إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

غراب على السّطح (3-3)

قصة : حسونة المصباحي 

نعم قد يكون ذلك عملا حسنا، وسريعا، وغير مُكلف...يكفي أن يَسْكبَ على جسده قليلا من البنزين، ثم يشعل عود كبريت.... بعد وقت وجيز يكون كتلة من رماد. وبذلك ينتهي هذا الشقاء الذي يبدو بلا نهاية...وبما يبكيه البعض من أهله. أمّا زوجته فستتظاهر بالحزن لكن في سرّها سوف تلعنه داعية الله أن يحرقه في الآخرة مرة أخرى. وسوف تقول عندما تسمع بخبر وفاته :”الله لا ترحم الكلاب!”...نعم هذا ما ستقوله إذ أنه أصبح بالنسبة لها أحقر من كلب سائب...والطفلان؟...آه الطفلان ما ذنبهما؟...ما ذنبهما؟ بللت عينيه دمعتان ساخنتان...أخرج من جيبه منديلا ورقيا ومسحهما... وفي تلك اللحظة  ربت أحدهم على كتفه. التفت فإذا بصالح ابن عمّه هاشّا باشّا في وجهه. منذ أسابيع طويلة لم يلتق به. فهو دائم التنقل بين المدن بشاحنته. ويتردّد على العاصمة أكثر من مرّة في الشّهر الواحد. وهو من أثرياء القرية. له بيت مُريح، والجيب دائما ملآن. وفي الحقيقة هو يحسده على النعمة التي خصّه بها الله. ويزداد هذا الحسد استعارا حين تبالغ زوجته في مدح صالح، والإشادة بذكائه، و"عفرتته". حين يزورهم في البيت، تظهر له ودّا يشعل نار الغيرة في جسده، ويخرجه عن طوره، ويُذكي الرغبة في قتله هكذا أمام عينيها وهي تلاطفه بالكلمات والإشارات والغمزات...أوف يا لكيد النساء!...

- فاش تخمّم يا ولد عمي الغالي؟ سأله صالح

-...

- ما تخمّمْش الدنيا فيها الموت...وما يربحْ  فيها كان الزاهي ديما... 

-وكبفاش تحبني نزْها والجيب ديما فارغ؟

أخرج صالح حافظة نقوده المنتفخة بالأوراق المالية. مدّ له عشرة ورقات بعشرين دينارا، قائلا له بأنه يمكنه أن يعيدها له متى يشاء...

زحفت الوساوس السّوداء في خلايا دماغه مثلما تزحف الأفاعي على الرمل السّاخن...ترى ما سرّ هذا الكَرَم؟ وما الدّاعي له؟  ابن عمه  لم يفعل هذا من قبل أبدا. وفي المرات القليلة التي رغب أن يستدين منه مبالغ بسيطة واجهه بالرفض والصّدود....وإذن لا بدّ أن يكون هناك موجب لهذا السّخاء...أوف...ولكن عليه أن يقبل به خصوصا وأن المبلغ سيخفّف عنه وطأة الهموم التي تثقل صدره...قفز من الكرسي ليُعانق ابن عمّه بحرارة:

9 / 13

-شكرا يا  ولد عمي  العزيز ...!

-اسمع يا  ولد عمي الغالي ...أنا اليوم ما عندي ما نعمل...ونحب نعمل شيخة معاك!

-معايا نا؟

- يا نعم معاك يا لد عمي الباهي... ونحب نهزك عند ناجي...

-أشكون ناجي؟

هامسا أعلمه صالح أن ناجي حوّل قسما من بيته الريفي إلى حانة سرية، يرتادها عشاق البيرة، والنبيذ "الروزي "، و"الروج"...

