"التعليم هو أقوى سلاح يمكن استعماله لتغيير العالم" أو للنهوض ببلد أو أمة ما.. ولكن لسائل أن يسأل ونحن ننشد التقدم والارتقاء وخاصة الالتحاق بركب الشعوب المتقدمة: كيف لهذا التغيير أن يحدث ونحن نتحدث عن أكثر من مليوني تونسي يعانون الأمية في زمن العولمة والتقدم والذكاء الاصطناعي؟ كيف السبيل الى الارتقاء الى مصاف الأمم المتقدمة ومنافستها والأمية مستقرة منذ سنوات لتتراوح معدلاتها بين 17 و18 بالمائة ..
...رقم مفزع يطرح أكثر من نقطة استفهام.. أين الخلل؟ من المسؤول؟ وأية تبعات لذلك؟
في هذا الخصوص يرى كثير من المتابعين للشأن العام أن استقرار نسبة الأمية على مدار السنوات التي خلت وعدم تراجعها يعكس خللا جوهريا في المنظومة التربوية التي تدفع سنويا بـ100 ألف تلميذ خارج مقاعد الدراسة (بسبب ظاهرة التسرب المدرسي).. على اعتبار أن البعض يرى أن تراجع معدلات الأمية يرتبط ارتباطا وثيقا بمدى القدرة أو التوصل الى التخفيف من معدلات التسرب المدرسي بما أن الأمية تتغذى من الانقطاع المدرسي.. وفي هذا الإطار يوجه البعض أصابع الاتهام الى المنظومة التربوية التي لم تنجح على مدار السنوات الماضية في كسر حدة معدلات التسرب المدرسي كما لم تفلح أيضا في تبني إصلاح تربوي من شأنه أن يعيد للصرح العمومي بريقه وتوهجه بما يجعله عنصرا جاذبا للتلميذ لا منفرا له ..
ولأن المسألة متشعبة ومتفرعة بما أن للأمية تداعيات كبرى على المجتمع وتقف وراءها أسباب عديدة تتجاوز المنظومة التربوية وعللها وهناتها فإن "الصباح" فتحت ملف الأمية محاولة البحث في الأسباب المؤدية الى استقرار نسبة الأمية وعدم قدرة الدولة رغم الجهود المبذولة على التخفيف من حدتها، ولا نروم عبر هذه المساحة توجيه أصابع الاتهام الى أطراف بعينها بقدر ما نروم أن ينتبه صناع القرار الى هذه الآفة التي تنخر بلادنا والتي تقف أمام تقدمها وازدهارها.. على أن يكون ملف القضاء على الأمية ومحاربتها في صدارة الأولويات ..
ملف من إعداد: منال حرزي
100 ألف منقطع عن الدراسة سنويا ..
تونس-الصباح
يرى كثير من المتابعين للشأن العام انه لا يستقيم الحديث عن الأمية دون الخوض في معضلة التسرب أو الانقطاع المدرسي على اعتبار أن هذا الأخير يساهم بشكل كبير في استقرار معدل الأمية في نسبة مرتفعة لا سيما أننا نتحدث عن 100 ألف منقطع سنويا عن الدراسة وفقا لآخر الإحصائيات..
في هذا الخصوص جدير بالذكر أن وزير الشؤون الاجتماعية، مالك الزاهي كان قد أورد في معرض تصريحاته الإعلامية إنّ "عدد الأميّين في تونس يبلغ 2 مليون أمّي، والنسبة أساسًا مرتفعة لدى النساء على اعتبار أن 50% منهم يتواجدون في المناطق الريفية"، مُشدّدًا على أنّ "الحرب ضد الأمية ليست حرب الحكومة وحدها وإنما بالتشارك مع الجميع من أجل القضاء على هذه الآفة في تونس".
وأفاد الزاهي مؤخرا على هامش الاحتفال باليوم العربي لمحو الأمية الموافق لـ8 جانفي من كل سنة، بأن الوزارة تعمل على إعداد السجل الوطني للأميّين بالتنسيق مع المعهد الوطني للإحصاء" مبرزا أن "هناك قرارا للترفيع في ميزانية المركز الوطني لتعليم الكبار لمزيد تطوير البرنامج الوطني لتعليم الكبار".
ومن جهته، قال بلقاسم الربيعي المدير العام للمركز الوطني لتعليم الكبار، إن "الوزارة بعثت لجنة لإعداد الإستراتيجية الوطنية لمحو الأمية، التي انطلقت في أواخر 2023، والتي تمس الأميين ومن غادروا الدراسة في سن مبكرة والتونسيين بالخارج الذين لا ينطقون اللغة العربية ومن يعانون من إعاقات خفيفة"، مشيرًا إلى أنّ 100 ألف تلميذ يُغادرون مقاعد الدراسة سنويًّا..
وتُقدَّر نسبة الأمية في تونس بحسب المسح الوطني الذي أعدّته وزارة الشؤون الاجتماعية بالتعاون مع البنك الدولي في عام 2019 بـ17.7 في المائة، غير أنّ هذه النسبة سجّلت وفقا للخبراء ارتفاعا ما بعد أزمة كورونا الوبائية لتصل إلى 17.9 في المائة.
ويرى الخبراء أيضا أنّ الانقطاع المبكر عن الدراسة ونسب التسرّب المدرسي اللذَين تسبّبا في ترك أكثر من مليون تلميذ مقاعد الدراسة في العشرية الأخيرة، يمثّلان أبرز أسباب التطوّر الحاصل في نسب الأمية علاوة على محدودية انخراط كبار السنّ في منظومة تعليم الكبار التي تبقى محدودة النتائج.
تفاعلا مع هذا الطرح يرى البيداغوجي المتقاعد فريد السديري في تصريح لـ"الصباح" أنه لا يمكن التخفيف من حدة الأمية أو الحديث عن تراجع معدلاتها دون إدخال إصلاحات جوهرية على المنظومة التربوية على اعتبار أن النفس الإصلاحي الجديد من شانه أن يعيد للمدرسة التونسية بريقها كأن تتحول الى عنصر جاذب لا منفر للتلاميذ. وأضاف محدثنا أن الأمية ترتبط ارتباطا وثيقا بظاهرة التسرب المدرسي موضحا أن التوصل الى ضبط إستراتيجية فعالة للقضاء على التسرب المدرسي من شأنه أن يقلص من معدلات الأمية.
