تمويل البنوك المركزية للدول ليس بدعة تونسية لكنه أبغض الحلال في الاقتصاد
بقلم: ريم بالخذيري
تمت المصادقة مؤخرا على مشروع قانون الترخيص للبنك المركزي التونسي بمنح تسهيلات لفائدة الخزينة العامة للبلاد التونسية. يسمح بمقتضاه منح الأّخير مبلغ 7الاف مليار لتمويل جزء من ميزانية 2024 منها ثلاثة الاف مليار ستدفع دينا خارجيا في موفى شهر فيفري .
هذه الخطوة فرضتها ظروف المالية العمومية الصعبة وعدم التمكن من التداين الخارجي وبررها المشروع بأنها ستكون لمرّة واحدة. بمعنى أنّ الجهة المقترحة ذاتها تدرك جيدا خطورة هذا الطلب لكنها اضطرت لذلك. ونتمنى أنها استعدّت جيدا للتخفيف من هذا الخطر الذي يتمثلّ أساسا في ارتفاع غير مسبوق للتضخم وفقدان الدينار لكثير من قيمته في الأسواق الخارجية فضلا عن انهيار القدرة الشرائية للمواطن. فهذا المبلغ الضخم ليس موجودا في الواقع لدى خزينة البنك المركزي وانما ستتم طباعته واستعماله في المنظومة الاقتصادية والمالية دون أن يكون له مقابل مادي من الثروة. رغم أنّ البنك المركزي منح خلال فترة "الكوفيد" 2820 مليون دينار للدولة وكان ذلك بتفويض مباشر من مجلس نواب الشعب حينها.
تنقيح وثغرة قانونية
حسب المشروع فان الفصل 25 المعني بالتنقيح والصادر ضمن قانون النظام الاساسي للبنك المركزي التونسي الصادر سنة 2016 . ينص أنه "لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزانة العامة للدولة تسهيلات في شكل كشوفات أو قروض، أو أن يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة، مما يفيد امتناعه عن إقراض الدولة بصفة مباشرة، وأنه الوكيل المالي للدولة في ما تنجزه من عمليات، وبخاصة عمليات الخزانة والعمليات المصرفية، ويتولى مسك الحساب الجاري للخزانة وينجز جميع عمليات التوفير والخصم المأذون بها، كما يتولى حسابات الأوراق المالية التابعة للدولة والتصرف فيها والسندات التي تصدرها أو تضمن فيها والتعهدات المحمولة عليها." ( القانون عدد 90 لسنة 1958 المتعلّق بإنشاء وتنظيم البنك المركزي، أقرّ في الفصل 50 تمويل الخزينة العامة في حدود 10% من المداخيل الجبائية للسنة الجارية)
وفي فقه القانون فانّ ما يعدّل أو ينقّح لا يمكن الرجوع عنه ومفعوله يصبح بعديّا لحين صدور تنقيح جديد أو الغاء. وهي النقطة التي لم تكن واضحة في نص مشروع وزارة المالية التي أكدت على أن هذا الاجراء سيكون لمرة واحدة و هو ما يجعل من هذه الحجة ضعيفة. وكان الأحرى عدم اللجوء الى تنقيح القانون وانما طلب كتابي من الحكومة الى البنك المركزي يرفع هذا اللبس ويبقى الفصل موضوع التنقيح قائما لأنه صمام استقلالية البنك. وهذا ما يفسر التخوّف من تكرار عملية التمويل المباشرة هذه ويرسخ مقولة "ما كل مرة تسلم الجرة". ويعزّز المخاوف من تنقيح شامل للنظام الأساسي للبنك .
خطر التمويل المباشر
تمويل البنوك المركزية للدول ليس بدعة تونسية لكنه أبغض الحلال في الاقتصاد حيث التجأت له دول عديدة على غرار ماليزيا ولبنان والأرجنتين وغيرها لكن كانت لذلك عواقب وخيمة على لبنان لأن القروض التي تتحصل عليها من بنكها المركزي توجه للاستهلاك ولسداد الأجور وبالتالي ارتفع التضخم وفقدت الليرة اللبنانية قيمتها عكس السيناريو الماليزي الذي خصص الاقتراض من البنك المركزي وفق شروط مضبوطة وفي آجال تسديد قصيرة وخصصت للتنمية والاستثمار وخلق الثروة.
