لعلّيَ أسيئُ تقديمَ شريط "بنات أُلفة " لـ"كوثر بن هنيّة" وهو المتحصّل على جوائز عديدةٍ ليس أقلّها أربعٌ في مهرجان "كان" في نسخته السادسة والسبعين ماي2023 و مرشّح جديّ لغيرها من الجوائز والذي يُعرض هذه الأيّام في القاعات التونسيّة. لكنّ هذه الإساءةَ المتوَقّعَةَ لا تَمْنَعُنِي من الإقدام على هذا التقديم في انتظار أنْ يشاهده الجمهور التونسيّ والنقّاد المتمرّسون فيعدّلون ويصلحون ويفيدون. وأنا متأكّدٌ من أنّني لا أُضيفُ شيئا عندما أذكّر بأنّ هند صبري هجرت القانونَ وصرامتَه إلى فنّ التمثيل و رحابتِه فترسّخت ممثّلةً محترفةً قديرة من أبرز الممثّلات في العالم العربيّ وليست في حاجةٍ إلى شهادةٍ إضافيّةٍ في مجال إبداعِها حتّى أنّ البعضَ قد يجهل أنّها خرّيجةُ كليّة العلومِ القانونيّةِ والاجتماعيّةِ بأريانة – تونس – فَـيظنُّ أنّها متخرّجة في أكبر المعاهد العليا للتمثيلِ وفي هذه الحالة بالذات يصبح بعضُ الظنّ جهلا . أمّا كوثر بن هنيّة فالأمر معها مختلفٌ إذْ هيً لم تزُغْ عمّا نذرت إليه نفسَها من الفنّ السابع بالرُّغْم من أنّها وُلِدت وترعرعت في بُقْعةٍ من أَرض تونسَ ليس فيها قَبِلَ إلْحَاقِها بالإقليم الثالث من أقاليم الجمهوريّة التونسيّةِ ولو قاعة واحدة لعرضِ الأشرطةِ ولربّما لأنّها نشأت محرومةً من هذا الفنّ النبيل تخصّصت في دراسته حتّى تخرّجت في "معهد الفنون والسينما "بتونس ثمّ في "المؤسّسة الأوروبيّة لمِهَنِ الصورة والصوت " ( لافيميس) بباريس وتابعت دراستها في نفس المؤسّسة لكن في اختصاصٍ أدقَّ وهو كتابة السيناريو ثمّ بين 2007 و 2008 واصلت دراستها في جامعة "السربون" الجديدة وبدأت في الانتاج منذ 2010 بشريطٍ قصير تحت عنوان "أنا وأختي والشيء". وكلتاهما متحصّلة في مجالها على جوائز عديدة من مصادر عديدة مشهود لها عالميّا .أمّا أُلفة الحمروني فهي لم تتخرّج في كليّةٍ ولم تتعلّم في معهدٍ بل علّمتها الحياةُ و أدّبها الدهرُ وروّضتها المصائب. فقد تزوّجت من عبد الرحمان بن الصيفي الشيخاوي وأنجبت منه بناتِها الأربعَ "غفران " وَ "رحمة" و " تيسير" و"آية" وتطلّقت منه سنة 2011 فهيَ إذن شخصيّةٌ حقيقيّةٌ عاشت بين ظهرانيْ المجتمعِ التونسيِّ وعانت ما عاناه من غُبْنٍ وظلمٍ وتكميم أفواه وتردّدٍ في طورٍ أوّلَ.