وأضاف البيداغوجي المتقاعد انه مع وضع قاطرة الإصلاح التربوي -من خلال تفعيل الاستشارة الوطنية لإصلاح التربية والتعليم- يبقى الأمل قائما في أن يتم التخفيف من نسبة الأمية التي بقيت للأسف مرتفعة على مدار العقود الماضية داعيا في السياق ذاته الى ضرورة إيلاء منظومة التكوين المهني أو مسار التعليم التقني الأهمية اللازمة لما له من دور ريادي في احتضان فئة هامة من التلاميذ ..
بلقاسم الربيعي (مدير عام برامج تعليم الكبار): 1018 متعاقدا في برنامج تعليم الكبار أصبحوا موظفي دولة
حول الجهود التي تبذلها وزارة الشؤون الاجتماعية للحد من معضلة الأمية أورد مدير عام برامج تعليم الكبار بوزارة الشؤون الاجتماعية بلقاسم الربيعي في تصريح لـ"الصباح" أن البرنامج الوطني لتعليم الكبار أطلقت عليه تسمية جديدة ليصبح برنامج التعلم مدى الحياة مشيرا الى أن الجهود ترمي الى محو الأمية وإدماج الشريحة التونسية في المجتمع المدني والمجتمع الاقتصادي والاجتماعي. وأضاف الربيعي انه تم التوجه الى تعليم الكبار من الشباب المنقطعين عن الدراسة أي المتسربين كما تم أيضا استهداف ذوي الاحتياجات الخصوصية ممن يعانون إعاقة خفيفة.
وفي نفس الاتجاه أشار الربيعي الى وجود 965 مركز تربية اجتماعي على مستوى الجمهورية التونسية بزيادة تقدر بـحوالي 100 مركز في ظرف أشهر موضحا أن وزير الشؤون الاجتماعية قد إذن بفتح حرب على الأمية نظرا لكونها تمثل عدوا للبشرية وعائقا كبيرا في سبيل المجتمعات الحضارية والمدنية مشيرا الى أن الإستراتيجية الجديدة لوزارة الشؤون الاجتماعية تهدف الى توفير مركز اجتماعي في كل معتمدية.
كما أضاف محدثنا أن الجهود منكبة أيضا فيما يتعلق بمقاومة الأمية على فتح مراكز نموذجية تشتمل على تعليم القراءة والكتابة الى جانب توفير أربع ورشات من شأنها أن تجذب الشباب المتسرب وتشمل مجالات معينة على غرار الإعلامية وصناعة المرطبات والتجميل .
من جهة أخرى كشف المدير العام للمركز الوطني لتعليم الكبار عن وجود 1018 متعاقدا مع برنامج تعليم الكبار بصيغة هشة تمت تسوية وضعيتهم ليصبحوا موظفين في الدولة مثمنا في السياق ذاته جهود وزير الشؤون الاجتماعية الرامية الى القضاء على الأمية من خلال الترفيع في ميزانية برنامج تعليم الكبار.
عبد العزيز العبدلي (مدير مدرسة الفرصة الثانية): أغلب المسجلين في مدرسة الفرصة الثانية في حالة أمية مقنّعة
يثمّن كثيرون الدور الموكول لمدرسة الفرصة الثانية في التصدي أولا للفشل المدرسي وثانيا في محاربتها للامية رغم أن أبرز المهام الموكولة لمدرسة الفرصة الثانية تتمثل أساسا في الاستقبال والتوجيه والتأهيل والمرافقة والإحاطة بالأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و18 سنة والذين انقطعوا عن الدراسة دون الحصول على شهادة مدرسية تختم مرحلة تعليمية أو مؤهل تكوين مهني وذلك قصد تمكينهم من مواصلة الدراسة بالمؤسسات التربوية التابعة لوزارة التربية أو الالتحاق بمنظومة التكوين المهني أو الإعداد للاندماج بسوق الشغل والحياة النشيطة ومع ذلك يعتبر كثيرون أن الدور الموكول لمدرسة الفرصة يساهم بشكل أو بآخر في التقليص من حدة معدلات الأمية.
في هذا الخصوص أوضح في البداية مدير مدرسة الفرصة الثانية عبد العزيز العبدلي في تصريح لـ"الصباح" أن المدرسة لا تعمل في مجال التصدي للامية وإنما ينحصر دورها الأساسي في التصدي للفشل المدرسي مشيرا الى أن مدرسة الفرصة الثانية تعمل على إعادة المنقطعين عن الدراسة من الشريحة العمرية 12 الى 18 سنة إلى مستويات تربوية معينة أو الى مراكز التكوين المهني.
وثمن محدثنا في هذا الخصوص الجهود التي تقوم بها مدرسة الفرصة الثانية التي شهدت تسجيل 2800 منقطع عن الدراسة رغم انطلاقتها الحديثة (25 مارس 2021) وقد تم توجيه 2400 إما للعودة الى الدراسة أو الى مراكز التكوين المهني. وأشار محدثنا في نفس السياق إلى أنه تمت ملاحظة أن عددا كبيرا من المنقطعين عن الدراسة في حالة أمية مقنعة أي أن الشخص المنقطع يكون بحوزته شهادة علمية في مستوى دراسي معين غير أن مؤهلاته العلمية لا تتناسب مع الشهادة المقدمة وفسر قائلا: "قد يقدم الشخص شهادة علمية على أنه مستوى سابعة أساسي والحال أن مستواه الدراسي سنة ثالثة مرحلة ابتدائية."
كما أورد محدثنا من جانب آخر أن هنالك إقبالا كبيرا على مدرسة الفرصة الثانية فمن جملة 2800 مسجل في المدرسة تم اتخاذ إجراءات في 2400 منهم وما تزال طلبات الالتحاق بالمدرسة متراكمة كاشفا في السياق ذاته أن مدارس الفرصة الثانية بصدد التوسع لتشمل مناطق أخرى في المرحلة المقبلة.
