إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

بطاقة كتاب: "صياد الغروب" لأم الزين بالشيخة المسكيني .. حين تتحول الروائية إلى كون سردي

 

 

 

 

بقلم: ريم القمري

 

تونس-الصباح

هل سبق وأن وقفت عاجزا أمام رواية؟ نعم لا تستغرب سؤالي ، ولا تظنني مصابة بالجنون ، لدرجة أن ينتابني شعور كبير بالعجز، وتختلط عندي جملة من الأحاسيس ،والمشاعر المضطربة. حصل معي كل هذا ، وأنا أغلق باب رواية " صياد الغروب" .

للكاتبة والشاعرة والفيلسوفة ، أم الزين بن الشيخة المسكيني، والصادرة مؤخرا عن دار أمينة للنشر

بالقيروان.

قد يبدو لك سؤالي المذكور أعلاه ،مبالغا فيه ، أو هو ربما من قبيل السفسطة اللغوية، ولن ألومك فلك الحق أن تفكر في ذلك، لكني فقط سأدعوك الى الإبحار معي، في عالم هذه الرواية العجائبية.

والغرائبية ايضا، ولكن الواقعية جدا.

فقط علي أن أحذرك أيها القارئ، أنك مطالب بالتسلح بالكثير من الخيال ، ولا تظنني هنا أمازحك أو أسخر منك، بل أنا أحرضك فعلا ،على شحذ سكاكين الخيال في عقلك، و لكن لا تخشى شيئا هذا خيال خصب و ولاد ، و هو توءم واقعك.

و بهذا تكون جديرا بالإبحار في عالم صياد الغروب.

و هنا كما أسلفنا، نحن لا نتحدث عن خيال عقيم بل نحن داخل خيال ولاد ، خيال ٱكل ،أكول خيال يأكلنا داخل أحشائه، ثم يلدنا من جديد، إنه ذلك الخيال الذي نصنعه، فيصنعنا ، وهو ذات الخيال الذي نمتطي صهوته حتى نفهم الواقع.

و لأننا أيضا كائنات خيالية بقدر ما هي حقيقية جدا في الوقت ذاته، نحتاج أن نعبر حواجز الواقع ونكسرها من خلال مطية الخيال.

صياد الغروب رواية استثنائية بكل المقاييس، وأؤكد لك عزيزي القارئ، أنني هنا لا أبالغ ، بل إنني هنا أحدثك عن رواية، استطاعت أن تطوع الخيال لخدمة الواقع ، وأن تحقن الواقع، في جسد الخيال دون أن تجعلك تحس، بأي إسقاط أو بذلك الإنتقال الفج عادة، بين ما هو خيالي، وبين ما هو واقعي.

نجحت أم الزين بالشيخة في الإمساك بزمام الخيال، دون يفلت منها الواقع،بل إنها أكثر من ذلك، لم تفلت لا شاردة و لا واردة متعلقة بالوضع السياسي و الإقتصادي و الإجتماعي ، إلا و أقحمتها في الرواية ، و أوجدت لها موقعاً سرديا..

واللغة عند الكاتبة ،لغة مستفزه في جمالها، ورشاقتها ، وقدرتها على الوصف ،بشكل مكثف دون أن تغرق في التفاصيل المملة ، أو في ثقل اللغة أوالمشاهد المسقطة ،على العكس تماما هي توظف الكلمات توظيفا جيدا.

ولا يمكننا القول أن أم الزين ، تكتب لغة بسيطة أو سهلة، على العكس تماما ، إنها تكتب بنفس فلسفي واضح جدا، و نجحت بطريقه مذهلة في جعل الفلسفه كأرضييه لروايتها، قريبه جدا من القارئ، ومفهومة لديه ،يمكنه استيعابها وفهمها إعادة إنتاجها من خلال القراءة الواعية.

كل هذا استطاعت الروائية أن تتحكم فيه دون أن يكون هناك أي قفازات سردية مبهمة، أو لبس في الأفكار و الأحداث.

على العكس تماما منذ الصفحة الأولى للرواية، وصولا إلى نهايتها، الصفحة الأخيرة، كل الشخصيات كانت مترابطة فيما بينها، وإن لم يجمع بينها لقاء مباشر.