القرض الذي تطلبه الحكومة التونسية من البنك المركزي الهدف منه هو تعويض التداين من البنوك المحلية وتفادي نسب فائدتها الكبيرة والتي هي في 9 بالمائة وفترة زمنية قصيرة للسداد(ديون الدولة لدى البنوك بلغت في 2023 حوالي 33.5 مليار دينار)
والقرض المطلوب مبلغه ضخم جدا وبفترة امهال ثلاث سنوات ونسبة فائدة صفر ويستخلص على امتداد 10 سنوات لكنه سيخصص لسدّ جزء كبير من التغرة في ميزانية 2024 والمقدرة ب 11 ألف مليار. وهذا هو الخطر الحقيقي. فميزانية الدولة تكاد تكون كلها موجهة للمصاريف ولخلاص الأجور.
اذ ان الأصل في الاقتراض المباشر للدولة من البنك المركزي يجب أن يكون بشروط تمويل نفقات التنمية وليس لنفقات الاستهلاك أو الدعم، من أجل تحريك الاستثمار وخلق النمو الاقتصادي وتوفير مواطن شغل وتحقيق وفرة على مستوى سوق الصناعة والخدمات وخفض الأسعار، وغير ذلك.
لكن في هذه الحالة فهذا القرض ستكون له تداعيات سلبية على الاقتصاد وعلى نسبة التضخم ومن ورائها القدرة الشرائية وفقدان الدينار التونسي لقيمته في الأسواق الخارجية مثلما أشرنا الى ذلك .اضافة الى تآكل المخزون من العملة الصعبة وانخفاض عدد أيام التوريد التي هي اليوم في حدود 118.
فالحكومة يجب أن تكون حريفا مثاليا للبنك المركزي تستفيد منه وتفيده لأن فائدة ذلك ستعود عليها نفسها ولا يجب أن تكون عاملا لزعزعة الموزانة المالية فيه وهو ما يعود بالضرر على الحكومة ذاتها قبل أن يعود بالضرر على البنك المركزي.
استقلالية ضرورية
عندما ينصح صندوق النقد الدولي أو الجهات المانحة الدول الراغبة في التداين استقلالية بنكها المركزي فهذا لا يعني تدخلا في شؤونها وانما هو حرص على ضمان السلاسة في التعامل مع الحكومات وضمان حسن تصرفها في القروض الممنوحة لها.
وقد مارس البنك المركزي استقلاليته كاملة منذ 2016 ونجح نسبيا في الحدّ من ارتفاع التضخم والحد من انزلاق الدينار مقابل الدولار و اليورو .
وفلسفة استقلالية البنوك المركزية مطروحة في كل الدول والتخوف منها قائم ومشروع اذا ما اكتفينا بالتعابير الفضفاضة فقط من قبيل الاستقلالية وعدم تدخل الحكومات وصياغة قوانين خاصة. وفي كتاب مهم صدر بداية 2023 للاقتصادي ستيفن كينغ بعنوان «نريد التحدث عن التضخم!» يستعرض مخاوف توسع نطاق عمل البنوك المركزية التي تجاوزت الدورين التقليديين للاستقرار النقدي وسلامة الجهاز المصرفي إلى الاستقرار المالي بشكل عام والتشغيل الكامل لقوة العمل والتمويل الأخضر، ويستشهد بحالة البنك المركزي الأوروبي، الذي يعمل على حماية اليورو كمشروع سياسي وليس اقتصادياً فقط. وهي كما يذكر الكاتب أهداف مهمة، ولكن لا توجد ضمانة لتحقيق هذه الأهداف جميعاً في وقت واحد من جهة واحدة.
وبالتالي فالاستقلالية تبقى نسبية وهي تمارس حسب الظروف الاقتصادية والسياسية لكن الاجماع حاصل حول خطورة تمادي الحكومات في توجيه السياسة النقدية لبنوكها المركزية.
في المحصّلة فان تمويل البنك المركزي للحكومات ليس خيرا كله و لا شرا كله لكن مخاطره أكثر بكثير من منافعه.
** يرجع مثل “ما كل مرة تسلم الجرة” إلى امرأة كان يُحكى أنها كانت تحمل جرّة “إناء فخاري”، وكانت تمشي بها في طريق زلقة، ففقدت توازنها وسقطت جرّتها، غير أن الجرة لم تُكسر ، فحملت المرأة جرتها مرة أخرى لتسير بها في ذات الطريق من جديد لكنها سقطت وكسرت هذه المرة، بيد أنها نُصحت بأن تغيّر هذا الطريق الزلق المحفوف بالخطر، حيث إن سقوطها مرة أخرى لا يعني أن الجرّة لن تنكسر، والفائدة المستقاة هنا أنه ليس من الحكمة المجازفة بعمل شيء خطير، لمجرد أنه جربه من قبل ولم يحدث شيء.
