريخ إجلائها عن بيروت، ظل الرئيس عرفات يؤكد في تصريحاته ومواقفه، أنه والقيادة الفلسطينية تعلموا الدرس من الزعيم الحبيب بورقيبة وخبروا معنى المرحلية في العمل السياسي والكفاح القتالي بالتوازي، حتى تحقيق الأهداف، مع التقاط فرص التحولات الدولية والإقليمية وقراءتها جيدا بمنظار مصالح الشعب والوطن . ولكنه كان يكرر أن بورقيبة "وجد في مرحليّته التكتيكية، مفاوضا شجاعا في فرنسا الاستعمارية وهو الجنرال ديغول. ونحن نبحث عن محاورين شجعان تفتقدهم، للأسف ، الطبقة السياسية الإسرائيلية المنغلقة على نفسها بأوهامها ".

    كما كان يكرر لَنَا، مندوبو الصحافة الوطنية والعالمية المعتمدون في تونس، في خاتمة لقاءاته الصحفية معنا ، تلك العبارة الشهيرة لديه، وهي أن فلسطين تبقى " الرقم الصعب في المعادلة السياسية بالشرق الأوسط"، ومُلوّحا أيضا بمقولته الشهيرة الأخرى التي يقول فيها، في كل مرة تضيق به السبل وتُسدّ أمامه المنافذ، ويتكالب عليه الأعداء من الأصدقاء والأشقاء " إن الشعب الفلسطيني ، شعب الجبّارين، عصِيٌّ على كل المؤامرات ومحاولات الاحتواء ". وكان يكرر في كل المحن التي مرّ بها، أن صمود الشعب الفلسطيني الأسطوري هو الأمل المتجدد في بناء الدولة المستقلة الكاملة، وهو الخزان الذي منه تتغذى حركة المقاومة الوطنية "وليس لنا غير الصمود لتغيير المعادلات، مع الحرص على متابعة التغيرات الدولية لفائدة الشعب الفلسطيني في الراهن والمستقبل، وخاصة تصاعد مظاهر التضامن الدولي مع القضية العادلة للشعب الفلسطيني، ووصول العدو إلى حالة من الغثيان والتطرف، المؤدية إلى العزلة الإقليمية والدولية، بعد كل عدوان يشنه على شعبنا في فلسطين".

 

 

 

 

 

 

 بورتريه: عرفات ورحلة البحث عن السلام المفقود

 

 

في حرب الصورة والقلم جعل عرفات من الكوفية الفلسطينية التي كان يلبسها طيلة حياته تعبيرا عن الهوية الفلسطينية أمام العالم

بقلم الصحراوي قمعون

صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة

    يمثل الزعيم ياسر عرفات رمز فلسطين المكافحة بمختلف أنواع العمل السياسي والعسكري الثوري، ربط حياته بواقع ومستقبل فلسطين التي فداها بروحه، وانتهى بشرف الخالدين، ميّتا مسموما بمادة البولونيوم المشع في بلاد الغربة، في إحدى مصحات العاصمة الفرنسية التي نقل إليها لمعالجة التسمم الذي زرعه العدو في عروقه وأنسجته، كما زُرع الاحتلال الإسرائيلي في جسد فلسطين منذ عام 1948.

    لقد توفي عام 2005، دون أن يتمكن من تحقيق السلام والدولة الفلسطينية كاملة السيادة، التي حلم بها وعمل من أجلها منذ 1965 ، إلى جانب إسرائيل مسالمة اعترف بها. ولكن النزعة العدوانية التوسعية الإسرائيلية قضت على الحلم الذي راوده مع الإسرائيلي إسحاق رابين الذي وقع معه اتفاق السلام في أوسلو عام 1993، وهو الاتفاق الذي تم هدمه على مراحل بمعاول المتطرفين الإسرائيليين الذين ظلوا يقضمون، كما في بداية تكوين إسرائيل، أراضي الفلسطينيين.

   منذ البداية بادر عرفات في 28 ماي 1964 بالقدس، بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لتكون ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني، لمواجهة التجاذبات الداخلية والإقليمية والدولية المسلطة على شعب فلسطين. وكانت تضم فصائل عدة على رأسها حركة "فتح" (وسط يمين) التي يرأسها عرفات والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين برئاسة جورج حبش (يسار) والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين برئاسة نايف حواتمة (قومي يساري). وضمنت بذلك تعددية المشهد السياسي الفلسطيني .

