إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

غراب على السّطح (1-3)

قصة: حسونة المصباحي 

ابتعد عن البيت مسافة تقارب نصف كيلومتر، ثمّ استدار ليرى الغراب مُنتصبا على سطح البيت أسود، بشعا، كبير الحجم. وهو على يقين من أنّه يُنذر بشرّ مّا وإلاّ لم أختار أن يحطّ على سطح بيته كلّ صباح من دون سطوح بقيّة بيوت القرية. وقد تعوّد أن يطرده. أما اليوم فلم يفعل ذلك لأنه لم يعد مهتمّا بما يَتَوَعّدُ  به. والصّفعة القويّة التي تلقّاها من زوجته حال نهوضه من النوم، والتي سببّت له دوارا كاد يُسقطه أرضا، أشعرته أنه لم يعد له لا مكان، ولا أمل في الحياة. والمرحومة والدته على حقّ عندما  قالت له في آخر لقاء بها،  بإن الرجل الذي تُهينه  زوجته لا يستحقّ أن يمشي على وجه الأرض، ومن الأفضل أن يدفن نفسه بنفسه. وبعد  صفعة هذا الصباح،  هو  يشعر فعلا بأنه كائن ملطّخ بعار أبدي، فاقد لأيّ صلاحيّة. ثمّ بأيّ وجه سيجالس رجال القرية مُستقبلا، وبأي لسان سيشاركهم الحديث. وبأيّ قامة سيذهب إلى السّوق بينما الأصابع مصوّبة نحوه، والألسن تلوك ما تهامست به عنه البارحة، وقبل البارحة... وبعد الصّفعة التي رنّ صداها في القرية كما لو أنه صدى طلقة ناريّة، هل سيكون قادرا على أن يركب زوجته...لا...لا...أبدا ...لن يكون بمقدوره أن يفعل ذلك، بل هي التي

2 / 13

ستركبه مستقبلا، وبإمكانها أن تضع في دبره ما تشاء! وعلى أيّة حال هو أصبح عاجزا عن ركوبها منذ أشهر طويلة. وكلّما همّ بها، خانه صاحبه، وتقلّص حجمه ليصبح بحجم حشرة صغيرة بين فخذيه. وصديقه عمار تعوّد أن يقول له بإنه من حقّ الزوجة التي لا يُشْبعُها زوجها أن تفعل به تشاء، وأن الرجل لا يغلب المرأة إلاّ إذا كان له واحد صلب مثل قضيب من نحاس. والصّفعة التي تلقّاها هذا الصباح أمام طفليه الصغيرين إشارة واضحة  أن  زوجته هي الغالبة الآن. لذا هي قادرة مستقبلا أن تتربّعَ على صدره،   وأن تدوس عليه بقدميها، وأن تحشو هراوة في دبره متى يحلو لها ذلك...قبل كانت تكتفي بالكلام...مشْك راجل ...موسّخ وحالتك تُكْربْ...كاينّكْ  كلب بلا موالي...وريحتك أنتنْ من ريحة الجيفة...ابعد عليّا ...ما عادش نحب نشوف منظرك المنحوس... وما عادش نحبك تقربني والاّ تمسّني ..راني نولّي شوكة ،والاّ عقرب تلسعك لسعة تهزك طول لجهنم ...أما مستقبلا فستتوالى الصّفعات التي ستقتله ببطء، عرْقا بعد عرق، ونَفَسا بعد نَفَس...

صباح كامد بلون آثار لكمة قويّة . السّماء تغطيها سحب بدت شبيهة بكتل من الغبار الكثيف. الطريق ينحدر باتّجاه الشرق مُستقيما، فارغا. على جانبيه حقول يبّسها القحط فانبسطت عليها وحشة ينقبض لها القلب. مارّا أمام بيت كئيب بدا كأنه متروك منذ زمن بعيد، اصطدمت قدمه اليمنى بحجر  فسقط على الأرض الجافّة الصلبة. لدقائق ظل مُغْمضا عينيه في انتظار أن يخفّ  وجعُ السقطة العنيفة خصوصا في الجبهة،  وفي الحزام... حين فتحهما، وجد عند رأسه شيخا  يابس الجسد، ضيّق العينين،  تُبَقّعُ وجهه بثور سوداء ، وعلى رأسه مظلة واسعة من السعف. وكان ينظر إليه بشفقة مشوبة بالريبة والحذر. وهو يحاول النهوض عاضّا على شفتيه، سأله الشيخ: 

-  لا باس يا وليدي؟ 

-لا باس ...

-تحب شريبة ماء؟

حرك رأسه موافقا...

بخطوات ثقيلة متعثرة، انطلق الشيخ إلى البيت الكئيب، ومنه عاد بزجاجة ماء بلاستيكية...

شرب نصفها... 

