-القطاع الخاص في الصحة والتعليم والنقل بشكله الحالي يستنزف ميزانية المواطن ولا يقدم دائما الحلول الناجعة
تونس- الصباح
راهن جيل الاستقلال على قطاعات حيوية خصص لها الإمكانيات والاعتمادات والكفاءات وحقق المجتمع بفضلها نقلة نوعية مكنته من الخروج من حالته البائسة التي خلفتها السنوات الطويلة للاستعمار الفرنسي وفتحت أمامه باب الأمل للانخراط في حياة متطورة تليق بالمجتمعات العصرية.
هذه القطاعات هي الصحة العمومية والتعليم العمومي والنقل العمومي، وقد راهنت الدولة التونسية الفتية على الكفاءات الوطنية لتقديم الخدمات الضرورية للمواطن في المجالات المذكورة لتهيئته للمساهمة في بناء البلاد. وفعلا لقد قد مثلت القطاعات الثلاثة في مرحلة من مراحل تاريخ تونس المعاصر نقطة قوة البلاد. فقد كان المواطن التونسي يستفيد جيدا من خدمات الصحة والنقل التي اعتمد فيها وفق الملاحظين على تعريفات مدروسة ومن خدمات التعليم العمومي المجاني. لكن المفارقة العجيبة التي نعيشها اليوم هو أن ارتفاع تكاليف تعريفة النقل العمومي وربما بشكل يفوق قدرة المواطن على مجابهتها لم يقابله تطور للخدمات.
وقد اختزل رئيس الجمهورية قيس سعيد لدى زيارته يوم الثلاثاء الماضي الى مستودع القطارات بجبل الجلود بالعاصمة والى محطة المترو الخفيف بتونس البحرية (العاصمة) الوضعية بقوله "أن المواطنين يعانون من أجل التنقل ومنهم من يغادر بيته قبل ثلاث ساعات أو أكثر للحصول على وسيلة نقل، وإن كان محظوظا ووجدها فهو يتنقل في ظروف غير إنسانية".
نعم إن المواطن التونسي من مستعملي النقل العمومي يتنقل في ظروف لا إنسانية من حيث الازدحام والحالة الرثة لوسائل النقل وكثرة الانتظار وما يخلفه ذلك من توتر وإرهاق.
نفس الوضعية يمكن أن تنطبق على الصحة العمومية فقد تراجعت الخدمات بشكل مهول ولم يعد بإمكان المواطن متوسط الحال كي نقول لا نقول المواطن الفقير، الحصول على أبسط حقوقه إلا بعد عناء نظرا لتردي وضع المستشفيات العمومية والهياكل الصحية العمومية. ولا يختلف حال المدرسة العمومية كثيرا بعد تراجع التعليم العمومي الذي بات تهجره العائلات لصالح المؤسسات الخاصة رغم كلفتها العالية وقد لا نبالغ عندما نقول إن وضع مدارسنا ومعاهدنا العمومية اليوم وهي التي تخرجت منها أهم الكفاءات التي ساعدت في بناء الدولة، محزن، بسبب الفقر والتخلف وتراجع المستوى حتى أن محيط المدرسة العمومية لم يعد آمنا وصارت العديد من المدارس مسرحا للعنف والحوادث الغريبة.
النقل العمومي قضية وطن
وبما أن الحدث هذه الأيام هو قطاع النقل بعد الزيارة المذكورة وإقالة وزير النقل، نشير إلى أن إصلاح النقل العمومي المتهالك ليس شأن وزير أو مسؤولين لوحدهم وإنما القضية قضية وطن. فالنقل العمومي تضرر كثيرا من تراكم المشاكل التي من بينها ما هو مترسب وعميق مثل السلوكيات القطاعية التي أثرت سلبا على الأجيال المتعاقبة من أبناء القطاع، كما انه عانى طويلا من موروث ثقافي يتعامل بدونية مع الملك العمومي. فمستعمل النقل العمومي الذي هو المواطن بدرجة أولى لا يتردد في إتلاف وسائل النقل تحت تأثير الغضب أو بغاية التعبير عن الرفض وأحيانا لمجرد الرغبة في التنكيل بالملك العمومي متناسيا أن وسائل النقل تقتنى بالأساس من أموال دافعي الضرائب.
صحيح، يحتاج قطاع النقل الى ثورة حقيقية على مستوى التسيير، لكن لا يمكن للسياسات مهما كانت قوتها أن تنجح في ظل غياب الحس المواطني وذلك الاستعداد التلقائي لدى المواطن لحماية الملك العمومي.
وهناك قوس لابد من فتحه ونحن نتطرق الى قضية النقل العمومي في البلاد وهو أننا لم نخرج من منطق التشفي كلما جاء الحديث عن إقالة وزير أو أكثر على غرار ما حدث أول أمس مع الإعلان عن إقالة وزير النقل ربيع المجيدي وتكليف وزيرة التجهيز والإسكان سارة الزنزري الزعفراني بتسيير الوزارة كما جاء في نفس الإعلان الصادر عن رئاسة الجمهورية عن إقالة وزيرة الثقافة حياة قطاط القرمازي وتكليف وزير التعليم العالي منصف بوكثير بتسيير الوزارة في انتظار تعيين خلف للوزيرين المقالين.
وإذ فتحنا هذا القوس بالذات فليس فقط للإشارة الى استمرار العلاقة المرضية- بمعنى المرض- بين المواطن والمسؤول حيث لا تخرج من دائرة المدح عند التعيين والهجاء عند الإقالة في تأكيد واضح لانتمائنا الثقافي الذي لا يفهم غير لغة المدح والثناء أو الهجاء والقدح والشماتة، وإنما أيضا لنؤكد على أن قضية النقل العمومي ليست قضية وزير أو مسؤولين لوحدهم، وإن كان لهم دورهم ومسؤوليتهم، وإنما أن القضية كما ذكرنا قضية وطن ومطلوب من الجميع الوعي بأن هذا القطاع يجر وراءه تقريبا كل القطاعات وأن بقاءه متخلفا يعني الحكم على تونس بالتخلف الدائم.
ليس مشكلا عاديا بل كابوسا
مقابل ذلك لا بد من الاعتراف بأن النقل العمومي لا يمثل اليوم مشكلا عاديا وإنما هو عبارة عن كابوس بالنسبة للتونسيين. القطاع كله تضرر بما في ذلك المؤسسات التي كانت تعتبر مفخرة ومن بينها الخطوط الجوية. فالخطوط التونسية التي كسبت سمعة طيبة على امتداد سنوات طويلة (تأسست سنة 1948 وتمت تونستها في جويلية 1958 أي بعد أكثر من عامين من الحصول على استقلال البلاد) لم تعد تلك "الغزالة" التي عرفها الآلاف من المسافرين بخدماتها الجيدة وبطاقمها الكفء. الخطوط التونسية هي اليوم مرادف للتأخير المبالغ فيه في مواعيد الرحلات وهي المرادف للخدمات الرديئة داخل طائراتها. وفي الوقت الذي حققت فيه شركات ناشئة تطورا مذهلا وليس دائما لأسباب مالية بحتة، وليست فقط تحت تأثير المنافسة القوية، تراجعت الخطوط التونسية تراجعا محزنا بسبب سوء التسيير وسوء التقدير وبسبب الإهمال الذي طال العديد من الشركات والمؤسسات العمومية بعد أحداث 14 جانفي 2011.
ومن سوء حظ الخطوط التونسية أنها دفعت ثمن الأطماع في محيط السلطة والمتنفذين قبل الأحداث المذكورة كما دفعت ثمن الأطماع أيضا وثمن التجاذبات وانعدام الكفاءة في تسيير البلاد بعدها. ولا يعتبر حال الشركة التونسية للملاحة أفضل رغم أنه يقع كل سنة وبمناسبة مناقشة ميزانية النقل التعهد بتطوير ترسانة النقل البحري فإن الشركة ظلت تعمل بأسطول قديم في وقت تشهد فيه خدمات النقل البحري تطورا هائلا وتشتد فيه المنافسة بشكل كبير. وقد تداول كثيرون في السنوات الأخيرة على تسيير الشركتين، الخطوط الجوية والشركة التونسية للملاحة دون التوصل الى حلول جذرية لمشاكل المؤسستين اللتين كانتا في وقت ما علامة دالة على تطور مستوى الخدمات في البلاد.