   لقد كانت منظمة التحرير التي تضم أيضا برلمانا في المنفى ( المجلس الوطني الفلسطيني) الإطار القانوني الذي أصبح يمثل الشعب الفلسطيني . وقد صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 نوفمبر 1974 على منح منظمة التحرير صفة مراقب في الأمم المتحدة . وألقى عرفات بتلك الصفة خطابه الشهير في الأمم المتحدة وهو يحمل غصن زيتون أمام المجموعة الدولية، داعيا إلى حل سلمي للقضية طبق قرارات الشرعية الدولية والأمم المتحدة، مخاطبا رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة النمساوي كورت فالدْهايم، بقوله :" جئتكم سيادة الرئيس بغصن الزيتون في يدي، وببندقية الثائر في يدي. فلا تسقط الغصن الأخضر من يدي".

وفي حرب الصورة والقلم جعل عرفات من الكوفية الفلسطينية التي كان يلبسها طيلة حياته تعبيرا عن الهوية الفلسطينية أمام العالم، والتي تريد إسرائيل وحلفاؤها من الأوروبيين والأمريكان فسخها وطمسها بكل الوسائل. وكان يتفنن في اللقاءات والندوات الصحفية التي يعقدها، في تعهد تلك الكوفية بالضبط والاستواء بترتيبها الهندسي في شكل ثلاثي الأطراف فوق الجبين جاعلا منها أداة إزالة الحرج ومقاومة التوتر في مواجهة الصحافة ووسائل الإعلام المتنمرة به في العديد من اللقاءات الصحفية . وقد جعل منها عرفات روحا ثورية ملهمة في زمن الصورة، تُنبِئ عن شخصية كاريزماتية للابسها الأنيق المتفنّن دوما في تهذيبها، حتى لا تؤخذ منها صورة من طرف صحفي متربص ومتحرش به يريد صورة تظهر فيها الكوفية الفلسطينية مبعثرة أو فوضوية الشكل غير مضبوطة، كحال الوضع أحيانا داخل فتح أو منظمة التحرير الفلسطيني. وفي نظر كثيرين من خبراء الصورة والاتصال، فقد تمكن عرفات بذلك في حرب الصورة الإعلامية ، من إزاحة الصور الأيقونية التي روجتها الحركة الصهيونية لمؤسسي دولة إسرائيل وهم غولدا مايير، كامرأة حديدية هزمت القادة "الرجال" من العرب، أو دافيد بن غوريون، كداعية يختبئ وراء شعر كثّ لدماغ مفكّر عبقري بشكل فيلسوف فوضوي، مثل تلك الصورة التي جمعته مع عالم الفيزياء ألبارت أينشتاين، صاحب الصور الفوضوية حد الجنون العبقري، والتي تعج بها الموسوعة العالمية لشبكة الانترنات.

سلام أوسلو ولد ميتا

    لقد سهر عرفات على تعهد المسار السلمي الذي أطلقه بعد سنوات من الأخذ والردّ وبدء المفاوضات بين الجانبين الفلسطيني والأمريكي في تونس، ثم بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي. وتم التوقيع على اتفاقات السلام بأوسلو. ولكن ذلك الاتفاق لعام 1993 ولد ميتا، رغم ضمانات أمريكا بقيادة الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون، الذي جمع في صورة تذكارية احتفائية في أوسلو، كلاّ من الرئيس الفلسطيني عرفات الذي سيموت مسموما من الإسرائيليين، ورئيس الحكومة الإسرائيلية إسحاق رابين، الذي سيموت مقتولا من طرف أحد المتطرفين الإسرائيليين المناهضين للسلام ومن دعاة الحرب والإبادة الجماعية .

    وبموجب ذلك الاتفاق عاد عرفات إلى فلسطين المحتلة في مدينة رام الله، مقر السلطة الوطنية الفتية المهداة على طبق من ذهب مغشوش. ولكن العقبات والخداع الإسرائيلي كان في انتظاره، حيث حوصرت سلطته الشكلية من طرف السلطات الإسرائيلية التي ظلت تتحرش به وبسلطته المتواضعة وتتوسع في بناء المستوطنات، خلافا لاتفاق السلام الذي هلّل له العالم . ولم تجرؤ أيّ من الدول الكبرى الراعية للاتفاق، أن تخالف إسرائيل أو تردعها أو تدعوها إلى احترام الاتفاقات الموقعة .

