إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الشاعرة جهاد المثناني لـ"الصباح": الشّعر حلولُ الذّات في الذّات وهو التّماهي مع الحلم

 

*أولى قصائدي.. كانت موسومة بعفوية الطفلة وحلمها وجرح الوطن العربي ونزيفه

*أجمل القصائد هي الّتي تكتبنا وليست التي نكتبها..

* هناك مهرجانات اليوم تسيء للشاعر أكثر من ضمان الإضافة له

*أزمة القراءة اليوم تشمل فعل القراءة في حدّ ذاتها ولا تخصّ الشعر فقط

*للشّعر دوره العظيم اليوم.. به يسترجع الإنسان إنسانيّته وبه يتوهّج ويُشرق

*القيروان حاضرة فيَّ وهي نبضٌ يساعدني على الحياة

حوار: محسن بن احمد

هي واحدة من الجيل الذي نهل من ينبوع القيروان الشعري الذي لا ينضب معينه ...

انطلقت بكل ثقة في التأسيس ثم التأثيث لمسيرة شعرية ذات نفس عروبي دون القطيعة مع الوجدان في كل محطاته تفاؤلا كان أم انكسارا فكان أن كسبت رهان الحضور في المشهد الشعري الوطني بدرجة عن جدارة وهي المؤمنة بأن جمال القصيد يكمن في جمالية الشكل والمضمون معا.

جهاد المثناني تستعد هذه الأيام للاحتفاء بديوانها الشعري الرابع مازالت تصر أنها تبقى دائما في بداية الطريق مع الشعر وأحلامه وطموحاته.

*ماذا يعني لكِ الشّعر؟

-الشّعر حلولُ الذّات في الذّات وهو التّماهي مع الحلم ونحن نشكّل من عجين اللغة جمالاً يُعيدُ الحياة إلى الموجودات والكائنات والقضايا بمنظار يتشابكُ فيه المجاز والخيال بذائقة الشاعر وإحساسه وتطلّعاته لبناء عالم أجمل.. الشعرُ حالةٌ يعيشها الشاعرُ بِكلّ طقوسها.

* كيف كان أول لقاء لكِ مع القصيدة؟

-كان لقائي الأول مع القصيدة لقاءَ الطفلة بلعبتها.. تتحسّسُها في سعادة وتبحث لها عن اسمٍ وكسوة جميلة وتخاطبها في حنوّ حتى تشبعها من مشاعرها المتدفّقة وأحاسيسها العفويّة النقيّة... كانت قصائد تلك التلميذة المفعمة بالحياة والممتلئة بالأحلام والمتشبّعة بعروبة قد تكون وقتها غير واعية في فترة غليان سياسي عالمي من أجل تغيير الخارطة الجغراسياسية للعالم ونتحدث هنا عن احتلال العراق وسقوط بغداد إضافة إلى رواسب ما تحمله من جرح غائر عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية.. هكذا تشكلت أولى قصائدي.. كانت موسومة بعفوية الطفلة وحلمها من جهة وجرح الوطن العربي ونزيفه من جهة أخرى.. كان لقاءً مشحونا بمشاعر مختلفة.

* ما هي أولوياتك في القصيد الشكل أم المضمون؟

-المضمون إن لم يتمّ إخراجه في شكل جميل لن يتمّ قبوله ولا استساغته وكذلك الشّكل القائم على المحسّنات البلاغية من مجاز واستعارات وغيرها من أدوات لبناء النصّ الشعري دون مضمون يخاطب مشاعر الإنسان وأحاسيسه، يشارك الآخر همومه وقضاياه فإنه يصبح كالفتاة الحسناء التي لن يجدي الماكياج وكلّ وسائل التجميل في منحها روحًا متوهّجة، كذلك القصيدة تبقى باهتةً لا تحرّك المتلقّي البسيط فما بالك بالنّاقد والأكاديميّ.. إذن جمال القصيدة يكمن في جماليّة الشكل والمحتوى.