والجدير بالملاحظة أن كل شخصيات الرواية أبطال لا يوجد بطل واحد بشكل خاص، كلهم أبطال وكلهم شاركوا في صناعة هذا السرد ،المترنح بين الحقيقة والخيال، كلهم دون استثناء، الشخصيات البشرية والتي هي من لحم ودم ، والشخصيات الما ورائية كالجن، والشخصيات التي أعادت الساردة خلقها كالأجنة و الأشباح و الأطياف.

لقد إستنطقت الكاتبة البشر والحجر والطبيعة والجن، لتخلق مناخا سرديا بتضاريس سردية متنوعه ومختلفة.

حتى اللغة نفسها ، وحروفها كان لها دور سردي في هذه الرواية الفلسفية الروح.

صياد الغروب هي في الواقع، وطن مصغر، نعم لقد كتبت أم الزين بالشيخة وطنها، وطنها بالمعنى المادي الحقيقي ، حيث أنها تحدثت عن الكثير من التغيرات التي حصلت في تونس خلال العشرية التي تلت الثورة التونسية.

و كتبت أيضا وطنها العاطفي والروحي، وطن ننشده ونصبوا إليه .

إنها دعوة، ليبحث كل واحد منا عن هذا الوطن داخله، بالدرجة الاولى.

إنها رواية البحث عن الذات، لأننا متى ما وجدنا

ذواتنا وجدنا الوطن الحقيقي.

وبالعودة الى لغة الرواية، يجدر بنا الإشارة هنا، أن الكاتبة، تملك مهارات لغوية كبيرة، حيث استطاعت أن تجمع في هذه الرواية، بين الشعر والفلسفة، في العديد من المواضع في الرواية.

لغة شعرية، ممزوجة بنفس فلسفي عميق، يدفعك للتأمل، والتفكير. دون أن يثقل عليك الفهم، أو يصبح المعني والمفردات صعبة، وغامضة. على العكس تماما إنها لغة منسابة، شفافة وتصيب القلب مباشرة.

ولقد استغلت الكاتبة تقنية، السحرية الواقعية، لتمرر من خلالها رسائل مباشرة، وغير مباشرة لنقد السلطة السياسية، والفكرية، ولتضع إصبعها على المسكوت عنه.

لقد صنعت لنا أرضية سردية ثابته، رغم ما فيها من مناطق رخوة، وأحيانا منزلقه و معبدة بالحجارة، وبالمطبات. إلا أنها وبإقتدار كبير، استطاعت أن تجمع كل المتناقضات ،وتشرحها بمشرط السرد الدقيق، وتضعها تحت مجهر اللغة.

لذلك قلت منذ البداية أن هذه الرواية، بقدر ما فيها من خيال ، هي واقعية جدا، هي بنت عصرها بنت لحظتها الراهنة.

إن كتابة أم الزين بن الشيخة، تكسر مع الكتابة التقليدية أسلوبا ولغة وفكرا ، إنها تعتمد لغة تجريبية، تكسر مع العادي ،بل تهزه وتخلخل أركانه، وتذهب في الأشياء الى أعماقها ، إنها تحفر فيما وراء الواقع ، حتى تلمع الحقيقة مثل ما يلمع الملح ، في شواطئ جزيرة قرقنة.

عزيزي القارئ ، لن تبقى أنت نفسك ،بعد أن تنتهي من هذه الرواية، أؤكد لك بأنك ستكون شخصا مختلفا تماما ، ستتعلم كيف تحزن ،وكيف تبكي، فتسقط من عيونك أحيانا ، أجنة قرروا أن يولدوا وأن يخطوا أقدارهم الخاصة. وقد تبكي فتتحول الدموع الى حروف ، تتخاصم وتتجادل فيما بينها. وقد تضحك ، فيولد من الجدران حولك جنيات جميلات ، هن أقرب للحوريات، وقد تنام ، فيختلط المنام بالواقع، وترى عوالم سردية، تضج بالخيال وترقص ،على إيقاع أعراس سرسينيا.

ستصرخ ملء حنجرتك ، مرددا شعارات الثورة.

وستعيش زمان الثورة، وما بعدها ،وترى نفسك تعيد تشكيل وكتابة الزمن السردي.