   كانت سنواته الأخيرة بعد العودة من تونس وانتصابه في رام الله المحاصرة، فصلا أخر من مأساته الطويلة، طول مأساة شعبه . فقد تحول الأمل في دولة فلسطينية إلى سراب خُلّب وكان أقسى من المنفى، ومن حصار بيروت، حيث كان يعيش والمصفحات الإسرائيلية تحاصر مقر الرئاسة الشرفية لأكثر من ثلاث سنوات . ذاق عرفات الويلات وتجرع مرارة الخيبات والعزلة بسبب الحصار الذي فرضه عليه وزير الحرب أريال شارون الذي كان لاحقه حتى بيروت كمصاص دماء "نُوسْفِيرَاتُو" وحاصره هناك في صيف 1982. ولكنه أفلت من قبضته ولجأ إلى تونس بضمانات دولية عظمى، عبَر فيها مقاتلوه الألف البحر على مراكب كانت انطلقت من بيروت نحو تونس الفينيقية المضيافة ، وأرست في ميناء بنزرت تحت حماية القوة متعددة الجنسيات وقطع بحرية فرنسية .

   كان عرفات في ذلك الحصار والمنفى، خارج فلسطين وداخلها، يصرح للصحافيين الأجانب القلائل الذين يستقبلهم في رام الله، تحت المراقبة الأمنية الإسرائيلية، أن مراهنته على السلام فشلت، وأن الباب مفتوح على مصراعيه أمام المقاومة المسلحة لاسترداد الحقوق المغتصبة.

لقد قضى حياته الممتدة من 1929 إلى 2004 في قلب معترك الحياة السياسية والدبلوماسية الدولية وفي دروب المقاومة والتصدي للعدو في أكثر من خندق قتالي.

   خلال إقامته في تونس إلى جانب القيادة الفلسطينية من 1982، تاريخ إجلائها عن بيروت، ظل الرئيس عرفات يؤكد في تصريحاته ومواقفه، أنه والقيادة الفلسطينية تعلموا الدرس من الزعيم الحبيب بورقيبة وخبروا معنى المرحلية في العمل السياسي والكفاح القتالي بالتوازي، حتى تحقيق الأهداف، مع التقاط فرص التحولات الدولية والإقليمية وقراءتها جيدا بمنظار مصالح الشعب والوطن . ولكنه كان يكرر أن بورقيبة "وجد في مرحليّته التكتيكية، مفاوضا شجاعا في فرنسا الاستعمارية وهو الجنرال ديغول. ونحن نبحث عن محاورين شجعان تفتقدهم، للأسف ، الطبقة السياسية الإسرائيلية المنغلقة على نفسها بأوهامها ".

    كما كان يكرر لَنَا، مندوبو الصحافة الوطنية والعالمية المعتمدون في تونس، في خاتمة لقاءاته الصحفية معنا ، تلك العبارة الشهيرة لديه، وهي أن فلسطين تبقى " الرقم الصعب في المعادلة السياسية بالشرق الأوسط"، ومُلوّحا أيضا بمقولته الشهيرة الأخرى التي يقول فيها، في كل مرة تضيق به السبل وتُسدّ أمامه المنافذ، ويتكالب عليه الأعداء من الأصدقاء والأشقاء " إن الشعب الفلسطيني ، شعب الجبّارين، عصِيٌّ على كل المؤامرات ومحاولات الاحتواء ". وكان يكرر في كل المحن التي مرّ بها، أن صمود الشعب الفلسطيني الأسطوري هو الأمل المتجدد في بناء الدولة المستقلة الكاملة، وهو الخزان الذي منه تتغذى حركة المقاومة الوطنية "وليس لنا غير الصمود لتغيير المعادلات، مع الحرص على متابعة التغيرات الدولية لفائدة الشعب الفلسطيني في الراهن والمستقبل، وخاصة تصاعد مظاهر التضامن الدولي مع القضية العادلة للشعب الفلسطيني، ووصول العدو إلى حالة من الغثيان والتطرف، المؤدية إلى العزلة الإقليمية والدولية، بعد كل عدوان يشنه على شعبنا في فلسطين".