إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

رأي.. تساوي الفرص

 

بقلم: هاني مبارك

لسنا بحاجة لاستدعاء كافة التسريبات التي تعبق بها سماء الأزمة لكي نستنج أن الحرب على غزة لها أبعادها التي تتجاوز القضاء على حركة "حماس" ومعها كل الفصائل الفلسطينية المسلحة، أو تحرير واستعادة بضعة عشرات من الأسرى الإسرائيليين الذين تجاوزت كلفة استعادتهم الأخلاقية سحب كل الرصيد الأخلاقي المزعوم لدولة قامت على ادعاء أنها ليست فقط جزء من مركزية ثقافة الغرب، بل حصنها المتقدم في مواجهة ثقافة الطغيان الدامي والظلامية الدامسة.

 كما أننا لسنا بحاجة إلى رتق بعض المساحات ''المضيئة'' في تاريخ دولة حرية حركة رأس المال الاستعماري والتسلطي بالعودة إلى قراءة أطروحة صموئيل هنتغتون، أو نفض الغبار عن مقاربات برنارد لويس التي كانت ولا زالت تعتبر محرك تفكير الدولة العميقة في الولايات المتحدة، سواء ما تعلق منها باوراسيا أو منطقة الشرق الأوسط، لكي ندرك أبعاد الإصرار الأمريكي على تحويل الحدث إلى فرصة للانتصار وبناء إستراتيجية ما زال البحث عنها جاريا منذ انهيار جدار برلين، إستراتيجية كبرى تضبط إيقاع سلوكيات الولايات المتحدة تجاه الخيارات العظمى أمامها التي سيكون لها بالغ الأثر في تشكيل مستقبل البيئة الدولية لنحو المائة عام القادمة.

كذلك فإننا في غنى عن مراجعة نتائج تطبيقات كونداليزا رايس المريعة لنظرية صراع الحضارات بهندسات الفوضى الخلاقة، إن بتصنيع الإرهاب أو الانقلابات الدموية والحروب الأهلية فضلا عن الحروب التدميرية لدول بأكملها ونسف أنظمة وتخليق أنظمة بديلة عنها من خيالات الثقافة الاستعمارية بحجج وذرائع كشف سير الأحداث مدى تهافتها وسخافتها، نعم نحن في غنى عن كل ذلك لنصدق إننا لسنا خيارا أمريكيا، وربما العكس هو الأصح.

فبعد أكثر من ثلاثين عاما على اتفاقية اوسلوا، ورغم ما أبدته القيادة الفلسطينية من مرونة غير مسبوقة، وقبلها اتفاقيتي كامب ديفيد والسلام المصرية الإسرائيلية، وتبعتهما اتفاقية وادي عربة، ثم قمة بيروت عام  2000 والتدحرج التطبيعي المتواصل، وبعد سلسلة من الفشل الإسرائيلي الذريع في خلق قيادات وهياكل قيادية فلسطينية بديلة للقيادات الوطنية الفلسطينية، فإن الولايات المتحدة لم تنصاع بعد لحقائق الواقع وتقبل بالضغط الجاد على إسرائيل لتسوية تاريخية من شأنها إعادة الهدوء إلى منطقة حيوية في الصراع بين دول قيادة النظام الدولي.

لذلك فان البحث اليوم عن محاولات للهروب من مواجهة الحقائق المؤلمة عبر بناء جدران من الوهم الجديد حول النوايا الأمريكية والإسرائيلية نحو الحقوق الوطنية الفلسطينية، أو الصداقات مع أنظمة الدول العربية، لن يفضي إلا إلى منح الولايات المتحدة الوقت الذي تحتاجه لتنفيذ رؤيتها في البناء للقرن الأمريكي القادم، والتي ستكون أداته الإقليمية الفاعلة إسرائيل الواسعة النفوذ، رغم ما قد يحمله ذلك من مخاطر تحميل طرف ما ليس بوسعه القيام به إلا بتوافر عدد من الشروط اقلها خلق توازنات بين القوى والإمكانيات الجغرافية والديمغرافية.