3 / 13

-بالشفاء يا ولدي 

-ربي يشفيك 

عاد الشيخ ينظر إليه بنفس الشفقة المشوبة بالحذر والربية، ثم قال له:

-يُظْهرلي فيك مريّضْ يا وليدي...

-لا ...لاباس... لاباس ... الحمد لله...

-ان شاء لاباس وربي يسترك من كل بلاء  يا وليدي...

-بارك الله فيك... 

واصل سيره عاضّا على شفتيه من حين لآخر بسبب الألم. اجتاز واديا جافا ليجد على يمينه مقبرة صغيرة تغطيها أعشاب جافة.  توقف عن السير، وراح يتأمل القبور التي تقشّرت، وبهت لونها الأبيض ليصبح عاكسا أكثر لمأساة الإهمال والنسيان والموت. وفي لحظة ما، رأى نَعْشَه محمولا على أكتاف رجال القرية باتجاه المقبرة وهم يرددون:  اليوم يا رحمان  هذا عبدك... وبعد صلاة الغائب يرمون به في الظلمة الأبدية، ثم يعودون إلى بيوتهم...وسرعان ما ينسونه مثلما نسوا كثيرين من  قبله ...هزّتْ  جسده رعشة كأنها صعْقة كهربائية ، وأحس برغبة في البكاء...نعم تلك هي النهاية التي لا مفر منها لأحد... وهي آتية لا ريب فيها كما يقول إمام القرية... 

غارقا في همومه السوداء، قطع مسافة أخرى   من دون أن يَنْتَبهُ إلى أيّ شيء أمامه، أو خلفه،  أو على يمينه أو يساره...فجأة وجد نفسه على مشارف بلدة العلا التي تبعد عن قريته 15 كيلومترا... النّار المشتعلة في صدره جعلته يقطع مسافة مديدة من دون أن يشعر بذلك...عمار على حقّ في ما قال ...لكن كان عليه أن يضيف بأن قضيبا من نحاس لا يكفي وحده لإرضاء امرأة، والتغّلب عليها، بل لا بدّ من المال أيضا. والرجل المفلس مثل الرجل المخصيّ. لا فرق بينهما لا بالتّقوى، ولا بغيرها...وهو الآن مَخْصيّ ومفلس! فأيّ لعنة حلّت به؟ وأي دعاء شرّ ساقه إلى هذا المصير الأسود؟...منذ ما يربو على العامين وهو بالكاد يقدر على تأمين القوت لعائلته الصغيرة. وكلّ الحاجيات التي تفرضُها الأعياد، والمناسبات الكبيرة لا يتمكّن من الحصول على القليل منها إلاّ ويكون مُجبرا أن يَسْتدين من هذا أو ذاك من الذين لا تزال في قلوبهم بَذْرَة من الرحمة والشفقة على الآخرين. والبلاد كلّها في حالة من الغليان والاضطراب الدائمين.

وفي كلّ يوم أخبار أشدّ سوءا من أخبار الأمس. ولا شيء في الأفق يبشّر بتحسّن الأوضاع...تفووووه...ألف لعنة ولعنة على الحكام القدماء الذين فرّوا بعد أن ملأوا جيوبهم، وعلى الحكام الجدد الذين جلسوا على الكراسي الفخمة بعد تلك سمّوها "انتخابات شفّافة"، والتي لا ينقطعون عن تمجيدها، والتنويه بها في الاذاعات، والقنوات التلفزيونيّة...كلهم كلاب ولصوص وأنذال...والخاسرون دائما هم المخصيّون والمفلسون أمثاله...يرحل الحاكم القديم، ويأتي الحاكم الجديد، والعريان يبقى عريانا، والمخصيّ مخصيّا، والجائع يظلّ خاوي البطن، يستجدي اللقمة فلا ترحمه لا الأرض ،ولا السماء...وهو تحمّس في البداية لأصحاب اللحيّ ظانّا أنهم أتقياء يخشون الله ورسوله، لذا سيكونون صادقين في أقوالهم، ومُخلصين في أعمالهم. وفي "الانتخابات الشفّافة" صوّت لهم من دون تردّد. بل أقنع أخاه الأكبر الذي لم يكن واثقا منهم بأن يفعل مثله. لكن ها أن الأيّام تكشف أنهم هم أيضا يعشقون الكراسي الفخمة، ولا يفكّرون إلاّ في ملء جيوبهم، وخدمة مصالحهم، ومصالح أقاربهم تماما مثل السّابقين، بل أكثر منهم غالب الأحيان. والآن لا يكفّ أخوه الأكبر عن لومه ، وتقريعه قائلا له بإن أصحاب اللحيّ الذين لا ينقطعون عن الادّعاء بأنهم أبناء الله، هم في الحقيقة أشدّ مكرا ،وخبثا من الشياطين!...