سليم قاسم (رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم): التّونسيّ يدفع اليوم ثمن العبث التّربويّ الذي طال مدرسته
تفاعلا مع مسألة الأمية وتداعياتها الخطيرة على المجتمع التونسي وخاصة الحلول التي من الضروري توخيها لمعالجة الآفة أورد رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم سليم قاسم في تصريح لـ"الصباح" انه مما لا شكّ فيه أنّ الأمّيّة تمثّل اليوم واحدة من أخطر المعضلات التي تواجه بلادنا: فهي لا تعيق التّنمية في ظل اقتصاد عالميّ يقوم على المعرفة والثّورة التّكنولوجيّة فحسب، ولكنّها تهدّد كذلك تماسك المجتمع واستقراره بما تتسبب فيه من عزلة وتهميش لنحو مليوني تونسيّة وتونسيّ، يجدون أنفسهم عرضة للجهل والبطالة ومحدوديّة الآفاق والتّهميش بأنواعه، فضلا عن مخاطر الوقوع في شرك التّطرّف أو الجريمة المنظّمة أو الهجرة غير الشّرعيّة.
وأضاف محدثنا إنّ بقاء الأمّيّة في هذه المستويات العاليّة بعد أكثر من ستّة عقود من نشر التّعليم ومن رصد الميزانيّات وتسخير الإمكانيّات وتقديم التّضحيات يمثّل نقطة استفهام كبيرة وعلامة على خلل ما في إدارة المنظومة التّربويّة على مدى عقود، وهو خلل تؤكّده الأرقام المخيفة للمنقطعين سنويّا عن التّعلّم، والانحدار المسجّل في مستوى التّلاميذ المتمدرسين، والمعاناة المزمنة لخرّيجي التّعليم من البطالة بسبب عدم امتلاك المعارف والمهارات المطلوبة، والأخطر من كلّ هذا هو التّطبيع مع جميع هذه الظّواهر، والتّعامل معها على أنّها مجرّد أرقام وإحصاءات أو كواقع محتوم لا نملك تغييره، وغياب استمرّ لعقود لأيّ شكل من أشكال التّقييم الحقيقيّ والمساءلة.
وأضاف محدثنا أن المجتمع التّونسيّ يدفع اليوم ثمن العبث التّربويّ الذي طال مدرسته طيلة عقود تمّ خلالها أخذ عدد لا يحصى من القرارات الاعتباطيّة، بدءا من تخريب هيكلة التّعليم وإلغاء المسلك المهنيّ، وتفتيت المعاهد التي كانت منارات حقيقيّة للعلم والمعرفة، وتحويل السنة الدّراسيّة إلى مجموعة من العطل والامتحانات مع بضعة أيّام متناثرة للتّعليم، ومرورا بضرب منظومة الموارد البشريّة وفسح المجال أمام فوضى الانتدابات والتّعيينات والتّرقيات التي كرّست جميع أشكال الفساد، ووصولا إلى الإصلاحات العقيمة التي لم يزد تنفيذها في كلّ مرّة الوضع إلاّ بؤسا وتردّيا لعدم قيامه على أيّ أساس علميّ أو رؤية منظوميّة، فبقينا ندور في حلقة مفرغة، وفقدت البرامج الكثير من جدواها لتتحوّل إلى كمّ هائل من المعلومات المفكّكة، دون أن ننسى الكيفيّة التي تمّ بها تطبيق المقاربة بالكفايات والطّريقة الكلّيّة لتعلّم القراءة، ومحاصرة الأنشطة الثّقافيّة وخلق كلّ ظروف استحالتها.
ومع ذلك يرى محدثنا أن كلّ الآمال معقودة اليوم على صحوة حقيقيّة بشّرت بها الاستشارة الوطنية لإصلاح نظام التربية والتعليم راجيا أن يكرّسها المجلس الأعلى للتّربية ويدعمها ويشرف عليها حتّى تؤتي أكلها، ولا شكّ أنّ مبادئ التّخطيط الاستراتيجي والإدارة العلميّة للمشاريع وتطبيق قواعد الجودة الشّاملة والحوكمة الرّشيدة ستكون الطّريق الملكيّة التي سوف تحقّق عودة منظومتنا التّربويّة إلى ثوابتها التي صنعت مجدها وعصرها الذّهبيّ: فهذه المنظومة قادرة، بفضل ما تزخر به من طاقات، وبفضل التفاف جميع الفئات الاجتماعيّة حولها، على أن تكون أفضل أداة لتحقيق مبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص، وضمان حقّ كلّ تونسيّة وتونسيّ في العيش الكريم والمساهمة في بناء وطن منيع مزدهر يتبوّأ المكانة التي هو بها جدير على السّاحة العالميّة.
عبد الباسط بلحسن (مدير المعهد العربي لحقوق الإنسان): على الدولة مواصلة تنفيذ سياسات تطوير برامج تعليم الكبار.. مدارس الفرصة الثانية وبرامج التكوين المهني
المعهد العربي لحقوق الإنسان وبما أنه طرف فاعل في مسألة الأمية ومجابهتها والتخفيف من معدلاتها وفي قراءة لأسباب تواصل استقرار معدلات الأمية على مدار السنوات الماضية أورد مدير المعهد العربي لحقوق الإنسان عبد الباسط بلحسن في تصريح لـ"الصباح" أن هذه الأرقام المفزعة تعبر عن أزمة التربية والتعليم بصفة عامة والأمية بصفة خاصة. وأوضح في هذا الإطار أنه رغم كل المجهودات الرسمية وغير الحكومية فإن ظاهرة الأمية والانقطاع عن التعليم تعتبر ظاهرة متعددة الأبعاد مثل الأمية العلمية والتكنولوجية التي مازالت حاضرة بقوة في مجتمعنا وتمثل تهديدا حقيقيا للتنمية الإنسانية المستدامة .
