إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

جولة في بعض المصالح بالعاصمة .. الإدارة التونسية تتقدم.. لكن بخطى السلحفاة !

 - البيروقراطية والتعقيدات الإدارية وضياع الوقت من أبرز مظاهر تخلف إدارتنا..

تونس- الصباح

"لن تحقق تونس أي تطور دون تغيير جذري للإدارة التونسية في أسلوب عملها ونوعية خدماتها". هذا ما يجمع حوله التونسيون وهو إقرار ناتج عن ملاحظة متأنية للوضع واستنتاج نابع من تشخيص موضوعي للواقع. فعلاقة المواطن مع الإدارة التونسية ظلت طويلا متشنجة. وقد لا نبالغ عندما نقول إن المواطن يخشى التواصل مع الإدارة لنوعية الخدمات الرديئة وسوء الاستقبال وللتعقيدات الكثيرة التي تعطل المصالح وتضيع الوقت.

هل تغير الأمر، وهل تطورت الإدارة التونسية تحت الضغط السياسي الذي تمارسه الدولة اليوم من أجل تحسين الخدمات ومن أجل تقليص التعقيدات خاصة تحسين العلاقة مع المواطن التي ظل التونسيون ينادون بها، ولم تنجح الإدارة التونسية التي بعثت اغلبها مكاتب للعلاقة مع المواطن في تحسين هذه العلاقة رغم كل الجهود؟

ونحن إذ نطرح السؤال، فلأن تونس تتبنى اليوم مشروعا إصلاحيا يهدف إلى التخلص من الترسبات السلبية للماضي ويطمح إلى بناء أسلوب جديد في التعامل بين المواطن والإدارة يضمن حماية مصالح المواطن والدولة.

فلا ننسى أن تخلف الإدارة التونسية حرم تونس من الإقلاع الحقيقي ولا ننسى أن مشاكل الإدارة والعقلية التي تدار بها الأمور من بين أسباب فشل مشاريع الإصلاح لان الإدارة في النهاية هي العمود الفقري في كل عملية إصلاح وقد سبق أن وجه رئيس الجمهورية قيس سعيد في عدة مناسبات أصابع الاتهام إلى الإدارة – طبعا ليس كلها وإنما إلى بعض الموظفين والمسؤولين بالإدارة- بالتسبب في خسارة البلاد لاعتمادات هامة، وفي تعطيل العديد من المشاريع بسبب التراخي أو ببساطة بسبب التواطؤ.

 فهو يعتبر، وقد تحدث عن ذلك في أكثر من مناسبة – بشكل مباشر أو غير مباشر- وقال إن هناك من يسعى إلى عرقلة مشاريع هامة بهدف إفشال سياسته وتفويت الفرصة على البلاد في تحقيق التطور المنشود. ويضع رئيس الجمهورية إصلاح الإدارة ضمن أولوياته. وقد ظل عموما الخطاب السياسي منذ إحداث 14 جانفي 2011 يتحدث عن أهمية إصلاح الإدارة في تونس غير أننا لم نلمس شيئا في الواقع ويعود ذلك بالخصوص إلى تراكم المشاكل وغياب إرادة الإصلاح واستغراق النخب السياسية في التجاذبات، لكن المناخ العام في البلاد قد تغير في الفترة الأخيرة وهناك إرادة واضحة في وضع حد لكل إشكال الانفلاتات. ربما تبقى الطرق المعتمدة لذلك تناقش لكن هذا لا ينفي وجود أرضية تؤكد أن تونس قابلة اليوم للتغيير.

لا ننكر كذلك إن رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي يقود المسار السياسي الجديد الذي انخرطت فيه البلاد منذ ما يعرف بحركة 25 جويلية 2021، سعى دائما إلى جمع النظري بالتطبيقي وقد مر في أكثر من مناسبة إلى التطبيق وعمل على تجسيد الخطوات التي يعلن عنها مسبقا وهو كما يمكن أن ينتبه إليه جل الملاحظين لا يترك فرصة دون وضع الإدارة التونسية أمام مسؤوليتها.

الإدارة التونسية إذن هي اليوم أمام المجهر. وواضح أن الموظف والمسؤول الإداري يدرك جيدا إن "الحصانة" التي كان يتمتع بها في السابق يمكن أن تسقط في أي لحظة. وقد يكون من المناسب التذكير بان أسلوب عمل الإدارة التونسية كان من أغرب ما يكون.

