إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

بطاقة كاتب.. المجموعة القصصية "بطارخ ثورية مجففة" لناجي الخشناوي .. صورة مصغرة للإنسان التونسي في زمن الثورة وما بعدها

 

 

بقلم: ريم القمري

 

أغلقت دفات الكتاب ، أخذت نفسا عميقاً ، و ضعت الكتاب على الطاولة ونهضت ببطء ، مشيت نحو النافذة، عقدت يدي خلف ظهري وسرحت بنظري نحو البعيد.

جاءتني من بعيد، من عمق دهاليز الذاكرة، صور وأصوات الثورة، وعدت فلاش باك لأحداث تلك الأيام، ومنها على امتداد عشرية كاملة، زاخرة بالاحداث والتحولات.

 

كنت أعتقد ولا أزال أن الكتابة عن الثورة التونسية ، وعن نتائجها والتحولات التى خلفتها في عمق المجتمع التونسي يحتاج وقتا ومسافة.

ورغم ما كتب إلى حد الآن عن هذه الثورة، من كتب ومقالات ودراسات،

فإن المجموعة القصصية " بطارخ ثورية مجففة" الصادرة مؤخرا عن الدار التونسية للكتاب ، للصحفي و الكاتب التونسي ناجي الخشناوي، كتبت الثورة دون أن تكتبها، أو لعلها لبست جسد الثورة، وفصلته على مقاس الحقيقة.

لقد أنتجت رؤية جديدة ومخالفة لأهم حدث هز تونس خلال العشرية الماضية،

لعلها أشبه برؤية مجهرية، أي أنها وضعت حقبة تمتد على أكثر من عشر سنوات ، تحت الميكروسكوب، وطفقت تسلط الضوء على جزئيات ذرية لم ينتبه لها أغلب المراقبون و المهتمون بالشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، انها تبحث في ما هو أهم وأخطر وأدق، الجانب الإنساني والنفسي.

لقد قدم لنا ناجي الخشناوي، في مجموعته القصصية و التي هي في رأي متتالية قصصية بامتياز ، عمودها الفقري الإنسان التونسي، في الفترة الممتدة ،ما بين زمن قبيل الثورة بقليل إلى زمن ما بعد الثورة، والمستمر إلى اللحظة الراهنة.

هذا الإنسان بكل تحولاته الجديدة وعقده أيضا ، حيث سقطت أقنعة، وبرزت وجوه جديدة، وانهارت طبقات اجتماعية، لتنشأ طبقات أخرى، كانت على الهامش.

انقلبت موازين، وبرزت منظومة أخلاقية جديدة ومغايرة على أنقاض، العقد الاجتماعي القديم.

تركيبة المجتمع بأسره تغيرت، بتغير الظروف السياسية والاقتصادية للبلد ما بعد الثورة.

لقد صاغ لنا الخشناوي عالماً قصصيا، موازي تماما للعالم الحقيقي الذي عشناه على امتداد أكثر من عشر سنوات، جعلنا نقف أمام المرآة ونرى أنفسنا عراة إلا من الحقيقة.

ولخص ببراعة سارد ماهر، العوالم الخارجية والداخلية، للإنسان التونسي ، في مرحلة تعتبر الأهم في تاريخ تونس الحديث.

كل الشخوص التى قدمها ناجي، تغيرت حياتها وتبدل مسارها بشكل ما، خلال وما بعد الثورة، بعضها بطريقة مباشرة وبعضها غير مباشرة، بعضها تغير وضعها المادي، وبعضها اهتزت وتبعثرت عوالمها الداخلية والنفسية، آخرون كانوا ضحايا التغيرات السياسية والاجتماعية، التى هي بدورها ناجمة عن الثورة، إذا الكل يدور في فلك هذا النيزك أو الزلزال الثوري، المسمى بالثورة التونسية، أو ثورة الياسمين أو فاتحة الربيع العربي الذي قلب خارطة المنطقة العربية بأسرها.