وأضاف مدير المعهد العربي لحقوق الإنسان أن هنالك مظاهر عديدة وإشكاليات عديدة تغذي هذه الظاهرة مثلا غياب إصلاح دائم ومستدام للمنظومة التعليمية فضلا عن التخلي تدريجيا عن عمومية التعليم علاوة على نقص الإدماج والمساواة والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة للعائلات التونسية وغيرها من الأسباب التي تؤدي الى تواصل هذه الأزمة.
من جانب آخر وفي نفس السياق أورد محدثنا انه بالنسبة للخطوط العريضة التي ترافق هذه المعضلة فإن هنالك مستوى أول وهي أن تواصل الدولة تنفيذ سياسات تطوير برامج تعليم الكبار ومدارس الفرصة الثانية وكذلك تطوير برامج التكوين المهني.. أما المستوى الثاني وهو مستوى متوسط وبعيد المدى فيتعلق بالمجهودات التي يجب تطويرها ويتمثل في وضع إصلاح شامل للمنظومة التعليمية في مختلف مستوياتها وتطوير التعلم مدى الحياة وهذا التعلم يجب أن يأخذ بعين الاعتبار مجموعة من العوامل على غرار أن التعليم منفعة اجتماعية مشتركة يطور مهارات الحياة وان ينفتح على المجتمع وان تكون فضاءات التعلم بجميع أنواعها فضاءات اجتماعية. كما أضاف محدثنا انه من الضروري ان يقع الاهتمام بالعلاقات داخل فضاءات التعلم وان تكون هنالك سياسات عمومية دامجة للجميع من ذلك
الفقراء وأشخاص ذوو إعاقة وكبار السن وبقية الفئات الاجتماعية .
كما دعا رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان في نفس الإطار الى أهمية الاستثمار في الإنسان وذلك بتركيز السياسات العمومية على قضايا مثل التعليم والصحة والثقافة والتشغيل اللائق مضيفا في الإطار نفسه الى أننا نحتاج اليوم الى عقد اجتماعي جديد في التعليم وهو ما يسعى إليه اليوم المعهد العربي لحقوق الإنسان بمعية شركائه على غرار وزارة التربية واليونسكو واليونسيف ومفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
منير حسن (عضو الهيئة المديرة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية): الأمية تتغذى من الانقطاع المدرسي
الأمية وضرورة القضاء عليها كانت من بين المواضيع التي انكب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية على معالجتها من خلال دراسات أنجزها في الغرض.. وفي هذا الخصوص وتفاعلا مع نقاط الاستفهام التي يطرحها كثيرون حول تواصل استقرار معدل الأمية من سنة الى أخرى أورد عضو الهيئة المديرة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية منير حسن في تصريح لـ"الصباح" انه ومنذ سنوات استقرت معدلات الأمية في نسبة معينة تتراوح بين 17 و18 بالمائة مشيرا في الإطار نفسه الى أن نسبة الأمية تتغذى من سنة الى أخرى نتيجة الانقطاع المدرسي الذي استقرت معدلاته في حدود الـ10 آلاف سنويا مبينا في السياق ذاته أن الفتيات من أكثر ضحايا التسرب المدرسي خاصة في المناطق الريفية .
واعتبر محدثنا من جانب آخر أن الأسباب التي تقف وراء استقرار معدلات الأمية كثيرة وعديدة جدا مرتبطة أساسا بالمنظومة التربوية التي لا تشتغل من اجل القضاء نهائيا على معدلات الأمية مبينا أن المنظومة التربوية تعتبر من وجهة نظره منظومة إقصائية تشوبها عديد الهنات على اعتبار أن الإصلاح التربوي منذ 2002 تركز في إطار منوال تنموي ينفتح على العولمة مما أفضى الى بقاء المنظومة التربوية دون هدف استراتيجي واضح على اعتبار أنها غير قادرة على الاحتفاظ بالتلاميذ وجعلهم في مسار تعليمي وتكويني متواصل.
وكشف في هذا الخصوص، عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن نسبة التمدرس لدى الشريحة العمرية للتلاميذ البالغين من العمر ستة سنوات تقدر بـ99,5 بالمائة في حين تتراجع هذه النسبة الى 88 بالمائة لدى الشريحة العمرية من 6 الى 11 سنة لتتواصل حدة التراجع في نسبة التمدرس لتبلغ 82 بالمائة لدى الشريحة العمرية من 6 الى 18 سنة مبرزا أن هنالك إشكاليات عديدة تجعل المنظومة التربوية غير قادرة على تأمين استمرارية التكوين بما أنها منظومة قديمة مهترئة ترتكز على الكفايات الأساسية بما يجعلها غير قادرة على تحقيق الجودة على مستوى التكوين اللغوي على اعتبار أن اهتمامها ينحصر فقط على كيفية الوصول الى المعرفة.
وبالعودة الى النسبة المرتفعة للامية في بلادنا أشار محدثنا الى أن هذه المعضلة تتنامي اليوم في ظل الإشكاليات الكبيرة والتحديات الضخمة في عصر الثورة الصناعية وتحديات الذكاء الاصطناعي الأمر الذي يطرح مدى القدرة على الاندماج في مجتمع المعلومة والمعرفة بما يجعلنا غير قادرين على مواكبة الثورة التكنولوجية في بلد غير قادر على تصدير التكنولوجيا. ولهذا تصبح نسبة الأمية عائقا من العوائق الكبيرة ليضيف محدثنا انه وبالتوازي مع برامج تعليم الكبار لا بد من العمل على إستراتيجية واضحة لسد الشغورات التي تحافظ على نسبة أمية عالية من ذلك ضرورة إصلاح المنظومة التربوية والتعليمية وتوجيهها لخدمة مصالح الاقتصاد التونسي وتنمية البلاد. ليخلص عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الى القول بأن تواصل استقرار نسبة الأمية في حدود 18 بالمائة على مدار السنوات الماضية يعكس الفشل في القضاء على الأمية ومحاربتها..