غادرت الشاحنة العلا، وانطلقت شمالا في الطريق المودّي إلى حفوز، والقيروان. وقبل أن تبلغ "وادي الجبّاس"، انحرفت شرقا لتسلك طريقا ترابيا متعرّجا، على جانبيه سياجا صبّار عاليان. بعد أن قطعت مسافة تقدّر بسبع كيلومترات، توقّفت الشاحنة أمام بيت تنتصب أمامه شجرة خرّوب عجوز هائلة الحجم، به يحيط سور بباب حديديّ كبير. زمّر صالح ثلاث مرّات. بعد بضع دقائق برز من الباب  الحديدي رجل نحيف، غامق السّمرة، بلحية خفيفة، ورأس أشيب، وعنق طويل. وكان يرتدي دجينز بهت لونه، وقميصا أزرق بمربّعات بيضاء .نزل صالح من الشاحنة، واندفع نحوه ليعانقه بحرارة، ثمّ أشار إليه أن يأتي ففعل. بعد السلام، قادهما الرجل إلى غرفة فسيحة بها طاولات، وكراس بلاستيكيّة. منها تفوح روائح الخمر، والبيرة، والسجائر، واللحم المشوي، والزيت المقلي. على الجدار جهاز تلفزيون ينقل مباراة قديمة لكرة القدم بين فرقين أجنبيين . في وسطها أربعة رجال بوجوه  تنزّ عرقا العرق، وعيون محمرّة يشربون، ويأكلون اللحم المشوي المكدس أمامهم بنهم وشراهة.  وهو يعرف فقط أكبرهم سنّا. وهو  تاجر خرفان اصلع قليلا، بشارب كثيف، وبطن مُنْتَفخ. جميعهم وقفوا للترحيب بصالح، والسؤال عن أحواله، وأحوال عائلته. أما هو فلم يعيروه أيّ اهتمام...

شرب كل واحد منهما بيرتين ل"إطفاء نار العطش" بحسب تعبير صالح، ، ثمّ انتقلا الى "الكوديا الروج". ولم يكن صالح يكفّ عن طلب المزيد من اللحم المشويّ، ومعه معكرونة وسلاطة مشويّة. في آخر الظّهيرة، لعبت الخمرة برؤوس الرجال الآخرين فشرعوا في ترديد أغاني الحبّ البدوية بأصواتهم الغليظة، القبيحة. غير أن ناجي تدخّل بحزم طالبا منهم الكفّ عن ذلك خشية أن تلتقط الآذان الفضوليّة ما يحدث فيجيء رجال الحرس الوطني ليسوقوا الجميع

10 / 13

إلى السجن، أو يَهْجُم أصحاب اللحيّ على البيت فيحرقونه، ويحرقون من فيه... أطاعه الرجال مكرهين. بعد قليل، انبرى تاجر الخرفان يتحدّث عن مغامراته الجنسيّة في الماضي، والحاضر، مُتباهيا بما يأتي به من عجائب مع النساء حتى بعد أن تجاوز سنّ الخمسين. وجاراه الآخرون. كلّ واحد منهم راح يفاخر بفحولته راويا قصصه مع النساء، مشيدا بفضائله معهنّ في الجماع. وكشف صالح أن له عشيقة جديدة تعيش في القيروان. وهي "جننّنه" لأنها تأتي بفنون في الفراش لم تأتي بها أيّ عشيقة من عشيقاته السّابقات. ومن شدّة غرامه بها، هو يذهب إليها في كلّ لقاء وهو يرجف كالمحموم. أما هو فلم يتدخّل في الحديث، مكتفيا بالاستماع. بين وقت وآخر ترنّ في رأسه الصّفعة التي تلقّاها في الصباح فيصعد الدّم إلى رأسه، ويشتغل الغيظ في صدره نارا حامية. في لحظة ما، خاطبه تاجر الخرفان قائلا:

-ها...أنت يا سيّد … أشبيك حزين ومهموم... ما تشيخش مع النسا كيفنا؟

بسرعة تدخّل صالح ليردّ عليه قائلا:

-هو ولد عمّي …حشّام لكنه فحل! هههههه

مدّ الجالس إلى يمين تاجر الخرفان رأسه باتجاهه، وهو رجل قصير، ضئيل الحجم، يلمعُ الخبث والشّر في عينيه الصغيرتين، وقال ساخرا:

- مش باين فيه فحلْ!

ثم انفجر ضاحكا، وضحك الآخرون أيضا...

تدخّل صالح من جديد ليقول:

-اسمعوا يا رجال... راهو ولد عمّي... من فضلكم خلّوه رايض... راني من نحبش فيه!

