إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

إرادة سياسية دافعة ومحفزة في البلاد.. الدولة تستعيد دورها وتسترجع هيبتها في انتظار دولة المواطنة الكاملة

 

التونسي مازال يؤمن بكاريزما القائد ومازال يعتبر انه يمكن ان يختار بين الديمقراطية والأمن والاستقرار

تونس- الصباح

لم تكد تمضي ساعات قليلة على الزيارة الميدانية التي قام بها رئيس الجمهورية إلى المسبح البلدي بالبلفيدير بالعاصمة حتى انطلقت الأشغال لترميمه وذلك بعد سنوات طويلة من الإهمال حولت هذا الفضاء الجميل  وسط المدينة إلى عبارة عن أطلال. الخبر لا يمكن إلا أن يكون سارا  للكثير من التونسيين الذين عايشوا تلك اللحظات التي كان فيها مسبح البلفيدير متنفسا حقيقيا وكان حافلا ليلا نهارا قبل أن يهمل تماما ويمضي إلى ذلك المصير المحتوم.

ولعل الملاحظ لم يفته أن تونس ظلت طيلة أكثر من عقد من الزمن تلا  أحداث 14 جانفي 2011 عاطلة تماما حيث آلت العديد من الفضاءات إلى خراب وهوت العديد من المؤسسات العمومية والمصادرة لسبب واضح هو عجز الدولة التي أصبحت بعد 14 جانفي دولة ضعيفة متحكم فيها، بل أصبحت بعض المنظمات أقوى من الدولة وصرنا نتحدث دون مبالغة عن دول داخل الدولة.

قد تكون لذلك أسباب موضوعية من بينها حداثة التجربة الديمقراطية التي انخرطت فيها بلادنا بعد سقوط نظام بن علي اثر اندلاع انتفاضة شعبية انطلقت يوم 17 ديسمبر 2010 بسيدي بوزيد بالوسط التونسي لتعم كافة أرجاء البلاد، وانتهت كما هو معروف بسقوط الديكتاتورية وانخراط البلاد مباشرة في مسار سياسي جديد،  الانتقال الديمقراطي. يمكن أن نتحدث كذلك عن عدم ترسخ ثقافة الديمقراطية وعدم الاستعداد للتصرف في الحرية التي أصبحت متاحة في كل المجالات وخاصة حرية التعبير وحرية الرأي وحرية التجمهر في الشارع الخ. فكلها أتت بعد عقود من الانغلاق والتضييقات وكان من الطبيعي أن تحدث انفلاتات في مختلف المجالات وان تسعى أطراف إلى فرض إرادتها على الدولة وهكذا نشأت المطلبية المجحفة واستقوت الهياكل النقابية والمهنية على الدولة  ومن بينها من تغول أصلا وكل هذا موجود وموثق وانجر عنه تراجع حضور الدولة وضعف أدائها حتى بلغت في مرحلة من المراحل درجة من الوهن مثير للقلق والخوف من انحلالها كليا.

كانت هناك أسباب موضوعية لذلك نعم، لكن كانت هناك أسباب أخرى  ومن بينها عدم تردد أطراف نافذة سياسيا واجتماعيا في استغلال وهن الدولة لمحاولة تحقيق أجندات خاصة على حساب المصلحة العامة للتونسيين وقد تفاقم  الوضع حتى بلغ أوجهه مع المنظومة السياسية التي أفرزتها  انتخابات 2019 حيث سادت الانقسامات والتجاذبات السياسية والصراعات الاجتماعية وكانت تؤذن بالخراب. كانت مرحلة خطيرة فعلا ولم يكن التونسيون مرتاحين كثيرا للفرضيات المطروحة  وكانت الحيرة سيدة الموقف إلى أن حل يوم 25 جويلية 2021 الذي قام فيه رئيس الجمهورية قيس سعيد بحل البرلمان وإقالة الحكومة وأعلن عن دخول البلاد في مرحلة انتقالية جديدة وتسلم مقود الدولة بنفسه بعد ان كانت السلطة التنفيذية موزعة بين رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية (تمش تم إتباعه منذ أول انتخابات بعد الثورة وذلك في أكتوبر 2011).

وقد وجدت المبادرة التي قام بها رئيس الجمهورية ترحيبا كبيرا في صفوف الشعب التونسي وأيضا لدى أطياف سياسية عديدة  لسببين أساسيين. أولا للثقة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية  قيس سعيد لدى الشعب فلا ننسى انه تم انتخابه في 2019 بنسبة فاقت السبعين بالمائة من الأصوات وثانيا لانه كان لابد من الخروج بأية طريقة كانت من حالة الضياع التي كانت تعيشها البلاد قبل 25 جويلية المشهود.