ومع ذلك فإن كتاب "بطارخ ثورية"، لا يقدم لك أيها القارئ أطوار الثورة ، ولا سردا تاريخيا لاحداثها، هو فقط يكتب زمن الثورة منذ انطلاقتها إلى اليوم من خلال رسم حيوات أبطاله، والذين اختلفوا باختلاف انتماءاتهم الفكرية والثقافية والعمرية، حكايتهم تختزل داخلها زمن الثورة.

واللافت للانتباه في كتابة ناجي الخشناوي، جرأته الكبيرة في الذهاب بالاشياء إلى أقصاها، إنه يكتب الحقيقة كما هي عارية، لا يجمل و لا يواري، يقولها فجة احيانا كما هي.

لذلك في بعض القصص، قسوة المشاهد قد تدفعك للشعور ، بالألم والخوف وأحيانا الارتباك والتشويش الذهني.

إلى درجة أني شخصيا، استبطنت حكايات بعض الشخوص، ونسيت أنها شخوص كتبها ناجي الخشناوي، صرت أحسها حية لحما ودما، وكأني عرفتها وعرفت حكايتها فعلا في الحياة، كأنهم جيراني أو زملائي أو بعض معارفي.

شدني أيضا في كتابة الخشناوي لغته، جمالها وأناقتها. إلى جانب قدرته على الوصف الدقيق، دون أن يصيبك الملل، إنه يكتب التفاصيل برشاقة لافته.

وهنا اتسأل لماذا تأخر الخشناوي كثيرا ليدخل عالم السرد والقص؟ وهو يملك هذه القدرات اللغوية والسردية اللافته؟

إنه يملك فعلاً براعة سردية عالية، ولغة صافية لا تخلو في بعض المواضع من شعرية واضحة.

"بطارخ ثورية مجففة" كتاب اختزل داخله حقبة زمنية هامة من تاريخ تونس الحديث والمعاصر، وأعتقد أن الكاتب نجح في تقديم طبق قصصي دسم للقراء.

طبق لا يمكن التهامه بسرعة، إنه يلتهم على جرعات، يقرأ على مهل وبترو.

 

 

بطاقة كاتب..      المجموعة القصصية "بطارخ ثورية مجففة" لناجي الخشناوي   .. صورة مصغرة للإنسان التونسي في زمن الثورة وما بعدها

 

 

بقلم: ريم القمري

 

أغلقت دفات الكتاب ، أخذت نفسا عميقاً ، و ضعت الكتاب على الطاولة ونهضت ببطء ، مشيت نحو النافذة، عقدت يدي خلف ظهري وسرحت بنظري نحو البعيد.

جاءتني من بعيد، من عمق دهاليز الذاكرة، صور وأصوات الثورة، وعدت فلاش باك لأحداث تلك الأيام، ومنها على امتداد عشرية كاملة، زاخرة بالاحداث والتحولات.

 

كنت أعتقد ولا أزال أن الكتابة عن الثورة التونسية ، وعن نتائجها والتحولات التى خلفتها في عمق المجتمع التونسي يحتاج وقتا ومسافة.

ورغم ما كتب إلى حد الآن عن هذه الثورة، من كتب ومقالات ودراسات،

فإن المجموعة القصصية " بطارخ ثورية مجففة" الصادرة مؤخرا عن الدار التونسية للكتاب ، للصحفي و الكاتب التونسي ناجي الخشناوي، كتبت الثورة دون أن تكتبها، أو لعلها لبست جسد الثورة، وفصلته على مقاس الحقيقة.

لقد أنتجت رؤية جديدة ومخالفة لأهم حدث هز تونس خلال العشرية الماضية،

لعلها أشبه برؤية مجهرية، أي أنها وضعت حقبة تمتد على أكثر من عشر سنوات ، تحت الميكروسكوب، وطفقت تسلط الضوء على جزئيات ذرية لم ينتبه لها أغلب المراقبون و المهتمون بالشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي، انها تبحث في ما هو أهم وأخطر وأدق، الجانب الإنساني والنفسي.