صحيح لا يمكن التعميم ووجب كذلك الاعتراف بأن الإدارة في تونس اضطلعت بدور كبير في بناء دولة تونس المستقلة واضطلعت بدور مهم إلى جانب النخبة السياسية في تنمية البلاد والخروج من الوضع البائس الذي ورثته من الاستعمار، لكن الإدارة وهذا لا يمكن نفيه أيضا، تراجعت وصارت بكل صراحة إدارة متخلفة.

ومن أبرز سمات هذا التخلف الثقل الإداري أو البيروقراطية والتعقيدات الإدارية التي انتهت بخلق علاقة تنافر بين الإدارة والمواطن الذي أصبح التعامل بالنسبة له مع الإدارة، وهو غالبا أمر لا مفر منه، عبارة عن امتحان صعب وعبء ثقيل.

والحقيقة لا يمكن الإجابة عن سؤال هل تغيرت الإدارة التونسية وهل تغيرت بالخصوص ظروف الاستقبال وهل تغيرت نوعية العلاقة بين الإدارة والمواطن بدون أن نلاحظ ذلك على عين المكان.

ولأجل ذلك قمنا بجولة بعدد من المصالح الإدارية التي تقدم خدمات مباشرة للمواطن ودققنا كذلك في الصفحات الرسمية لبعض الإدارات التي تعتبر قبلة المواطن أكثر من غيرها.

وكي نكون أكثر دقة نقول إننا زرنا مصلحة إدارية للشركة التونسية للكهرباء والغاز ومكتبين للقباضة المالية ومكتبا للصندوق الوطني للتضامن الاجتماعي ومكتبا للشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه.

وتعتبر هذه المصالح قبلة العديد من المواطنين والمكاتب التي زرناها تقع في أحياء ذات كثافة سكانية نسبيا عالية.

البداية كانت بمكتب للشركة التونسية للكهرباء والغاز، "الستاغ".. قاعة الانتظار كانت تغص بالمواطنين وبعضهم منتشرون أمام المبنى. وكل واحد منهم مسلح برقم ينتظر أن يشتعل على المنصة الضوئية كي يأتيه الفرج. الأعوان الثلاثة الذين كانوا على ذمة المواطنين كانوا يشتغلون بكثافة وبنسق يمكن القول انه مرتفع، لكن يحدث أن يغادر احدهم من حين لأخر مكانه لأي سبب كان فيظل الكرسي فارغا وتتعطل العملية، وأي تغيب بسيط يمكن أن يكون سببا في التعطيل والتأخير للمواطنين الذين ترى أعينهم وهي تراقب بكل توثب المنصة الرقمية وعلامات التشنج واضحة على الوجوه لأنه يحدث أن يطول الانتظار كثيرا إلى درجة تفوق أحيانا القدرة على التحمل.

الأمر المثير الذي لاحظناه هو تلك الأشياء الموروثة من عهد الكوفيد سيء الذكر (فيروس كورونا القاتل الذي انتشر في تونس وخارجها في 2020 و2021). فأعوان الخلاص يتحصنون وراء نوافذ أسدلت عليها ستائر من مادة البلاستيك مما يجعل المنظر العام مثيرا للشفقة. وهو من شأنه أن يعطي صورة عن نوعية جمالية مصالحنا الإدارية ببعض المؤسسات لاسيما منها مصالح الخدمات الموجهة للمواطن. والحقيقة لا يمكن أن نجزم بشيء بعد هذه الزيارة. فالصفوف طويلة جدا كالعادة، والانتظار بالساعات أحيانا لقضاء خدمة من الخدمات لا يمكن أن يكون مؤشرا عن أي تطور في الإدارة على الأقل من ناحية ظروف الاستقبال. وفي قضية الحال لا يمكن أن نجزم من المسؤول عن الوضع؟

الزيارة الثانية كانت لقباضة مالية. ويصادف هذه الأيام موعد خلاص معلوم جولان السيارات لسنة 2023، الذي أصبح مشروطا بخلاص الأداءات كاملة، وهو ما يجعل الإقبال على القباضات المالية مكثفا جدا. يكفي أن تنظر إلى عدد السيارات أمام مبنى المؤسسة وفي الأنهج المحاذية حتى تدرك كثافة الطلب. كان جميع الأعوان في مكاتبهم وكانت هناك زحمة شديدة وعون الخلاص ينادي أسماء المواطنين بأعلى صوته لدفع معاليم الجولان والحصول على الوصل المطلوب.

