اتفاق السلام لعام 1993 ولد ميتا، رغم ضمانات أمريكا ورغم الصورة التذكارية لكل من عرفات، الذي سيموت مسموما، ورابين الذي سيموت مقتولا
بقلم د. الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة
الزعيم ياسر عرفات، رمز فلسطين المكافحة بمختلف أنواع النضال السياسي والعسكري على مدى خمس وسبعين سنة من الاحتلال الإسرائيلي ، ربط حياته بواقع ومستقبل فلسطين التي فداها بروحه وانتهى بشرف الخالدين ميتا مسموما في بلاد الغربة والمنفى والشتات الفلسطيني في إحدى مصحات العاصمة الفرنسية التي نقل إليها لمعالجة التسمم الذي زرعه العدو في عروقه وأنسجته، كما زُرع الاحتلال الإسرائيلي في جسد فلسطين منذ عام 1948.
لقد توفي عام 2004 دون أن يتمكن من تحقيق السلام والدولة الفلسطينية كاملة السيادة التي حلم بها إلي جانب إسرائيل مسالمة ، اعترف بها هو وعقد معها اتفاق سلام في أوسلو حصل بها على جائزة نوبل للسلام ثلاثية التشطير مع نظيريه الإسرائيليين إسحاق رابين وشمعون بيريز . ولكن النزعة العدوانية التوسعية الإسرائيلية طغت وقتلت الحلم الذي راوده مع الإسرائيلي رابين ووقع معه اتفاق السلام في أوسلو عام 1993، وهو الاتفاق الذي تم هدمه على مراحل بمعاول المتطرفين الإسرائيليين الذين ظلوا يقضمون، كما في بداية تكوين إسرائيل، أراضي الفلسطينيين.
مخطط تهجير الفلسطينيين
لقد ظلت القضية الفلسطينية غداة تهجير الفلسطينيين وتكوين دولة إسرائيل على أنقاضهم عام 1948، محل نسيان وتجاذبات بين الدول العربية الناشئة، طوال عشرية الخمسينات التي كانت فيها أغلب الدول العربية مازالت في حالة استعمار فرنسي أو بريطاني . ومع بداية الستينات وحصول الدول العربية على استقلالها نشطت مبادرات فلسطينيين في المهجر لإحياء القضية الوطنية والعمل علي تحقيق استقلال بلادهم .
وكانت البداية مع عرفات في 28 ماي 1964 بالقدس بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لتكون ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني لمواجهة التجاذبات الداخلية والإقليمية والدولية المسلطة على شعب فلسطين. وكانت تضم فصائل فلسطينية عدة على رأسها حركة "فتح" (وسط يمين) التي يرأسها عرفات والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين برئاسة جورج حبش (يسار) والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين برئاسة نايف حواتمة (قومي يساري). وضمنت بذلك تعددية المشهد السياسي الفلسطيني .
لقد كانت منظمة التحرير التي تضم أيضا برلمانا في المنفى ( المجلس الوطني الفلسطيني) الإطار القانوني الذي يمثل الشعب الفلسطيني . وقد صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 نوفمبر 1974 على منح منظمة التحرير صفة مراقب في الأمم المتحدة . وألقى عرفات بتلك الصفة خطابه الشهير في الأمم المتحدة وهو يحمل غصن زيتون أمام ممثلي المجموعة الدولية، داعيا إلى حل سلمي للقضية، طبق قرارات الشرعية الدولية والأمم المتحدة، متهما إسرائيل بأنها تحمل " أيديولوجيا عنصرية واستعمارية" .
السلام الخادع
لكن اتفاق السلام لعام 1993 ولد ميتا، رغم ضمانات أمريكا بقيادة الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون الذي جمع في صورة تذكارية كلا من الرئيس الفلسطيني عرفات، الذي سيموت مسموما، ورئيس الحكومة الإسرائيلية رابين الذي سيموت مقتولا من طرف أحد المتطرفين الإسرائيليين المناهضين للسلام ومن دعاة الحرب والإبادة الجماعية للفلسطينيين.