تونس-الصباح
"التعليم هو أقوى سلاح يمكن استعماله لتغيير العالم" أو للنهوض ببلد أو أمة ما.. ولكن لسائل أن يسأل ونحن ننشد التقدم والارتقاء وخاصة الالتحاق بركب الشعوب المتقدمة: كيف لهذا التغيير أن يحدث ونحن نتحدث عن أكثر من مليوني تونسي يعانون الأمية في زمن العولمة والتقدم والذكاء الاصطناعي؟ كيف السبيل الى الارتقاء الى مصاف الأمم المتقدمة ومنافستها والأمية مستقرة منذ سنوات لتتراوح معدلاتها بين 17 و18 بالمائة ..
...رقم مفزع يطرح أكثر من نقطة استفهام.. أين الخلل؟ من المسؤول؟ وأية تبعات لذلك؟
في هذا الخصوص يرى كثير من المتابعين للشأن العام أن استقرار نسبة الأمية على مدار السنوات التي خلت وعدم تراجعها يعكس خللا جوهريا في المنظومة التربوية التي تدفع سنويا بـ100 ألف تلميذ خارج مقاعد الدراسة (بسبب ظاهرة التسرب المدرسي).. على اعتبار أن البعض يرى أن تراجع معدلات الأمية يرتبط ارتباطا وثيقا بمدى القدرة أو التوصل الى التخفيف من معدلات التسرب المدرسي بما أن الأمية تتغذى من الانقطاع المدرسي.. وفي هذا الإطار يوجه البعض أصابع الاتهام الى المنظومة التربوية التي لم تنجح على مدار السنوات الماضية في كسر حدة معدلات التسرب المدرسي كما لم تفلح أيضا في تبني إصلاح تربوي من شأنه أن يعيد للصرح العمومي بريقه وتوهجه بما يجعله عنصرا جاذبا للتلميذ لا منفرا له ..
ولأن المسألة متشعبة ومتفرعة بما أن للأمية تداعيات كبرى على المجتمع وتقف وراءها أسباب عديدة تتجاوز المنظومة التربوية وعللها وهناتها فإن "الصباح" فتحت ملف الأمية محاولة البحث في الأسباب المؤدية الى استقرار نسبة الأمية وعدم قدرة الدولة رغم الجهود المبذولة على التخفيف من حدتها، ولا نروم عبر هذه المساحة توجيه أصابع الاتهام الى أطراف بعينها بقدر ما نروم أن ينتبه صناع القرار الى هذه الآفة التي تنخر بلادنا والتي تقف أمام تقدمها وازدهارها.. على أن يكون ملف القضاء على الأمية ومحاربتها في صدارة الأولويات ..
ملف من إعداد: منال حرزي
100 ألف منقطع عن الدراسة سنويا ..
تونس-الصباح
يرى كثير من المتابعين للشأن العام انه لا يستقيم الحديث عن الأمية دون الخوض في معضلة التسرب أو الانقطاع المدرسي على اعتبار أن هذا الأخير يساهم بشكل كبير في استقرار معدل الأمية في نسبة مرتفعة لا سيما أننا نتحدث عن 100 ألف منقطع سنويا عن الدراسة وفقا لآخر الإحصائيات..
في هذا الخصوص جدير بالذكر أن وزير الشؤون الاجتماعية، مالك الزاهي كان قد أورد في معرض تصريحاته الإعلامية إنّ "عدد الأميّين في تونس يبلغ 2 مليون أمّي، والنسبة أساسًا مرتفعة لدى النساء على اعتبار أن 50% منهم يتواجدون في المناطق الريفية"، مُشدّدًا على أنّ "الحرب ضد الأمية ليست حرب الحكومة وحدها وإنما بالتشارك مع الجميع من أجل القضاء على هذه الآفة في تونس".
وأفاد الزاهي مؤخرا على هامش الاحتفال باليوم العربي لمحو الأمية الموافق لـ8 جانفي من كل سنة، بأن الوزارة تعمل على إعداد السجل الوطني للأميّين بالتنسيق مع المعهد الوطني للإحصاء" مبرزا أن "هناك قرارا للترفيع في ميزانية المركز الوطني لتعليم الكبار لمزيد تطوير البرنامج الوطني لتعليم الكبار".
ومن جهته، قال بلقاسم الربيعي المدير العام للمركز الوطني لتعليم الكبار، إن "الوزارة بعثت لجنة لإعداد الإستراتيجية الوطنية لمحو الأمية، التي انطلقت في أواخر 2023، والتي تمس الأميين ومن غادروا الدراسة في سن مبكرة والتونسيين بالخارج الذين لا ينطقون اللغة العربية ومن يعانون من إعاقات خفيفة"، مشيرًا إلى أنّ 100 ألف تلميذ يُغادرون مقاعد الدراسة سنويًّا..
وتُقدَّر نسبة الأمية في تونس بحسب المسح الوطني الذي أعدّته وزارة الشؤون الاجتماعية بالتعاون مع البنك الدولي في عام 2019 بـ17.7 في المائة، غير أنّ هذه النسبة سجّلت وفقا للخبراء ارتفاعا ما بعد أزمة كورونا الوبائية لتصل إلى 17.9 في المائة.
ويرى الخبراء أيضا أنّ الانقطاع المبكر عن الدراسة ونسب التسرّب المدرسي اللذَين تسبّبا في ترك أكثر من مليون تلميذ مقاعد الدراسة في العشرية الأخيرة، يمثّلان أبرز أسباب التطوّر الحاصل في نسب الأمية علاوة على محدودية انخراط كبار السنّ في منظومة تعليم الكبار التي تبقى محدودة النتائج.
تفاعلا مع هذا الطرح يرى البيداغوجي المتقاعد فريد السديري في تصريح لـ"الصباح" أنه لا يمكن التخفيف من حدة الأمية أو الحديث عن تراجع معدلاتها دون إدخال إصلاحات جوهرية على المنظومة التربوية على اعتبار أن النفس الإصلاحي الجديد من شانه أن يعيد للمدرسة التونسية بريقها كأن تتحول الى عنصر جاذب لا منفر للتلاميذ. وأضاف محدثنا أن الأمية ترتبط ارتباطا وثيقا بظاهرة التسرب المدرسي موضحا أن التوصل الى ضبط إستراتيجية فعالة للقضاء على التسرب المدرسي من شأنه أن يقلص من معدلات الأمية.
