"لا يكفي أن تسكن الحرية السياسية قلوبنا، بل لابد أن تملأ الساحات العامة صخبا وجسارة وحضورا حيويا
رشيد خشانة
كتاب الأستاذ ماهر حنين الجديد "على حافة الحاضر.. كتابات في الديمقراطية التونسية المعطوبة" سفرٌ خصيبٌ، ينطلق من وقائع كان من الضروري التذكير بها، للوصول إلى استنتاجات مهمة، تتعلق بمستقبل التجربة الانتقالية التونسية.
صدر الكتاب عن جمعية "نشاز" ودار النشر "نقوش عربية"، بدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ، مع مقدمة كتبها الناشط الحقوقي والسياسي فتحي بلحاج يحيى. والكتاب الذي يقع في 250 صفحة، هو عبارة عن تجميع لمقالات سبق نشرها في صحيفتي "المغرب" و"السفير"، لكن بعد مراجعتها وتحيينها، حتى باتت تستوعب آخر التطورات على الساحة الوطنية. ولا ريب في أن المجهود الفكري الذي بذله المؤلف محمودٌ، فهو أستاذ الفلسفة، الذي طوع المفاهيم واهتم بالتيارات الكبرى بقدر توقُفه عند التفاصيل. وكم نحن محتاجون إلى هذا النوع من الكتابات التي تُذكي الصراع الفكري وتروي أرضنا، بعد سنوات طويلة من التصحر والجفاف، وتحمل في الوقت نفسه خيطا ناظما، يقدم رؤية للماضي القريب وللمستقبل في آن معا.
بُعدٌ اجتماعي
من مُميزات طرح حنين انفتاحُه الدائم على المدى الاجتماعي، سواء في تجربته السياسية صلب "الحزب الديمقراطي التقدمي" أو في الأطر الاجتماعية والنقابية والحقوقية التي انتسب إليها، وخاض في جميعها معارك حية وبلور اجتهادات أصيلة، لذلك فهو يعتبر أنه يستجيب "لمتطلبات نهاية السرديات الكبرى، ويبحث على سطح الورق وعلى قارعة الطريق، عن المعنى الممكن، لواقع يُفلت منا لتعقُده وسرعته".
هذا الخيط الناظم المُقترح ليس مشروعا إسلامويا ولا يساريا، بل هو "بحث عن مسارات مترافقة لخوض معركة الأفكار، بالتوازي مع معارك الميدان". لكنه يوضح ان ما يستحثه على مواصلة خوض هذه المعركة، بإصرار وشغف، هو المختبرات اليافعة المفتوحة على يسار المشهد السياسي، بحثا عن مكان لنا، "نحن حملة مشروع اليسار الجديد تحت الشمس" كما كتب في التوطئة.
راهنية الصراع
من المهم التوقف هنا عند معنى الكتابة، مثلما يشرحه حنين، فالكتابة على حافة الحاضر هي "استجابة لراهنية الصراع، وهي كتابة تختلف تماما عن الكتابة المُتأنية التي تتشربُ كل ما تراه وتقرأه، في صمت وتُؤدة، لتخرج إلى الناس مكتملة متينة، بإشكالياتها المركزية وفرضياتها". واستطرادا يربط حنين بين ما شهدته تونس من ثورة شعبية في 2011، وما عاشه كثير من بلدان المنطقة من ثورات وانتفاضات، فنحن لسنا وحدنا في مقاوماتنا الاجتماعية والمواطنية، وإنما "نحن ضمن موجة تغيير تعيشها المنطقة، لا نكتفي بالنظر إليها من زاوية الحروب الأهلية فقط، ولا من زاوية صعود المشروع الإسلامي ونزوله، بل أيضا من زاوية الحراك الاجتماعي والمواطني، الذي عبرت عن زخمه ومازالت، إرادة التغيير نحو مجتمع الحرية والعدالة.
حق الأقليات
بعد توضيح السياق الثوري التونسي، تطرق المؤلف إلى مسألة دقيقة تتعلق بانتخابات 2011، ليؤكد أن رفض القوى الديمقراطية العلمانية، السياسية والمدنية والنسوية حكم "النهضة"، إثر فوزها في تلك الانتخابات، يندرج ضمن ممارسة حق التمرد المشروع، على نظام حكم قانوني حينها، لأنه صادر عن إرادة شعبية، متفق حولها، في حين تحصنت معارضته بالمشروعية، فالشرعية بما هي حكم الأغلبية لا تعني نزع الحق الايتيقي للأقليات، أفرادا وجماعات في المقاومة المشروعة.