لم يكن الجميع بطبيعة الحال في صف الرئيس قيس سعيد الذي جمع كل السلط بين يديه بعد إقالته الحكومة وحله البرلمان المنتخب، وفقد في الطريق دعم بعض الأطراف السياسية التي ساندته في البداية ثم وجدت نفسها خارج الحسابات، لكنه كان يتمتع بهامش كبير من حرية التصرف بفضل الدعم الشعبي وقد استفاد كذلك من تشتت المعارضة السياسية وعدم قدرتها على الحشد وهو ما مكنه من تحقيق العديد من الخطوات في برنامجه السياسي للبلاد. وضع في البداية حكومة جديدة ثم نظمت البلاد انتخابات برلمانية أفرزت برلمانا جديدا ونحن اليوم بانتظار تشكل مجلس الجهات والأقاليم بعد الانتخابات المحلية الأخيرة. ورويدا رويدا، تمركزت سلطة الرئيس في البلاد وهو في الحقيقة شيء ليس بالجديد.

فالنظام الرئاسوي الذي أرساه الزعيم الحبيب بورقيبة باني دولة الاستقلال وواصل فيه خلفه الرئيس زين العابدين بن علي  كانت  فيه  السلطة التنفيذية الممثلة في شخص الرئيس مهيمنة تقريبا بالكامل . صحيح، كانت هناك بعض محاولات الانفتاح تحت تأثير الحركات الوطنية النضالية وأيضا تحت تأثير الخارج ولكن لم نصل فعلا إلى بناء دولة المؤسسات وفق ما كانت تروج له الدعاية السياسية آنذاك.

ولكن وإذا ما عدنا إلى السياق التاريخي الذي حكم فيه كل من بورقيبة وبن علي مع احترام الفوارق طبعا، نقول أنه ربما كان منطقيا وإلى حد ما ان تجنح النخب السياسية في فترة من تاريخ تونس المعاصر إلى القبول بنظام حكم تكون فيه السلطة التنفيذية ممثلة في  شخص الرئيس مهيمنة، فبلادنا كانت قد خرجت للتو من فترة استعمارية استمرت عقودا من الزمن وكانت لها مخلفاتها ومن بينها ارتفاع نسبة الأمية وتفشي الإمراض وضعف البنية الأساسية وقلة الكفاءات في مختلف المجالات الحيوية. وكان شبه مقبول كذلك ان يستمر الأمر مع الرئيس بن علي في فترة كانت تهمين فيه الأنظمة الديكتاتورية في البلدان النامية على الشعوب وذلك بدعم من القوى العظمى في العالم. قد نجد أيضا نوعا من المشروعية للمنظومة التي أرساها الرئيس قيس سعيد منذ 25 جويلية لان بلادنا دخلت في متاهات بعد 14 جانفي 2011 وكانت تعاني من اضطرابات خطيرة تهدد استقرارها، وكان لا بد من إرادة حقيقية حتى تستعيد الدولة دورها وتسترجع هيبتها وهو ما سعى الرئيس قيس سعيد إلى تحقيقه وتمكن من ذلك إلى حد ما. يمكن أن تكون الإمكانيات قليلة والمشاكل كثيرة، نعم، لكن لدينا اليوم دولة قوية وسلطة مركزية لها هيبتها لكن هل من المنطقي أن نظل دائما في نفس المنطقة وان نسلم بوجود مبررات تفرض على المواطن ان يظل يبحث عمن يضمن أمنه واستقراره على أن يضحي قليلا من اجل بلوغ الهدف الاسمي وهو بناء دولة تقوم على مؤسسات حقيقية.

ربما شاءت الصدف أن تلتقي إرادة رئيس الجمهورية الحالي قيس سعيد مع إرادة الشعب التونسي، وهو الذي ما فتئ  يطمئن المواطنين والشعب الذي سلمه الأمانة  – وفق ما  يصر على التذكير به ذلك دائما- بأنه بصدد وضع الأرضية القانونية لدولة القانون والمؤسسات الفعلية، لكن المشكل ليس في الإرادة السياسية. فعلى العكس الإرادة السياسية اليوم  موجودة وهي محفزة  ولا شيء تقريبا يتحقق دون دفع منها، المشكل في  الشعور الضعيف بالمسؤولية المواطنية، إن لم نقل في انعدامه. المشكل أيضا في المواطن التونسي في حد ذاته.  فهو يتوقع أن يأتيه كل شيء جاهزا وهو شبه مستقيل ومشاركته السياسية ضعيفة وثقافته السياسية كما هو واضح ضعيفة ووعيه السياسي ضعيف، وهو يدفع إلى التساؤل عن مستقبل الحلم الذي انتظرته النخب طويلا، وهو حلم الديمقراطية ودولة المواطنة الكاملة في البلاد.