* كيف تعيشين لحظة البوح الشّعري ومن هو صاحب القرار العقل أم القلب؟

-لحظة البوح الشّعري لحظة لا موعِد لها هي لحظة مخاتلة لا تعترفُ بمكان ولا بزمان فكل الأمكنة لها وكذلك الأزمنة وهي شبيهة بلحظة الوحي أو المُكاشفة لذلك تجد القلم والدفتر رفيقيْن دائميْن لي حتى في فراشي.. لحظة البوح لم أتعمّدها أبدا ولم أقصدها بتاتا بل هي التي تقصدني دون موعد مسبق لذلك أقول إنّ أجمل القصائد هي الّتي تكتبنا وليست التي نكتبها.. فلم أتعمّد يومًا أن جلس بغاية كتابة قصيدة ..

أمّا عن صاحبِ القرار فإنّ القصيدة ثمرة شرعيّة للعقل والقلب لصوت الحكمة من جهة وصوت العاطفة والقلب من جهة أخرى ذلك أنّ الجملة أو المطلع يفاجئني بكلّ عفوية مشحونا بالأحاسيس وقتها لزام عليّ أن أقتنص تلك الفكرة أو ذلك المطلع كما جاء بعفويّته وأحاسيسه وإن لم أقتنص الفكرة أو الجملة أو المطلع الشعري بتدوينه مباشرة فإني إذا استيقظتُ أو مرّ بعض الوقت عليها دون تدوين فلن أتمكن من استحضارها أو تذكّرها. ثمّ بعد ذلك يأتي دور العقل في صقل المقطع وإكماله مراعيةً في ذلك جمالية الشكل وقيمة المحتوى.. وهذا لا يعني أنه ليست هناك قصائد كُتبت بسابقيّة الإضمار والترصّد كأن تكون بطلبٍ أو مناسبتية وليدة لحدث ما وهنا تدخل الصّنعة الشعرية.

*المهرجانات الشّعريّة ماذا أضافت لك؟

-المهرجانات الشّعريّة أكسبتني الثقة بالنفسِ في مواجهة الآخر عندما تجد نفسك سيّد المنبر تصدح بما جادت به قريحتك من قصائد.. ثمّ هي مناسبة للقاءِ وجوه الأدب والثقافة والفكر وهي كذلك مناسبة لتبادل الخبرات والاستئناس بتجارب الآخرين.. المهرجانات الشّعريّة أضافت لجهاد المثناني الكثير حيث ساهمت في صنع اسم جهاد المثناني شاعرةً قيروانيّةً تونسيّةً عربيّة وفتحت لي أبوابَ الظهور لكن لا أخفيك أمرا أنني في البدايات كنت أقبل دعوات أغلب المهرجانات حتى يصل صوتي الشعري قدر المستطاع لكن الآن وبعد تجربة محترمة صارت هناك غربلة وصار هناك انتقاء لأنّني اكتشفت بحكم تجربتي البسيطة أنّ هناك مهرجانات قد تسيء للشاعر أكثر من تحقّق له الإضافة.. بل قد يكون حضور الشاعر فيها تقليلا من قيمته الشعرية الإبداعيّة.. فبعض مهرجانات اليوم كالمناسبات الخاصة "استدعاني نستدعاك"، وبعض المهرجانات إهدار للمال العامّ وإسهام مباشر أو غير مباشر في نشر الرّداءة بجميع أنواعها.

* مِن وجهة نظرك هل تصنع المهرجانات الشّعريّة شاعرًا جيّدًا؟

-المهرجانات الشعريّة قد تساهم في تطوير التجربة الشعريّة من خلال الحضور والإنصات الجيّد للشعراء بمختلف تجاربهم ومن خلال المواكبة الجدّية والمشاركة الفاعلة الفعّالة لكنّها لا تصنع شاعرًا فالشّاعرُ إمّا أن يولد شاعر أو لا.. ثمّ تأتي بعد ذلك مرحلة صقل الموهبة وتطويرها وذلك نشعر به من خلال التفاوت بين نصوص البدايات لنا ونصوص مرحلة "الاحتراف" إن جاز وصفها بذلك.. فالتجربة قد تتطوّر وتنضج والمهرجانات جزء من بين عناصر كثيرة قادرة على تطوير تجربة الشاعر لكنّني أصرّ على أن المهرجانات لا تصنع شاعرًا.