 الحركة كانت تسير بشكل طبيعي لكن إن كانت لدينا ملاحظة، فهي تخص سحنة الموظف. الوجوه كانت صارمة جدا ولا يمكن أن لا نلاحظ ذلك وقد نجد للأمر تبريرا. فنحن أمام مؤسسة قابضة لأموال الجباية والأمر جدي جدا ويتطلب كل هذه الصرامة على الوجوه. وكدنا أن نسلم بالآمر لو لم نجد شيئا آخر في قباضة أخرى في قلب العاصمة. كأن الموظفين فيها أتوا من كوكب آخر مختلف عما تعودناه من موظفي القباضات المالية أو المؤسسات المشابهة. إحدى الموظفات بالذات كان سلوكها مثيرا للانتباه. إنها تستقبلك بمرح وتضحك في وجهك. نعم يحدث هذا في قباضة مالية أو في إدارة تونسية. وهي تجيبك بلطف عن أي سؤال تطرحه ويحدث أن ترحب برواد القباضة (المتعودون على قضاء شؤونهم بها) وتناديهم بالاسم ويحدث هذا أيضا. نصل إلى عون الخلاص. هو أيضا يعرف كيف يبتسم ويجيب الناس جميعا بنفس درجة اللطف والترحاب. يحدث هذا أيضا حتى انك تشعر بأن المكان رغم صبغته المالية والجبائية تنتشر فيه موجات إيجابية. نكتفي بالوصف ونعتقد أن استخلاص النتائج ليس بالأمر العسير خاصة أن أمر المعاملات في مثل هذه الإدارات لا يخفى على احد.

محطتنا الأخرى كانت مكتبا للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. تتجه مباشرة إلى عون التوجيه الذي لا بد منه لتحويلك إلى النافذة المطلوبة المحددة برقم. وهو يحاول أن يكون متفهما للجميع وفي ظل كثرة المطالب يحدث أحيانا أن لا يفهم المواطن بسهولة ويتطلب الأمر وقتا حتى يحصل التفاهم المنشود.

هناك صادف أن شهدنا خصومة نشبت بين مواطن وأحد الأعوان. (لا نحدد الجنس لأنه يمكن أن يكون امرأة كما يمكن أن يكون رجلا). لا أحد منهما أراد التنازل يومها ورغم إن المواطن قد عاد إلى مكانه بعد أن أمره الموظف بإلحاح بالعودة إلى مكان الانتظار حتى يحين دوره، فإن العون ظل غاضبا ويكرر على مسامح المواطنين ما دار بينه وبين المواطن في رغبة واضحة منه لإثبات أنه صاحب الحق ويود لو انه يجد من يؤيده من المواطنين بقاعة الاستقبال حتى يؤكد انه لم يخطئ عندما انفلتت أعصابه وتعامل بغضب شديد. المهم إن الحركة سارت اثر ذلك بشكل طبيعي. هناك بطبيعة الحال من حظي ملفه بالقبول وهناك من دعي إلى إتمام الملف، المهم أن الحركة كانت تسير دون تعقيدات ويبدو أن توسعة المكتب وإضافة أعوان جدد قد ساعدت على تحسين نسق العمل.

ملاحظة لا بد منها، ومفادها أن الحاجز الزجاجي الذي كان يفصل بين المواطن والعون قد رفع وهو- ربما- ما جعل الحركة تسير بشكل أفضل.

الرحلة تواصلت وكنا في زيارة إلى مكتب للشركة الوطنية لتوزيع واستغلال المياه، "الصوناد". هذا المكتب يأتيه الناس من العديد من أحياء العاصمة ومشكله الأساسي إننا نجد دائما نوافذ مغلقة. هذا الموضوع يكون دائما محور اهتمام الناس الذين يتجمعون في قاعة الاستقبال ويتساءلون لماذا يشتغل عونان أو ثلاثة على أقصى تقدير وتبقى بقية النوافذ دائما مغلقة؟ لماذا لا يشتغل جميع الأعوان في وقت واحد لضمان نسق أفضل للعمل؟؟

سؤال لا يبدو أن له إجابة لأن الحال متواصل على ما هو عليه منذ فترة وفق ما أكده لنا بعض المواطنين الموجودين يومها بالمكان. هذا المكتب يخصص نافذتين لخلاص المعاليم في حين أن بقية النوافذ تخصص للاستفسارات والمطالب المتنوعة، وقلما تتوقف النافذتان - أمر غريب- عن العمل حتى إن الحضور كانوا يسخرون يومها قائلين: إذا كنت ستدفع فلا حاجة بك للانتظار، أما إذا أردت أن تستفسر عن شيء أو إن تقضي مصلحة أخرى، فعليك الانتظار وأحيانا إلى ما لا نهاية له.