نطرح السؤال لان الحوار في تونس اليوم يؤكد أن المواطن وربما بفعل الخيبات المتتالية بعد الثورة، مستعد للاختيار، اختيار الأمن والاستقرار على حساب الديمقراطية. فهل هذا ما ينتظرنا في النهاية وبعد كل السنوات التي ضاعت من عمر التونسيين؟

صحيح، لقد ظهرت حقائق جديدة حول ما يسمى "الربيع العربي" وتبين وجود مخططات لفرض مشاريع مجتمعية غريبة على الشعوب. وعشنا في تونس تجارب مريرة في هذا السياق، لكن هل يشرع ذلك للخطاب الشعبي الذي يدفع إلى إلغاء فكرة الديمقراطية من قاموس الاستعمال؟ وان كان الأمر خلاف ذلك، لماذا يستكين المواطن لفكرة الاستقالة ويظل متقوقعا على نفسه؟  لماذا تظل المشاريع معطلة لسنوات لتعقد الإجراءات أو بسبب محاولات التعطيل التي كثيرا ما يتحدث عنه رئيس الجمهورية قيس سعيد ويحمل المسؤولية في ذلك إلى ما يسميهم بلوبيات الفساد والذي يقول عنهم إنهم لا يسمحون بتحقيق إنجازات تمس من مصالحهم، حتى يتدخل بنفسه لحلحلة الأمور؟ لماذا مثلا تنتظر البنوك في تونس كل هذا الوقت قبل أن تقوم بتحمل بمسؤوليتها الاجتماعية؟ لماذا يحدث ذلك فقط بعد مقابلة رئيس الجمهورية مؤخرا مع رئيس الجمعية المهنية التونسية للبنوك وحثه البنوك على المشاركة في جهود الإصلاح، إذ أعلن احد البنوك القوية الخاصة،  مباشرة اثر تلك المقابلة عن استعداده لتمويل بعض مشاريع الإصلاح ومن بينها مشروع ترميم المسبح الوطني بالبلفيدير الذي نحن بصدده؟  ولنا أن نذكر في هذا السياق بأن البنوك التونسية ورغم أنها من بين أفضل المؤسسات الرابحة في البلاد، فقد ظلت في شبه استقالة عن كل جهود الإصلاح والتنمية في البلاد مكتفية بوضعها المريح المثقل في اغلب الأحيان على المواطن.

يحدث كل ذلك، لان المواطن مستكين ينتظر من يقوم بالعمل بدلا عنه وينتظر ذلك البطل القوي الذي يخلصه من الأشرار وتظل المشاكل تتراكم ويظل المواطن يتأثر سلبا بالهموم دون فاعلية تذكر.

الأسئلة في الحقيقة كثيرة وكلها تصب في خانة واحدة وهي أننا خرجنا من وضع كانت فيه الدولة في السنوات الأخيرة ضعيفة ودورها تلاشى تقريبا، لنجد أنفسنا أمام إشكالية جديدة وهي أن الإرادة السياسية مهما كانت قوية إلا أنها تبقى غير كافية في غياب دور المواطن الرقيب،المواطن الذي لا يمنح صكا على بياض ولا يتأخر في المناسبات الحاسمة للتعبير عن نفسه. فالعزوف على الانتخابات البرلمانية والمحلية،الذي يتعارض مع حجم الإقبال الكبير في الانتخابات الرئاسية، يؤكد أن الناخب التونسي لم يصل بعد إلى المرحلة التي يعي فيها انه شريك في بناء مؤسسات الدولة وان دوره لا يقف فقط عند انتخاب رئيس البلاد يفوض له كل الصلاحيات ثم يستكين من جديد. فقد يحدث كما سبق وذكرنا  ان تلتقي إرادة الزعيم- ما دمنا لم نخرج من منطق الزعاماتية في البلاد- مع إرادة الشعب لكن هل يضمن الناخب أن يتكرر ذلك دائما؟ هل يضمن بذلك تأسيس دولة المواطنة الكاملة؟