* كيف تقرئين تهافت الشّعراء على نشر إنتاجهم على وسائل التواصل الاجتماعي؟

-يتهافت الشّعراء على نشر إنتاجاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي وأنا أعتبر نفسي ضمن المتهافتين على النشر على وسائل التواصل الاجتماعي والسّبب في ذلك أسباب أهمها غلاء تكاليف الطباعة من أجل النشر الورقي وما تمارسه بعض دور النشر من استغلال للمبدعين من الشعراء والأدباء عموما.. ثمّ وأنت سيّد العارفين أن العديد من الجرائد الورقيّة قد اختفت تماما من الوجود وأن جرائد قليلة بقيت تتداول في السوق ورغم وجود هذه الجرائد وعلى قلّتها فإنّ الإقبال على قراءتها صار محتشمًا مقارنة بزمن ما قبل هذه الثورة التكنولوجيّة.. ثمّ إن الظهور التلفزي مثلا يكاد يكون حِكرا على ذوي العاهات الفنية من أجل إحداث ما يُسمى بـ"البوز" والانتشار على حساب الذوق العام، وبالتالي فإنّ وسائل التواصل الاجتماعي صارت إعلامًا بديلاً من خلاله يصل صوت المبدع ومن خلاله يكوّن شبكة من العلاقات التي تكفل له ضمان الدعوات ونشر النص بمواقع صحفية الكترونية خاصة ونحن في عصر التعامل مع الشاشات.

* ما السرّ حسب رأيك في هروب الشّعراء إلى الرواية في الفترة الأخيرة؟

-فعلا هناك زحف جماعيّ تقريبا من الشّعر إلى الرواية باعتبار أن الكثيرين يعتقدون أنّ العصر عصر رواية لكنّ الجميل في المسألة أن الشعراء الذين كتبوا الرواية لم يستغنوا عن الشعر ولم يتوقّفوا عن كتابة الشعر لأن الشعر حالةٌ نعيشها ونقتنصها وندوّنها ولأن الشعر مشاعر متوهّجة متجددة في كل حين ولأن الشعر حلمٌ والإنسان لا يستطيع أن يحيا ويكتنه لذّة الحياة دون أحلامه و"ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل"، أمّا هذا التوجه إلى الرواية أراه جاء في إطار "الموضة الأدبيّة" أو في إطار "أعمل كيف جارك وإلا حوّل باب دارك" ونعلم جميعا أن الكثرة ليست مقياس جودةٍ فلا يعني هذا الهروب اللّافت إلى الرواية دليل على نجاح هؤلاء الكُتّاب في خوض هذه التجربة.. وقولي هذا لا ينفي وجود تجارب ناجحة طبعا لكن "عاش من عرف قدره" في نظري.. ولا أخفي أنّني أحلم بكتابة رواية أو مجموعة قصصيّة لكنّي لا أريد أن أكون متطفّلة رغم أنّني أستاذة لغة عربيّة وأمتلك آليات الكتابة أكاديميّا ومهنيّا وموهبةً.. لكن ربّما لم يحن الوقت بعد وقد لا يحينُ. ويبقى الشعر في نظري "ديوان العرب" بقديمه وحديثه شكلا ومضمونا.

* تكتبين الشّعر الفصيح والعامّي، ما هو المحدّد في هذا الاختيار؟

-في حقيقة الأمر صنف القصيدة ليس أمرًا موكولا إلى الاختيار بل كلّ قصيدة تولد على الشكل الذي تريد أن تكون عليه هي.. تماما كحالة الحمل والإنجاب وما الكتابة إلاّ مخاض وولادة لحياة جديدة هي حياة نصّ قد يولدُ ذكرًا وقد يولدُ أنثى ولا دخل للوالديْن في تحديد جنس المولود مسبقا مهما تطوّر العلم وتطوّرت التكنولوجيا.. كذلك الأمر معي.. فأنا لا أختار جنس النص بل النص يختار تشكّله ويولدُ ولادةً طبيعية كما ورد عليه في بداية تكوينه وهو فكرة في داخلي وهذا ينطبق كذلك على كتابة التفعيلة والعمودي وقصيدة النثر.

