صمت شبه مطبق يخيم على مكونات المشهد السياسي في تونس يطرح عديد الاستفهامات حول المستقبل السياسي في بلادنا، ومدى قدرة هذه الأجسام الحزبية أو غيرها من الأجسام الوسيطة على مجاراة هذا الوضع والصمود، في المشهد العام ومدى قدرتها على تجديد نفسها في محاولة للتأقلم مع الوضع المستجد لاسيما في ظل التغيرات الشاملة التي ما انفكت تسجل على المستويين الوطني والعالمي.
مقابل ذلك يتواصل نفور القواعد الشعبية من هذه المكونات بسبب عدم قدرة هذه "الأجسام" على استنباط ووضع مقاربات جديدة كفيلة بتحقيق المصالحة أو التقارب مع الشارع التونسي من جديد، خاصة بعد أن أصبحت هذه الطبقة تكتفي بالظهور والتحرك المناسباتي الخاوي من أي مضمون أو برامج جديدة، باستثناء تكرار سيناريوهات تتمحور في مجملها حول تعديل وإبداء مواقفها النقدية من النظام القائم ورفض خياراته عامة ورئيس الجمهورية قيس سعيد بصفة خاصة، سواء تعلق الأمر بأحزاب وقوى المعارضة للمسار الذي يقوده منذ 25 جويلية 2021 إلى غاية اليوم أو بالنسبة لغيرها من الجهات الداعمة والمساندة للسلطة القائمة اليوم.
وقد نبه عديد المتابعين للشأن الوطني في تونس إلى خطورة هذا الوضع وتداعيات "حالة الصمت" التي تخيم على جميع الأوساط، بما قد ينذر بتغير المقاربات دستوريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا خاصة أن البلاد في وضع انتقالي وبصدد مراجعة ووضع تشريعات جديدة تتماشى ومتطلبات الجمهورية الجديدة والدولة الاجتماعية التي لطالما شدد رئيس الجمهورية على التمسك بتكريسها في توجهات سياسته.
وقد حذر الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي في ذكرى تأسيس المنظمة من "خطورة هذا الصمت" على السلم الاجتماعي في ظل تواصل غلق أبواب الحوار ورفض الحوار الاجتماعي رغم تردي الأوضاع الاجتماعية من غلاء المعيشة وضعف المقدرة الشرائية وتراجع الاستثمار وعدم وجود برامج تنموية عملية قادرة على حلحلة الوضع الاقتصادي المتردي.
فبعد أن كانت الأحزاب السياسية والهياكل المدنية من العناصر أو العوامل المحركة للمشهد العام في تونس في مرحلة ما بعد ثورة2011، أصبحت اليوم تعيش في صمت شبه مطبق وفسره البعض الآخر بدخولها في حالة تيه وضياع وبحث عن الذات في ظل غياب إرادة داخلية لكافة مكونات المشهد السياسي بالأساس للتغيير والتطور والخروج من دائرة التحرك والتفكير الأولى المغلقة التي اعتكفت داخلها ولم تستطع مغادرتها.
تحالفات وجبهات
ورغم قيام أغلب القوى السياسية بتنظيم مؤتمراتها وإعادة تشكيل هياكلها وتغيير قياداتها أو دخول البعض الآخر في جبهات وتحالفات وأشكال انصهار وتقارب جديدة مبنية في أهدافها وتوجهاتها على موقفها من النظام الذي يقوده قيس سعيد، إلا أنها لم تستطع العودة إلى دائرة الضوء في المشهد العام ولم تبلغ بعد مناطق العمق الشعبي المطلوب.
فجبهة الخلاص بجميع مكوناتها اليمينية والتقدمية من حركة النهضة وائتلاف الكرامة وحزب عمل وانجاز وغيرها من هياكل مدنية وأطراف كانت فاعلة في المشهد السياسي والبرلماني في العشرية الماضية وتنسيقية القوى الديمقراطية التقدمية، التي تتكون من الرباعي المتكتل والتيار الديمقراطي وحزب العمال والقطب ومنتدى القوى التقدمية بجميع مكوناتها المدنية والحزبية، كلها ظلت، في أنشطتها رهينة موقفها المعارضة للسلطة القائمة.
فلم تخرج اللقاءات والحوارات والندوات والتحركات التي تنظمها من مناسبة لأخرى عن العنوان الكبير الذي يحوم حول "الموقف من السلطة القائمة وخياراتها سواء تعلق الأمر بدستور أو مشروع قانون أو تصريح وغيره". فلم يكن اهتمام هذه الطبقة في محاولاتها المناسباتية برئيس الجمهورية خاصة أو خيارات المرحلة عامة متبوعا بتقديم المقاربة أو الرؤى البديلة بل كثيرا ما يكتفي أصحابها بالبحث في الهنات والسلبيات والسعي بطرق مباشرة وغير مباشرة إلى ترذيلها في محاولة للتأثير على الرأي العام على غرار الاستشارة الوطنية والاستفتاء على الدستور الجديد والانتخابات التشريعية السابقة لأوانها وانتخابات المجالس المحلية وقانون المالية.