ولذا فان عودة الحديث عن أعراق واثنيات المنطقة وافتعال مزيد من أزمات التفكيك الجغرافي للوحدات السياسية كما حدث من قبل في لبنان والعراق وسوريا وليبيا واليمن وفي السودان قديما وحاضرا، وكما هو مبيت مستقبلا بمثل ما أشار له الفريق احمد شفيق وغيره من خطط ومخططات تتماهى مع مقولات ووصايا برناند لويس الذي يرى بعالمنا العربي مجموعات أقوام من الفاسدين والفوضويين والقوميات والأديان والأعراق والاثنيات التي لم ترتق لمستويات إقامة دول عصرية علمانية أو حتى إسلامية لذا يجب أن تستثمر هذه النقطة لتفكيكهم وممارسة السلطة عليهم من قبل قوى خارجية، عودة هذه الأحاديث وغيرها يؤكد التصميم الأمريكي على المضي قدما في تنفيذ رؤية تفكيك المنطقة لتسهيل قيادتها والسيطرة عليها إسرائيليا خدمة للإستراتيجية الأمريكية في احتوائها والنأي بها عن النفوذين الصيني والروسي. وأن أية أحاديث أخرى عن إقامة الدولة الفلسطينية أو تمكين السلطة الفلسطينية من غزة وتوسيع نطاق ولايتها السياسية والأمنية تتنافى تماما مع سياسات الاحتلال الذي لم يتوقف يوما عن مصادرة الأراضي الفلسطينية واستيطانها، وإضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية بمختلف السبل بدعم وتأييد أمريكيين لخلق انطباع لدى دول العالم انه لا يوجد شريك فلسطيني يمكن البناء معه لمستقبل آمن.

وربما الأخطر من ذلك ليس تصديق هذه الادعاءات والمزاعم بل القيام بالدور الوظيفي لدعاتها ومخترعيها على حد تعبير المرحوم عبد الوهاب المسيري والدعوة لتصديقها والعمل على ضوء متطلباتها كحقائق دون إخضاعها للتحليل المنطقي الذي قد يقود إلى عكسها، أو الأرجح أن يكون كذلك، حيث يتضح اليوم مدى تهافت مجموعة المبادئ والقيم الحضارية الليبرالية وغياب وحدانية المعايير في التعامل مع حقوق البشر والناس.

ولذلك وقبل تبادل الاتهامات والاتهامات المضادة أو التربع على قمم الوهم وتصديق ادعاءات الآخرين وللقطع مع أساليب التفكير السلفي المتحجرة، صار من الضروري الآن أن ينتقل الجميع، عربا ومسلمين وليس فلسطينيين فقط من مربعات التنصل من البحث عن تحويل الحدث إلى فرصة دون انتظارات العطايا الأمريكية، لان إسرائيل ومعها أمريكا في المقابل ليستا بوضع أفضل، حيث ولأول مرة تتساوى الفرص وأن من سيربح فرصته هو الذي يقطع مع الأدوار الوظيفية لخصمه.

*أستاذ الإعلام في جامعة منوبة

رأي..   تساوي الفرص

 

بقلم: هاني مبارك

لسنا بحاجة لاستدعاء كافة التسريبات التي تعبق بها سماء الأزمة لكي نستنج أن الحرب على غزة لها أبعادها التي تتجاوز القضاء على حركة "حماس" ومعها كل الفصائل الفلسطينية المسلحة، أو تحرير واستعادة بضعة عشرات من الأسرى الإسرائيليين الذين تجاوزت كلفة استعادتهم الأخلاقية سحب كل الرصيد الأخلاقي المزعوم لدولة قامت على ادعاء أنها ليست فقط جزء من مركزية ثقافة الغرب، بل حصنها المتقدم في مواجهة ثقافة الطغيان الدامي والظلامية الدامسة.

 كما أننا لسنا بحاجة إلى رتق بعض المساحات ''المضيئة'' في تاريخ دولة حرية حركة رأس المال الاستعماري والتسلطي بالعودة إلى قراءة أطروحة صموئيل هنتغتون، أو نفض الغبار عن مقاربات برنارد لويس التي كانت ولا زالت تعتبر محرك تفكير الدولة العميقة في الولايات المتحدة، سواء ما تعلق منها باوراسيا أو منطقة الشرق الأوسط، لكي ندرك أبعاد الإصرار الأمريكي على تحويل الحدث إلى فرصة للانتصار وبناء إستراتيجية ما زال البحث عنها جاريا منذ انهيار جدار برلين، إستراتيجية كبرى تضبط إيقاع سلوكيات الولايات المتحدة تجاه الخيارات العظمى أمامها التي سيكون لها بالغ الأثر في تشكيل مستقبل البيئة الدولية لنحو المائة عام القادمة.

كذلك فإننا في غنى عن مراجعة نتائج تطبيقات كونداليزا رايس المريعة لنظرية صراع الحضارات بهندسات الفوضى الخلاقة، إن بتصنيع الإرهاب أو الانقلابات الدموية والحروب الأهلية فضلا عن الحروب التدميرية لدول بأكملها ونسف أنظمة وتخليق أنظمة بديلة عنها من خيالات الثقافة الاستعمارية بحجج وذرائع كشف سير الأحداث مدى تهافتها وسخافتها، نعم نحن في غنى عن كل ذلك لنصدق إننا لسنا خيارا أمريكيا، وربما العكس هو الأصح.