وأضاف البيداغوجي المتقاعد انه مع وضع قاطرة الإصلاح التربوي -من خلال تفعيل الاستشارة الوطنية لإصلاح التربية والتعليم- يبقى الأمل قائما في أن يتم التخفيف من نسبة الأمية التي بقيت للأسف مرتفعة على مدار العقود الماضية داعيا في السياق ذاته الى ضرورة إيلاء منظومة التكوين المهني أو مسار التعليم التقني الأهمية اللازمة لما له من دور ريادي في احتضان فئة هامة من التلاميذ ..
بلقاسم الربيعي (مدير عام برامج تعليم الكبار): 1018 متعاقدا في برنامج تعليم الكبار أصبحوا موظفي دولة
حول الجهود التي تبذلها وزارة الشؤون الاجتماعية للحد من معضلة الأمية أورد مدير عام برامج تعليم الكبار بوزارة الشؤون الاجتماعية بلقاسم الربيعي في تصريح لـ"الصباح" أن البرنامج الوطني لتعليم الكبار أطلقت عليه تسمية جديدة ليصبح برنامج التعلم مدى الحياة مشيرا الى أن الجهود ترمي الى محو الأمية وإدماج الشريحة التونسية في المجتمع المدني والمجتمع الاقتصادي والاجتماعي. وأضاف الربيعي انه تم التوجه الى تعليم الكبار من الشباب المنقطعين عن الدراسة أي المتسربين كما تم أيضا استهداف ذوي الاحتياجات الخصوصية ممن يعانون إعاقة خفيفة.
وفي نفس الاتجاه أشار الربيعي الى وجود 965 مركز تربية اجتماعي على مستوى الجمهورية التونسية بزيادة تقدر بـحوالي 100 مركز في ظرف أشهر موضحا أن وزير الشؤون الاجتماعية قد إذن بفتح حرب على الأمية نظرا لكونها تمثل عدوا للبشرية وعائقا كبيرا في سبيل المجتمعات الحضارية والمدنية مشيرا الى أن الإستراتيجية الجديدة لوزارة الشؤون الاجتماعية تهدف الى توفير مركز اجتماعي في كل معتمدية.
كما أضاف محدثنا أن الجهود منكبة أيضا فيما يتعلق بمقاومة الأمية على فتح مراكز نموذجية تشتمل على تعليم القراءة والكتابة الى جانب توفير أربع ورشات من شأنها أن تجذب الشباب المتسرب وتشمل مجالات معينة على غرار الإعلامية وصناعة المرطبات والتجميل .
من جهة أخرى كشف المدير العام للمركز الوطني لتعليم الكبار عن وجود 1018 متعاقدا مع برنامج تعليم الكبار بصيغة هشة تمت تسوية وضعيتهم ليصبحوا موظفين في الدولة مثمنا في السياق ذاته جهود وزير الشؤون الاجتماعية الرامية الى القضاء على الأمية من خلال الترفيع في ميزانية برنامج تعليم الكبار.
عبد العزيز العبدلي (مدير مدرسة الفرصة الثانية): أغلب المسجلين في مدرسة الفرصة الثانية في حالة أمية مقنّعة
يثمّن كثيرون الدور الموكول لمدرسة الفرصة الثانية في التصدي أولا للفشل المدرسي وثانيا في محاربتها للامية رغم أن أبرز المهام الموكولة لمدرسة الفرصة الثانية تتمثل أساسا في الاستقبال والتوجيه والتأهيل والمرافقة والإحاطة بالأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12 و18 سنة والذين انقطعوا عن الدراسة دون الحصول على شهادة مدرسية تختم مرحلة تعليمية أو مؤهل تكوين مهني وذلك قصد تمكينهم من مواصلة الدراسة بالمؤسسات التربوية التابعة لوزارة التربية أو الالتحاق بمنظومة التكوين المهني أو الإعداد للاندماج بسوق الشغل والحياة النشيطة ومع ذلك يعتبر كثيرون أن الدور الموكول لمدرسة الفرصة يساهم بشكل أو بآخر في التقليص من حدة معدلات الأمية.
في هذا الخصوص أوضح في البداية مدير مدرسة الفرصة الثانية عبد العزيز العبدلي في تصريح لـ"الصباح" أن المدرسة لا تعمل في مجال التصدي للامية وإنما ينحصر دورها الأساسي في التصدي للفشل المدرسي مشيرا الى أن مدرسة الفرصة الثانية تعمل على إعادة المنقطعين عن الدراسة من الشريحة العمرية 12 الى 18 سنة إلى مستويات تربوية معينة أو الى مراكز التكوين المهني.
وثمن محدثنا في هذا الخصوص الجهود التي تقوم بها مدرسة الفرصة الثانية التي شهدت تسجيل 2800 منقطع عن الدراسة رغم انطلاقتها الحديثة (25 مارس 2021) وقد تم توجيه 2400 إما للعودة الى الدراسة أو الى مراكز التكوين المهني. وأشار محدثنا في نفس السياق إلى أنه تمت ملاحظة أن عددا كبيرا من المنقطعين عن الدراسة في حالة أمية مقنعة أي أن الشخص المنقطع يكون بحوزته شهادة علمية في مستوى دراسي معين غير أن مؤهلاته العلمية لا تتناسب مع الشهادة المقدمة وفسر قائلا: "قد يقدم الشخص شهادة علمية على أنه مستوى سابعة أساسي والحال أن مستواه الدراسي سنة ثالثة مرحلة ابتدائية."
كما أورد محدثنا من جانب آخر أن هنالك إقبالا كبيرا على مدرسة الفرصة الثانية فمن جملة 2800 مسجل في المدرسة تم اتخاذ إجراءات في 2400 منهم وما تزال طلبات الالتحاق بالمدرسة متراكمة كاشفا في السياق ذاته أن مدارس الفرصة الثانية بصدد التوسع لتشمل مناطق أخرى في المرحلة المقبلة.