من هنا يتساءل المؤلف: كيف نُعيد لشباب الثورة ومهمشيها وأحرارها ثورتهم المجيدة، من دون عرض برنامج حكم مسبق، فالأولوية هي إذا لهزم السلطة الحالية لمنافسيها بكل وسائل القول والخطاب. ويرى حنين أن طيفا من اليسار المساند لقيس سعيد، "انتصر على أطياف يسارية اخرى، ألهاها تكاثر الزعامات وتنظيمات الحوانيت القديمة" بحسب تعبيره. وهو يُفسر ذلك بأن هذا الطيف "اليساري" أعاد إلى الصراع السياسي البعض من دلالاته الطبقية والأخلاقية، "بعدما كاد التوافق يُنهي كل صراع (...) وكادت البراغماتية تذهب بكل القيم، وتقدم السياسة كسلوك غاياته تبرر وسائله".
هاربون من فضائهم
مثل هذه الهجرة "اليسارية"، الهاربة من فضائها الطبيعي نحو قيس سعيد، لا بد أن تُلفت انتباهنا نحن معشر اليساريين، يقول حنين، فلا نكتفي بسلوك النعامة تجاهها. ويمضي شارحا هذه الفكرة، بإعطاء توجُه عام يختزل مطالب المرحلة، المتمثلة أولا في عودة تونس سريعا إلى الشرعية الديمقراطية القائمة على الفصل بين السلطات وضمان الحريات والتعددية، مُضيفا "لا نستطيع أن نقبل، حتى في ظل التأييد الشعبي للرئيس، الإبطاء في إعلان خريطة طريق للمرحلة المقبلة".
أكثر من ذلك، لا يكفي أن تسكن الحرية السياسية قلوبنا، بحسب حنين، "بل لابد أن تملأ الساحات العامة صخبا وجسارة وحضورا حيويا، وهو في الأصل حضور للأجساد والأصوات والكلمات ما استطعنا إلى ذلك سبيلا".
على أن مقاربة الأستاذ حنين لأسس العودة إلى الشرعية ترتكز على أرضية رخوة، فهي تتناغم مع دستور 25 جويلية ، الذي عارضته جميع القوى السياسية ذات المصداقية، بالإضافة لفطاحل القانون من جميع الاتجاهات، الذين صنفوه "انقلابا دستوريا" بينما اعتبر المؤلف الاجراءات المتخذة ليلة 25 جويلية "حدثا سياسيا إيجابيا يمكن البناء عليه من أجل حماية مستقبل الديمقراطية" (حمايتها ممن؟).
مصدر أوحد للكلام
مع ذلك يبدو المؤلف مدركا وواثقا من قصور الخطاب الرسمي عن التحشيد الشعبي لرئيس الجمهورية، لأن الخطاب الحالي، كما يقول، قائم على مصدر أوحد للصوت والكلام، معززا بتقنيات الصورة، مقابل صمت الآخرين. ويتساءل إلى أي مدى ستستمر علاقة اللغة السياسية الرسمية بنا علاقة عمودية تلقينية، في عصر كعصرنا ومجتمع كمجتمعنا؟
غير أن المؤلف يعتبر أن فضاءات الحرية خارج اللغة الرسمية وضدها لم تنقرض، فهي دوما مستمرة، قد تنحسر، لكنها لا تموت، مُستدلا بالتعبيرات الشبابية، وآخرها شباب نابل وأغنية "الراب" النقدية (...) ما يؤكد أن تحت الأرض غضبا كبيرا كامنا "تحت الجليز برشة تكريز" بتعبير الشباب. في هذا السياق يُسجل المؤلف أن الصمت ليس صمتا كاملا ولا نهائيا، بل هو مسألة وقت وسيتكلم الصامتون، "بل إنهم شرعوا في ذلك" من دون إذن، أكانوا نخبا أم فاعلين اجتماعيين أم لا مرئيين، ، وبأشكال مبتكرة... وربما غير متوقعة.