- باهي! قال تاجر الخرفان...

ساد صمت ثقيل...أشعل صالح سيجارة. رمى في جوفه كأس "كوديا" ،ثمّ أضاف قائلا:

- بربي يا رجال...خلونا شايخين... نكمل شيختنا في الرياض..٬

11 / 13

انتصب ناجي واقفا وخاطب الجميع قائلا:

-اسمعوا يا جماعة...راني ما نحبش العرك في مَحْلي...

- ما تخافش قال تاجر الخرفان....

لكن عندما طلب تاجر الخرفان زجاجة أخرى، نظر ناجي إلى ساعات اليدويّة ، ثمّ ردّ قائلا:

- تو الثمانية يا جماعة...أنا تعبان ،وعندي عائلة تتسنى فيّ...وأنتم شختو ...لذا أرجوكم أن تغادروا بهدوء!

كان هو وصالح أوّل المغادرين. في الطريق إلى القرية، أوقف صالح الشّاحنة... أخرج علب بيرة من حقيبة بلاستيكية،  ثم نزلا من الشاحنة، وراحا يشربان صامتين... على جانبي الطريق حقول زيتون غارقة في ظلمة الليل...بين وقت وآخر يتعالى نباح كلاب بعيدة... أشعل صالح سيجارة، وراح يدخن مُطلقا زفرات ، ثم التفت إليه وقال غاضبا: 

- حشمتني قدّام الرجال!

-كيفاش حشمتك؟

- علاش ما شاركتناش في الحديث؟

- آش تحبني نقول ؟

-قول أي شيء...المهم حلْ فُمّكْ وتكلم...

-تحبني نكذب؟

-يا نعم...

-مالا هُوما يكذبوا زادا؟ 

- يكذبوا... وانت كاركْ تكذب كيفهم!

-نكْره الكذب!

12 / 13

- الناس الكل تكذب في هذا البلاد! وانت تحب تكون ملايكة؟

- وانت زادا كنت تكذب وقت إلّي تحدثت على هاك المرا إلّي جننتك في القيروان؟

- وعلاش تسأل فيّ؟

-هكّا...

-كيفاش هكّا؟ 

- ما تغضبش يا ولد عمي الغالي... راني نعرفك فحل! 

-يا نعم ..فحل ونصف .. ومشني كيفك!

- آش معناها؟

- معناها الله غالب عليك !

- عجب!

-يا نعم... ومشْني وحدي نعرف...الناس الكل بكبيرها وصغيرها تعرف! ومرتك قالت هذا للنساء الكل!

آآآآ...الآن فقط أدرك سرّ السّخاء الذي أغدقه عليه ابن العمّ المشهور ببخله، ونفاقه، ودجله، وسوء طبعه. ومن المؤكّد انه لم يكرمه إلاّ ليذلّه، ويهينه في هذا الظلام، وفي هذا الخلاء الموحش. وقد يكونون على حقّ اولئك الذين يروّجون أخبارا تقول بإن ابن العم تربطه بزوجته علاقة غراميّة. وهذا ما يفسّر الود الذي تظهره له على مرأى ومسمع منه. وهذا ما يفضح أيضا سرّ اختفائها الغريب يوما أو يومين من دون أن  تفْصَحَ عن سبب ذلك. وثمّة واحد  روّجَ  في القرية  أنه شاهد زوجته أكثر من مرة في القيروان بصحبة ابن العم. ومن المحتمل أن تكون هي العشيقة التي تباهى بها أمام أولئك الغرباء السّكارى....نعم...هي لا غيرها!...وحده المغفّل والمخدوع يشكّك في مثل هذه الحجج الدّامغة...

تحسّس المدية التي لا تفارقه، ثمّ  هجم على  ابن العم ليطعنه طعنات عديدة في أماكن مختلفة بينما كان هو يصرخ ويولول. في النهاية انهار على الأرض، وفاحت في الهواء البارد رائحة دمه السّاخن. رمى  بالمدية المُلطخة بالدم بعيدا...للحظات ظلّ يفكّر في الغراب الذي يحطّ على سطح بيته كلّ صباح ،ثم تاه في ظلام بدا له أنه لن ينجلي أبدا.