ماذا يمكن أن نستنتجه بعد زيارة المصالح المذكورة وهي عينة عشوائية بطبيعة الحال لكنها معبرة عن وضع الإدارة في تونس، هو إن أهم مشكل هو مشكل الضغط. الجميع في ضغط. فالموظف أمام ضغط المطالب (ربما ليس في كل الأيام لكن هناك مصالح إدارية تواجه يوميا تقريبا كثافة شديدة) والمواطن يجد نفسه أمام طول الانتظار وكثرة الأوراق المطلوبة. وهنا يطرح سؤال تعصير الإدارة وإن كنا جديين فعلا في المرور إلى العصر الرقمي في وقت أنت كمواطن مضطر إلى الذهاب إلى البلدية للحصول على مضمون ( ولادة أو وفاة) بعد أن تكون قد قمت بما يلزم عن بعد؟؟؟

ويكفي أن نلقي نظرة على بعض الصفحات الرسمية لبعض الإدارات التونسية حتى ندرك أن فكرة تحيين المعلومات رغم أهميتها هي آخر الاهتمامات. ماذا نجد مثلا عندما نبحث على الانترنيت عن الخدمات التي تقدمها الصناديق الاجتماعية؟ نجد المعلومات القديمة رغم أن الدولة قد اتخذت إجراءات يمكن اعتبارها ثورية لفائدة المواطن على غرار الترفيع في حجم القروض الشخصية وقروض السكن وقرض السيارة وغيرها وعلى حد علمنا فقد دخلت حيز التنفيذ منذ بداية فيفري الجاري.

في المقابل لا يمكن أن ننكر أن هناك مجهودات تبذل وأن الموظف اليوم واع بأنه مطلوب منه أن يقطع مع الماضي رغم إننا ندرك انه يلزمنا وقت حتى يتخلص من الموروث الإداري القديم. ونحن اليوم إن شئنا في مرحلة انتقالية نأمل أن تصل بنا إلى بناء علاقة جديدة ومنصفة بين المواطن والإدارة. وللتذكير فقد عشنا مراحل في تونس صار فيه المواطن يستجدي الخدمات رغم إنها من بين حقوقه، دون أن ننسى الأسلوب الفوقي الذي يستعمله بعضهم ومزاجية البعض الآخر.

اليوم هناك شعور بان الدولة تضغط من اجل تغيير العقلية وترفض أن يتواصل "التلاعب" بالمواطن بين المكاتب، لأن لا أحد في تونس ينكر وجود إرادة سياسية فاعلة وخطاب سياسي يقاوم العقلية القديمة المترسخة، ويتحدث دائما عن كرامة المواطن وقيمة المواطن وحقوق المواطن ومصالحه، وهو أحببنا أم كرهنا خطاب له تأثيره على الطرفين أي المواطن والموظف وإن اختلفت التقييمات.

بقي، أن بلادنا تظل محكومة دائما بالإمكانيات. صحيح إن الموظف يتحمل مسؤولية كبيرة فيما ما آلت إليه الإدارة التونسية. وقد كان هناك استسهال للوظيفة العمومية وقد سادت في تونس طويلا تقاليد مريبة تبيح التعدي على الملك العمومي، وتعتبر الوظيفة في القطاع العمومي مكسبا لا يمس ابدا، لكن الموظف هو جزء من منظومة كاملة والإدارة يلزمها إمكانيات وجهود كبيرة وإرادة حقيقية من أجل إحداث التغيير المطلوب. وفي الانتظار، تشهد الإدارة التونسية بعض التطور تحت ضغط الدولة والمجتمع، لكنها تبقى الخطوات بطيئة ويمكن القول إنها خطى السلحفاة، وهذا التغيير نلمسه بالخصوص في نوعية العلاقة مع المواطن الذي يمكنه اليوم أن يصر على حقوقه وأن يبلغ صوته وهو أمر ليس بالهين إذا ما عرفنا تاريخ العلاقة بين المواطن والإدارة، في المقابل تبقى الصفوف طويلة خاصة في المناسبات التي تتكثف فيه الحركة.. الأعوان يبقى عددهم قليل مقارنة بحجم الخدمات والأوراق كثيرة، والإمضاءات المطلوبة من أكثر من مصلحة كثيرة، والوقت الذي يصرف في قضاء الشؤون طويل جدا. وهذا كله يبقى من مظاهر التخلف التي تعيق تطور الإدارة والوصول إلى تلك المعادلة الصعبة التي لا يتعطل معها عمل الموظف ولا تتعطل مصلحة المواطن.