* الأمين العام المساعد للحزب الديمقراطي التقدمي سابقا
"لا يكفي أن تسكن الحرية السياسية قلوبنا، بل لابد أن تملأ الساحات العامة صخبا وجسارة وحضورا حيويا
رشيد خشانة
كتاب الأستاذ ماهر حنين الجديد "على حافة الحاضر.. كتابات في الديمقراطية التونسية المعطوبة" سفرٌ خصيبٌ، ينطلق من وقائع كان من الضروري التذكير بها، للوصول إلى استنتاجات مهمة، تتعلق بمستقبل التجربة الانتقالية التونسية.
صدر الكتاب عن جمعية "نشاز" ودار النشر "نقوش عربية"، بدعم من مؤسسة روزا لوكسمبورغ، مع مقدمة كتبها الناشط الحقوقي والسياسي فتحي بلحاج يحيى. والكتاب الذي يقع في 250 صفحة، هو عبارة عن تجميع لمقالات سبق نشرها في صحيفتي "المغرب" و"السفير"، لكن بعد مراجعتها وتحيينها، حتى باتت تستوعب آخر التطورات على الساحة الوطنية. ولا ريب في أن المجهود الفكري الذي بذله المؤلف محمودٌ، فهو أستاذ الفلسفة، الذي طوع المفاهيم واهتم بالتيارات الكبرى بقدر توقُفه عند التفاصيل. وكم نحن محتاجون إلى هذا النوع من الكتابات التي تُذكي الصراع الفكري وتروي أرضنا، بعد سنوات طويلة من التصحر والجفاف، وتحمل في الوقت نفسه خيطا ناظما، يقدم رؤية للماضي القريب وللمستقبل في آن معا.
بُعدٌ اجتماعي
من مُميزات طرح حنين انفتاحُه الدائم على المدى الاجتماعي، سواء في تجربته السياسية صلب "الحزب الديمقراطي التقدمي" أو في الأطر الاجتماعية والنقابية والحقوقية التي انتسب إليها، وخاض في جميعها معارك حية وبلور اجتهادات أصيلة، لذلك فهو يعتبر أنه يستجيب "لمتطلبات نهاية السرديات الكبرى، ويبحث على سطح الورق وعلى قارعة الطريق، عن المعنى الممكن، لواقع يُفلت منا لتعقُده وسرعته".
هذا الخيط الناظم المُقترح ليس مشروعا إسلامويا ولا يساريا، بل هو "بحث عن مسارات مترافقة لخوض معركة الأفكار، بالتوازي مع معارك الميدان". لكنه يوضح ان ما يستحثه على مواصلة خوض هذه المعركة، بإصرار وشغف، هو المختبرات اليافعة المفتوحة على يسار المشهد السياسي، بحثا عن مكان لنا، "نحن حملة مشروع اليسار الجديد تحت الشمس" كما كتب في التوطئة.
راهنية الصراع
من المهم التوقف هنا عند معنى الكتابة، مثلما يشرحه حنين، فالكتابة على حافة الحاضر هي "استجابة لراهنية الصراع، وهي كتابة تختلف تماما عن الكتابة المُتأنية التي تتشربُ كل ما تراه وتقرأه، في صمت وتُؤدة، لتخرج إلى الناس مكتملة متينة، بإشكالياتها المركزية وفرضياتها". واستطرادا يربط حنين بين ما شهدته تونس من ثورة شعبية في 2011، وما عاشه كثير من بلدان المنطقة من ثورات وانتفاضات، فنحن لسنا وحدنا في مقاوماتنا الاجتماعية والمواطنية، وإنما "نحن ضمن موجة تغيير تعيشها المنطقة، لا نكتفي بالنظر إليها من زاوية الحروب الأهلية فقط، ولا من زاوية صعود المشروع الإسلامي ونزوله، بل أيضا من زاوية الحراك الاجتماعي والمواطني، الذي عبرت عن زخمه ومازالت، إرادة التغيير نحو مجتمع الحرية والعدالة.
حق الأقليات
بعد توضيح السياق الثوري التونسي، تطرق المؤلف إلى مسألة دقيقة تتعلق بانتخابات 2011، ليؤكد أن رفض القوى الديمقراطية العلمانية، السياسية والمدنية والنسوية حكم "النهضة"، إثر فوزها في تلك الانتخابات، يندرج ضمن ممارسة حق التمرد المشروع، على نظام حكم قانوني حينها، لأنه صادر عن إرادة شعبية، متفق حولها، في حين تحصنت معارضته بالمشروعية، فالشرعية بما هي حكم الأغلبية لا تعني نزع الحق الايتيقي للأقليات، أفرادا وجماعات في المقاومة المشروعة.