أين المراجعات؟
في المقابل غاب الحديث داخل هذه الأوساط عن المراجعات أو تقديم مقاربات بديلة تتماشى وشروط المرحلة الدستورية والقانونية والاجتماعية لاسيما أمام تواصل نفور الشارع التونسي من الأحزاب بصفة خاصة. وسبق أن اعتبر الأكاديمي المختص في علم الاجتماع مولدي الأحمر، في حديث سابق لـ"الصباح"، أن تمسك وتركيز الطبقة السياسية على السلطة والوصول إلى مواقع القرار دون تقديم أي مشروع إصلاحي شامل في الغرض من العوامل التي ساهمت في تعميق الهوة بين هؤلاء السياسيين والمواطنين الأمر الذي رجح الكفة لفائدة سعيد وليحظى بثقة الشارع التونسي، رغم غياب الإنجازات والإصلاحات المنتظرة.
فبعد بعض التحركات واللقاءات والندوات التي نظمتها بعض الأحزاب والقوى المدنية في سياق إحياء ذكرى اندلاع الثورة أو إصدار بيانات تحدد مواقفها من انتخابات المجالس المحلية أو قانون المالية لتونس 2024 وبعد هبة يوم 14 جانفي الماضي للمشاركة في وقفة احتجاجية وسط العاصمة، عادت كل القوى إلى الصمت واختفت عن أنظار المشهد العام. ويفسر البعض الآخر أن عدم ضخ دماء جديدة في المشهد الحزبي والسياسي في ظل محافظة "أسماء ووجوه" بعينها على تصدر المواقع القيادية في المشهد دون القيام بمراجعات تذكر وعدم فسح المجال لقيادات جديدة لأخذ المشعل في الرأي والتفكير والتسيير والقيادة، تعد من العوامل التي ساهمت في تأزم وضع هذه الطبقة.
ولعل الاستثناء المسجل في هذا المستوى ما يقوم به شباب حركة "حق" التي تنصهر ضمنها ثلاثة أحزاب وهي مشروع تونس ودرع الوطن والبديل التونسي ومنهج عمل وتفكير مجموعة من السياسيين الشبان في التعاطي مع المرحلة ليقينها بضروريات التغيير واعتماد "فلسفة سياسية" تقطع في شكلها وأبعادها مع ما هو متعارف عليه قد يكون قاطرة لتغيير المشهد السياسي في المستقبل.
نزيهة الغضباني
تونس – الصباح
صمت شبه مطبق يخيم على مكونات المشهد السياسي في تونس يطرح عديد الاستفهامات حول المستقبل السياسي في بلادنا، ومدى قدرة هذه الأجسام الحزبية أو غيرها من الأجسام الوسيطة على مجاراة هذا الوضع والصمود، في المشهد العام ومدى قدرتها على تجديد نفسها في محاولة للتأقلم مع الوضع المستجد لاسيما في ظل التغيرات الشاملة التي ما انفكت تسجل على المستويين الوطني والعالمي.
مقابل ذلك يتواصل نفور القواعد الشعبية من هذه المكونات بسبب عدم قدرة هذه "الأجسام" على استنباط ووضع مقاربات جديدة كفيلة بتحقيق المصالحة أو التقارب مع الشارع التونسي من جديد، خاصة بعد أن أصبحت هذه الطبقة تكتفي بالظهور والتحرك المناسباتي الخاوي من أي مضمون أو برامج جديدة، باستثناء تكرار سيناريوهات تتمحور في مجملها حول تعديل وإبداء مواقفها النقدية من النظام القائم ورفض خياراته عامة ورئيس الجمهورية قيس سعيد بصفة خاصة، سواء تعلق الأمر بأحزاب وقوى المعارضة للمسار الذي يقوده منذ 25 جويلية 2021 إلى غاية اليوم أو بالنسبة لغيرها من الجهات الداعمة والمساندة للسلطة القائمة اليوم.
وقد نبه عديد المتابعين للشأن الوطني في تونس إلى خطورة هذا الوضع وتداعيات "حالة الصمت" التي تخيم على جميع الأوساط، بما قد ينذر بتغير المقاربات دستوريا وسياسيا واجتماعيا واقتصاديا خاصة أن البلاد في وضع انتقالي وبصدد مراجعة ووضع تشريعات جديدة تتماشى ومتطلبات الجمهورية الجديدة والدولة الاجتماعية التي لطالما شدد رئيس الجمهورية على التمسك بتكريسها في توجهات سياسته.
وقد حذر الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي في ذكرى تأسيس المنظمة من "خطورة هذا الصمت" على السلم الاجتماعي في ظل تواصل غلق أبواب الحوار ورفض الحوار الاجتماعي رغم تردي الأوضاع الاجتماعية من غلاء المعيشة وضعف المقدرة الشرائية وتراجع الاستثمار وعدم وجود برامج تنموية عملية قادرة على حلحلة الوضع الاقتصادي المتردي.