إن الزمن السردي في هذه الرواية، زمن متحرك بكل المقاييس، زمن تتداخل فيه كما ذكرنا أنفا الشخصيات والأحداث ، وتتداخل أيضا الأصوات.

لذلك ستجد نفسك داخل مدينة "مزبلة الكتب" وستجد داخل هذه المزبلة, كتابا يبحثون عن كتبهم وآخرون يأكلون كتبهم، وبعضهم يصيبه الجنون.

وتتحول الكتابة الى جريمة دولة، يعاقب عليها القانون.

عليك أن تدرك جيدا ، أن هذه الرواية لا تقدم لك أجوبة جاهزة، بل هي تطرح عليك المزيد من الأسئلة، لتحرك فيك الشك المعرفي، إنها تقلب المفاهيم كلها، لتأسس للحقيقة، بمعناها المعرفي والفلسفي.

دوار لذيذ ،ومتعة سردية، منقطعة النظير.

حتى أنك تتمنى داخلك، أن لا تنتهي هذه الرواية أبدا وأن تتواصل هذه العوالم ،السحرية المربكة في صهرك داخلها.

وكتبت الرواية في شكل ترتيلة ، وتمتد هذه الترتيلة على 33 لوحة، افتتحت أو بدأت الرواية بترتيلة الوداع ،و انتهت وأغلقت ،بترتيلة ما بعد الرواية

وأعتقد أن إختيار أم الزين بن الشيخة، للألواح يحمل من الرمزية الكثير، ويحيلنا الى مناخ الملاحم وهو ما يستبطن داخله، الكثير من العمق الفكري والفلسفي و حتى الأسطوري.

ولذلك كما ذكرنا سابقا ، كان الشعر حاضرا بقوة داخل هذه الرواية، لأن الشعر يبقى دائما، أقدم وأهم وأعرق أشكال التعبير عن الوجود.

ولذلك ربما لم تستثني الكاتبة من شخوص رواياتها الأرواح والأطياف والأشباح.

إنها تمنح لكل كائنات الوجود، المرئية وغير المرئية والأثيرية، موقعا وبقعة ضوء سردية

لتتمظهر من خلالها.

والجدير بالذكر أن الشعر في هذه الرواية لم يكن حاضرا فقط بوجوده كنص شعري، إنما أيضا من خلال رمزية الصورة.

فصور الغروب التي كان صياد الغروب أيوب يلتقطها ويخزنها ،صانعا من كل غروب صورة مختلفة عن الاخرى.

لا توجد صورة للغروب في هذه الرواية تشبه سابقتها أو لاحقتها، لأن صياد الغروب، يقتنص كل يوم غروبا جديدا.

يخلقه و يشكله و يمزج ألوانه ، ليتحول كل يوم الى شروق متجدد.

إنها فلسفة صراع الإنسان مع القدر ، و ذلك السؤال الأزلي ماذا لو كان بإمكان الإنسان أن يغير وجهة بوصلة الأقدار ؟

ماذا لو أنه يملك سلطة على قدره، تمنحه القدرة على إختيار، أقدار تناسبه، أكثر مما قدر له سلفا.

هذه الرواية هي بهذا المعنى صراع الإنسان مع الأقدار ، حيث خلقت الكاتبة لشخوصها أقدارا تختلف عن اقدارها، جعلتهم ينجحون و يتجاوزون اقدارهم.

فمنحت الأموات حياة ( الأجنة) ، و منحت القدرة على المشي ،و اختراق العوالم الخفية، لمن كان عاجزا عن القيام بذلك.

إنها معركة الإنسان الأزلية.و الإختبار الحقيقي الذي وضعها الإله في طريق الإنسان.

رواية " صياد الغروب" ، ليست مجرد رواية، إنها عالم مكتمل الأركان ، يمتزج فيه الخيالي و الواقعي و الموجود بالمنشود، بلغة شفافة بلورية ، شعرية و فلسفية.

كون سردي، يقطع مع الكتابة الروائية بمفهومها الكلاسيكي ، و يؤسس إلى كتابة منفلته، من كل الضوابط، التي من شأنها، أن تضعف الكتابة السردية.

إنها باختصار، رواية لا تغادرنا، بل تسكننا عميقاً.