أما عن النقل البري وبين المدن في تونس فحدث ولا حرج. الوضعية بائسة فعلا ومعروفة وبادية للعيان حتى أنها صارت مصدرا للتندر.
إذن وعلى طريقة ما حدث للصحة العمومية والتعليم العمومي من تراجع، وهي القطاعات التي كانت تعتبر نقطة قوة البلاد التونسية، تراجع كذلك النقل العمومي وإذا ما أردنا أن نشخص الأسباب وراء ذلك، فإننا نشير إلى أن الإمكانيات المادية وإن كانت مهمة فإنها ليست وحدها وراء تراجع مكاسب التونسيين في المجال في وقت كان من الممكن أن يكون النقل العمومي مساندا لكل محاولات النهوض باقتصاد البلاد، وليس عبئا على الدولة يستنزف إمكانياتها ويزيد في حجم المشاكل.
فقد تآكل القطاع حتى وصلنا إلى مرحلة لم يعد بالإمكان صيانة القطارات وعربات المترو والحافلات المعطلة رغم الحاجة الكبيرة إلى كل قطعة من بينها نظرا لكثرة مستعملي النقل العمومي التي يقابلها نقص في الوسائل التي ينتج عنها كما يمكن أن نلاحظه يوميا ازدحام كبير وجحافل من المنتظرين في محطات الحافلات والمترو والقطارات. لكن ما الذي أوصلنا الى هذه الحالة؟
رئيس الجمهورية قيس سعيد تحدث خلال زيارته المذكورة الى مستودع القطارات بجبل الجلود بالعاصمة والى محطة المترو الخفيف بتونس البحرية عن فساد وعن إهمال وعن خراب. وللأسف، أنه بذلك يصور أمرا واقعا، إذ لا يمكن أن ننكر أن جل القطاعات الحيوية في البلاد، تم تخريبها. لقد تم تخريب قطاع الصحة العمومية حتى صار المواطن غير قادر على الوصول الى ابسط الخدمات وباتت المصحات الخاصة والعيادات الخاصة تستنزف جيبه وتدفعه في حالات عاجلة الى حلول انتحارية (بيع منزل أو سيارة) مع تواصل النزيف في ظل تراجع خدمات الصحة العمومية والحاجة الأكيدة الى البديل، أي الى القطاع الخاص الذي يفوق للأسف إمكانيات المواطن بكثير دون أن نكون متأكدين من نجاعة الخدمات مائة بالمائة.
استنزاف للجيوب وخدمات تحتاج الى الدراسة
نفس الشيء تقريبا بالنسبة لقطاع التعليم. فالمدارس الخاصة والجامعات الخاصة التي انتشرت في تونس اليوم تشترط مبالغ باهظة وهي تمثل الحل الضروري بالنسبة للكثير من العائلات بسبب تردي وضع المدرسة العمومية التي باتت منفرة لأكثر من سبب من بينها تراجع المستوى والصراعات الكثيرة بين الهياكل التمثيلية وسلطة الإشراف التي تسببت في السنوات التي تلت أحداث 14 جانفي 2011 في عرقلة سير المدرسة العمومية وحكمت على التلاميذ بتحمل نتائج هذه الصراعات على حساب ساعات الدرس ونوعية الدراسة. وقد تأثرت الجامعة التونسية بدورها بالمناخ السياسي الذي ساد في السنوات الأخيرة -النزيف بدا قبل أحداث جانفي- وتراجع مستواها وتأثرت كثيرا خاصة في مستوى تعليم الآداب والعلوم الإنسانية. وما أبعدنا عن ذلك العهد التي كانت للجامعة التونسية التي تخرجت منها كفاءات البلاد بأعداد كبيرة، هيبتها وقيمتها ومكانتها. فهي اليوم تعاني على اغلب المستويات وقد تقلصت إمكانياتها وهي تواجه منافسة شرسة من القطاع الخاص الذي يحتاج بدوره الى تقييم علمي دقيق حتى نستوعب ما يحصل في المجال بالضبط في زحمة تسارع الأحداث وتوالد المؤسسات الخاصة دون أن ندرك بدقة حقيقة دورها بالنسبة لمستقبل التعليم والأجيال في بلادنا.