تمويل البنوك المركزية للدول ليس بدعة تونسية لكنه أبغض الحلال في الاقتصاد
بقلم: ريم بالخذيري
تمت المصادقة مؤخرا على مشروع قانون الترخيص للبنك المركزي التونسي بمنح تسهيلات لفائدة الخزينة العامة للبلاد التونسية. يسمح بمقتضاه منح الأّخير مبلغ 7الاف مليار لتمويل جزء من ميزانية 2024 منها ثلاثة الاف مليار ستدفع دينا خارجيا في موفى شهر فيفري .
هذه الخطوة فرضتها ظروف المالية العمومية الصعبة وعدم التمكن من التداين الخارجي وبررها المشروع بأنها ستكون لمرّة واحدة. بمعنى أنّ الجهة المقترحة ذاتها تدرك جيدا خطورة هذا الطلب لكنها اضطرت لذلك. ونتمنى أنها استعدّت جيدا للتخفيف من هذا الخطر الذي يتمثلّ أساسا في ارتفاع غير مسبوق للتضخم وفقدان الدينار لكثير من قيمته في الأسواق الخارجية فضلا عن انهيار القدرة الشرائية للمواطن. فهذا المبلغ الضخم ليس موجودا في الواقع لدى خزينة البنك المركزي وانما ستتم طباعته واستعماله في المنظومة الاقتصادية والمالية دون أن يكون له مقابل مادي من الثروة. رغم أنّ البنك المركزي منح خلال فترة "الكوفيد" 2820 مليون دينار للدولة وكان ذلك بتفويض مباشر من مجلس نواب الشعب حينها.
تنقيح وثغرة قانونية
حسب المشروع فان الفصل 25 المعني بالتنقيح والصادر ضمن قانون النظام الاساسي للبنك المركزي التونسي الصادر سنة 2016 . ينص أنه "لا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزانة العامة للدولة تسهيلات في شكل كشوفات أو قروض، أو أن يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولة، مما يفيد امتناعه عن إقراض الدولة بصفة مباشرة، وأنه الوكيل المالي للدولة في ما تنجزه من عمليات، وبخاصة عمليات الخزانة والعمليات المصرفية، ويتولى مسك الحساب الجاري للخزانة وينجز جميع عمليات التوفير والخصم المأذون بها، كما يتولى حسابات الأوراق المالية التابعة للدولة والتصرف فيها والسندات التي تصدرها أو تضمن فيها والتعهدات المحمولة عليها." ( القانون عدد 90 لسنة 1958 المتعلّق بإنشاء وتنظيم البنك المركزي، أقرّ في الفصل 50 تمويل الخزينة العامة في حدود 10% من المداخيل الجبائية للسنة الجارية)
وفي فقه القانون فانّ ما يعدّل أو ينقّح لا يمكن الرجوع عنه ومفعوله يصبح بعديّا لحين صدور تنقيح جديد أو الغاء. وهي النقطة التي لم تكن واضحة في نص مشروع وزارة المالية التي أكدت على أن هذا الاجراء سيكون لمرة واحدة و هو ما يجعل من هذه الحجة ضعيفة. وكان الأحرى عدم اللجوء الى تنقيح القانون وانما طلب كتابي من الحكومة الى البنك المركزي يرفع هذا اللبس ويبقى الفصل موضوع التنقيح قائما لأنه صمام استقلالية البنك. وهذا ما يفسر التخوّف من تكرار عملية التمويل المباشرة هذه ويرسخ مقولة "ما كل مرة تسلم الجرة". ويعزّز المخاوف من تنقيح شامل للنظام الأساسي للبنك .
خطر التمويل المباشر
تمويل البنوك المركزية للدول ليس بدعة تونسية لكنه أبغض الحلال في الاقتصاد حيث التجأت له دول عديدة على غرار ماليزيا ولبنان والأرجنتين وغيرها لكن كانت لذلك عواقب وخيمة على لبنان لأن القروض التي تتحصل عليها من بنكها المركزي توجه للاستهلاك ولسداد الأجور وبالتالي ارتفع التضخم وفقدت الليرة اللبنانية قيمتها عكس السيناريو الماليزي الذي خصص الاقتراض من البنك المركزي وفق شروط مضبوطة وفي آجال تسديد قصيرة وخصصت للتنمية والاستثمار وخلق الثروة.