بموجب ذلك الاتفاق عاد عرفات إلى فلسطين المحتلة في مدينة رام الله مقر السلطة الوطنية الفتية . ولكن العقبات والخداع الإسرائيلي كان في انتظاره، حيث حوصرت سلطته الشكلية من طرف السلطات الإسرائيلية التي ظلت تتحرش به وبسلطته المحدودة وتتوسع في بناء المستوطنات خلافا لاتفاق السلام الذي هلل له العالم . ولم تجرأ أي من الدول الكبرى الراعية للاتفاق أن تخالف إسرائيل أو تردعها أو تدعوها إلى احترام الاتفاقات الموقعة .
كانت سنواته الأخيرة بعد العودة من تونس وانتصابه في رام الله المحاصرة، فصلا أخر من فصول مأساته الطويلة، طول مأساة شعبه المكافح. فقد تحول الأمل في دولة فلسطينية إلى سراب. وكان أقسى من المنفي، حيث كان يعيش "الخِتْيَارْ والمصفحات الإسرائيلية تحاصر مقر الرئاسة .
كان "أبو عمار" في ذلك الحصار والمنفى يصرح للصحافيين الأجانب القلائل الذين يستقبلهم في رام الله تحت المراقبة الأمنية الإسرائيلية أن مراهنته على السلام فشلت، وأن الباب مفتوح على مصراعيه أمام المقاومة المسلحة لاسترداد الحقوق المغتصبة.
لقد قضى حياته الممتدة من 1929 إلى 2004 في قلب معترك الحياة السياسية والدبلوماسية الدولية، وفي المقاومة والتصدي للعدو في أكثر من خندق قتالي، وأفلت من الموت بأعجوبة عشرات المرات في بيروت وتونس وباريس، خاصة وأن أريال شارون عدوه اللدود صرح عدة مرات علنا وبكل دموية لصحافيين أنه سيقبض على عرفات ويقتله بيده .
تونس حامية فلسطين
خلال إقامته في تونس إلى جانب القيادة الفلسطينية من عام 1982، تاريخ إجلائها مع مقاتليها الألف عن بيروت، ظل الرئيس عرفات يؤكد في تصريحاته ومواقفه أنه والقيادة الفلسطينية تعلموا الدرس من الزعيم الحبيب بورقيبة، وخبروا معني المرحلية في العمل السياسي والكفاح القتالي بالتوازي، حتى تحقيق الأهداف، مع التقاط فرص التحولات الدولية والإقليمية وقراءتها جيدا بمنظار مصالح الشعب والوطن . ولكنه كان يكرر أن بورقيبة "وجد في مرحليته التكتيكية، مفاوضا شجاعا في فرنسا الاستعمارية وهو الجنرال ديغول، ونحن نبحث عن محاورين شجعان تفتقدهم الطبقة السياسية الإسرائيلية المنغلقة على نفسها في سردية مظلومية تاريخية تجاوزها الزمن . والشعب الفلسطيني نفسه يعاني من مظلومية تاريخية سلطت عليه من طرف من كانوا ضحايا المظلومية، فاذا بهم يتحولون إلي ظالمين وجلادين" ، كما كان يقول في تصريحات صحفية عدة .
كان يكرر لمندوبي الصحافة الوطنية والعالمية المعتمدون في تونس عبارته الشهيرة أن فلسطين تبقى " الرقم الصعب في المعادلة السياسية بالشرق الأوسط"، ويلوح أيضا بمقولته الشهيرة الأخرى التي يقول فيها في كل مرة تضيق به السبل وتسد أمامه المنافذ "إن الشعب الفلسطيني ، شعب الجبارين عصيّ على كل المؤامرات ومحاولات الاحتواء والالتفاف ".