الأمر مختلف قليلا في مجال النقل. فلم يستطع القطاع الخاص التغلغل بشكل كبير نظرا لما يحتاجه الاستثمار في النقل من إمكانيات ومن صيانة مستمرة ودعم لوجستي دائم. فشركات النقل البري الخاصة قليلة وهي لم توفر حلولا بديلة لمشكل النقل خاصة في العاصمة. كما أن تجارب إنشاء شركات طيران خاصة تونسية لم تكلل بالنجاح. ويعتبر النقل العمومي هو الملاذ الوحيد للكثيرين خاصة في ظل ظروف النقل الجماعي غير المريحة.
ولسنا محتاجين للتذكير بأن زحمة المرور في البلاد وخاصة في العاصمة وفي المدن تعود في جانب منها الى تخلف النقل العمومي. فرغم استنزاف القطاع لميزانية كبرى إلا أنه لم يتطور بالشكل الذي يجعل المواطن يتخلى عن سيارته ليستقل الحافلة أو المترو أو القطار. ولا يمكن بطبيعة الحال وفي ظل الظروف الحالية والمشاكل المتراكمة الاقتناع بكل الوعود حول النقل المستدام في إطار تنفيذ الإستراتيجية الوطنية للانتقال الايكولوجي. ولنا أن نشير الى أن القطاعات العمومية الثلاثة، النقل والصحة والتعليم - والأمر بالتأكيد ليس صدفة- تستنزف ميزانيات هائلة في التأجير وهو ما يؤثر، كما يمكن أن نتوقع ذلك، على نفقات التصرف والتدخل والإصلاح.
وقد تحولت هذه القطاعات الثلاثة التي كانت من قبل قوة دفع للاقتصاد الوطني وكانت تعتبر من عناصر قوة الدولة الى عبء على الدولة أي على المواطن الذي يدفع من اجلها الكثير من أموال الضرائب دون أن يظفر بخدمات عادية كي لا نقول جيدة. وهي اليوم سبب من أسباب تراجع البلاد عموما. ولا نتوقع أي إصلاح للبلاد وأي نقلة وأي تطور بدون إيجاد حلول جذرية وربما "مؤلمة" للقطاعات الثلاثة.
حياة السايب
-القطاع الخاص في الصحة والتعليم والنقل بشكله الحالي يستنزف ميزانية المواطن ولا يقدم دائما الحلول الناجعة
تونس- الصباح
راهن جيل الاستقلال على قطاعات حيوية خصص لها الإمكانيات والاعتمادات والكفاءات وحقق المجتمع بفضلها نقلة نوعية مكنته من الخروج من حالته البائسة التي خلفتها السنوات الطويلة للاستعمار الفرنسي وفتحت أمامه باب الأمل للانخراط في حياة متطورة تليق بالمجتمعات العصرية.
هذه القطاعات هي الصحة العمومية والتعليم العمومي والنقل العمومي، وقد راهنت الدولة التونسية الفتية على الكفاءات الوطنية لتقديم الخدمات الضرورية للمواطن في المجالات المذكورة لتهيئته للمساهمة في بناء البلاد. وفعلا لقد قد مثلت القطاعات الثلاثة في مرحلة من مراحل تاريخ تونس المعاصر نقطة قوة البلاد. فقد كان المواطن التونسي يستفيد جيدا من خدمات الصحة والنقل التي اعتمد فيها وفق الملاحظين على تعريفات مدروسة ومن خدمات التعليم العمومي المجاني. لكن المفارقة العجيبة التي نعيشها اليوم هو أن ارتفاع تكاليف تعريفة النقل العمومي وربما بشكل يفوق قدرة المواطن على مجابهتها لم يقابله تطور للخدمات.
وقد اختزل رئيس الجمهورية قيس سعيد لدى زيارته يوم الثلاثاء الماضي الى مستودع القطارات بجبل الجلود بالعاصمة والى محطة المترو الخفيف بتونس البحرية (العاصمة) الوضعية بقوله "أن المواطنين يعانون من أجل التنقل ومنهم من يغادر بيته قبل ثلاث ساعات أو أكثر للحصول على وسيلة نقل، وإن كان محظوظا ووجدها فهو يتنقل في ظروف غير إنسانية".