 حياة السايب

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

جولة في بعض المصالح بالعاصمة .. الإدارة التونسية تتقدم.. لكن بخطى السلحفاة !

 - البيروقراطية والتعقيدات الإدارية وضياع الوقت من أبرز مظاهر تخلف إدارتنا..

تونس- الصباح

"لن تحقق تونس أي تطور دون تغيير جذري للإدارة التونسية في أسلوب عملها ونوعية خدماتها". هذا ما يجمع حوله التونسيون وهو إقرار ناتج عن ملاحظة متأنية للوضع واستنتاج نابع من تشخيص موضوعي للواقع. فعلاقة المواطن مع الإدارة التونسية ظلت طويلا متشنجة. وقد لا نبالغ عندما نقول إن المواطن يخشى التواصل مع الإدارة لنوعية الخدمات الرديئة وسوء الاستقبال وللتعقيدات الكثيرة التي تعطل المصالح وتضيع الوقت.

هل تغير الأمر، وهل تطورت الإدارة التونسية تحت الضغط السياسي الذي تمارسه الدولة اليوم من أجل تحسين الخدمات ومن أجل تقليص التعقيدات خاصة تحسين العلاقة مع المواطن التي ظل التونسيون ينادون بها، ولم تنجح الإدارة التونسية التي بعثت اغلبها مكاتب للعلاقة مع المواطن في تحسين هذه العلاقة رغم كل الجهود؟

ونحن إذ نطرح السؤال، فلأن تونس تتبنى اليوم مشروعا إصلاحيا يهدف إلى التخلص من الترسبات السلبية للماضي ويطمح إلى بناء أسلوب جديد في التعامل بين المواطن والإدارة يضمن حماية مصالح المواطن والدولة.

فلا ننسى أن تخلف الإدارة التونسية حرم تونس من الإقلاع الحقيقي ولا ننسى أن مشاكل الإدارة والعقلية التي تدار بها الأمور من بين أسباب فشل مشاريع الإصلاح لان الإدارة في النهاية هي العمود الفقري في كل عملية إصلاح وقد سبق أن وجه رئيس الجمهورية قيس سعيد في عدة مناسبات أصابع الاتهام إلى الإدارة – طبعا ليس كلها وإنما إلى بعض الموظفين والمسؤولين بالإدارة- بالتسبب في خسارة البلاد لاعتمادات هامة، وفي تعطيل العديد من المشاريع بسبب التراخي أو ببساطة بسبب التواطؤ.

 فهو يعتبر، وقد تحدث عن ذلك في أكثر من مناسبة – بشكل مباشر أو غير مباشر- وقال إن هناك من يسعى إلى عرقلة مشاريع هامة بهدف إفشال سياسته وتفويت الفرصة على البلاد في تحقيق التطور المنشود. ويضع رئيس الجمهورية إصلاح الإدارة ضمن أولوياته. وقد ظل عموما الخطاب السياسي منذ إحداث 14 جانفي 2011 يتحدث عن أهمية إصلاح الإدارة في تونس غير أننا لم نلمس شيئا في الواقع ويعود ذلك بالخصوص إلى تراكم المشاكل وغياب إرادة الإصلاح واستغراق النخب السياسية في التجاذبات، لكن المناخ العام في البلاد قد تغير في الفترة الأخيرة وهناك إرادة واضحة في وضع حد لكل إشكال الانفلاتات. ربما تبقى الطرق المعتمدة لذلك تناقش لكن هذا لا ينفي وجود أرضية تؤكد أن تونس قابلة اليوم للتغيير.

لا ننكر كذلك إن رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي يقود المسار السياسي الجديد الذي انخرطت فيه البلاد منذ ما يعرف بحركة 25 جويلية 2021، سعى دائما إلى جمع النظري بالتطبيقي وقد مر في أكثر من مناسبة إلى التطبيق وعمل على تجسيد الخطوات التي يعلن عنها مسبقا وهو كما يمكن أن ينتبه إليه جل الملاحظين لا يترك فرصة دون وضع الإدارة التونسية أمام مسؤوليتها.

الإدارة التونسية إذن هي اليوم أمام المجهر. وواضح أن الموظف والمسؤول الإداري يدرك جيدا إن "الحصانة" التي كان يتمتع بها في السابق يمكن أن تسقط في أي لحظة. وقد يكون من المناسب التذكير بان أسلوب عمل الإدارة التونسية كان من أغرب ما يكون.