لقد كان عرفات فخورا بمنجزه المحدود والرمزي في الانتقال من المنفي الدائم إلي شبر من أرض فلسطين في رام الله معتقدا بكل براغماتيته أنها مرحلة من مراحل المرحلية التحريرية التي حصلت بها تونس على استقلالها . ولكن المراقبين يقرون بأن فلسطين ليست تونس حيث المعطيات الجغرا سياسية والدينية والتاريخية المعقدة تختلف في الأمر وتجعل القوى العظمي في العالم تقف إلى جانب إسرائيل، خوفا منها ومن بطش من يقف وراءها من قوى المال والسياسة والفكر والحشد الدولي الضارب والمتحكم في مصير العالم منذ عقود طويلة إلى حين . وقد تجد القضية الفلسطينية حلا عادلا وسلميا للطرفين إذا تغيرت التوازنات الدولية وأصبح العالم متعدد الأقطاب في المستقبل المنظور، حيث يصبح لا نصير للظالمين في مجلس الأمن وفي الساحة الدولية الجديدة . عندها يتحقق الحل التاريخي للدولة الواحدة أو للدولتين المتعايشتين بضمانات دولية بعيدا عن الابتزاز والتهديد والعدوان وبقايا إفرازات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية التي لم يكن للفلسطينيين والعرب أي دور أو أية ناقة أو جمل في محرقة اليهود التي على ضوئها وإلى اليوم قامت عليها السردية التاريخية لتأسيس إسرائيل ونصرتها ، وهو ما كان عرفات يردده في لقاءاته الصحفية في تونس.
كان عرفات يكرر أيضا لصحافيي وكالات الأنباء العربية في العاصمة التونسية وكنت بينهم مندوبًا لوكالة تونس إفريقيا للأنباء، في تلك السنوات الخوالي من التواجد في "بلد النصرة تونس المؤنسة"، أن الصورة ظلت وردية في قلبه وذهنه وهو يشاهد الرئيس الحبيب بورقيبة يهبّ مستقبِلاً لهم في عز صيف أوت 1982، وقد بلغ الثمانين من العمر رفقة زوجته وسيلة بن عمار التي كانت تحمل القضية الفلسطينية في وجدانها، في حين كان بورقيبة يؤكد في خطبه ومواقفه أن القضية الفلسطينية هي " مظلمة القرن العشرين في العالم" . وكان دعا الفلسطينيين في خطاب مشهور في أريحا منذ عام 1965 إلى التعويل علي أنفسهم وعلى إمكاناتهم الذاتية وقدرتهم على المقاومة والصمود مع قبول الشرعية الدولية في مرحلة أولى وقرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، رغم صعوبة أو استحالة قبول إسرائيل بذلك بسبب تطرف الإسرائيليين وتطورات الأوضاع الميدانية، حيث كانت إسرائيل تستعد في تلك السنة من الخطاب البورقيبي لشن عدوان شامل نفذته في جوان 1967 واحتلت فيه أراض جديدة من فلسطين ومصر(سيناء) والأردن( الضفة الغربية) وسوريا (الجولان) .
ويقر الفلسطينيون من مختلف التيارات أن بورقيبة وفر لضيوفه في تونس كل إمكانيات الحماية والتحرك المستقل لهم. واستمر على ذلك النهج خلفه زين العابدين بن علي الذي نظم للقيادة الفلسطينية عام 1994 في قصر قرطاج الرئاسي حفل توديع مهيب قبل انتقال السلطة الوطنية الفلسطينية إلى رام الله طبقا لاتفاقية سلام أوسلو . ولكنه سلام مغشوش غير قابل للحياة الا في صورة تغير التوازنات الدولية وإلحاق الهزيمة السياسية والعسكرية بالمحتل، كما جرى من طوفان في السابع من أكتوبر 2023 بشكل ساطع قارب "النكبة" أو "النكسة" لإسرائيل ، التي أضحت متشظية ومنقسمة على نفسها في حرب داخلية هي أشرس من حربها الخارجية.