نعم إن المواطن التونسي من مستعملي النقل العمومي يتنقل في ظروف لا إنسانية من حيث الازدحام والحالة الرثة لوسائل النقل وكثرة الانتظار وما يخلفه ذلك من توتر وإرهاق.
نفس الوضعية يمكن أن تنطبق على الصحة العمومية فقد تراجعت الخدمات بشكل مهول ولم يعد بإمكان المواطن متوسط الحال كي نقول لا نقول المواطن الفقير، الحصول على أبسط حقوقه إلا بعد عناء نظرا لتردي وضع المستشفيات العمومية والهياكل الصحية العمومية. ولا يختلف حال المدرسة العمومية كثيرا بعد تراجع التعليم العمومي الذي بات تهجره العائلات لصالح المؤسسات الخاصة رغم كلفتها العالية وقد لا نبالغ عندما نقول إن وضع مدارسنا ومعاهدنا العمومية اليوم وهي التي تخرجت منها أهم الكفاءات التي ساعدت في بناء الدولة، محزن، بسبب الفقر والتخلف وتراجع المستوى حتى أن محيط المدرسة العمومية لم يعد آمنا وصارت العديد من المدارس مسرحا للعنف والحوادث الغريبة.
النقل العمومي قضية وطن
وبما أن الحدث هذه الأيام هو قطاع النقل بعد الزيارة المذكورة وإقالة وزير النقل، نشير إلى أن إصلاح النقل العمومي المتهالك ليس شأن وزير أو مسؤولين لوحدهم وإنما القضية قضية وطن. فالنقل العمومي تضرر كثيرا من تراكم المشاكل التي من بينها ما هو مترسب وعميق مثل السلوكيات القطاعية التي أثرت سلبا على الأجيال المتعاقبة من أبناء القطاع، كما انه عانى طويلا من موروث ثقافي يتعامل بدونية مع الملك العمومي. فمستعمل النقل العمومي الذي هو المواطن بدرجة أولى لا يتردد في إتلاف وسائل النقل تحت تأثير الغضب أو بغاية التعبير عن الرفض وأحيانا لمجرد الرغبة في التنكيل بالملك العمومي متناسيا أن وسائل النقل تقتنى بالأساس من أموال دافعي الضرائب.
صحيح، يحتاج قطاع النقل الى ثورة حقيقية على مستوى التسيير، لكن لا يمكن للسياسات مهما كانت قوتها أن تنجح في ظل غياب الحس المواطني وذلك الاستعداد التلقائي لدى المواطن لحماية الملك العمومي.
وهناك قوس لابد من فتحه ونحن نتطرق الى قضية النقل العمومي في البلاد وهو أننا لم نخرج من منطق التشفي كلما جاء الحديث عن إقالة وزير أو أكثر على غرار ما حدث أول أمس مع الإعلان عن إقالة وزير النقل ربيع المجيدي وتكليف وزيرة التجهيز والإسكان سارة الزنزري الزعفراني بتسيير الوزارة كما جاء في نفس الإعلان الصادر عن رئاسة الجمهورية عن إقالة وزيرة الثقافة حياة قطاط القرمازي وتكليف وزير التعليم العالي منصف بوكثير بتسيير الوزارة في انتظار تعيين خلف للوزيرين المقالين.
وإذ فتحنا هذا القوس بالذات فليس فقط للإشارة الى استمرار العلاقة المرضية- بمعنى المرض- بين المواطن والمسؤول حيث لا تخرج من دائرة المدح عند التعيين والهجاء عند الإقالة في تأكيد واضح لانتمائنا الثقافي الذي لا يفهم غير لغة المدح والثناء أو الهجاء والقدح والشماتة، وإنما أيضا لنؤكد على أن قضية النقل العمومي ليست قضية وزير أو مسؤولين لوحدهم، وإن كان لهم دورهم ومسؤوليتهم، وإنما أن القضية كما ذكرنا قضية وطن ومطلوب من الجميع الوعي بأن هذا القطاع يجر وراءه تقريبا كل القطاعات وأن بقاءه متخلفا يعني الحكم على تونس بالتخلف الدائم.