القرض الذي تطلبه الحكومة التونسية من البنك المركزي الهدف منه هو تعويض التداين من البنوك المحلية وتفادي نسب فائدتها الكبيرة والتي هي في 9 بالمائة وفترة زمنية قصيرة للسداد(ديون الدولة لدى البنوك بلغت في 2023 حوالي 33.5 مليار دينار)
والقرض المطلوب مبلغه ضخم جدا وبفترة امهال ثلاث سنوات ونسبة فائدة صفر ويستخلص على امتداد 10 سنوات لكنه سيخصص لسدّ جزء كبير من التغرة في ميزانية 2024 والمقدرة ب 11 ألف مليار. وهذا هو الخطر الحقيقي. فميزانية الدولة تكاد تكون كلها موجهة للمصاريف ولخلاص الأجور.
اذ ان الأصل في الاقتراض المباشر للدولة من البنك المركزي يجب أن يكون بشروط تمويل نفقات التنمية وليس لنفقات الاستهلاك أو الدعم، من أجل تحريك الاستثمار وخلق النمو الاقتصادي وتوفير مواطن شغل وتحقيق وفرة على مستوى سوق الصناعة والخدمات وخفض الأسعار، وغير ذلك.
لكن في هذه الحالة فهذا القرض ستكون له تداعيات سلبية على الاقتصاد وعلى نسبة التضخم ومن ورائها القدرة الشرائية وفقدان الدينار التونسي لقيمته في الأسواق الخارجية مثلما أشرنا الى ذلك .اضافة الى تآكل المخزون من العملة الصعبة وانخفاض عدد أيام التوريد التي هي اليوم في حدود 118.
فالحكومة يجب أن تكون حريفا مثاليا للبنك المركزي تستفيد منه وتفيده لأن فائدة ذلك ستعود عليها نفسها ولا يجب أن تكون عاملا لزعزعة الموزانة المالية فيه وهو ما يعود بالضرر على الحكومة ذاتها قبل أن يعود بالضرر على البنك المركزي.
استقلالية ضرورية
عندما ينصح صندوق النقد الدولي أو الجهات المانحة الدول الراغبة في التداين استقلالية بنكها المركزي فهذا لا يعني تدخلا في شؤونها وانما هو حرص على ضمان السلاسة في التعامل مع الحكومات وضمان حسن تصرفها في القروض الممنوحة لها.
وقد مارس البنك المركزي استقلاليته كاملة منذ 2016 ونجح نسبيا في الحدّ من ارتفاع التضخم والحد من انزلاق الدينار مقابل الدولار و اليورو .
وفلسفة استقلالية البنوك المركزية مطروحة في كل الدول والتخوف منها قائم ومشروع اذا ما اكتفينا بالتعابير الفضفاضة فقط من قبيل الاستقلالية وعدم تدخل الحكومات وصياغة قوانين خاصة. وفي كتاب مهم صدر بداية 2023 للاقتصادي ستيفن كينغ بعنوان «نريد التحدث عن التضخم!» يستعرض مخاوف توسع نطاق عمل البنوك المركزية التي تجاوزت الدورين التقليديين للاستقرار النقدي وسلامة الجهاز المصرفي إلى الاستقرار المالي بشكل عام والتشغيل الكامل لقوة العمل والتمويل الأخضر، ويستشهد بحالة البنك المركزي الأوروبي، الذي يعمل على حماية اليورو كمشروع سياسي وليس اقتصادياً فقط. وهي كما يذكر الكاتب أهداف مهمة، ولكن لا توجد ضمانة لتحقيق هذه الأهداف جميعاً في وقت واحد من جهة واحدة.
وبالتالي فالاستقلالية تبقى نسبية وهي تمارس حسب الظروف الاقتصادية والسياسية لكن الاجماع حاصل حول خطورة تمادي الحكومات في توجيه السياسة النقدية لبنوكها المركزية.
في المحصّلة فان تمويل البنك المركزي للحكومات ليس خيرا كله و لا شرا كله لكن مخاطره أكثر بكثير من منافعه.
** يرجع مثل “ما كل مرة تسلم الجرة” إلى امرأة كان يُحكى أنها كانت تحمل جرّة “إناء فخاري”، وكانت تمشي بها في طريق زلقة، ففقدت توازنها وسقطت جرّتها، غير أن الجرة لم تُكسر ، فحملت المرأة جرتها مرة أخرى لتسير بها في ذات الطريق من جديد لكنها سقطت وكسرت هذه المرة، بيد أنها نُصحت بأن تغيّر هذا الطريق الزلق المحفوف بالخطر، حيث إن سقوطها مرة أخرى لا يعني أن الجرّة لن تنكسر، والفائدة المستقاة هنا أنه ليس من الحكمة المجازفة بعمل شيء خطير، لمجرد أنه جربه من قبل ولم يحدث شيء.