فبعد أكثر من ثلاثين عاما على اتفاقية اوسلوا، ورغم ما أبدته القيادة الفلسطينية من مرونة غير مسبوقة، وقبلها اتفاقيتي كامب ديفيد والسلام المصرية الإسرائيلية، وتبعتهما اتفاقية وادي عربة، ثم قمة بيروت عام  2000 والتدحرج التطبيعي المتواصل، وبعد سلسلة من الفشل الإسرائيلي الذريع في خلق قيادات وهياكل قيادية فلسطينية بديلة للقيادات الوطنية الفلسطينية، فإن الولايات المتحدة لم تنصاع بعد لحقائق الواقع وتقبل بالضغط الجاد على إسرائيل لتسوية تاريخية من شأنها إعادة الهدوء إلى منطقة حيوية في الصراع بين دول قيادة النظام الدولي.

لذلك فان البحث اليوم عن محاولات للهروب من مواجهة الحقائق المؤلمة عبر بناء جدران من الوهم الجديد حول النوايا الأمريكية والإسرائيلية نحو الحقوق الوطنية الفلسطينية، أو الصداقات مع أنظمة الدول العربية، لن يفضي إلا إلى منح الولايات المتحدة الوقت الذي تحتاجه لتنفيذ رؤيتها في البناء للقرن الأمريكي القادم، والتي ستكون أداته الإقليمية الفاعلة إسرائيل الواسعة النفوذ، رغم ما قد يحمله ذلك من مخاطر تحميل طرف ما ليس بوسعه القيام به إلا بتوافر عدد من الشروط اقلها خلق توازنات بين القوى والإمكانيات الجغرافية والديمغرافية.

ولذا فان عودة الحديث عن أعراق واثنيات المنطقة وافتعال مزيد من أزمات التفكيك الجغرافي للوحدات السياسية كما حدث من قبل في لبنان والعراق وسوريا وليبيا واليمن وفي السودان قديما وحاضرا، وكما هو مبيت مستقبلا بمثل ما أشار له الفريق احمد شفيق وغيره من خطط ومخططات تتماهى مع مقولات ووصايا برناند لويس الذي يرى بعالمنا العربي مجموعات أقوام من الفاسدين والفوضويين والقوميات والأديان والأعراق والاثنيات التي لم ترتق لمستويات إقامة دول عصرية علمانية أو حتى إسلامية لذا يجب أن تستثمر هذه النقطة لتفكيكهم وممارسة السلطة عليهم من قبل قوى خارجية، عودة هذه الأحاديث وغيرها يؤكد التصميم الأمريكي على المضي قدما في تنفيذ رؤية تفكيك المنطقة لتسهيل قيادتها والسيطرة عليها إسرائيليا خدمة للإستراتيجية الأمريكية في احتوائها والنأي بها عن النفوذين الصيني والروسي. وأن أية أحاديث أخرى عن إقامة الدولة الفلسطينية أو تمكين السلطة الفلسطينية من غزة وتوسيع نطاق ولايتها السياسية والأمنية تتنافى تماما مع سياسات الاحتلال الذي لم يتوقف يوما عن مصادرة الأراضي الفلسطينية واستيطانها، وإضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية بمختلف السبل بدعم وتأييد أمريكيين لخلق انطباع لدى دول العالم انه لا يوجد شريك فلسطيني يمكن البناء معه لمستقبل آمن.

وربما الأخطر من ذلك ليس تصديق هذه الادعاءات والمزاعم بل القيام بالدور الوظيفي لدعاتها ومخترعيها على حد تعبير المرحوم عبد الوهاب المسيري والدعوة لتصديقها والعمل على ضوء متطلباتها كحقائق دون إخضاعها للتحليل المنطقي الذي قد يقود إلى عكسها، أو الأرجح أن يكون كذلك، حيث يتضح اليوم مدى تهافت مجموعة المبادئ والقيم الحضارية الليبرالية وغياب وحدانية المعايير في التعامل مع حقوق البشر والناس.

ولذلك وقبل تبادل الاتهامات والاتهامات المضادة أو التربع على قمم الوهم وتصديق ادعاءات الآخرين وللقطع مع أساليب التفكير السلفي المتحجرة، صار من الضروري الآن أن ينتقل الجميع، عربا ومسلمين وليس فلسطينيين فقط من مربعات التنصل من البحث عن تحويل الحدث إلى فرصة دون انتظارات العطايا الأمريكية، لان إسرائيل ومعها أمريكا في المقابل ليستا بوضع أفضل، حيث ولأول مرة تتساوى الفرص وأن من سيربح فرصته هو الذي يقطع مع الأدوار الوظيفية لخصمه.

*أستاذ الإعلام في جامعة منوبة