اتفاق السلام لعام 1993 ولد ميتا، رغم ضمانات أمريكا ورغم الصورة التذكارية لكل من عرفات، الذي سيموت مسموما، ورابين الذي سيموت مقتولا
بقلم د. الصحراوي قمعون
صحفي باحث في علوم الإعلام والصحافة
الزعيم ياسر عرفات، رمز فلسطين المكافحة بمختلف أنواع النضال السياسي والعسكري على مدى خمس وسبعين سنة من الاحتلال الإسرائيلي ، ربط حياته بواقع ومستقبل فلسطين التي فداها بروحه وانتهى بشرف الخالدين ميتا مسموما في بلاد الغربة والمنفى والشتات الفلسطيني في إحدى مصحات العاصمة الفرنسية التي نقل إليها لمعالجة التسمم الذي زرعه العدو في عروقه وأنسجته، كما زُرع الاحتلال الإسرائيلي في جسد فلسطين منذ عام 1948.
لقد توفي عام 2004 دون أن يتمكن من تحقيق السلام والدولة الفلسطينية كاملة السيادة التي حلم بها إلي جانب إسرائيل مسالمة ، اعترف بها هو وعقد معها اتفاق سلام في أوسلو حصل بها على جائزة نوبل للسلام ثلاثية التشطير مع نظيريه الإسرائيليين إسحاق رابين وشمعون بيريز . ولكن النزعة العدوانية التوسعية الإسرائيلية طغت وقتلت الحلم الذي راوده مع الإسرائيلي رابين ووقع معه اتفاق السلام في أوسلو عام 1993، وهو الاتفاق الذي تم هدمه على مراحل بمعاول المتطرفين الإسرائيليين الذين ظلوا يقضمون، كما في بداية تكوين إسرائيل، أراضي الفلسطينيين.
مخطط تهجير الفلسطينيين
لقد ظلت القضية الفلسطينية غداة تهجير الفلسطينيين وتكوين دولة إسرائيل على أنقاضهم عام 1948، محل نسيان وتجاذبات بين الدول العربية الناشئة، طوال عشرية الخمسينات التي كانت فيها أغلب الدول العربية مازالت في حالة استعمار فرنسي أو بريطاني . ومع بداية الستينات وحصول الدول العربية على استقلالها نشطت مبادرات فلسطينيين في المهجر لإحياء القضية الوطنية والعمل علي تحقيق استقلال بلادهم .
وكانت البداية مع عرفات في 28 ماي 1964 بالقدس بتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية لتكون ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني لمواجهة التجاذبات الداخلية والإقليمية والدولية المسلطة على شعب فلسطين. وكانت تضم فصائل فلسطينية عدة على رأسها حركة "فتح" (وسط يمين) التي يرأسها عرفات والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين برئاسة جورج حبش (يسار) والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين برئاسة نايف حواتمة (قومي يساري). وضمنت بذلك تعددية المشهد السياسي الفلسطيني .
لقد كانت منظمة التحرير التي تضم أيضا برلمانا في المنفى ( المجلس الوطني الفلسطيني) الإطار القانوني الذي يمثل الشعب الفلسطيني . وقد صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 نوفمبر 1974 على منح منظمة التحرير صفة مراقب في الأمم المتحدة . وألقى عرفات بتلك الصفة خطابه الشهير في الأمم المتحدة وهو يحمل غصن زيتون أمام ممثلي المجموعة الدولية، داعيا إلى حل سلمي للقضية، طبق قرارات الشرعية الدولية والأمم المتحدة، متهما إسرائيل بأنها تحمل " أيديولوجيا عنصرية واستعمارية" .
السلام الخادع
لكن اتفاق السلام لعام 1993 ولد ميتا، رغم ضمانات أمريكا بقيادة الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون الذي جمع في صورة تذكارية كلا من الرئيس الفلسطيني عرفات، الذي سيموت مسموما، ورئيس الحكومة الإسرائيلية رابين الذي سيموت مقتولا من طرف أحد المتطرفين الإسرائيليين المناهضين للسلام ومن دعاة الحرب والإبادة الجماعية للفلسطينيين.