 

 

 

 

 

 

 

بطاقة كتاب: "صياد الغروب" لأم الزين بالشيخة المسكيني  .. حين تتحول الروائية إلى كون سردي

 

 

 

 

بقلم: ريم القمري

 

تونس-الصباح

هل سبق وأن وقفت عاجزا أمام رواية؟ نعم لا تستغرب سؤالي ، ولا تظنني مصابة بالجنون ، لدرجة أن ينتابني شعور كبير بالعجز، وتختلط عندي جملة من الأحاسيس ،والمشاعر المضطربة. حصل معي كل هذا ، وأنا أغلق باب رواية " صياد الغروب" .

للكاتبة والشاعرة والفيلسوفة ، أم الزين بن الشيخة المسكيني، والصادرة مؤخرا عن دار أمينة للنشر

بالقيروان.

قد يبدو لك سؤالي المذكور أعلاه ،مبالغا فيه ، أو هو ربما من قبيل السفسطة اللغوية، ولن ألومك فلك الحق أن تفكر في ذلك، لكني فقط سأدعوك الى الإبحار معي، في عالم هذه الرواية العجائبية.

والغرائبية ايضا، ولكن الواقعية جدا.

فقط علي أن أحذرك أيها القارئ، أنك مطالب بالتسلح بالكثير من الخيال ، ولا تظنني هنا أمازحك أو أسخر منك، بل أنا أحرضك فعلا ،على شحذ سكاكين الخيال في عقلك، و لكن لا تخشى شيئا هذا خيال خصب و ولاد ، و هو توءم واقعك.

و بهذا تكون جديرا بالإبحار في عالم صياد الغروب.

و هنا كما أسلفنا، نحن لا نتحدث عن خيال عقيم بل نحن داخل خيال ولاد ، خيال ٱكل ،أكول خيال يأكلنا داخل أحشائه، ثم يلدنا من جديد، إنه ذلك الخيال الذي نصنعه، فيصنعنا ، وهو ذات الخيال الذي نمتطي صهوته حتى نفهم الواقع.

و لأننا أيضا كائنات خيالية بقدر ما هي حقيقية جدا في الوقت ذاته، نحتاج أن نعبر حواجز الواقع ونكسرها من خلال مطية الخيال.

صياد الغروب رواية استثنائية بكل المقاييس، وأؤكد لك عزيزي القارئ، أنني هنا لا أبالغ ، بل إنني هنا أحدثك عن رواية، استطاعت أن تطوع الخيال لخدمة الواقع ، وأن تحقن الواقع، في جسد الخيال دون أن تجعلك تحس، بأي إسقاط أو بذلك الإنتقال الفج عادة، بين ما هو خيالي، وبين ما هو واقعي.

نجحت أم الزين بالشيخة في الإمساك بزمام الخيال، دون يفلت منها الواقع،بل إنها أكثر من ذلك، لم تفلت لا شاردة و لا واردة متعلقة بالوضع السياسي و الإقتصادي و الإجتماعي ، إلا و أقحمتها في الرواية ، و أوجدت لها موقعاً سرديا..

واللغة عند الكاتبة ،لغة مستفزه في جمالها، ورشاقتها ، وقدرتها على الوصف ،بشكل مكثف دون أن تغرق في التفاصيل المملة ، أو في ثقل اللغة أوالمشاهد المسقطة ،على العكس تماما هي توظف الكلمات توظيفا جيدا.

ولا يمكننا القول أن أم الزين ، تكتب لغة بسيطة أو سهلة، على العكس تماما ، إنها تكتب بنفس فلسفي واضح جدا، و نجحت بطريقه مذهلة في جعل الفلسفه كأرضييه لروايتها، قريبه جدا من القارئ، ومفهومة لديه ،يمكنه استيعابها وفهمها إعادة إنتاجها من خلال القراءة الواعية.

كل هذا استطاعت الروائية أن تتحكم فيه دون أن يكون هناك أي قفازات سردية مبهمة، أو لبس في الأفكار و الأحداث.

على العكس تماما منذ الصفحة الأولى للرواية، وصولا إلى نهايتها، الصفحة الأخيرة، كل الشخصيات كانت مترابطة فيما بينها، وإن لم يجمع بينها لقاء مباشر.