* إلى أيّ مدى يمكن الإقرار بأنّنا في تونس اليوم نعيش أزمة قارئ الشّعر؟

-أراك متفائلا جدا عندما اعتبرت أزمة القراءة متعلّقة بالشعر فقط وأنها في تونس فقط.. فالوضع قاتم جدّا ولعلّ تجربتي في مهنة التدريس تجعلني متشائمة نوعا ما بسبب ما أراه من ضعف مستوى تلاميذ اليوم بمختلف مستوياتهم الدراسية.. فأزمة القراءة سيّدي الكريم أزمة تشمل فعل القراءة في حدّ ذاتها ولا تخصّ الشعر فقط ثمّ هي ظاهرة عربيّة لا تقتصر على تونس ولعلّ هذا الوضع جعل بعض الدول العربيّة ومن بينها تونس تبتكر مسابقات مهمة في مجال المطالعة مثل مسابقة تحدّي القراءة أو البطولة الوطنية للمطالعة في تونس. الوضع لا ينبئ بخير وكثيرا ما أردّد أمام تلاميذي أنّ مَن لا يقرأ لا يكتب ثمّ إنّ غلاء الكتاب نفّرَ القارئَ عمومًا.

* أيّ رهانات للشّعر اليوم في ظلّ التحوّلات العالمية على أكثر من صعيد؟

-يعيش العالم فعلا تحوّلات على أصعدة مختلفة وهي تحوّلات تمضي صوبَ "تشْيِئة" الإنسان أي جعله شيئًا بسلبه ما يمتلك من مشاعر وأحاسيس وجعله مجرّد آلة مسلوب الإرادة صامتا أمام الحقّ وأمام قضايانا الكبرى.. وهنا يكون للشّعر دوره العظيم به يسترجع الإنسان إنسانيّته وبه يتوهّج ويُشرق وكما يقول أبو حامد الغزالي "مَن لمْ يحرّكه الرّبيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسدُ المزاج ليس له مزاج"، فبالشعر وبالفنّ عموما نواجه قتامة الواقع في ظلّ ما يعيش العالم وما تنشره وسائل التواصل الاجتماعي من موجات سلبية قاتلة ..

* الشعر والنقد، كيف تبدو العلاقة بينهما من وجهة نظرك؟

-من المؤسف أنّ الساحة الأدبية الشعرية تعيش تخمةً شعرية ولكن في المقابل تعيش شحًّا نقديّا رهيبا.. ثمّ إنّ النقد لم يعد يقوم بمهامّه النقدية الحقيقية بالوقوف على مواطن الضعف ومواطن الإجادة للشاعر بل صار في مجمله مجاملات ومدحًا وتمجيدا للأثر.. خاصّة أنّ بعض النقّاد لا يحرّكهم النص الذّي يرون فيه إبداعا فيكتبون عنه بل يحرّكهم المقابل المدفوع من أجل الكتابةِ على الكتابةِ فصار النقدُ مقابلَ "نقدٍ" أي بمقابل مادّي وفي ذلك إسهامٌ في نشر الرداءة فنجد مجاميع شعرية كثيرة يرفع الناقد من شأنها عاليا جدا من خلال تقديم يكون في غالب الأحيان أجمل من النص الأصلي ثمّ تقرأ العمل الشعري فلا تظفر بجمالية تحدّث عنها الناقد وأسهب في وصفها ورغم كلّ ذلك تبقى الساحة الأدبية في حاجة ملحّة إلى نُقّاد حقيقيين للغربلة من اجل أن يصحّ الصحيح.

* أي حضور للقيروان في أشعارك؟

-القيروان قبل أن تحضر في أشعاري هي حاضرة فيَّ وهي نبضٌ يساعدني على الحياة وهذا النبض يحضر دائما في أشعاري وليس أدلّ على ذلك من أن مجاميعي الشعرية لا تخلو كلّها من قصائد عن القيروان، فالقيروان حاضرة في إصداراتي الشعرية الثلاثة وستحضر فالإصدار القادم إن شاء الله.

* ماذا عن جديد جهاد المثناني شعرًا سنة 2024؟

-كلّ ما أستطيع قوله إنّ لي تحت الطبع مجموعة رابعة والحمد لله وأحتفظ بالحديث عن العنوان وعن دار النشّر إلى مقال آخر يحتفي بالمولود الجديد بالمساحة التي تليق به ..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الشاعرة جهاد المثناني لـ"الصباح":  الشّعر حلولُ الذّات في الذّات وهو التّماهي مع الحلم

 

*أولى قصائدي.. كانت موسومة بعفوية الطفلة وحلمها وجرح الوطن العربي ونزيفه

*أجمل القصائد هي الّتي تكتبنا وليست التي نكتبها..