حياة السايب

إرادة سياسية دافعة ومحفزة في البلاد..   الدولة تستعيد دورها وتسترجع هيبتها في انتظار دولة المواطنة الكاملة

 

التونسي مازال يؤمن بكاريزما القائد ومازال يعتبر انه يمكن ان يختار بين الديمقراطية والأمن والاستقرار

تونس- الصباح

لم تكد تمضي ساعات قليلة على الزيارة الميدانية التي قام بها رئيس الجمهورية إلى المسبح البلدي بالبلفيدير بالعاصمة حتى انطلقت الأشغال لترميمه وذلك بعد سنوات طويلة من الإهمال حولت هذا الفضاء الجميل  وسط المدينة إلى عبارة عن أطلال. الخبر لا يمكن إلا أن يكون سارا  للكثير من التونسيين الذين عايشوا تلك اللحظات التي كان فيها مسبح البلفيدير متنفسا حقيقيا وكان حافلا ليلا نهارا قبل أن يهمل تماما ويمضي إلى ذلك المصير المحتوم.

ولعل الملاحظ لم يفته أن تونس ظلت طيلة أكثر من عقد من الزمن تلا  أحداث 14 جانفي 2011 عاطلة تماما حيث آلت العديد من الفضاءات إلى خراب وهوت العديد من المؤسسات العمومية والمصادرة لسبب واضح هو عجز الدولة التي أصبحت بعد 14 جانفي دولة ضعيفة متحكم فيها، بل أصبحت بعض المنظمات أقوى من الدولة وصرنا نتحدث دون مبالغة عن دول داخل الدولة.

قد تكون لذلك أسباب موضوعية من بينها حداثة التجربة الديمقراطية التي انخرطت فيها بلادنا بعد سقوط نظام بن علي اثر اندلاع انتفاضة شعبية انطلقت يوم 17 ديسمبر 2010 بسيدي بوزيد بالوسط التونسي لتعم كافة أرجاء البلاد، وانتهت كما هو معروف بسقوط الديكتاتورية وانخراط البلاد مباشرة في مسار سياسي جديد،  الانتقال الديمقراطي. يمكن أن نتحدث كذلك عن عدم ترسخ ثقافة الديمقراطية وعدم الاستعداد للتصرف في الحرية التي أصبحت متاحة في كل المجالات وخاصة حرية التعبير وحرية الرأي وحرية التجمهر في الشارع الخ. فكلها أتت بعد عقود من الانغلاق والتضييقات وكان من الطبيعي أن تحدث انفلاتات في مختلف المجالات وان تسعى أطراف إلى فرض إرادتها على الدولة وهكذا نشأت المطلبية المجحفة واستقوت الهياكل النقابية والمهنية على الدولة  ومن بينها من تغول أصلا وكل هذا موجود وموثق وانجر عنه تراجع حضور الدولة وضعف أدائها حتى بلغت في مرحلة من المراحل درجة من الوهن مثير للقلق والخوف من انحلالها كليا.

كانت هناك أسباب موضوعية لذلك نعم، لكن كانت هناك أسباب أخرى  ومن بينها عدم تردد أطراف نافذة سياسيا واجتماعيا في استغلال وهن الدولة لمحاولة تحقيق أجندات خاصة على حساب المصلحة العامة للتونسيين وقد تفاقم  الوضع حتى بلغ أوجهه مع المنظومة السياسية التي أفرزتها  انتخابات 2019 حيث سادت الانقسامات والتجاذبات السياسية والصراعات الاجتماعية وكانت تؤذن بالخراب. كانت مرحلة خطيرة فعلا ولم يكن التونسيون مرتاحين كثيرا للفرضيات المطروحة  وكانت الحيرة سيدة الموقف إلى أن حل يوم 25 جويلية 2021 الذي قام فيه رئيس الجمهورية قيس سعيد بحل البرلمان وإقالة الحكومة وأعلن عن دخول البلاد في مرحلة انتقالية جديدة وتسلم مقود الدولة بنفسه بعد ان كانت السلطة التنفيذية موزعة بين رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية (تمش تم إتباعه منذ أول انتخابات بعد الثورة وذلك في أكتوبر 2011).

وقد وجدت المبادرة التي قام بها رئيس الجمهورية ترحيبا كبيرا في صفوف الشعب التونسي وأيضا لدى أطياف سياسية عديدة  لسببين أساسيين. أولا للثقة التي يتمتع بها رئيس الجمهورية  قيس سعيد لدى الشعب فلا ننسى انه تم انتخابه في 2019 بنسبة فاقت السبعين بالمائة من الأصوات وثانيا لانه كان لابد من الخروج بأية طريقة كانت من حالة الضياع التي كانت تعيشها البلاد قبل 25 جويلية المشهود.