 

غراب على السّطح (3-3)

قصة : حسونة المصباحي 

نعم قد يكون ذلك عملا حسنا، وسريعا، وغير مُكلف...يكفي أن يَسْكبَ على جسده قليلا من البنزين، ثم يشعل عود كبريت.... بعد وقت وجيز يكون كتلة من رماد. وبذلك ينتهي هذا الشقاء الذي يبدو بلا نهاية...وبما يبكيه البعض من أهله. أمّا زوجته فستتظاهر بالحزن لكن في سرّها سوف تلعنه داعية الله أن يحرقه في الآخرة مرة أخرى. وسوف تقول عندما تسمع بخبر وفاته :”الله لا ترحم الكلاب!”...نعم هذا ما ستقوله إذ أنه أصبح بالنسبة لها أحقر من كلب سائب...والطفلان؟...آه الطفلان ما ذنبهما؟...ما ذنبهما؟ بللت عينيه دمعتان ساخنتان...أخرج من جيبه منديلا ورقيا ومسحهما... وفي تلك اللحظة  ربت أحدهم على كتفه. التفت فإذا بصالح ابن عمّه هاشّا باشّا في وجهه. منذ أسابيع طويلة لم يلتق به. فهو دائم التنقل بين المدن بشاحنته. ويتردّد على العاصمة أكثر من مرّة في الشّهر الواحد. وهو من أثرياء القرية. له بيت مُريح، والجيب دائما ملآن. وفي الحقيقة هو يحسده على النعمة التي خصّه بها الله. ويزداد هذا الحسد استعارا حين تبالغ زوجته في مدح صالح، والإشادة بذكائه، و"عفرتته". حين يزورهم في البيت، تظهر له ودّا يشعل نار الغيرة في جسده، ويخرجه عن طوره، ويُذكي الرغبة في قتله هكذا أمام عينيها وهي تلاطفه بالكلمات والإشارات والغمزات...أوف يا لكيد النساء!...

- فاش تخمّم يا ولد عمي الغالي؟ سأله صالح

-...

- ما تخمّمْش الدنيا فيها الموت...وما يربحْ  فيها كان الزاهي ديما... 

-وكبفاش تحبني نزْها والجيب ديما فارغ؟

أخرج صالح حافظة نقوده المنتفخة بالأوراق المالية. مدّ له عشرة ورقات بعشرين دينارا، قائلا له بأنه يمكنه أن يعيدها له متى يشاء...

زحفت الوساوس السّوداء في خلايا دماغه مثلما تزحف الأفاعي على الرمل السّاخن...ترى ما سرّ هذا الكَرَم؟ وما الدّاعي له؟  ابن عمه  لم يفعل هذا من قبل أبدا. وفي المرات القليلة التي رغب أن يستدين منه مبالغ بسيطة واجهه بالرفض والصّدود....وإذن لا بدّ أن يكون هناك موجب لهذا السّخاء...أوف...ولكن عليه أن يقبل به خصوصا وأن المبلغ سيخفّف عنه وطأة الهموم التي تثقل صدره...قفز من الكرسي ليُعانق ابن عمّه بحرارة:

9 / 13

-شكرا يا  ولد عمي  العزيز ...!

-اسمع يا  ولد عمي الغالي ...أنا اليوم ما عندي ما نعمل...ونحب نعمل شيخة معاك!

-معايا نا؟

- يا نعم معاك يا لد عمي الباهي... ونحب نهزك عند ناجي...

-أشكون ناجي؟

هامسا أعلمه صالح أن ناجي حوّل قسما من بيته الريفي إلى حانة سرية، يرتادها عشاق البيرة، والنبيذ "الروزي "، و"الروج"...