************************* 

غراب على السّطح (1-3)

قصة: حسونة المصباحي 

ابتعد عن البيت مسافة تقارب نصف كيلومتر، ثمّ استدار ليرى الغراب مُنتصبا على سطح البيت أسود، بشعا، كبير الحجم. وهو على يقين من أنّه يُنذر بشرّ مّا وإلاّ لم أختار أن يحطّ على سطح بيته كلّ صباح من دون سطوح بقيّة بيوت القرية. وقد تعوّد أن يطرده. أما اليوم فلم يفعل ذلك لأنه لم يعد مهتمّا بما يَتَوَعّدُ  به. والصّفعة القويّة التي تلقّاها من زوجته حال نهوضه من النوم، والتي سببّت له دوارا كاد يُسقطه أرضا، أشعرته أنه لم يعد له لا مكان، ولا أمل في الحياة. والمرحومة والدته على حقّ عندما  قالت له في آخر لقاء بها،  بإن الرجل الذي تُهينه  زوجته لا يستحقّ أن يمشي على وجه الأرض، ومن الأفضل أن يدفن نفسه بنفسه. وبعد  صفعة هذا الصباح،  هو  يشعر فعلا بأنه كائن ملطّخ بعار أبدي، فاقد لأيّ صلاحيّة. ثمّ بأيّ وجه سيجالس رجال القرية مُستقبلا، وبأي لسان سيشاركهم الحديث. وبأيّ قامة سيذهب إلى السّوق بينما الأصابع مصوّبة نحوه، والألسن تلوك ما تهامست به عنه البارحة، وقبل البارحة... وبعد الصّفعة التي رنّ صداها في القرية كما لو أنه صدى طلقة ناريّة، هل سيكون قادرا على أن يركب زوجته...لا...لا...أبدا ...لن يكون بمقدوره أن يفعل ذلك، بل هي التي

2 / 13

ستركبه مستقبلا، وبإمكانها أن تضع في دبره ما تشاء! وعلى أيّة حال هو أصبح عاجزا عن ركوبها منذ أشهر طويلة. وكلّما همّ بها، خانه صاحبه، وتقلّص حجمه ليصبح بحجم حشرة صغيرة بين فخذيه. وصديقه عمار تعوّد أن يقول له بإنه من حقّ الزوجة التي لا يُشْبعُها زوجها أن تفعل به تشاء، وأن الرجل لا يغلب المرأة إلاّ إذا كان له واحد صلب مثل قضيب من نحاس. والصّفعة التي تلقّاها هذا الصباح أمام طفليه الصغيرين إشارة واضحة  أن  زوجته هي الغالبة الآن. لذا هي قادرة مستقبلا أن تتربّعَ على صدره،   وأن تدوس عليه بقدميها، وأن تحشو هراوة في دبره متى يحلو لها ذلك...قبل كانت تكتفي بالكلام...مشْك راجل ...موسّخ وحالتك تُكْربْ...كاينّكْ  كلب بلا موالي...وريحتك أنتنْ من ريحة الجيفة...ابعد عليّا ...ما عادش نحب نشوف منظرك المنحوس... وما عادش نحبك تقربني والاّ تمسّني ..راني نولّي شوكة ،والاّ عقرب تلسعك لسعة تهزك طول لجهنم ...أما مستقبلا فستتوالى الصّفعات التي ستقتله ببطء، عرْقا بعد عرق، ونَفَسا بعد نَفَس...

صباح كامد بلون آثار لكمة قويّة . السّماء تغطيها سحب بدت شبيهة بكتل من الغبار الكثيف. الطريق ينحدر باتّجاه الشرق مُستقيما، فارغا. على جانبيه حقول يبّسها القحط فانبسطت عليها وحشة ينقبض لها القلب. مارّا أمام بيت كئيب بدا كأنه متروك منذ زمن بعيد، اصطدمت قدمه اليمنى بحجر  فسقط على الأرض الجافّة الصلبة. لدقائق ظل مُغْمضا عينيه في انتظار أن يخفّ  وجعُ السقطة العنيفة خصوصا في الجبهة،  وفي الحزام... حين فتحهما، وجد عند رأسه شيخا  يابس الجسد، ضيّق العينين،  تُبَقّعُ وجهه بثور سوداء ، وعلى رأسه مظلة واسعة من السعف. وكان ينظر إليه بشفقة مشوبة بالريبة والحذر. وهو يحاول النهوض عاضّا على شفتيه، سأله الشيخ: 

-  لا باس يا وليدي؟ 

-لا باس ...

-تحب شريبة ماء؟

حرك رأسه موافقا...

بخطوات ثقيلة متعثرة، انطلق الشيخ إلى البيت الكئيب، ومنه عاد بزجاجة ماء بلاستيكية...

شرب نصفها... 