* هناك مهرجانات اليوم تسيء للشاعر أكثر من ضمان الإضافة له

*أزمة القراءة اليوم تشمل فعل القراءة في حدّ ذاتها ولا تخصّ الشعر فقط

*للشّعر دوره العظيم اليوم.. به يسترجع الإنسان إنسانيّته وبه يتوهّج ويُشرق

*القيروان حاضرة فيَّ وهي نبضٌ يساعدني على الحياة

حوار: محسن بن احمد

هي واحدة من الجيل الذي نهل من ينبوع القيروان الشعري الذي لا ينضب معينه ...

انطلقت بكل ثقة في التأسيس ثم التأثيث لمسيرة شعرية ذات نفس عروبي دون القطيعة مع الوجدان في كل محطاته تفاؤلا كان أم انكسارا فكان أن كسبت رهان الحضور في المشهد الشعري الوطني بدرجة عن جدارة وهي المؤمنة بأن جمال القصيد يكمن في جمالية الشكل والمضمون معا.

جهاد المثناني تستعد هذه الأيام للاحتفاء بديوانها الشعري الرابع مازالت تصر أنها تبقى دائما في بداية الطريق مع الشعر وأحلامه وطموحاته.

*ماذا يعني لكِ الشّعر؟

-الشّعر حلولُ الذّات في الذّات وهو التّماهي مع الحلم ونحن نشكّل من عجين اللغة جمالاً يُعيدُ الحياة إلى الموجودات والكائنات والقضايا بمنظار يتشابكُ فيه المجاز والخيال بذائقة الشاعر وإحساسه وتطلّعاته لبناء عالم أجمل.. الشعرُ حالةٌ يعيشها الشاعرُ بِكلّ طقوسها.

* كيف كان أول لقاء لكِ مع القصيدة؟

-كان لقائي الأول مع القصيدة لقاءَ الطفلة بلعبتها.. تتحسّسُها في سعادة وتبحث لها عن اسمٍ وكسوة جميلة وتخاطبها في حنوّ حتى تشبعها من مشاعرها المتدفّقة وأحاسيسها العفويّة النقيّة... كانت قصائد تلك التلميذة المفعمة بالحياة والممتلئة بالأحلام والمتشبّعة بعروبة قد تكون وقتها غير واعية في فترة غليان سياسي عالمي من أجل تغيير الخارطة الجغراسياسية للعالم ونتحدث هنا عن احتلال العراق وسقوط بغداد إضافة إلى رواسب ما تحمله من جرح غائر عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية.. هكذا تشكلت أولى قصائدي.. كانت موسومة بعفوية الطفلة وحلمها من جهة وجرح الوطن العربي ونزيفه من جهة أخرى.. كان لقاءً مشحونا بمشاعر مختلفة.

* ما هي أولوياتك في القصيد الشكل أم المضمون؟

-المضمون إن لم يتمّ إخراجه في شكل جميل لن يتمّ قبوله ولا استساغته وكذلك الشّكل القائم على المحسّنات البلاغية من مجاز واستعارات وغيرها من أدوات لبناء النصّ الشعري دون مضمون يخاطب مشاعر الإنسان وأحاسيسه، يشارك الآخر همومه وقضاياه فإنه يصبح كالفتاة الحسناء التي لن يجدي الماكياج وكلّ وسائل التجميل في منحها روحًا متوهّجة، كذلك القصيدة تبقى باهتةً لا تحرّك المتلقّي البسيط فما بالك بالنّاقد والأكاديميّ.. إذن جمال القصيدة يكمن في جماليّة الشكل والمحتوى.