غادرت الشاحنة العلا، وانطلقت شمالا في الطريق المودّي إلى حفوز، والقيروان. وقبل أن تبلغ "وادي الجبّاس"، انحرفت شرقا لتسلك طريقا ترابيا متعرّجا، على جانبيه سياجا صبّار عاليان. بعد أن قطعت مسافة تقدّر بسبع كيلومترات، توقّفت الشاحنة أمام بيت تنتصب أمامه شجرة خرّوب عجوز هائلة الحجم، به يحيط سور بباب حديديّ كبير. زمّر صالح ثلاث مرّات. بعد بضع دقائق برز من الباب  الحديدي رجل نحيف، غامق السّمرة، بلحية خفيفة، ورأس أشيب، وعنق طويل. وكان يرتدي دجينز بهت لونه، وقميصا أزرق بمربّعات بيضاء .نزل صالح من الشاحنة، واندفع نحوه ليعانقه بحرارة، ثمّ أشار إليه أن يأتي ففعل. بعد السلام، قادهما الرجل إلى غرفة فسيحة بها طاولات، وكراس بلاستيكيّة. منها تفوح روائح الخمر، والبيرة، والسجائر، واللحم المشوي، والزيت المقلي. على الجدار جهاز تلفزيون ينقل مباراة قديمة لكرة القدم بين فرقين أجنبيين . في وسطها أربعة رجال بوجوه  تنزّ عرقا العرق، وعيون محمرّة يشربون، ويأكلون اللحم المشوي المكدس أمامهم بنهم وشراهة.  وهو يعرف فقط أكبرهم سنّا. وهو  تاجر خرفان اصلع قليلا، بشارب كثيف، وبطن مُنْتَفخ. جميعهم وقفوا للترحيب بصالح، والسؤال عن أحواله، وأحوال عائلته. أما هو فلم يعيروه أيّ اهتمام...

شرب كل واحد منهما بيرتين ل"إطفاء نار العطش" بحسب تعبير صالح، ، ثمّ انتقلا الى "الكوديا الروج". ولم يكن صالح يكفّ عن طلب المزيد من اللحم المشويّ، ومعه معكرونة وسلاطة مشويّة. في آخر الظّهيرة، لعبت الخمرة برؤوس الرجال الآخرين فشرعوا في ترديد أغاني الحبّ البدوية بأصواتهم الغليظة، القبيحة. غير أن ناجي تدخّل بحزم طالبا منهم الكفّ عن ذلك خشية أن تلتقط الآذان الفضوليّة ما يحدث فيجيء رجال الحرس الوطني ليسوقوا الجميع

10 / 13

إلى السجن، أو يَهْجُم أصحاب اللحيّ على البيت فيحرقونه، ويحرقون من فيه... أطاعه الرجال مكرهين. بعد قليل، انبرى تاجر الخرفان يتحدّث عن مغامراته الجنسيّة في الماضي، والحاضر، مُتباهيا بما يأتي به من عجائب مع النساء حتى بعد أن تجاوز سنّ الخمسين. وجاراه الآخرون. كلّ واحد منهم راح يفاخر بفحولته راويا قصصه مع النساء، مشيدا بفضائله معهنّ في الجماع. وكشف صالح أن له عشيقة جديدة تعيش في القيروان. وهي "جننّنه" لأنها تأتي بفنون في الفراش لم تأتي بها أيّ عشيقة من عشيقاته السّابقات. ومن شدّة غرامه بها، هو يذهب إليها في كلّ لقاء وهو يرجف كالمحموم. أما هو فلم يتدخّل في الحديث، مكتفيا بالاستماع. بين وقت وآخر ترنّ في رأسه الصّفعة التي تلقّاها في الصباح فيصعد الدّم إلى رأسه، ويشتغل الغيظ في صدره نارا حامية. في لحظة ما، خاطبه تاجر الخرفان قائلا:

-ها...أنت يا سيّد … أشبيك حزين ومهموم... ما تشيخش مع النسا كيفنا؟

بسرعة تدخّل صالح ليردّ عليه قائلا:

-هو ولد عمّي …حشّام لكنه فحل! هههههه

مدّ الجالس إلى يمين تاجر الخرفان رأسه باتجاهه، وهو رجل قصير، ضئيل الحجم، يلمعُ الخبث والشّر في عينيه الصغيرتين، وقال ساخرا:

- مش باين فيه فحلْ!

ثم انفجر ضاحكا، وضحك الآخرون أيضا...

تدخّل صالح من جديد ليقول:

-اسمعوا يا رجال... راهو ولد عمّي... من فضلكم خلّوه رايض... راني من نحبش فيه!