والجدير بالملاحظة أن كل شخصيات الرواية أبطال لا يوجد بطل واحد بشكل خاص، كلهم أبطال وكلهم شاركوا في صناعة هذا السرد ،المترنح بين الحقيقة والخيال، كلهم دون استثناء، الشخصيات البشرية والتي هي من لحم ودم ، والشخصيات الما ورائية كالجن، والشخصيات التي أعادت الساردة خلقها كالأجنة و الأشباح و الأطياف.

لقد إستنطقت الكاتبة البشر والحجر والطبيعة والجن، لتخلق مناخا سرديا بتضاريس سردية متنوعه ومختلفة.

حتى اللغة نفسها ، وحروفها كان لها دور سردي في هذه الرواية الفلسفية الروح.

صياد الغروب هي في الواقع، وطن مصغر، نعم لقد كتبت أم الزين بالشيخة وطنها، وطنها بالمعنى المادي الحقيقي ، حيث أنها تحدثت عن الكثير من التغيرات التي حصلت في تونس خلال العشرية التي تلت الثورة التونسية.

و كتبت أيضا وطنها العاطفي والروحي، وطن ننشده ونصبوا إليه .

إنها دعوة، ليبحث كل واحد منا عن هذا الوطن داخله، بالدرجة الاولى.

إنها رواية البحث عن الذات، لأننا متى ما وجدنا

ذواتنا وجدنا الوطن الحقيقي.

وبالعودة الى لغة الرواية، يجدر بنا الإشارة هنا، أن الكاتبة، تملك مهارات لغوية كبيرة، حيث استطاعت أن تجمع في هذه الرواية، بين الشعر والفلسفة، في العديد من المواضع في الرواية.

لغة شعرية، ممزوجة بنفس فلسفي عميق، يدفعك للتأمل، والتفكير. دون أن يثقل عليك الفهم، أو يصبح المعني والمفردات صعبة، وغامضة. على العكس تماما إنها لغة منسابة، شفافة وتصيب القلب مباشرة.

ولقد استغلت الكاتبة تقنية، السحرية الواقعية، لتمرر من خلالها رسائل مباشرة، وغير مباشرة لنقد السلطة السياسية، والفكرية، ولتضع إصبعها على المسكوت عنه.

لقد صنعت لنا أرضية سردية ثابته، رغم ما فيها من مناطق رخوة، وأحيانا منزلقه و معبدة بالحجارة، وبالمطبات. إلا أنها وبإقتدار كبير، استطاعت أن تجمع كل المتناقضات ،وتشرحها بمشرط السرد الدقيق، وتضعها تحت مجهر اللغة.

لذلك قلت منذ البداية أن هذه الرواية، بقدر ما فيها من خيال ، هي واقعية جدا، هي بنت عصرها بنت لحظتها الراهنة.

إن كتابة أم الزين بن الشيخة، تكسر مع الكتابة التقليدية أسلوبا ولغة وفكرا ، إنها تعتمد لغة تجريبية، تكسر مع العادي ،بل تهزه وتخلخل أركانه، وتذهب في الأشياء الى أعماقها ، إنها تحفر فيما وراء الواقع ، حتى تلمع الحقيقة مثل ما يلمع الملح ، في شواطئ جزيرة قرقنة.

عزيزي القارئ ، لن تبقى أنت نفسك ،بعد أن تنتهي من هذه الرواية، أؤكد لك بأنك ستكون شخصا مختلفا تماما ، ستتعلم كيف تحزن ،وكيف تبكي، فتسقط من عيونك أحيانا ، أجنة قرروا أن يولدوا وأن يخطوا أقدارهم الخاصة. وقد تبكي فتتحول الدموع الى حروف ، تتخاصم وتتجادل فيما بينها. وقد تضحك ، فيولد من الجدران حولك جنيات جميلات ، هن أقرب للحوريات، وقد تنام ، فيختلط المنام بالواقع، وترى عوالم سردية، تضج بالخيال وترقص ،على إيقاع أعراس سرسينيا.

ستصرخ ملء حنجرتك ، مرددا شعارات الثورة.

وستعيش زمان الثورة، وما بعدها ،وترى نفسك تعيد تشكيل وكتابة الزمن السردي.