بموجب ذلك الاتفاق عاد عرفات إلى فلسطين المحتلة في مدينة رام الله مقر السلطة الوطنية الفتية . ولكن العقبات والخداع الإسرائيلي كان في انتظاره، حيث حوصرت سلطته الشكلية من طرف السلطات الإسرائيلية التي ظلت تتحرش به وبسلطته المحدودة وتتوسع في بناء المستوطنات خلافا لاتفاق السلام الذي هلل له العالم . ولم تجرأ أي من الدول الكبرى الراعية للاتفاق أن تخالف إسرائيل أو تردعها أو تدعوها إلى احترام الاتفاقات الموقعة .
كانت سنواته الأخيرة بعد العودة من تونس وانتصابه في رام الله المحاصرة، فصلا أخر من فصول مأساته الطويلة، طول مأساة شعبه المكافح. فقد تحول الأمل في دولة فلسطينية إلى سراب. وكان أقسى من المنفي، حيث كان يعيش "الخِتْيَارْ والمصفحات الإسرائيلية تحاصر مقر الرئاسة .
كان "أبو عمار" في ذلك الحصار والمنفى يصرح للصحافيين الأجانب القلائل الذين يستقبلهم في رام الله تحت المراقبة الأمنية الإسرائيلية أن مراهنته على السلام فشلت، وأن الباب مفتوح على مصراعيه أمام المقاومة المسلحة لاسترداد الحقوق المغتصبة.
لقد قضى حياته الممتدة من 1929 إلى 2004 في قلب معترك الحياة السياسية والدبلوماسية الدولية، وفي المقاومة والتصدي للعدو في أكثر من خندق قتالي، وأفلت من الموت بأعجوبة عشرات المرات في بيروت وتونس وباريس، خاصة وأن أريال شارون عدوه اللدود صرح عدة مرات علنا وبكل دموية لصحافيين أنه سيقبض على عرفات ويقتله بيده .
تونس حامية فلسطين
خلال إقامته في تونس إلى جانب القيادة الفلسطينية من عام 1982، تاريخ إجلائها مع مقاتليها الألف عن بيروت، ظل الرئيس عرفات يؤكد في تصريحاته ومواقفه أنه والقيادة الفلسطينية تعلموا الدرس من الزعيم الحبيب بورقيبة، وخبروا معني المرحلية في العمل السياسي والكفاح القتالي بالتوازي، حتى تحقيق الأهداف، مع التقاط فرص التحولات الدولية والإقليمية وقراءتها جيدا بمنظار مصالح الشعب والوطن . ولكنه كان يكرر أن بورقيبة "وجد في مرحليته التكتيكية، مفاوضا شجاعا في فرنسا الاستعمارية وهو الجنرال ديغول، ونحن نبحث عن محاورين شجعان تفتقدهم الطبقة السياسية الإسرائيلية المنغلقة على نفسها في سردية مظلومية تاريخية تجاوزها الزمن . والشعب الفلسطيني نفسه يعاني من مظلومية تاريخية سلطت عليه من طرف من كانوا ضحايا المظلومية، فاذا بهم يتحولون إلي ظالمين وجلادين" ، كما كان يقول في تصريحات صحفية عدة .
كان يكرر لمندوبي الصحافة الوطنية والعالمية المعتمدون في تونس عبارته الشهيرة أن فلسطين تبقى " الرقم الصعب في المعادلة السياسية بالشرق الأوسط"، ويلوح أيضا بمقولته الشهيرة الأخرى التي يقول فيها في كل مرة تضيق به السبل وتسد أمامه المنافذ "إن الشعب الفلسطيني ، شعب الجبارين عصيّ على كل المؤامرات ومحاولات الاحتواء والالتفاف ".