صحيح لا يمكن التعميم ووجب كذلك الاعتراف بأن الإدارة في تونس اضطلعت بدور كبير في بناء دولة تونس المستقلة واضطلعت بدور مهم إلى جانب النخبة السياسية في تنمية البلاد والخروج من الوضع البائس الذي ورثته من الاستعمار، لكن الإدارة وهذا لا يمكن نفيه أيضا، تراجعت وصارت بكل صراحة إدارة متخلفة.

ومن أبرز سمات هذا التخلف الثقل الإداري أو البيروقراطية والتعقيدات الإدارية التي انتهت بخلق علاقة تنافر بين الإدارة والمواطن الذي أصبح التعامل بالنسبة له مع الإدارة، وهو غالبا أمر لا مفر منه، عبارة عن امتحان صعب وعبء ثقيل.

والحقيقة لا يمكن الإجابة عن سؤال هل تغيرت الإدارة التونسية وهل تغيرت بالخصوص ظروف الاستقبال وهل تغيرت نوعية العلاقة بين الإدارة والمواطن بدون أن نلاحظ ذلك على عين المكان.

ولأجل ذلك قمنا بجولة بعدد من المصالح الإدارية التي تقدم خدمات مباشرة للمواطن ودققنا كذلك في الصفحات الرسمية لبعض الإدارات التي تعتبر قبلة المواطن أكثر من غيرها.

وكي نكون أكثر دقة نقول إننا زرنا مصلحة إدارية للشركة التونسية للكهرباء والغاز ومكتبين للقباضة المالية ومكتبا للصندوق الوطني للتضامن الاجتماعي ومكتبا للشركة التونسية لاستغلال وتوزيع المياه.

وتعتبر هذه المصالح قبلة العديد من المواطنين والمكاتب التي زرناها تقع في أحياء ذات كثافة سكانية نسبيا عالية.

البداية كانت بمكتب للشركة التونسية للكهرباء والغاز، "الستاغ".. قاعة الانتظار كانت تغص بالمواطنين وبعضهم منتشرون أمام المبنى. وكل واحد منهم مسلح برقم ينتظر أن يشتعل على المنصة الضوئية كي يأتيه الفرج. الأعوان الثلاثة الذين كانوا على ذمة المواطنين كانوا يشتغلون بكثافة وبنسق يمكن القول انه مرتفع، لكن يحدث أن يغادر احدهم من حين لأخر مكانه لأي سبب كان فيظل الكرسي فارغا وتتعطل العملية، وأي تغيب بسيط يمكن أن يكون سببا في التعطيل والتأخير للمواطنين الذين ترى أعينهم وهي تراقب بكل توثب المنصة الرقمية وعلامات التشنج واضحة على الوجوه لأنه يحدث أن يطول الانتظار كثيرا إلى درجة تفوق أحيانا القدرة على التحمل.

الأمر المثير الذي لاحظناه هو تلك الأشياء الموروثة من عهد الكوفيد سيء الذكر (فيروس كورونا القاتل الذي انتشر في تونس وخارجها في 2020 و2021). فأعوان الخلاص يتحصنون وراء نوافذ أسدلت عليها ستائر من مادة البلاستيك مما يجعل المنظر العام مثيرا للشفقة. وهو من شأنه أن يعطي صورة عن نوعية جمالية مصالحنا الإدارية ببعض المؤسسات لاسيما منها مصالح الخدمات الموجهة للمواطن. والحقيقة لا يمكن أن نجزم بشيء بعد هذه الزيارة. فالصفوف طويلة جدا كالعادة، والانتظار بالساعات أحيانا لقضاء خدمة من الخدمات لا يمكن أن يكون مؤشرا عن أي تطور في الإدارة على الأقل من ناحية ظروف الاستقبال. وفي قضية الحال لا يمكن أن نجزم من المسؤول عن الوضع؟

الزيارة الثانية كانت لقباضة مالية. ويصادف هذه الأيام موعد خلاص معلوم جولان السيارات لسنة 2023، الذي أصبح مشروطا بخلاص الأداءات كاملة، وهو ما يجعل الإقبال على القباضات المالية مكثفا جدا. يكفي أن تنظر إلى عدد السيارات أمام مبنى المؤسسة وفي الأنهج المحاذية حتى تدرك كثافة الطلب. كان جميع الأعوان في مكاتبهم وكانت هناك زحمة شديدة وعون الخلاص ينادي أسماء المواطنين بأعلى صوته لدفع معاليم الجولان والحصول على الوصل المطلوب.