لَذَّةٌ مزدوجةٌ أنْ تُنَافِق مُنَافِقًا
خَالَت" ألفةُ" أنّ ما حدث في تونسَ ذات 14 جانفي مِنْ نفس سنةِ طَلاقِها سيكون فاتحة طورٍ ثانٍ يقود السفينةَ إلى مَرْفَإ النجاة لكن جرت الرياح بما لمْ تَشْتهِ فقد ارتدّت بناتُها في مرحلة أولى إلى "عابدات الشيطان "ولم تدُمْ تلك المرحلة طويلا فَاسْتَبَدَّ بهنّ الضياع ثانيةً فلجأْنَ إلى الخيام الدعويّة التي انْتَصَبت في كلّ أحياء الوطن خاصّةً العَشْوَائِيّةِ منها حيث يُعشّشُ الفقرُ وتُقْبر الأحلامُ ويشْتدّ حقدُ المحكومين على الحاكمين الذين غالبا ما يتصنًّعون الاقترابَ مِن سكّانها وتفهّمَ مشاكِلِهم و التعاطفَ معهم قَوْلاً لاَ فِعْلاً فعاملهم أهالي تلك الأحياءِ مِثْلاً بمثلٍ فَتَصَنّعوا هم أيْضا تصديقَهم و تأييدَهم وفي ذلك المناخِ منَ النفاق المتبادل وجدَ الدعاةُ الوافدون من أصقاعٍ بعيدةٍ وبفكرٍ غريبٍ على البلادِ وعلى الإسلام أيضا مسلكًا ينفذون منه إلى عقول شبابٍ مراهقٍ يحلم بحياةٍ أرغدَ و غدٍ يتمتّع فيه بالشغل والحريّة والكرامة الوطنيّة فأوهموه بأنّ الجهادَ هو السبيل الوحيدةُ إلى تحقيق ذلك الحلم. وَأثّر هذا المنطق في بنات "أُلفة الحمروني" المراهقاتِ فتطرّفْنَ في التعبّدِ و التقوى وَ لَبِسْن النّقابَ الأسودَ غلّفْنَ به كاملَ أجسادِهنّ وَ لعلّهنّ لمْ يَعِينَ تمام الوعيِ بأنّه رمزٌ صريحٌ إلى الانتماء إلى الفضاء الإرهابيِّ! بعث هذا السلوك في الأمِّ الحائرةِ شيئا من الاطمئنان إذْ ظنّت أنّ ذلك سَيَقِي بناتِها من الوقوعِ في مَهَاوي العار والرّذيلة وفكّرت في تخليص عائلتها من الفقر والاحتياج فسافرت إلى ليبيا لتعمل معينةً منزليّةً ثمّ تعود إلى تونس رفقة بناتها التقيّاتِ لكن حدث ما لم يكن في الحسبان.
الوقوعُ في الفخّ
في شهر نوفمبر من سنة 2014 عَلِمت "أُلفةُ" أنّ "غفران" كبرى بناتها التحقت بصفوف "المجاهدين" في سوريا فكانت الصدمة أكبر ممّا تُحْتَمل فعادت في الحال إلى تونسَ رفقةَ ابنتها "رحمة" لعلّها تنقذها من نفس مصير أُختها ولتحقيق هذا الهدفِ أوشت بها إلى رجال الشرطةِ عساهم يراقبونها ويمنعونها من العودة إلى ليبيا فَـ"رحمة" لم تَعُدْ تُخْفِ ولائها لـ"داعش" و للخليفة أبي بكر البغدادي كما أنّها تجاهرُ بنيّتها تنفيذَ عمليّة "جهاديّة" في تونس وتُفْصِحُ عن كرهها لـِ "لطاغوت" وفعلاً تتمكّن "رحمة "من مغادرة تونس والالتحاق بأختها "غفران" . وُ هنا تنتهي مأْساةٌ لتبدأَ اُخْرى.
حدثٌ قَادِحٌ وَ فنّانون يقِظُون
في شهر جوليةَ من سنة 2016 اكتَسَبَت" أُلفة الحمروني" إثر حصّة تلفزيّة شهرةً عالميّةً إذْ أبْرزتْ خلالهَا على الهواء مباشرةً لوعةَ أُمٍّ هجرت ابنتاها "غفران" و"رحمة" الجمهوريّةَ التونسيّةَ لتلْتَحِقا بصفوف "داعش" وتساهما في تقتيل المسلمين باسمِ الإسلامِ وانتقدت بشِدّةٍ السلُطاتِ التونسيّةَ لأنّها لم تمنع البنتيْن من مغادرة تونس وكذلك لأنّها تراخت في جَلْبِهِمَا من ليبيا بعد القبضِ عليهما من قِبَلِ القوّات الليبيّة وقد تكون السُّلطُ التونسيّةُ قبْلَ ذلك منعت الأمَّ من الذهاب إلى ليبيا لعلّها تتّصِلُ بابنتيْها فتنقذْهما مِنَ الأَتُونِ الذي أُلْقِيَتا فيه كما رَوَتْ الأُمّ الشقِيّةُ فاجعتَها عبر قنوات إذاعيّة خاصّة فتلقّفتْها عينٌ بصيرةٌ وعقلٌ مدركٌ وقلبٌ حسّاس وأعادت كوثر بن هنيّة نظمَ خُيوطِها خيْطا خيْطا وأحبكت نسجها لتحوّلها إلى شريطٍ يوثّقُ لحظةً حاسمة من تاريخ تونسَ المعاصر. لكنّ الفنّ لا ينقل الواقعَ ولا يُكرِّرُهُ وَ إلاّ أصبح باهتا أمام الواقع المتوهّجِ وجامدا بالنسبةِ إلى ذلك الواقعِ المتحرّك بل لعلّ أهمّ ما يميّز الفنّ هو إعادة تشكيل الواقع في بناءٍ يؤكّدُ ذاتيّة الفنّان وفي الآن نفسه يوطِّد علاقته بواقعه وهنا تكمن العبقريّة . وفي مسعًى إلى تحقيق تلك الغاية استعانت كوثر بن هنيّة بكوكبةٍ من تقنِيين يحذقون اختصاصاتِهم لِتجوّدَ بفنّهم لُغتَها السنيمائية "أمين بوحافة" في الموسيقى التصويريّة للشريط و "بسّام مرزوق" في ضبط المناظر و "فاروق العَرِيضْ" في التصوير و "أمال عطيّة" في الصوت أمّا تركيب الشريط فقد تناصرت له جهودُ كلٍّ من " جون كريستوف هيم "(Jean-Christophe Hym) و"قُتَيْبَةَ برْهَمْجي" و "كوثر بن هنيّة" نفسها وقد أَوْكَلَت لـِ"وِداد الزغلامي" مسؤوليّةَ المساعدةِ في الاخراج وتعاضد الجميعُ لصياغة خطابٍ سينمائيّ متفرّدٍ وبناءِ شريطٍ تونسيّ مُبهِرٍ تعاون على تمويله كلٌّ من تونس وفرنسا و العربيّة السعوديّة و ألمانيا وصُنِّف ضمن السينما الوثائقيّة ولعلّهم فعلوا ذلك اعتبارا لأنّ القصّة المنطلق ليست من نسج الخيال وإنّما هيَ جملة من أحداثٍ واقعيّةٍ عاشتها بالفعل عائلة "أُلفة الحمروني" في سنواتٍ محدّدة بين 2011 و 2016 في حيٍّ من أحياء العاصمة.
(*) مستشار ثقافي سابق/مسرحيّ
بقلم: السيّد العلاّني(*)
لعلّيَ أسيئُ تقديمَ شريط "بنات أُلفة " لـ"كوثر بن هنيّة" وهو المتحصّل على جوائز عديدةٍ ليس أقلّها أربعٌ في مهرجان "كان" في نسخته السادسة والسبعين ماي2023 و مرشّح جديّ لغيرها من الجوائز والذي يُعرض هذه الأيّام في القاعات التونسيّة. لكنّ هذه الإساءةَ المتوَقّعَةَ لا تَمْنَعُنِي من الإقدام على هذا التقديم في انتظار أنْ يشاهده الجمهور التونسيّ والنقّاد المتمرّسون فيعدّلون ويصلحون ويفيدون. وأنا متأكّدٌ من أنّني لا أُضيفُ شيئا عندما أذكّر بأنّ هند صبري هجرت القانونَ وصرامتَه إلى فنّ التمثيل و رحابتِه فترسّخت ممثّلةً محترفةً قديرة من أبرز الممثّلات في العالم العربيّ وليست في حاجةٍ إلى شهادةٍ إضافيّةٍ في مجال إبداعِها حتّى أنّ البعضَ قد يجهل أنّها خرّيجةُ كليّة العلومِ القانونيّةِ والاجتماعيّةِ بأريانة – تونس – فَـيظنُّ أنّها متخرّجة في أكبر المعاهد العليا للتمثيلِ وفي هذه الحالة بالذات يصبح بعضُ الظنّ جهلا . أمّا كوثر بن هنيّة فالأمر معها مختلفٌ إذْ هيً لم تزُغْ عمّا نذرت إليه نفسَها من الفنّ السابع بالرُّغْم من أنّها وُلِدت وترعرعت في بُقْعةٍ من أَرض تونسَ ليس فيها قَبِلَ إلْحَاقِها بالإقليم الثالث من أقاليم الجمهوريّة التونسيّةِ ولو قاعة واحدة لعرضِ الأشرطةِ ولربّما لأنّها نشأت محرومةً من هذا الفنّ النبيل تخصّصت في دراسته حتّى تخرّجت في "معهد الفنون والسينما "بتونس ثمّ في "المؤسّسة الأوروبيّة لمِهَنِ الصورة والصوت " ( لافيميس) بباريس وتابعت دراستها في نفس المؤسّسة لكن في اختصاصٍ أدقَّ وهو كتابة السيناريو ثمّ بين 2007 و 2008 واصلت دراستها في جامعة "السربون" الجديدة وبدأت في الانتاج منذ 2010 بشريطٍ قصير تحت عنوان "أنا وأختي والشيء". وكلتاهما متحصّلة في مجالها على جوائز عديدة من مصادر عديدة مشهود لها عالميّا .أمّا أُلفة الحمروني فهي لم تتخرّج في كليّةٍ ولم تتعلّم في معهدٍ بل علّمتها الحياةُ و أدّبها الدهرُ وروّضتها المصائب. فقد تزوّجت من عبد الرحمان بن الصيفي الشيخاوي وأنجبت منه بناتِها الأربعَ "غفران " وَ "رحمة" و " تيسير" و"آية" وتطلّقت منه سنة 2011 فهيَ إذن شخصيّةٌ حقيقيّةٌ عاشت بين ظهرانيْ المجتمعِ التونسيِّ وعانت ما عاناه من غُبْنٍ وظلمٍ وتكميم أفواه وتردّدٍ في طورٍ أوّلَ.