سليم قاسم (رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم): التّونسيّ يدفع اليوم ثمن العبث التّربويّ الذي طال مدرسته
تفاعلا مع مسألة الأمية وتداعياتها الخطيرة على المجتمع التونسي وخاصة الحلول التي من الضروري توخيها لمعالجة الآفة أورد رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم سليم قاسم في تصريح لـ"الصباح" انه مما لا شكّ فيه أنّ الأمّيّة تمثّل اليوم واحدة من أخطر المعضلات التي تواجه بلادنا: فهي لا تعيق التّنمية في ظل اقتصاد عالميّ يقوم على المعرفة والثّورة التّكنولوجيّة فحسب، ولكنّها تهدّد كذلك تماسك المجتمع واستقراره بما تتسبب فيه من عزلة وتهميش لنحو مليوني تونسيّة وتونسيّ، يجدون أنفسهم عرضة للجهل والبطالة ومحدوديّة الآفاق والتّهميش بأنواعه، فضلا عن مخاطر الوقوع في شرك التّطرّف أو الجريمة المنظّمة أو الهجرة غير الشّرعيّة.
وأضاف محدثنا إنّ بقاء الأمّيّة في هذه المستويات العاليّة بعد أكثر من ستّة عقود من نشر التّعليم ومن رصد الميزانيّات وتسخير الإمكانيّات وتقديم التّضحيات يمثّل نقطة استفهام كبيرة وعلامة على خلل ما في إدارة المنظومة التّربويّة على مدى عقود، وهو خلل تؤكّده الأرقام المخيفة للمنقطعين سنويّا عن التّعلّم، والانحدار المسجّل في مستوى التّلاميذ المتمدرسين، والمعاناة المزمنة لخرّيجي التّعليم من البطالة بسبب عدم امتلاك المعارف والمهارات المطلوبة، والأخطر من كلّ هذا هو التّطبيع مع جميع هذه الظّواهر، والتّعامل معها على أنّها مجرّد أرقام وإحصاءات أو كواقع محتوم لا نملك تغييره، وغياب استمرّ لعقود لأيّ شكل من أشكال التّقييم الحقيقيّ والمساءلة.
وأضاف محدثنا أن المجتمع التّونسيّ يدفع اليوم ثمن العبث التّربويّ الذي طال مدرسته طيلة عقود تمّ خلالها أخذ عدد لا يحصى من القرارات الاعتباطيّة، بدءا من تخريب هيكلة التّعليم وإلغاء المسلك المهنيّ، وتفتيت المعاهد التي كانت منارات حقيقيّة للعلم والمعرفة، وتحويل السنة الدّراسيّة إلى مجموعة من العطل والامتحانات مع بضعة أيّام متناثرة للتّعليم، ومرورا بضرب منظومة الموارد البشريّة وفسح المجال أمام فوضى الانتدابات والتّعيينات والتّرقيات التي كرّست جميع أشكال الفساد، ووصولا إلى الإصلاحات العقيمة التي لم يزد تنفيذها في كلّ مرّة الوضع إلاّ بؤسا وتردّيا لعدم قيامه على أيّ أساس علميّ أو رؤية منظوميّة، فبقينا ندور في حلقة مفرغة، وفقدت البرامج الكثير من جدواها لتتحوّل إلى كمّ هائل من المعلومات المفكّكة، دون أن ننسى الكيفيّة التي تمّ بها تطبيق المقاربة بالكفايات والطّريقة الكلّيّة لتعلّم القراءة، ومحاصرة الأنشطة الثّقافيّة وخلق كلّ ظروف استحالتها.
ومع ذلك يرى محدثنا أن كلّ الآمال معقودة اليوم على صحوة حقيقيّة بشّرت بها الاستشارة الوطنية لإصلاح نظام التربية والتعليم راجيا أن يكرّسها المجلس الأعلى للتّربية ويدعمها ويشرف عليها حتّى تؤتي أكلها، ولا شكّ أنّ مبادئ التّخطيط الاستراتيجي والإدارة العلميّة للمشاريع وتطبيق قواعد الجودة الشّاملة والحوكمة الرّشيدة ستكون الطّريق الملكيّة التي سوف تحقّق عودة منظومتنا التّربويّة إلى ثوابتها التي صنعت مجدها وعصرها الذّهبيّ: فهذه المنظومة قادرة، بفضل ما تزخر به من طاقات، وبفضل التفاف جميع الفئات الاجتماعيّة حولها، على أن تكون أفضل أداة لتحقيق مبادئ الإنصاف وتكافؤ الفرص، وضمان حقّ كلّ تونسيّة وتونسيّ في العيش الكريم والمساهمة في بناء وطن منيع مزدهر يتبوّأ المكانة التي هو بها جدير على السّاحة العالميّة.
عبد الباسط بلحسن (مدير المعهد العربي لحقوق الإنسان): على الدولة مواصلة تنفيذ سياسات تطوير برامج تعليم الكبار.. مدارس الفرصة الثانية وبرامج التكوين المهني
المعهد العربي لحقوق الإنسان وبما أنه طرف فاعل في مسألة الأمية ومجابهتها والتخفيف من معدلاتها وفي قراءة لأسباب تواصل استقرار معدلات الأمية على مدار السنوات الماضية أورد مدير المعهد العربي لحقوق الإنسان عبد الباسط بلحسن في تصريح لـ"الصباح" أن هذه الأرقام المفزعة تعبر عن أزمة التربية والتعليم بصفة عامة والأمية بصفة خاصة. وأوضح في هذا الإطار أنه رغم كل المجهودات الرسمية وغير الحكومية فإن ظاهرة الأمية والانقطاع عن التعليم تعتبر ظاهرة متعددة الأبعاد مثل الأمية العلمية والتكنولوجية التي مازالت حاضرة بقوة في مجتمعنا وتمثل تهديدا حقيقيا للتنمية الإنسانية المستدامة .