لم يكن الجميع بطبيعة الحال في صف الرئيس قيس سعيد الذي جمع كل السلط بين يديه بعد إقالته الحكومة وحله البرلمان المنتخب، وفقد في الطريق دعم بعض الأطراف السياسية التي ساندته في البداية ثم وجدت نفسها خارج الحسابات، لكنه كان يتمتع بهامش كبير من حرية التصرف بفضل الدعم الشعبي وقد استفاد كذلك من تشتت المعارضة السياسية وعدم قدرتها على الحشد وهو ما مكنه من تحقيق العديد من الخطوات في برنامجه السياسي للبلاد. وضع في البداية حكومة جديدة ثم نظمت البلاد انتخابات برلمانية أفرزت برلمانا جديدا ونحن اليوم بانتظار تشكل مجلس الجهات والأقاليم بعد الانتخابات المحلية الأخيرة. ورويدا رويدا، تمركزت سلطة الرئيس في البلاد وهو في الحقيقة شيء ليس بالجديد.

فالنظام الرئاسوي الذي أرساه الزعيم الحبيب بورقيبة باني دولة الاستقلال وواصل فيه خلفه الرئيس زين العابدين بن علي  كانت  فيه  السلطة التنفيذية الممثلة في شخص الرئيس مهيمنة تقريبا بالكامل . صحيح، كانت هناك بعض محاولات الانفتاح تحت تأثير الحركات الوطنية النضالية وأيضا تحت تأثير الخارج ولكن لم نصل فعلا إلى بناء دولة المؤسسات وفق ما كانت تروج له الدعاية السياسية آنذاك.

ولكن وإذا ما عدنا إلى السياق التاريخي الذي حكم فيه كل من بورقيبة وبن علي مع احترام الفوارق طبعا، نقول أنه ربما كان منطقيا وإلى حد ما ان تجنح النخب السياسية في فترة من تاريخ تونس المعاصر إلى القبول بنظام حكم تكون فيه السلطة التنفيذية ممثلة في  شخص الرئيس مهيمنة، فبلادنا كانت قد خرجت للتو من فترة استعمارية استمرت عقودا من الزمن وكانت لها مخلفاتها ومن بينها ارتفاع نسبة الأمية وتفشي الإمراض وضعف البنية الأساسية وقلة الكفاءات في مختلف المجالات الحيوية. وكان شبه مقبول كذلك ان يستمر الأمر مع الرئيس بن علي في فترة كانت تهمين فيه الأنظمة الديكتاتورية في البلدان النامية على الشعوب وذلك بدعم من القوى العظمى في العالم. قد نجد أيضا نوعا من المشروعية للمنظومة التي أرساها الرئيس قيس سعيد منذ 25 جويلية لان بلادنا دخلت في متاهات بعد 14 جانفي 2011 وكانت تعاني من اضطرابات خطيرة تهدد استقرارها، وكان لا بد من إرادة حقيقية حتى تستعيد الدولة دورها وتسترجع هيبتها وهو ما سعى الرئيس قيس سعيد إلى تحقيقه وتمكن من ذلك إلى حد ما. يمكن أن تكون الإمكانيات قليلة والمشاكل كثيرة، نعم، لكن لدينا اليوم دولة قوية وسلطة مركزية لها هيبتها لكن هل من المنطقي أن نظل دائما في نفس المنطقة وان نسلم بوجود مبررات تفرض على المواطن ان يظل يبحث عمن يضمن أمنه واستقراره على أن يضحي قليلا من اجل بلوغ الهدف الاسمي وهو بناء دولة تقوم على مؤسسات حقيقية.

ربما شاءت الصدف أن تلتقي إرادة رئيس الجمهورية الحالي قيس سعيد مع إرادة الشعب التونسي، وهو الذي ما فتئ  يطمئن المواطنين والشعب الذي سلمه الأمانة  – وفق ما  يصر على التذكير به ذلك دائما- بأنه بصدد وضع الأرضية القانونية لدولة القانون والمؤسسات الفعلية، لكن المشكل ليس في الإرادة السياسية. فعلى العكس الإرادة السياسية اليوم  موجودة وهي محفزة  ولا شيء تقريبا يتحقق دون دفع منها، المشكل في  الشعور الضعيف بالمسؤولية المواطنية، إن لم نقل في انعدامه. المشكل أيضا في المواطن التونسي في حد ذاته.  فهو يتوقع أن يأتيه كل شيء جاهزا وهو شبه مستقيل ومشاركته السياسية ضعيفة وثقافته السياسية كما هو واضح ضعيفة ووعيه السياسي ضعيف، وهو يدفع إلى التساؤل عن مستقبل الحلم الذي انتظرته النخب طويلا، وهو حلم الديمقراطية ودولة المواطنة الكاملة في البلاد.