 الحركة كانت تسير بشكل طبيعي لكن إن كانت لدينا ملاحظة، فهي تخص سحنة الموظف. الوجوه كانت صارمة جدا ولا يمكن أن لا نلاحظ ذلك وقد نجد للأمر تبريرا. فنحن أمام مؤسسة قابضة لأموال الجباية والأمر جدي جدا ويتطلب كل هذه الصرامة على الوجوه. وكدنا أن نسلم بالآمر لو لم نجد شيئا آخر في قباضة أخرى في قلب العاصمة. كأن الموظفين فيها أتوا من كوكب آخر مختلف عما تعودناه من موظفي القباضات المالية أو المؤسسات المشابهة. إحدى الموظفات بالذات كان سلوكها مثيرا للانتباه. إنها تستقبلك بمرح وتضحك في وجهك. نعم يحدث هذا في قباضة مالية أو في إدارة تونسية. وهي تجيبك بلطف عن أي سؤال تطرحه ويحدث أن ترحب برواد القباضة (المتعودون على قضاء شؤونهم بها) وتناديهم بالاسم ويحدث هذا أيضا. نصل إلى عون الخلاص. هو أيضا يعرف كيف يبتسم ويجيب الناس جميعا بنفس درجة اللطف والترحاب. يحدث هذا أيضا حتى انك تشعر بأن المكان رغم صبغته المالية والجبائية تنتشر فيه موجات إيجابية. نكتفي بالوصف ونعتقد أن استخلاص النتائج ليس بالأمر العسير خاصة أن أمر المعاملات في مثل هذه الإدارات لا يخفى على احد.

محطتنا الأخرى كانت مكتبا للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. تتجه مباشرة إلى عون التوجيه الذي لا بد منه لتحويلك إلى النافذة المطلوبة المحددة برقم. وهو يحاول أن يكون متفهما للجميع وفي ظل كثرة المطالب يحدث أحيانا أن لا يفهم المواطن بسهولة ويتطلب الأمر وقتا حتى يحصل التفاهم المنشود.

هناك صادف أن شهدنا خصومة نشبت بين مواطن وأحد الأعوان. (لا نحدد الجنس لأنه يمكن أن يكون امرأة كما يمكن أن يكون رجلا). لا أحد منهما أراد التنازل يومها ورغم إن المواطن قد عاد إلى مكانه بعد أن أمره الموظف بإلحاح بالعودة إلى مكان الانتظار حتى يحين دوره، فإن العون ظل غاضبا ويكرر على مسامح المواطنين ما دار بينه وبين المواطن في رغبة واضحة منه لإثبات أنه صاحب الحق ويود لو انه يجد من يؤيده من المواطنين بقاعة الاستقبال حتى يؤكد انه لم يخطئ عندما انفلتت أعصابه وتعامل بغضب شديد. المهم إن الحركة سارت اثر ذلك بشكل طبيعي. هناك بطبيعة الحال من حظي ملفه بالقبول وهناك من دعي إلى إتمام الملف، المهم أن الحركة كانت تسير دون تعقيدات ويبدو أن توسعة المكتب وإضافة أعوان جدد قد ساعدت على تحسين نسق العمل.

ملاحظة لا بد منها، ومفادها أن الحاجز الزجاجي الذي كان يفصل بين المواطن والعون قد رفع وهو- ربما- ما جعل الحركة تسير بشكل أفضل.

الرحلة تواصلت وكنا في زيارة إلى مكتب للشركة الوطنية لتوزيع واستغلال المياه، "الصوناد". هذا المكتب يأتيه الناس من العديد من أحياء العاصمة ومشكله الأساسي إننا نجد دائما نوافذ مغلقة. هذا الموضوع يكون دائما محور اهتمام الناس الذين يتجمعون في قاعة الاستقبال ويتساءلون لماذا يشتغل عونان أو ثلاثة على أقصى تقدير وتبقى بقية النوافذ دائما مغلقة؟ لماذا لا يشتغل جميع الأعوان في وقت واحد لضمان نسق أفضل للعمل؟؟

سؤال لا يبدو أن له إجابة لأن الحال متواصل على ما هو عليه منذ فترة وفق ما أكده لنا بعض المواطنين الموجودين يومها بالمكان. هذا المكتب يخصص نافذتين لخلاص المعاليم في حين أن بقية النوافذ تخصص للاستفسارات والمطالب المتنوعة، وقلما تتوقف النافذتان - أمر غريب- عن العمل حتى إن الحضور كانوا يسخرون يومها قائلين: إذا كنت ستدفع فلا حاجة بك للانتظار، أما إذا أردت أن تستفسر عن شيء أو إن تقضي مصلحة أخرى، فعليك الانتظار وأحيانا إلى ما لا نهاية له.