ليس مشكلا عاديا بل كابوسا
مقابل ذلك لا بد من الاعتراف بأن النقل العمومي لا يمثل اليوم مشكلا عاديا وإنما هو عبارة عن كابوس بالنسبة للتونسيين. القطاع كله تضرر بما في ذلك المؤسسات التي كانت تعتبر مفخرة ومن بينها الخطوط الجوية. فالخطوط التونسية التي كسبت سمعة طيبة على امتداد سنوات طويلة (تأسست سنة 1948 وتمت تونستها في جويلية 1958 أي بعد أكثر من عامين من الحصول على استقلال البلاد) لم تعد تلك "الغزالة" التي عرفها الآلاف من المسافرين بخدماتها الجيدة وبطاقمها الكفء. الخطوط التونسية هي اليوم مرادف للتأخير المبالغ فيه في مواعيد الرحلات وهي المرادف للخدمات الرديئة داخل طائراتها. وفي الوقت الذي حققت فيه شركات ناشئة تطورا مذهلا وليس دائما لأسباب مالية بحتة، وليست فقط تحت تأثير المنافسة القوية، تراجعت الخطوط التونسية تراجعا محزنا بسبب سوء التسيير وسوء التقدير وبسبب الإهمال الذي طال العديد من الشركات والمؤسسات العمومية بعد أحداث 14 جانفي 2011.
ومن سوء حظ الخطوط التونسية أنها دفعت ثمن الأطماع في محيط السلطة والمتنفذين قبل الأحداث المذكورة كما دفعت ثمن الأطماع أيضا وثمن التجاذبات وانعدام الكفاءة في تسيير البلاد بعدها. ولا يعتبر حال الشركة التونسية للملاحة أفضل رغم أنه يقع كل سنة وبمناسبة مناقشة ميزانية النقل التعهد بتطوير ترسانة النقل البحري فإن الشركة ظلت تعمل بأسطول قديم في وقت تشهد فيه خدمات النقل البحري تطورا هائلا وتشتد فيه المنافسة بشكل كبير. وقد تداول كثيرون في السنوات الأخيرة على تسيير الشركتين، الخطوط الجوية والشركة التونسية للملاحة دون التوصل الى حلول جذرية لمشاكل المؤسستين اللتين كانتا في وقت ما علامة دالة على تطور مستوى الخدمات في البلاد.
أما عن النقل البري وبين المدن في تونس فحدث ولا حرج. الوضعية بائسة فعلا ومعروفة وبادية للعيان حتى أنها صارت مصدرا للتندر.
إذن وعلى طريقة ما حدث للصحة العمومية والتعليم العمومي من تراجع، وهي القطاعات التي كانت تعتبر نقطة قوة البلاد التونسية، تراجع كذلك النقل العمومي وإذا ما أردنا أن نشخص الأسباب وراء ذلك، فإننا نشير إلى أن الإمكانيات المادية وإن كانت مهمة فإنها ليست وحدها وراء تراجع مكاسب التونسيين في المجال في وقت كان من الممكن أن يكون النقل العمومي مساندا لكل محاولات النهوض باقتصاد البلاد، وليس عبئا على الدولة يستنزف إمكانياتها ويزيد في حجم المشاكل.
فقد تآكل القطاع حتى وصلنا إلى مرحلة لم يعد بالإمكان صيانة القطارات وعربات المترو والحافلات المعطلة رغم الحاجة الكبيرة إلى كل قطعة من بينها نظرا لكثرة مستعملي النقل العمومي التي يقابلها نقص في الوسائل التي ينتج عنها كما يمكن أن نلاحظه يوميا ازدحام كبير وجحافل من المنتظرين في محطات الحافلات والمترو والقطارات. لكن ما الذي أوصلنا الى هذه الحالة؟
رئيس الجمهورية قيس سعيد تحدث خلال زيارته المذكورة الى مستودع القطارات بجبل الجلود بالعاصمة والى محطة المترو الخفيف بتونس البحرية عن فساد وعن إهمال وعن خراب. وللأسف، أنه بذلك يصور أمرا واقعا، إذ لا يمكن أن ننكر أن جل القطاعات الحيوية في البلاد، تم تخريبها. لقد تم تخريب قطاع الصحة العمومية حتى صار المواطن غير قادر على الوصول الى ابسط الخدمات وباتت المصحات الخاصة والعيادات الخاصة تستنزف جيبه وتدفعه في حالات عاجلة الى حلول انتحارية (بيع منزل أو سيارة) مع تواصل النزيف في ظل تراجع خدمات الصحة العمومية والحاجة الأكيدة الى البديل، أي الى القطاع الخاص الذي يفوق للأسف إمكانيات المواطن بكثير دون أن نكون متأكدين من نجاعة الخدمات مائة بالمائة.