نطرح السؤال لان الحوار في تونس اليوم يؤكد أن المواطن وربما بفعل الخيبات المتتالية بعد الثورة، مستعد للاختيار، اختيار الأمن والاستقرار على حساب الديمقراطية. فهل هذا ما ينتظرنا في النهاية وبعد كل السنوات التي ضاعت من عمر التونسيين؟

صحيح، لقد ظهرت حقائق جديدة حول ما يسمى "الربيع العربي" وتبين وجود مخططات لفرض مشاريع مجتمعية غريبة على الشعوب. وعشنا في تونس تجارب مريرة في هذا السياق، لكن هل يشرع ذلك للخطاب الشعبي الذي يدفع إلى إلغاء فكرة الديمقراطية من قاموس الاستعمال؟ وان كان الأمر خلاف ذلك، لماذا يستكين المواطن لفكرة الاستقالة ويظل متقوقعا على نفسه؟  لماذا تظل المشاريع معطلة لسنوات لتعقد الإجراءات أو بسبب محاولات التعطيل التي كثيرا ما يتحدث عنه رئيس الجمهورية قيس سعيد ويحمل المسؤولية في ذلك إلى ما يسميهم بلوبيات الفساد والذي يقول عنهم إنهم لا يسمحون بتحقيق إنجازات تمس من مصالحهم، حتى يتدخل بنفسه لحلحلة الأمور؟ لماذا مثلا تنتظر البنوك في تونس كل هذا الوقت قبل أن تقوم بتحمل بمسؤوليتها الاجتماعية؟ لماذا يحدث ذلك فقط بعد مقابلة رئيس الجمهورية مؤخرا مع رئيس الجمعية المهنية التونسية للبنوك وحثه البنوك على المشاركة في جهود الإصلاح، إذ أعلن احد البنوك القوية الخاصة،  مباشرة اثر تلك المقابلة عن استعداده لتمويل بعض مشاريع الإصلاح ومن بينها مشروع ترميم المسبح الوطني بالبلفيدير الذي نحن بصدده؟  ولنا أن نذكر في هذا السياق بأن البنوك التونسية ورغم أنها من بين أفضل المؤسسات الرابحة في البلاد، فقد ظلت في شبه استقالة عن كل جهود الإصلاح والتنمية في البلاد مكتفية بوضعها المريح المثقل في اغلب الأحيان على المواطن.

يحدث كل ذلك، لان المواطن مستكين ينتظر من يقوم بالعمل بدلا عنه وينتظر ذلك البطل القوي الذي يخلصه من الأشرار وتظل المشاكل تتراكم ويظل المواطن يتأثر سلبا بالهموم دون فاعلية تذكر.

الأسئلة في الحقيقة كثيرة وكلها تصب في خانة واحدة وهي أننا خرجنا من وضع كانت فيه الدولة في السنوات الأخيرة ضعيفة ودورها تلاشى تقريبا، لنجد أنفسنا أمام إشكالية جديدة وهي أن الإرادة السياسية مهما كانت قوية إلا أنها تبقى غير كافية في غياب دور المواطن الرقيب،المواطن الذي لا يمنح صكا على بياض ولا يتأخر في المناسبات الحاسمة للتعبير عن نفسه. فالعزوف على الانتخابات البرلمانية والمحلية،الذي يتعارض مع حجم الإقبال الكبير في الانتخابات الرئاسية، يؤكد أن الناخب التونسي لم يصل بعد إلى المرحلة التي يعي فيها انه شريك في بناء مؤسسات الدولة وان دوره لا يقف فقط عند انتخاب رئيس البلاد يفوض له كل الصلاحيات ثم يستكين من جديد. فقد يحدث كما سبق وذكرنا  ان تلتقي إرادة الزعيم- ما دمنا لم نخرج من منطق الزعاماتية في البلاد- مع إرادة الشعب لكن هل يضمن الناخب أن يتكرر ذلك دائما؟ هل يضمن بذلك تأسيس دولة المواطنة الكاملة؟

حياة السايب