* كيف تعيشين لحظة البوح الشّعري ومن هو صاحب القرار العقل أم القلب؟

-لحظة البوح الشّعري لحظة لا موعِد لها هي لحظة مخاتلة لا تعترفُ بمكان ولا بزمان فكل الأمكنة لها وكذلك الأزمنة وهي شبيهة بلحظة الوحي أو المُكاشفة لذلك تجد القلم والدفتر رفيقيْن دائميْن لي حتى في فراشي.. لحظة البوح لم أتعمّدها أبدا ولم أقصدها بتاتا بل هي التي تقصدني دون موعد مسبق لذلك أقول إنّ أجمل القصائد هي الّتي تكتبنا وليست التي نكتبها.. فلم أتعمّد يومًا أن جلس بغاية كتابة قصيدة ..

أمّا عن صاحبِ القرار فإنّ القصيدة ثمرة شرعيّة للعقل والقلب لصوت الحكمة من جهة وصوت العاطفة والقلب من جهة أخرى ذلك أنّ الجملة أو المطلع يفاجئني بكلّ عفوية مشحونا بالأحاسيس وقتها لزام عليّ أن أقتنص تلك الفكرة أو ذلك المطلع كما جاء بعفويّته وأحاسيسه وإن لم أقتنص الفكرة أو الجملة أو المطلع الشعري بتدوينه مباشرة فإني إذا استيقظتُ أو مرّ بعض الوقت عليها دون تدوين فلن أتمكن من استحضارها أو تذكّرها. ثمّ بعد ذلك يأتي دور العقل في صقل المقطع وإكماله مراعيةً في ذلك جمالية الشكل وقيمة المحتوى.. وهذا لا يعني أنه ليست هناك قصائد كُتبت بسابقيّة الإضمار والترصّد كأن تكون بطلبٍ أو مناسبتية وليدة لحدث ما وهنا تدخل الصّنعة الشعرية.

*المهرجانات الشّعريّة ماذا أضافت لك؟

-المهرجانات الشّعريّة أكسبتني الثقة بالنفسِ في مواجهة الآخر عندما تجد نفسك سيّد المنبر تصدح بما جادت به قريحتك من قصائد.. ثمّ هي مناسبة للقاءِ وجوه الأدب والثقافة والفكر وهي كذلك مناسبة لتبادل الخبرات والاستئناس بتجارب الآخرين.. المهرجانات الشّعريّة أضافت لجهاد المثناني الكثير حيث ساهمت في صنع اسم جهاد المثناني شاعرةً قيروانيّةً تونسيّةً عربيّة وفتحت لي أبوابَ الظهور لكن لا أخفيك أمرا أنني في البدايات كنت أقبل دعوات أغلب المهرجانات حتى يصل صوتي الشعري قدر المستطاع لكن الآن وبعد تجربة محترمة صارت هناك غربلة وصار هناك انتقاء لأنّني اكتشفت بحكم تجربتي البسيطة أنّ هناك مهرجانات قد تسيء للشاعر أكثر من تحقّق له الإضافة.. بل قد يكون حضور الشاعر فيها تقليلا من قيمته الشعرية الإبداعيّة.. فبعض مهرجانات اليوم كالمناسبات الخاصة "استدعاني نستدعاك"، وبعض المهرجانات إهدار للمال العامّ وإسهام مباشر أو غير مباشر في نشر الرّداءة بجميع أنواعها.

* مِن وجهة نظرك هل تصنع المهرجانات الشّعريّة شاعرًا جيّدًا؟

-المهرجانات الشعريّة قد تساهم في تطوير التجربة الشعريّة من خلال الحضور والإنصات الجيّد للشعراء بمختلف تجاربهم ومن خلال المواكبة الجدّية والمشاركة الفاعلة الفعّالة لكنّها لا تصنع شاعرًا فالشّاعرُ إمّا أن يولد شاعر أو لا.. ثمّ تأتي بعد ذلك مرحلة صقل الموهبة وتطويرها وذلك نشعر به من خلال التفاوت بين نصوص البدايات لنا ونصوص مرحلة "الاحتراف" إن جاز وصفها بذلك.. فالتجربة قد تتطوّر وتنضج والمهرجانات جزء من بين عناصر كثيرة قادرة على تطوير تجربة الشاعر لكنّني أصرّ على أن المهرجانات لا تصنع شاعرًا.