3 / 13

-بالشفاء يا ولدي 

-ربي يشفيك 

عاد الشيخ ينظر إليه بنفس الشفقة المشوبة بالحذر والربية، ثم قال له:

-يُظْهرلي فيك مريّضْ يا وليدي...

-لا ...لاباس... لاباس ... الحمد لله...

-ان شاء لاباس وربي يسترك من كل بلاء  يا وليدي...

-بارك الله فيك... 

واصل سيره عاضّا على شفتيه من حين لآخر بسبب الألم. اجتاز واديا جافا ليجد على يمينه مقبرة صغيرة تغطيها أعشاب جافة.  توقف عن السير، وراح يتأمل القبور التي تقشّرت، وبهت لونها الأبيض ليصبح عاكسا أكثر لمأساة الإهمال والنسيان والموت. وفي لحظة ما، رأى نَعْشَه محمولا على أكتاف رجال القرية باتجاه المقبرة وهم يرددون:  اليوم يا رحمان  هذا عبدك... وبعد صلاة الغائب يرمون به في الظلمة الأبدية، ثم يعودون إلى بيوتهم...وسرعان ما ينسونه مثلما نسوا كثيرين من  قبله ...هزّتْ  جسده رعشة كأنها صعْقة كهربائية ، وأحس برغبة في البكاء...نعم تلك هي النهاية التي لا مفر منها لأحد... وهي آتية لا ريب فيها كما يقول إمام القرية... 

غارقا في همومه السوداء، قطع مسافة أخرى   من دون أن يَنْتَبهُ إلى أيّ شيء أمامه، أو خلفه،  أو على يمينه أو يساره...فجأة وجد نفسه على مشارف بلدة العلا التي تبعد عن قريته 15 كيلومترا... النّار المشتعلة في صدره جعلته يقطع مسافة مديدة من دون أن يشعر بذلك...عمار على حقّ في ما قال ...لكن كان عليه أن يضيف بأن قضيبا من نحاس لا يكفي وحده لإرضاء امرأة، والتغّلب عليها، بل لا بدّ من المال أيضا. والرجل المفلس مثل الرجل المخصيّ. لا فرق بينهما لا بالتّقوى، ولا بغيرها...وهو الآن مَخْصيّ ومفلس! فأيّ لعنة حلّت به؟ وأي دعاء شرّ ساقه إلى هذا المصير الأسود؟...منذ ما يربو على العامين وهو بالكاد يقدر على تأمين القوت لعائلته الصغيرة. وكلّ الحاجيات التي تفرضُها الأعياد، والمناسبات الكبيرة لا يتمكّن من الحصول على القليل منها إلاّ ويكون مُجبرا أن يَسْتدين من هذا أو ذاك من الذين لا تزال في قلوبهم بَذْرَة من الرحمة والشفقة على الآخرين. والبلاد كلّها في حالة من الغليان والاضطراب الدائمين.

وفي كلّ يوم أخبار أشدّ سوءا من أخبار الأمس. ولا شيء في الأفق يبشّر بتحسّن الأوضاع...تفووووه...ألف لعنة ولعنة على الحكام القدماء الذين فرّوا بعد أن ملأوا جيوبهم، وعلى الحكام الجدد الذين جلسوا على الكراسي الفخمة بعد تلك سمّوها "انتخابات شفّافة"، والتي لا ينقطعون عن تمجيدها، والتنويه بها في الاذاعات، والقنوات التلفزيونيّة...كلهم كلاب ولصوص وأنذال...والخاسرون دائما هم المخصيّون والمفلسون أمثاله...يرحل الحاكم القديم، ويأتي الحاكم الجديد، والعريان يبقى عريانا، والمخصيّ مخصيّا، والجائع يظلّ خاوي البطن، يستجدي اللقمة فلا ترحمه لا الأرض ،ولا السماء...وهو تحمّس في البداية لأصحاب اللحيّ ظانّا أنهم أتقياء يخشون الله ورسوله، لذا سيكونون صادقين في أقوالهم، ومُخلصين في أعمالهم. وفي "الانتخابات الشفّافة" صوّت لهم من دون تردّد. بل أقنع أخاه الأكبر الذي لم يكن واثقا منهم بأن يفعل مثله. لكن ها أن الأيّام تكشف أنهم هم أيضا يعشقون الكراسي الفخمة، ولا يفكّرون إلاّ في ملء جيوبهم، وخدمة مصالحهم، ومصالح أقاربهم تماما مثل السّابقين، بل أكثر منهم غالب الأحيان. والآن لا يكفّ أخوه الأكبر عن لومه ، وتقريعه قائلا له بإن أصحاب اللحيّ الذين لا ينقطعون عن الادّعاء بأنهم أبناء الله، هم في الحقيقة أشدّ مكرا ،وخبثا من الشياطين!...

*************************