- باهي! قال تاجر الخرفان...

ساد صمت ثقيل...أشعل صالح سيجارة. رمى في جوفه كأس "كوديا" ،ثمّ أضاف قائلا:

- بربي يا رجال...خلونا شايخين... نكمل شيختنا في الرياض..٬

11 / 13

انتصب ناجي واقفا وخاطب الجميع قائلا:

-اسمعوا يا جماعة...راني ما نحبش العرك في مَحْلي...

- ما تخافش قال تاجر الخرفان....

لكن عندما طلب تاجر الخرفان زجاجة أخرى، نظر ناجي إلى ساعات اليدويّة ، ثمّ ردّ قائلا:

- تو الثمانية يا جماعة...أنا تعبان ،وعندي عائلة تتسنى فيّ...وأنتم شختو ...لذا أرجوكم أن تغادروا بهدوء!

كان هو وصالح أوّل المغادرين. في الطريق إلى القرية، أوقف صالح الشّاحنة... أخرج علب بيرة من حقيبة بلاستيكية،  ثم نزلا من الشاحنة، وراحا يشربان صامتين... على جانبي الطريق حقول زيتون غارقة في ظلمة الليل...بين وقت وآخر يتعالى نباح كلاب بعيدة... أشعل صالح سيجارة، وراح يدخن مُطلقا زفرات ، ثم التفت إليه وقال غاضبا: 

- حشمتني قدّام الرجال!

-كيفاش حشمتك؟

- علاش ما شاركتناش في الحديث؟

- آش تحبني نقول ؟

-قول أي شيء...المهم حلْ فُمّكْ وتكلم...

-تحبني نكذب؟

-يا نعم...

-مالا هُوما يكذبوا زادا؟ 

- يكذبوا... وانت كاركْ تكذب كيفهم!

-نكْره الكذب!

12 / 13

- الناس الكل تكذب في هذا البلاد! وانت تحب تكون ملايكة؟

- وانت زادا كنت تكذب وقت إلّي تحدثت على هاك المرا إلّي جننتك في القيروان؟

- وعلاش تسأل فيّ؟

-هكّا...

-كيفاش هكّا؟ 

- ما تغضبش يا ولد عمي الغالي... راني نعرفك فحل! 

-يا نعم ..فحل ونصف .. ومشني كيفك!

- آش معناها؟

- معناها الله غالب عليك !

- عجب!

-يا نعم... ومشْني وحدي نعرف...الناس الكل بكبيرها وصغيرها تعرف! ومرتك قالت هذا للنساء الكل!

آآآآ...الآن فقط أدرك سرّ السّخاء الذي أغدقه عليه ابن العمّ المشهور ببخله، ونفاقه، ودجله، وسوء طبعه. ومن المؤكّد انه لم يكرمه إلاّ ليذلّه، ويهينه في هذا الظلام، وفي هذا الخلاء الموحش. وقد يكونون على حقّ اولئك الذين يروّجون أخبارا تقول بإن ابن العم تربطه بزوجته علاقة غراميّة. وهذا ما يفسّر الود الذي تظهره له على مرأى ومسمع منه. وهذا ما يفضح أيضا سرّ اختفائها الغريب يوما أو يومين من دون أن  تفْصَحَ عن سبب ذلك. وثمّة واحد  روّجَ  في القرية  أنه شاهد زوجته أكثر من مرة في القيروان بصحبة ابن العم. ومن المحتمل أن تكون هي العشيقة التي تباهى بها أمام أولئك الغرباء السّكارى....نعم...هي لا غيرها!...وحده المغفّل والمخدوع يشكّك في مثل هذه الحجج الدّامغة...

تحسّس المدية التي لا تفارقه، ثمّ  هجم على  ابن العم ليطعنه طعنات عديدة في أماكن مختلفة بينما كان هو يصرخ ويولول. في النهاية انهار على الأرض، وفاحت في الهواء البارد رائحة دمه السّاخن. رمى  بالمدية المُلطخة بالدم بعيدا...للحظات ظلّ يفكّر في الغراب الذي يحطّ على سطح بيته كلّ صباح ،ثم تاه في ظلام بدا له أنه لن ينجلي أبدا.