من هنا يتساءل المؤلف: كيف نُعيد لشباب الثورة ومهمشيها وأحرارها ثورتهم المجيدة، من دون عرض برنامج حكم مسبق، فالأولوية هي إذا لهزم السلطة الحالية لمنافسيها بكل وسائل القول والخطاب. ويرى حنين أن طيفا من اليسار المساند لقيس سعيد، "انتصر على أطياف يسارية اخرى، ألهاها تكاثر الزعامات وتنظيمات الحوانيت القديمة" بحسب تعبيره. وهو يُفسر ذلك بأن هذا الطيف "اليساري" أعاد إلى الصراع السياسي البعض من دلالاته الطبقية والأخلاقية، "بعدما كاد التوافق يُنهي كل صراع (...) وكادت البراغماتية تذهب بكل القيم، وتقدم السياسة كسلوك غاياته تبرر وسائله".
هاربون من فضائهم
مثل هذه الهجرة "اليسارية"، الهاربة من فضائها الطبيعي نحو قيس سعيد، لا بد أن تُلفت انتباهنا نحن معشر اليساريين، يقول حنين، فلا نكتفي بسلوك النعامة تجاهها. ويمضي شارحا هذه الفكرة، بإعطاء توجُه عام يختزل مطالب المرحلة، المتمثلة أولا في عودة تونس سريعا إلى الشرعية الديمقراطية القائمة على الفصل بين السلطات وضمان الحريات والتعددية، مُضيفا "لا نستطيع أن نقبل، حتى في ظل التأييد الشعبي للرئيس، الإبطاء في إعلان خريطة طريق للمرحلة المقبلة".
أكثر من ذلك، لا يكفي أن تسكن الحرية السياسية قلوبنا، بحسب حنين، "بل لابد أن تملأ الساحات العامة صخبا وجسارة وحضورا حيويا، وهو في الأصل حضور للأجساد والأصوات والكلمات ما استطعنا إلى ذلك سبيلا".
على أن مقاربة الأستاذ حنين لأسس العودة إلى الشرعية ترتكز على أرضية رخوة، فهي تتناغم مع دستور 25 جويلية ، الذي عارضته جميع القوى السياسية ذات المصداقية، بالإضافة لفطاحل القانون من جميع الاتجاهات، الذين صنفوه "انقلابا دستوريا" بينما اعتبر المؤلف الاجراءات المتخذة ليلة 25 جويلية "حدثا سياسيا إيجابيا يمكن البناء عليه من أجل حماية مستقبل الديمقراطية" (حمايتها ممن؟).
مصدر أوحد للكلام
مع ذلك يبدو المؤلف مدركا وواثقا من قصور الخطاب الرسمي عن التحشيد الشعبي لرئيس الجمهورية، لأن الخطاب الحالي، كما يقول، قائم على مصدر أوحد للصوت والكلام، معززا بتقنيات الصورة، مقابل صمت الآخرين. ويتساءل إلى أي مدى ستستمر علاقة اللغة السياسية الرسمية بنا علاقة عمودية تلقينية، في عصر كعصرنا ومجتمع كمجتمعنا؟
غير أن المؤلف يعتبر أن فضاءات الحرية خارج اللغة الرسمية وضدها لم تنقرض، فهي دوما مستمرة، قد تنحسر، لكنها لا تموت، مُستدلا بالتعبيرات الشبابية، وآخرها شباب نابل وأغنية "الراب" النقدية (...) ما يؤكد أن تحت الأرض غضبا كبيرا كامنا "تحت الجليز برشة تكريز" بتعبير الشباب. في هذا السياق يُسجل المؤلف أن الصمت ليس صمتا كاملا ولا نهائيا، بل هو مسألة وقت وسيتكلم الصامتون، "بل إنهم شرعوا في ذلك" من دون إذن، أكانوا نخبا أم فاعلين اجتماعيين أم لا مرئيين، ، وبأشكال مبتكرة... وربما غير متوقعة.
* الأمين العام المساعد للحزب الديمقراطي التقدمي سابقا