ماذا يمكن أن نستنتجه بعد زيارة المصالح المذكورة وهي عينة عشوائية بطبيعة الحال لكنها معبرة عن وضع الإدارة في تونس، هو إن أهم مشكل هو مشكل الضغط. الجميع في ضغط. فالموظف أمام ضغط المطالب (ربما ليس في كل الأيام لكن هناك مصالح إدارية تواجه يوميا تقريبا كثافة شديدة) والمواطن يجد نفسه أمام طول الانتظار وكثرة الأوراق المطلوبة. وهنا يطرح سؤال تعصير الإدارة وإن كنا جديين فعلا في المرور إلى العصر الرقمي في وقت أنت كمواطن مضطر إلى الذهاب إلى البلدية للحصول على مضمون ( ولادة أو وفاة) بعد أن تكون قد قمت بما يلزم عن بعد؟؟؟

ويكفي أن نلقي نظرة على بعض الصفحات الرسمية لبعض الإدارات التونسية حتى ندرك أن فكرة تحيين المعلومات رغم أهميتها هي آخر الاهتمامات. ماذا نجد مثلا عندما نبحث على الانترنيت عن الخدمات التي تقدمها الصناديق الاجتماعية؟ نجد المعلومات القديمة رغم أن الدولة قد اتخذت إجراءات يمكن اعتبارها ثورية لفائدة المواطن على غرار الترفيع في حجم القروض الشخصية وقروض السكن وقرض السيارة وغيرها وعلى حد علمنا فقد دخلت حيز التنفيذ منذ بداية فيفري الجاري.

في المقابل لا يمكن أن ننكر أن هناك مجهودات تبذل وأن الموظف اليوم واع بأنه مطلوب منه أن يقطع مع الماضي رغم إننا ندرك انه يلزمنا وقت حتى يتخلص من الموروث الإداري القديم. ونحن اليوم إن شئنا في مرحلة انتقالية نأمل أن تصل بنا إلى بناء علاقة جديدة ومنصفة بين المواطن والإدارة. وللتذكير فقد عشنا مراحل في تونس صار فيه المواطن يستجدي الخدمات رغم إنها من بين حقوقه، دون أن ننسى الأسلوب الفوقي الذي يستعمله بعضهم ومزاجية البعض الآخر.

اليوم هناك شعور بان الدولة تضغط من اجل تغيير العقلية وترفض أن يتواصل "التلاعب" بالمواطن بين المكاتب، لأن لا أحد في تونس ينكر وجود إرادة سياسية فاعلة وخطاب سياسي يقاوم العقلية القديمة المترسخة، ويتحدث دائما عن كرامة المواطن وقيمة المواطن وحقوق المواطن ومصالحه، وهو أحببنا أم كرهنا خطاب له تأثيره على الطرفين أي المواطن والموظف وإن اختلفت التقييمات.

بقي، أن بلادنا تظل محكومة دائما بالإمكانيات. صحيح إن الموظف يتحمل مسؤولية كبيرة فيما ما آلت إليه الإدارة التونسية. وقد كان هناك استسهال للوظيفة العمومية وقد سادت في تونس طويلا تقاليد مريبة تبيح التعدي على الملك العمومي، وتعتبر الوظيفة في القطاع العمومي مكسبا لا يمس ابدا، لكن الموظف هو جزء من منظومة كاملة والإدارة يلزمها إمكانيات وجهود كبيرة وإرادة حقيقية من أجل إحداث التغيير المطلوب. وفي الانتظار، تشهد الإدارة التونسية بعض التطور تحت ضغط الدولة والمجتمع، لكنها تبقى الخطوات بطيئة ويمكن القول إنها خطى السلحفاة، وهذا التغيير نلمسه بالخصوص في نوعية العلاقة مع المواطن الذي يمكنه اليوم أن يصر على حقوقه وأن يبلغ صوته وهو أمر ليس بالهين إذا ما عرفنا تاريخ العلاقة بين المواطن والإدارة، في المقابل تبقى الصفوف طويلة خاصة في المناسبات التي تتكثف فيه الحركة.. الأعوان يبقى عددهم قليل مقارنة بحجم الخدمات والأوراق كثيرة، والإمضاءات المطلوبة من أكثر من مصلحة كثيرة، والوقت الذي يصرف في قضاء الشؤون طويل جدا. وهذا كله يبقى من مظاهر التخلف التي تعيق تطور الإدارة والوصول إلى تلك المعادلة الصعبة التي لا يتعطل معها عمل الموظف ولا تتعطل مصلحة المواطن.

 حياة السايب