فبعد أن كانت الأحزاب السياسية والهياكل المدنية من العناصر أو العوامل المحركة للمشهد العام في تونس في مرحلة ما بعد ثورة2011، أصبحت اليوم تعيش في صمت شبه مطبق وفسره البعض الآخر بدخولها في حالة تيه وضياع وبحث عن الذات في ظل غياب إرادة داخلية لكافة مكونات المشهد السياسي بالأساس للتغيير والتطور والخروج من دائرة التحرك والتفكير الأولى المغلقة التي اعتكفت داخلها ولم تستطع مغادرتها.
تحالفات وجبهات
ورغم قيام أغلب القوى السياسية بتنظيم مؤتمراتها وإعادة تشكيل هياكلها وتغيير قياداتها أو دخول البعض الآخر في جبهات وتحالفات وأشكال انصهار وتقارب جديدة مبنية في أهدافها وتوجهاتها على موقفها من النظام الذي يقوده قيس سعيد، إلا أنها لم تستطع العودة إلى دائرة الضوء في المشهد العام ولم تبلغ بعد مناطق العمق الشعبي المطلوب.
فجبهة الخلاص بجميع مكوناتها اليمينية والتقدمية من حركة النهضة وائتلاف الكرامة وحزب عمل وانجاز وغيرها من هياكل مدنية وأطراف كانت فاعلة في المشهد السياسي والبرلماني في العشرية الماضية وتنسيقية القوى الديمقراطية التقدمية، التي تتكون من الرباعي المتكتل والتيار الديمقراطي وحزب العمال والقطب ومنتدى القوى التقدمية بجميع مكوناتها المدنية والحزبية، كلها ظلت، في أنشطتها رهينة موقفها المعارضة للسلطة القائمة.
فلم تخرج اللقاءات والحوارات والندوات والتحركات التي تنظمها من مناسبة لأخرى عن العنوان الكبير الذي يحوم حول "الموقف من السلطة القائمة وخياراتها سواء تعلق الأمر بدستور أو مشروع قانون أو تصريح وغيره". فلم يكن اهتمام هذه الطبقة في محاولاتها المناسباتية برئيس الجمهورية خاصة أو خيارات المرحلة عامة متبوعا بتقديم المقاربة أو الرؤى البديلة بل كثيرا ما يكتفي أصحابها بالبحث في الهنات والسلبيات والسعي بطرق مباشرة وغير مباشرة إلى ترذيلها في محاولة للتأثير على الرأي العام على غرار الاستشارة الوطنية والاستفتاء على الدستور الجديد والانتخابات التشريعية السابقة لأوانها وانتخابات المجالس المحلية وقانون المالية.
أين المراجعات؟
في المقابل غاب الحديث داخل هذه الأوساط عن المراجعات أو تقديم مقاربات بديلة تتماشى وشروط المرحلة الدستورية والقانونية والاجتماعية لاسيما أمام تواصل نفور الشارع التونسي من الأحزاب بصفة خاصة. وسبق أن اعتبر الأكاديمي المختص في علم الاجتماع مولدي الأحمر، في حديث سابق لـ"الصباح"، أن تمسك وتركيز الطبقة السياسية على السلطة والوصول إلى مواقع القرار دون تقديم أي مشروع إصلاحي شامل في الغرض من العوامل التي ساهمت في تعميق الهوة بين هؤلاء السياسيين والمواطنين الأمر الذي رجح الكفة لفائدة سعيد وليحظى بثقة الشارع التونسي، رغم غياب الإنجازات والإصلاحات المنتظرة.
فبعد بعض التحركات واللقاءات والندوات التي نظمتها بعض الأحزاب والقوى المدنية في سياق إحياء ذكرى اندلاع الثورة أو إصدار بيانات تحدد مواقفها من انتخابات المجالس المحلية أو قانون المالية لتونس 2024 وبعد هبة يوم 14 جانفي الماضي للمشاركة في وقفة احتجاجية وسط العاصمة، عادت كل القوى إلى الصمت واختفت عن أنظار المشهد العام. ويفسر البعض الآخر أن عدم ضخ دماء جديدة في المشهد الحزبي والسياسي في ظل محافظة "أسماء ووجوه" بعينها على تصدر المواقع القيادية في المشهد دون القيام بمراجعات تذكر وعدم فسح المجال لقيادات جديدة لأخذ المشعل في الرأي والتفكير والتسيير والقيادة، تعد من العوامل التي ساهمت في تأزم وضع هذه الطبقة.
ولعل الاستثناء المسجل في هذا المستوى ما يقوم به شباب حركة "حق" التي تنصهر ضمنها ثلاثة أحزاب وهي مشروع تونس ودرع الوطن والبديل التونسي ومنهج عمل وتفكير مجموعة من السياسيين الشبان في التعاطي مع المرحلة ليقينها بضروريات التغيير واعتماد "فلسفة سياسية" تقطع في شكلها وأبعادها مع ما هو متعارف عليه قد يكون قاطرة لتغيير المشهد السياسي في المستقبل.