لقد كان عرفات فخورا بمنجزه المحدود والرمزي في الانتقال من المنفي الدائم إلي شبر من أرض فلسطين في رام الله معتقدا بكل براغماتيته أنها مرحلة من مراحل المرحلية التحريرية التي حصلت بها تونس على استقلالها . ولكن المراقبين يقرون بأن فلسطين ليست تونس حيث المعطيات الجغرا سياسية والدينية والتاريخية المعقدة تختلف في الأمر وتجعل القوى العظمي في العالم تقف إلى جانب إسرائيل، خوفا منها ومن بطش من يقف وراءها من قوى المال والسياسة والفكر والحشد الدولي الضارب والمتحكم في مصير العالم منذ عقود طويلة إلى حين . وقد تجد القضية الفلسطينية حلا عادلا وسلميا للطرفين إذا تغيرت التوازنات الدولية وأصبح العالم متعدد الأقطاب في المستقبل المنظور، حيث يصبح لا نصير للظالمين في مجلس الأمن وفي الساحة الدولية الجديدة . عندها يتحقق الحل التاريخي للدولة الواحدة أو للدولتين المتعايشتين بضمانات دولية بعيدا عن الابتزاز والتهديد والعدوان وبقايا إفرازات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية التي لم يكن للفلسطينيين والعرب أي دور أو أية ناقة أو جمل في محرقة اليهود التي على ضوئها وإلى اليوم قامت عليها السردية التاريخية لتأسيس إسرائيل ونصرتها ، وهو ما كان عرفات يردده في لقاءاته الصحفية في تونس.
كان عرفات يكرر أيضا لصحافيي وكالات الأنباء العربية في العاصمة التونسية وكنت بينهم مندوبًا لوكالة تونس إفريقيا للأنباء، في تلك السنوات الخوالي من التواجد في "بلد النصرة تونس المؤنسة"، أن الصورة ظلت وردية في قلبه وذهنه وهو يشاهد الرئيس الحبيب بورقيبة يهبّ مستقبِلاً لهم في عز صيف أوت 1982، وقد بلغ الثمانين من العمر رفقة زوجته وسيلة بن عمار التي كانت تحمل القضية الفلسطينية في وجدانها، في حين كان بورقيبة يؤكد في خطبه ومواقفه أن القضية الفلسطينية هي " مظلمة القرن العشرين في العالم" . وكان دعا الفلسطينيين في خطاب مشهور في أريحا منذ عام 1965 إلى التعويل علي أنفسهم وعلى إمكاناتهم الذاتية وقدرتهم على المقاومة والصمود مع قبول الشرعية الدولية في مرحلة أولى وقرار تقسيم فلسطين الصادر عن الأمم المتحدة عام 1947، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، رغم صعوبة أو استحالة قبول إسرائيل بذلك بسبب تطرف الإسرائيليين وتطورات الأوضاع الميدانية، حيث كانت إسرائيل تستعد في تلك السنة من الخطاب البورقيبي لشن عدوان شامل نفذته في جوان 1967 واحتلت فيه أراض جديدة من فلسطين ومصر(سيناء) والأردن( الضفة الغربية) وسوريا (الجولان) .
ويقر الفلسطينيون من مختلف التيارات أن بورقيبة وفر لضيوفه في تونس كل إمكانيات الحماية والتحرك المستقل لهم. واستمر على ذلك النهج خلفه زين العابدين بن علي الذي نظم للقيادة الفلسطينية عام 1994 في قصر قرطاج الرئاسي حفل توديع مهيب قبل انتقال السلطة الوطنية الفلسطينية إلى رام الله طبقا لاتفاقية سلام أوسلو . ولكنه سلام مغشوش غير قابل للحياة الا في صورة تغير التوازنات الدولية وإلحاق الهزيمة السياسية والعسكرية بالمحتل، كما جرى من طوفان في السابع من أكتوبر 2023 بشكل ساطع قارب "النكبة" أو "النكسة" لإسرائيل ، التي أضحت متشظية ومنقسمة على نفسها في حرب داخلية هي أشرس من حربها الخارجية.