* كيف تقرئين تهافت الشّعراء على نشر إنتاجهم على وسائل التواصل الاجتماعي؟

-يتهافت الشّعراء على نشر إنتاجاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي وأنا أعتبر نفسي ضمن المتهافتين على النشر على وسائل التواصل الاجتماعي والسّبب في ذلك أسباب أهمها غلاء تكاليف الطباعة من أجل النشر الورقي وما تمارسه بعض دور النشر من استغلال للمبدعين من الشعراء والأدباء عموما.. ثمّ وأنت سيّد العارفين أن العديد من الجرائد الورقيّة قد اختفت تماما من الوجود وأن جرائد قليلة بقيت تتداول في السوق ورغم وجود هذه الجرائد وعلى قلّتها فإنّ الإقبال على قراءتها صار محتشمًا مقارنة بزمن ما قبل هذه الثورة التكنولوجيّة.. ثمّ إن الظهور التلفزي مثلا يكاد يكون حِكرا على ذوي العاهات الفنية من أجل إحداث ما يُسمى بـ"البوز" والانتشار على حساب الذوق العام، وبالتالي فإنّ وسائل التواصل الاجتماعي صارت إعلامًا بديلاً من خلاله يصل صوت المبدع ومن خلاله يكوّن شبكة من العلاقات التي تكفل له ضمان الدعوات ونشر النص بمواقع صحفية الكترونية خاصة ونحن في عصر التعامل مع الشاشات.

* ما السرّ حسب رأيك في هروب الشّعراء إلى الرواية في الفترة الأخيرة؟

-فعلا هناك زحف جماعيّ تقريبا من الشّعر إلى الرواية باعتبار أن الكثيرين يعتقدون أنّ العصر عصر رواية لكنّ الجميل في المسألة أن الشعراء الذين كتبوا الرواية لم يستغنوا عن الشعر ولم يتوقّفوا عن كتابة الشعر لأن الشعر حالةٌ نعيشها ونقتنصها وندوّنها ولأن الشعر مشاعر متوهّجة متجددة في كل حين ولأن الشعر حلمٌ والإنسان لا يستطيع أن يحيا ويكتنه لذّة الحياة دون أحلامه و"ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل"، أمّا هذا التوجه إلى الرواية أراه جاء في إطار "الموضة الأدبيّة" أو في إطار "أعمل كيف جارك وإلا حوّل باب دارك" ونعلم جميعا أن الكثرة ليست مقياس جودةٍ فلا يعني هذا الهروب اللّافت إلى الرواية دليل على نجاح هؤلاء الكُتّاب في خوض هذه التجربة.. وقولي هذا لا ينفي وجود تجارب ناجحة طبعا لكن "عاش من عرف قدره" في نظري.. ولا أخفي أنّني أحلم بكتابة رواية أو مجموعة قصصيّة لكنّي لا أريد أن أكون متطفّلة رغم أنّني أستاذة لغة عربيّة وأمتلك آليات الكتابة أكاديميّا ومهنيّا وموهبةً.. لكن ربّما لم يحن الوقت بعد وقد لا يحينُ. ويبقى الشعر في نظري "ديوان العرب" بقديمه وحديثه شكلا ومضمونا.

* تكتبين الشّعر الفصيح والعامّي، ما هو المحدّد في هذا الاختيار؟

-في حقيقة الأمر صنف القصيدة ليس أمرًا موكولا إلى الاختيار بل كلّ قصيدة تولد على الشكل الذي تريد أن تكون عليه هي.. تماما كحالة الحمل والإنجاب وما الكتابة إلاّ مخاض وولادة لحياة جديدة هي حياة نصّ قد يولدُ ذكرًا وقد يولدُ أنثى ولا دخل للوالديْن في تحديد جنس المولود مسبقا مهما تطوّر العلم وتطوّرت التكنولوجيا.. كذلك الأمر معي.. فأنا لا أختار جنس النص بل النص يختار تشكّله ويولدُ ولادةً طبيعية كما ورد عليه في بداية تكوينه وهو فكرة في داخلي وهذا ينطبق كذلك على كتابة التفعيلة والعمودي وقصيدة النثر.