استنزاف للجيوب وخدمات تحتاج الى الدراسة
نفس الشيء تقريبا بالنسبة لقطاع التعليم. فالمدارس الخاصة والجامعات الخاصة التي انتشرت في تونس اليوم تشترط مبالغ باهظة وهي تمثل الحل الضروري بالنسبة للكثير من العائلات بسبب تردي وضع المدرسة العمومية التي باتت منفرة لأكثر من سبب من بينها تراجع المستوى والصراعات الكثيرة بين الهياكل التمثيلية وسلطة الإشراف التي تسببت في السنوات التي تلت أحداث 14 جانفي 2011 في عرقلة سير المدرسة العمومية وحكمت على التلاميذ بتحمل نتائج هذه الصراعات على حساب ساعات الدرس ونوعية الدراسة. وقد تأثرت الجامعة التونسية بدورها بالمناخ السياسي الذي ساد في السنوات الأخيرة -النزيف بدا قبل أحداث جانفي- وتراجع مستواها وتأثرت كثيرا خاصة في مستوى تعليم الآداب والعلوم الإنسانية. وما أبعدنا عن ذلك العهد التي كانت للجامعة التونسية التي تخرجت منها كفاءات البلاد بأعداد كبيرة، هيبتها وقيمتها ومكانتها. فهي اليوم تعاني على اغلب المستويات وقد تقلصت إمكانياتها وهي تواجه منافسة شرسة من القطاع الخاص الذي يحتاج بدوره الى تقييم علمي دقيق حتى نستوعب ما يحصل في المجال بالضبط في زحمة تسارع الأحداث وتوالد المؤسسات الخاصة دون أن ندرك بدقة حقيقة دورها بالنسبة لمستقبل التعليم والأجيال في بلادنا.
الأمر مختلف قليلا في مجال النقل. فلم يستطع القطاع الخاص التغلغل بشكل كبير نظرا لما يحتاجه الاستثمار في النقل من إمكانيات ومن صيانة مستمرة ودعم لوجستي دائم. فشركات النقل البري الخاصة قليلة وهي لم توفر حلولا بديلة لمشكل النقل خاصة في العاصمة. كما أن تجارب إنشاء شركات طيران خاصة تونسية لم تكلل بالنجاح. ويعتبر النقل العمومي هو الملاذ الوحيد للكثيرين خاصة في ظل ظروف النقل الجماعي غير المريحة.
ولسنا محتاجين للتذكير بأن زحمة المرور في البلاد وخاصة في العاصمة وفي المدن تعود في جانب منها الى تخلف النقل العمومي. فرغم استنزاف القطاع لميزانية كبرى إلا أنه لم يتطور بالشكل الذي يجعل المواطن يتخلى عن سيارته ليستقل الحافلة أو المترو أو القطار. ولا يمكن بطبيعة الحال وفي ظل الظروف الحالية والمشاكل المتراكمة الاقتناع بكل الوعود حول النقل المستدام في إطار تنفيذ الإستراتيجية الوطنية للانتقال الايكولوجي. ولنا أن نشير الى أن القطاعات العمومية الثلاثة، النقل والصحة والتعليم - والأمر بالتأكيد ليس صدفة- تستنزف ميزانيات هائلة في التأجير وهو ما يؤثر، كما يمكن أن نتوقع ذلك، على نفقات التصرف والتدخل والإصلاح.
وقد تحولت هذه القطاعات الثلاثة التي كانت من قبل قوة دفع للاقتصاد الوطني وكانت تعتبر من عناصر قوة الدولة الى عبء على الدولة أي على المواطن الذي يدفع من اجلها الكثير من أموال الضرائب دون أن يظفر بخدمات عادية كي لا نقول جيدة. وهي اليوم سبب من أسباب تراجع البلاد عموما. ولا نتوقع أي إصلاح للبلاد وأي نقلة وأي تطور بدون إيجاد حلول جذرية وربما "مؤلمة" للقطاعات الثلاثة.