إن الزمن السردي في هذه الرواية، زمن متحرك بكل المقاييس، زمن تتداخل فيه كما ذكرنا أنفا الشخصيات والأحداث ، وتتداخل أيضا الأصوات.

لذلك ستجد نفسك داخل مدينة "مزبلة الكتب" وستجد داخل هذه المزبلة, كتابا يبحثون عن كتبهم وآخرون يأكلون كتبهم، وبعضهم يصيبه الجنون.

وتتحول الكتابة الى جريمة دولة، يعاقب عليها القانون.

عليك أن تدرك جيدا ، أن هذه الرواية لا تقدم لك أجوبة جاهزة، بل هي تطرح عليك المزيد من الأسئلة، لتحرك فيك الشك المعرفي، إنها تقلب المفاهيم كلها، لتأسس للحقيقة، بمعناها المعرفي والفلسفي.

دوار لذيذ ،ومتعة سردية، منقطعة النظير.

حتى أنك تتمنى داخلك، أن لا تنتهي هذه الرواية أبدا وأن تتواصل هذه العوالم ،السحرية المربكة في صهرك داخلها.

وكتبت الرواية في شكل ترتيلة ، وتمتد هذه الترتيلة على 33 لوحة، افتتحت أو بدأت الرواية بترتيلة الوداع ،و انتهت وأغلقت ،بترتيلة ما بعد الرواية

وأعتقد أن إختيار أم الزين بن الشيخة، للألواح يحمل من الرمزية الكثير، ويحيلنا الى مناخ الملاحم وهو ما يستبطن داخله، الكثير من العمق الفكري والفلسفي و حتى الأسطوري.

ولذلك كما ذكرنا سابقا ، كان الشعر حاضرا بقوة داخل هذه الرواية، لأن الشعر يبقى دائما، أقدم وأهم وأعرق أشكال التعبير عن الوجود.

ولذلك ربما لم تستثني الكاتبة من شخوص رواياتها الأرواح والأطياف والأشباح.

إنها تمنح لكل كائنات الوجود، المرئية وغير المرئية والأثيرية، موقعا وبقعة ضوء سردية

لتتمظهر من خلالها.

والجدير بالذكر أن الشعر في هذه الرواية لم يكن حاضرا فقط بوجوده كنص شعري، إنما أيضا من خلال رمزية الصورة.

فصور الغروب التي كان صياد الغروب أيوب يلتقطها ويخزنها ،صانعا من كل غروب صورة مختلفة عن الاخرى.

لا توجد صورة للغروب في هذه الرواية تشبه سابقتها أو لاحقتها، لأن صياد الغروب، يقتنص كل يوم غروبا جديدا.

يخلقه و يشكله و يمزج ألوانه ، ليتحول كل يوم الى شروق متجدد.

إنها فلسفة صراع الإنسان مع القدر ، و ذلك السؤال الأزلي ماذا لو كان بإمكان الإنسان أن يغير وجهة بوصلة الأقدار ؟

ماذا لو أنه يملك سلطة على قدره، تمنحه القدرة على إختيار، أقدار تناسبه، أكثر مما قدر له سلفا.

هذه الرواية هي بهذا المعنى صراع الإنسان مع الأقدار ، حيث خلقت الكاتبة لشخوصها أقدارا تختلف عن اقدارها، جعلتهم ينجحون و يتجاوزون اقدارهم.

فمنحت الأموات حياة ( الأجنة) ، و منحت القدرة على المشي ،و اختراق العوالم الخفية، لمن كان عاجزا عن القيام بذلك.

إنها معركة الإنسان الأزلية.و الإختبار الحقيقي الذي وضعها الإله في طريق الإنسان.

رواية " صياد الغروب" ، ليست مجرد رواية، إنها عالم مكتمل الأركان ، يمتزج فيه الخيالي و الواقعي و الموجود بالمنشود، بلغة شفافة بلورية ، شعرية و فلسفية.

كون سردي، يقطع مع الكتابة الروائية بمفهومها الكلاسيكي ، و يؤسس إلى كتابة منفلته، من كل الضوابط، التي من شأنها، أن تضعف الكتابة السردية.

إنها باختصار، رواية لا تغادرنا، بل تسكننا عميقاً.