* إلى أيّ مدى يمكن الإقرار بأنّنا في تونس اليوم نعيش أزمة قارئ الشّعر؟

-أراك متفائلا جدا عندما اعتبرت أزمة القراءة متعلّقة بالشعر فقط وأنها في تونس فقط.. فالوضع قاتم جدّا ولعلّ تجربتي في مهنة التدريس تجعلني متشائمة نوعا ما بسبب ما أراه من ضعف مستوى تلاميذ اليوم بمختلف مستوياتهم الدراسية.. فأزمة القراءة سيّدي الكريم أزمة تشمل فعل القراءة في حدّ ذاتها ولا تخصّ الشعر فقط ثمّ هي ظاهرة عربيّة لا تقتصر على تونس ولعلّ هذا الوضع جعل بعض الدول العربيّة ومن بينها تونس تبتكر مسابقات مهمة في مجال المطالعة مثل مسابقة تحدّي القراءة أو البطولة الوطنية للمطالعة في تونس. الوضع لا ينبئ بخير وكثيرا ما أردّد أمام تلاميذي أنّ مَن لا يقرأ لا يكتب ثمّ إنّ غلاء الكتاب نفّرَ القارئَ عمومًا.

* أيّ رهانات للشّعر اليوم في ظلّ التحوّلات العالمية على أكثر من صعيد؟

-يعيش العالم فعلا تحوّلات على أصعدة مختلفة وهي تحوّلات تمضي صوبَ "تشْيِئة" الإنسان أي جعله شيئًا بسلبه ما يمتلك من مشاعر وأحاسيس وجعله مجرّد آلة مسلوب الإرادة صامتا أمام الحقّ وأمام قضايانا الكبرى.. وهنا يكون للشّعر دوره العظيم به يسترجع الإنسان إنسانيّته وبه يتوهّج ويُشرق وكما يقول أبو حامد الغزالي "مَن لمْ يحرّكه الرّبيع وأزهاره والعود وأوتاره فهو فاسدُ المزاج ليس له مزاج"، فبالشعر وبالفنّ عموما نواجه قتامة الواقع في ظلّ ما يعيش العالم وما تنشره وسائل التواصل الاجتماعي من موجات سلبية قاتلة ..

* الشعر والنقد، كيف تبدو العلاقة بينهما من وجهة نظرك؟

-من المؤسف أنّ الساحة الأدبية الشعرية تعيش تخمةً شعرية ولكن في المقابل تعيش شحًّا نقديّا رهيبا.. ثمّ إنّ النقد لم يعد يقوم بمهامّه النقدية الحقيقية بالوقوف على مواطن الضعف ومواطن الإجادة للشاعر بل صار في مجمله مجاملات ومدحًا وتمجيدا للأثر.. خاصّة أنّ بعض النقّاد لا يحرّكهم النص الذّي يرون فيه إبداعا فيكتبون عنه بل يحرّكهم المقابل المدفوع من أجل الكتابةِ على الكتابةِ فصار النقدُ مقابلَ "نقدٍ" أي بمقابل مادّي وفي ذلك إسهامٌ في نشر الرداءة فنجد مجاميع شعرية كثيرة يرفع الناقد من شأنها عاليا جدا من خلال تقديم يكون في غالب الأحيان أجمل من النص الأصلي ثمّ تقرأ العمل الشعري فلا تظفر بجمالية تحدّث عنها الناقد وأسهب في وصفها ورغم كلّ ذلك تبقى الساحة الأدبية في حاجة ملحّة إلى نُقّاد حقيقيين للغربلة من اجل أن يصحّ الصحيح.

* أي حضور للقيروان في أشعارك؟

-القيروان قبل أن تحضر في أشعاري هي حاضرة فيَّ وهي نبضٌ يساعدني على الحياة وهذا النبض يحضر دائما في أشعاري وليس أدلّ على ذلك من أن مجاميعي الشعرية لا تخلو كلّها من قصائد عن القيروان، فالقيروان حاضرة في إصداراتي الشعرية الثلاثة وستحضر فالإصدار القادم إن شاء الله.

* ماذا عن جديد جهاد المثناني شعرًا سنة 2024؟

-كلّ ما أستطيع قوله إنّ لي تحت الطبع مجموعة رابعة والحمد لله وأحتفظ بالحديث عن العنوان وعن دار النشّر إلى مقال آخر يحتفي بالمولود الجديد بالمساحة التي تليق به ..