لَذَّةٌ مزدوجةٌ أنْ تُنَافِق مُنَافِقًا
خَالَت" ألفةُ" أنّ ما حدث في تونسَ ذات 14 جانفي مِنْ نفس سنةِ طَلاقِها سيكون فاتحة طورٍ ثانٍ يقود السفينةَ إلى مَرْفَإ النجاة لكن جرت الرياح بما لمْ تَشْتهِ فقد ارتدّت بناتُها في مرحلة أولى إلى "عابدات الشيطان "ولم تدُمْ تلك المرحلة طويلا فَاسْتَبَدَّ بهنّ الضياع ثانيةً فلجأْنَ إلى الخيام الدعويّة التي انْتَصَبت في كلّ أحياء الوطن خاصّةً العَشْوَائِيّةِ منها حيث يُعشّشُ الفقرُ وتُقْبر الأحلامُ ويشْتدّ حقدُ المحكومين على الحاكمين الذين غالبا ما يتصنًّعون الاقترابَ مِن سكّانها وتفهّمَ مشاكِلِهم و التعاطفَ معهم قَوْلاً لاَ فِعْلاً فعاملهم أهالي تلك الأحياءِ مِثْلاً بمثلٍ فَتَصَنّعوا هم أيْضا تصديقَهم و تأييدَهم وفي ذلك المناخِ منَ النفاق المتبادل وجدَ الدعاةُ الوافدون من أصقاعٍ بعيدةٍ وبفكرٍ غريبٍ على البلادِ وعلى الإسلام أيضا مسلكًا ينفذون منه إلى عقول شبابٍ مراهقٍ يحلم بحياةٍ أرغدَ و غدٍ يتمتّع فيه بالشغل والحريّة والكرامة الوطنيّة فأوهموه بأنّ الجهادَ هو السبيل الوحيدةُ إلى تحقيق ذلك الحلم. وَأثّر هذا المنطق في بنات "أُلفة الحمروني" المراهقاتِ فتطرّفْنَ في التعبّدِ و التقوى وَ لَبِسْن النّقابَ الأسودَ غلّفْنَ به كاملَ أجسادِهنّ وَ لعلّهنّ لمْ يَعِينَ تمام الوعيِ بأنّه رمزٌ صريحٌ إلى الانتماء إلى الفضاء الإرهابيِّ! بعث هذا السلوك في الأمِّ الحائرةِ شيئا من الاطمئنان إذْ ظنّت أنّ ذلك سَيَقِي بناتِها من الوقوعِ في مَهَاوي العار والرّذيلة وفكّرت في تخليص عائلتها من الفقر والاحتياج فسافرت إلى ليبيا لتعمل معينةً منزليّةً ثمّ تعود إلى تونس رفقة بناتها التقيّاتِ لكن حدث ما لم يكن في الحسبان.