وأضاف مدير المعهد العربي لحقوق الإنسان أن هنالك مظاهر عديدة وإشكاليات عديدة تغذي هذه الظاهرة مثلا غياب إصلاح دائم ومستدام للمنظومة التعليمية فضلا عن التخلي تدريجيا عن عمومية التعليم علاوة على نقص الإدماج والمساواة والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة للعائلات التونسية وغيرها من الأسباب التي تؤدي الى تواصل هذه الأزمة.
من جانب آخر وفي نفس السياق أورد محدثنا انه بالنسبة للخطوط العريضة التي ترافق هذه المعضلة فإن هنالك مستوى أول وهي أن تواصل الدولة تنفيذ سياسات تطوير برامج تعليم الكبار ومدارس الفرصة الثانية وكذلك تطوير برامج التكوين المهني.. أما المستوى الثاني وهو مستوى متوسط وبعيد المدى فيتعلق بالمجهودات التي يجب تطويرها ويتمثل في وضع إصلاح شامل للمنظومة التعليمية في مختلف مستوياتها وتطوير التعلم مدى الحياة وهذا التعلم يجب أن يأخذ بعين الاعتبار مجموعة من العوامل على غرار أن التعليم منفعة اجتماعية مشتركة يطور مهارات الحياة وان ينفتح على المجتمع وان تكون فضاءات التعلم بجميع أنواعها فضاءات اجتماعية. كما أضاف محدثنا انه من الضروري ان يقع الاهتمام بالعلاقات داخل فضاءات التعلم وان تكون هنالك سياسات عمومية دامجة للجميع من ذلك
الفقراء وأشخاص ذوو إعاقة وكبار السن وبقية الفئات الاجتماعية .
كما دعا رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان في نفس الإطار الى أهمية الاستثمار في الإنسان وذلك بتركيز السياسات العمومية على قضايا مثل التعليم والصحة والثقافة والتشغيل اللائق مضيفا في الإطار نفسه الى أننا نحتاج اليوم الى عقد اجتماعي جديد في التعليم وهو ما يسعى إليه اليوم المعهد العربي لحقوق الإنسان بمعية شركائه على غرار وزارة التربية واليونسكو واليونسيف ومفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
منير حسن (عضو الهيئة المديرة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية): الأمية تتغذى من الانقطاع المدرسي
الأمية وضرورة القضاء عليها كانت من بين المواضيع التي انكب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية على معالجتها من خلال دراسات أنجزها في الغرض.. وفي هذا الخصوص وتفاعلا مع نقاط الاستفهام التي يطرحها كثيرون حول تواصل استقرار معدل الأمية من سنة الى أخرى أورد عضو الهيئة المديرة للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية منير حسن في تصريح لـ"الصباح" انه ومنذ سنوات استقرت معدلات الأمية في نسبة معينة تتراوح بين 17 و18 بالمائة مشيرا في الإطار نفسه الى أن نسبة الأمية تتغذى من سنة الى أخرى نتيجة الانقطاع المدرسي الذي استقرت معدلاته في حدود الـ10 آلاف سنويا مبينا في السياق ذاته أن الفتيات من أكثر ضحايا التسرب المدرسي خاصة في المناطق الريفية .
واعتبر محدثنا من جانب آخر أن الأسباب التي تقف وراء استقرار معدلات الأمية كثيرة وعديدة جدا مرتبطة أساسا بالمنظومة التربوية التي لا تشتغل من اجل القضاء نهائيا على معدلات الأمية مبينا أن المنظومة التربوية تعتبر من وجهة نظره منظومة إقصائية تشوبها عديد الهنات على اعتبار أن الإصلاح التربوي منذ 2002 تركز في إطار منوال تنموي ينفتح على العولمة مما أفضى الى بقاء المنظومة التربوية دون هدف استراتيجي واضح على اعتبار أنها غير قادرة على الاحتفاظ بالتلاميذ وجعلهم في مسار تعليمي وتكويني متواصل.
وكشف في هذا الخصوص، عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن نسبة التمدرس لدى الشريحة العمرية للتلاميذ البالغين من العمر ستة سنوات تقدر بـ99,5 بالمائة في حين تتراجع هذه النسبة الى 88 بالمائة لدى الشريحة العمرية من 6 الى 11 سنة لتتواصل حدة التراجع في نسبة التمدرس لتبلغ 82 بالمائة لدى الشريحة العمرية من 6 الى 18 سنة مبرزا أن هنالك إشكاليات عديدة تجعل المنظومة التربوية غير قادرة على تأمين استمرارية التكوين بما أنها منظومة قديمة مهترئة ترتكز على الكفايات الأساسية بما يجعلها غير قادرة على تحقيق الجودة على مستوى التكوين اللغوي على اعتبار أن اهتمامها ينحصر فقط على كيفية الوصول الى المعرفة.
وبالعودة الى النسبة المرتفعة للامية في بلادنا أشار محدثنا الى أن هذه المعضلة تتنامي اليوم في ظل الإشكاليات الكبيرة والتحديات الضخمة في عصر الثورة الصناعية وتحديات الذكاء الاصطناعي الأمر الذي يطرح مدى القدرة على الاندماج في مجتمع المعلومة والمعرفة بما يجعلنا غير قادرين على مواكبة الثورة التكنولوجية في بلد غير قادر على تصدير التكنولوجيا. ولهذا تصبح نسبة الأمية عائقا من العوائق الكبيرة ليضيف محدثنا انه وبالتوازي مع برامج تعليم الكبار لا بد من العمل على إستراتيجية واضحة لسد الشغورات التي تحافظ على نسبة أمية عالية من ذلك ضرورة إصلاح المنظومة التربوية والتعليمية وتوجيهها لخدمة مصالح الاقتصاد التونسي وتنمية البلاد. ليخلص عضو المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الى القول بأن تواصل استقرار نسبة الأمية في حدود 18 بالمائة على مدار السنوات الماضية يعكس الفشل في القضاء على الأمية ومحاربتها..