لقد قدم لنا ناجي الخشناوي، في مجموعته القصصية و التي هي في رأي متتالية قصصية بامتياز ، عمودها الفقري الإنسان التونسي، في الفترة الممتدة ،ما بين زمن قبيل الثورة بقليل إلى زمن ما بعد الثورة، والمستمر إلى اللحظة الراهنة.

هذا الإنسان بكل تحولاته الجديدة وعقده أيضا ، حيث سقطت أقنعة، وبرزت وجوه جديدة، وانهارت طبقات اجتماعية، لتنشأ طبقات أخرى، كانت على الهامش.

انقلبت موازين، وبرزت منظومة أخلاقية جديدة ومغايرة على أنقاض، العقد الاجتماعي القديم.

تركيبة المجتمع بأسره تغيرت، بتغير الظروف السياسية والاقتصادية للبلد ما بعد الثورة.

لقد صاغ لنا الخشناوي عالماً قصصيا، موازي تماما للعالم الحقيقي الذي عشناه على امتداد أكثر من عشر سنوات، جعلنا نقف أمام المرآة ونرى أنفسنا عراة إلا من الحقيقة.

ولخص ببراعة سارد ماهر، العوالم الخارجية والداخلية، للإنسان التونسي ، في مرحلة تعتبر الأهم في تاريخ تونس الحديث.

كل الشخوص التى قدمها ناجي، تغيرت حياتها وتبدل مسارها بشكل ما، خلال وما بعد الثورة، بعضها بطريقة مباشرة وبعضها غير مباشرة، بعضها تغير وضعها المادي، وبعضها اهتزت وتبعثرت عوالمها الداخلية والنفسية، آخرون كانوا ضحايا التغيرات السياسية والاجتماعية، التى هي بدورها ناجمة عن الثورة، إذا الكل يدور في فلك هذا النيزك أو الزلزال الثوري، المسمى بالثورة التونسية، أو ثورة الياسمين أو فاتحة الربيع العربي الذي قلب خارطة المنطقة العربية بأسرها.

ومع ذلك فإن كتاب "بطارخ ثورية"، لا يقدم لك أيها القارئ أطوار الثورة ، ولا سردا تاريخيا لاحداثها، هو فقط يكتب زمن الثورة منذ انطلاقتها إلى اليوم من خلال رسم حيوات أبطاله، والذين اختلفوا باختلاف انتماءاتهم الفكرية والثقافية والعمرية، حكايتهم تختزل داخلها زمن الثورة.

واللافت للانتباه في كتابة ناجي الخشناوي، جرأته الكبيرة في الذهاب بالاشياء إلى أقصاها، إنه يكتب الحقيقة كما هي عارية، لا يجمل و لا يواري، يقولها فجة احيانا كما هي.

لذلك في بعض القصص، قسوة المشاهد قد تدفعك للشعور ، بالألم والخوف وأحيانا الارتباك والتشويش الذهني.

إلى درجة أني شخصيا، استبطنت حكايات بعض الشخوص، ونسيت أنها شخوص كتبها ناجي الخشناوي، صرت أحسها حية لحما ودما، وكأني عرفتها وعرفت حكايتها فعلا في الحياة، كأنهم جيراني أو زملائي أو بعض معارفي.

شدني أيضا في كتابة الخشناوي لغته، جمالها وأناقتها. إلى جانب قدرته على الوصف الدقيق، دون أن يصيبك الملل، إنه يكتب التفاصيل برشاقة لافته.

وهنا اتسأل لماذا تأخر الخشناوي كثيرا ليدخل عالم السرد والقص؟ وهو يملك هذه القدرات اللغوية والسردية اللافته؟

إنه يملك فعلاً براعة سردية عالية، ولغة صافية لا تخلو في بعض المواضع من شعرية واضحة.

"بطارخ ثورية مجففة" كتاب اختزل داخله حقبة زمنية هامة من تاريخ تونس الحديث والمعاصر، وأعتقد أن الكاتب نجح في تقديم طبق قصصي دسم للقراء.

طبق لا يمكن التهامه بسرعة، إنه يلتهم على جرعات، يقرأ على مهل وبترو.