الوقوعُ في الفخّ
في شهر نوفمبر من سنة 2014 عَلِمت "أُلفةُ" أنّ "غفران" كبرى بناتها التحقت بصفوف "المجاهدين" في سوريا فكانت الصدمة أكبر ممّا تُحْتَمل فعادت في الحال إلى تونسَ رفقةَ ابنتها "رحمة" لعلّها تنقذها من نفس مصير أُختها ولتحقيق هذا الهدفِ أوشت بها إلى رجال الشرطةِ عساهم يراقبونها ويمنعونها من العودة إلى ليبيا فَـ"رحمة" لم تَعُدْ تُخْفِ ولائها لـ"داعش" و للخليفة أبي بكر البغدادي كما أنّها تجاهرُ بنيّتها تنفيذَ عمليّة "جهاديّة" في تونس وتُفْصِحُ عن كرهها لـِ "لطاغوت" وفعلاً تتمكّن "رحمة "من مغادرة تونس والالتحاق بأختها "غفران" . وُ هنا تنتهي مأْساةٌ لتبدأَ اُخْرى.
حدثٌ قَادِحٌ وَ فنّانون يقِظُون
في شهر جوليةَ من سنة 2016 اكتَسَبَت" أُلفة الحمروني" إثر حصّة تلفزيّة شهرةً عالميّةً إذْ أبْرزتْ خلالهَا على الهواء مباشرةً لوعةَ أُمٍّ هجرت ابنتاها "غفران" و"رحمة" الجمهوريّةَ التونسيّةَ لتلْتَحِقا بصفوف "داعش" وتساهما في تقتيل المسلمين باسمِ الإسلامِ وانتقدت بشِدّةٍ السلُطاتِ التونسيّةَ لأنّها لم تمنع البنتيْن من مغادرة تونس وكذلك لأنّها تراخت في جَلْبِهِمَا من ليبيا بعد القبضِ عليهما من قِبَلِ القوّات الليبيّة وقد تكون السُّلطُ التونسيّةُ قبْلَ ذلك منعت الأمَّ من الذهاب إلى ليبيا لعلّها تتّصِلُ بابنتيْها فتنقذْهما مِنَ الأَتُونِ الذي أُلْقِيَتا فيه كما رَوَتْ الأُمّ الشقِيّةُ فاجعتَها عبر قنوات إذاعيّة خاصّة فتلقّفتْها عينٌ بصيرةٌ وعقلٌ مدركٌ وقلبٌ حسّاس وأعادت كوثر بن هنيّة نظمَ خُيوطِها خيْطا خيْطا وأحبكت نسجها لتحوّلها إلى شريطٍ يوثّقُ لحظةً حاسمة من تاريخ تونسَ المعاصر. لكنّ الفنّ لا ينقل الواقعَ ولا يُكرِّرُهُ وَ إلاّ أصبح باهتا أمام الواقع المتوهّجِ وجامدا بالنسبةِ إلى ذلك الواقعِ المتحرّك بل لعلّ أهمّ ما يميّز الفنّ هو إعادة تشكيل الواقع في بناءٍ يؤكّدُ ذاتيّة الفنّان وفي الآن نفسه يوطِّد علاقته بواقعه وهنا تكمن العبقريّة . وفي مسعًى إلى تحقيق تلك الغاية استعانت كوثر بن هنيّة بكوكبةٍ من تقنِيين يحذقون اختصاصاتِهم لِتجوّدَ بفنّهم لُغتَها السنيمائية "أمين بوحافة" في الموسيقى التصويريّة للشريط و "بسّام مرزوق" في ضبط المناظر و "فاروق العَرِيضْ" في التصوير و "أمال عطيّة" في الصوت أمّا تركيب الشريط فقد تناصرت له جهودُ كلٍّ من " جون كريستوف هيم "(Jean-Christophe Hym) و"قُتَيْبَةَ برْهَمْجي" و "كوثر بن هنيّة" نفسها وقد أَوْكَلَت لـِ"وِداد الزغلامي" مسؤوليّةَ المساعدةِ في الاخراج وتعاضد الجميعُ لصياغة خطابٍ سينمائيّ متفرّدٍ وبناءِ شريطٍ تونسيّ مُبهِرٍ تعاون على تمويله كلٌّ من تونس وفرنسا و العربيّة السعوديّة و ألمانيا وصُنِّف ضمن السينما الوثائقيّة ولعلّهم فعلوا ذلك اعتبارا لأنّ القصّة المنطلق ليست من نسج الخيال وإنّما هيَ جملة من أحداثٍ واقعيّةٍ عاشتها بالفعل عائلة "أُلفة الحمروني" في سنواتٍ محدّدة بين 2011 و 2016 في حيٍّ من أحياء العاصمة.