إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

تحليل إخباري.. مع الحرب على غزة.. فرنسا تقطع بالكامل مع السياسة العربية ومع الإرث الديغولي في العلاقات الدولية

 

تونس- الصباح

كانت البداية بتحول الرئيس الفرنسي ايمانيال ماكرون إلى إسرائيل وتقديمه الولاء الكامل للكيان الصهيوني باسم التضامن مع الإسرائيليين اثر عملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية بغزة داخل الأراضي الإسرائيلية بتاريخ 7 أكتوبر 2023 وأسفرت عن عدد من القتلى والجرحى والرهائن الإسرائيليين.

حياة السايب

 مع العلم أن عدد القتلى اثر عملية طوفان الأقصى لا يمكن تحديده بالضبط فالإعلام الفرنسي الذي يستقي معلوماته من مصادر عبرية لا يشكك فيها ابدا في حين يضع ارقام الطرف الفلسطيني دائما موضوع تساؤل، تارة يخفّض في العدد وتارة أخرى يمدد فيه حسب اهواء  سلطات الكيان الصهيوني التي  تقدم في كل مرة إحصائية جديدة.

ولم يكن الرئيس الفرنسي الذي زار الدولة العبرية في 23 أكتوبر 2023 التي استقبلت جحافل كبيرة من المساندين لها من المسؤولين بأوروبا وامريكا، مختلفا عن غيره من نظرائه بالغرب في الانحياز المطلق للكيان الصهيوني الذي افزع العالم بتصلفه ووحشيته وحربه الظالمة التي يشنها على المواطنين العزل في غزة منذ 7 أكتوبر وإلى اليوم متسببا في ازهاق أرواح الآلاف معظمهم من الأطفال ومخلفا دمارا هائلا. وهذا الانحياز الكامل رغم كل التعلات التي يمكن ان يتخفى وراءها الموقف الفرنسي الرسمي، يتعارض مع ثوابت السياسة الخارجية الفرنسية وعلاقاتها الدولية وديبلوماسيتها التي كانت تقوم على شيء من التوازن وتنبذ التطرف في المواقف. وقد مضى ذلك العهد الذي كانت فيه فرنسا تسعى دائما إلى الحفاظ على استقلالية قرارها في علاقة بالقضايا الخارجية وان لا تكون مجرد تابع للولايات المتحدة في كل ما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط ومخططات أمريكا وحليفتها بريطانيا  للمنطقة.

ضياع استقلالية القرار

ويمكن أن نذكر في هذا الباب كيف سارع الرئيس الراحل جاك شيراك بارسال وزير خارجته آنذاك دومينيك دوفيلبان للأمم المتحدة ليعلن في خطاب قوي بانه يرفض الحرب على العراق (2003) التي ادعت فيها الولايات المتحدة امتلاك نظام صدام حسين لأسلحة دمار شامل واتخذتها تعلة لشن عدوان على بلاد الرافدين لم تتخلص العراق بعد 21 سنة من أثاره السلبية.

ولم يكف الرئيس الفرنسي الحالي عن اتخاذ مواقف تؤكد مضيّه في تغيير ثوابت السياسة الخارجية التي تبنتها فرنسا منذ عهد الجنرال شارل ديغول مؤسس ما يعرف بسياسة فرنسا العربية والتي تمكنت بفضلها من فرض نفسها كدولة قوية ولها مواقفها المستقلة حول ابرز القضايا الإقليمية والدولية. اليوم لا اثر تقريبا لهذه السياسة. لا اثر لسياسة فرنسا العربية التي عززتها مع الصدمة التي شهدها العالم حينما أوقفت الدول العربية في أكتوبر 1973 ضخ النفط إلى العالم احتجاجا على التوسع الإسرائيلي في الدول العربية.  وقد حافظت فرنسا على الخطوط الكبرى لهذه السياسة خاصة مع الرؤساء الذين اتبعوا الخط الديغولي وأبرزهم الرئيس جاك شيراك الذي عزز العلاقات الفرنسية العربية  ليس فقط رغبة في السير على نهج ديغول وإنما بالخصوص  حرصا على مصلحة البلاد وعلى سمعتها وعلى هيبتها.

لكن  فرنسا اليوم وكما هو واضح من خلال سياستها الخارجية ومواقفها من القضايا الإقليمية وخاصة من القضية الفلسطينية ليست ذاتها فرنسا في العهد الديغولي. لقد اصطفت تماما مع الموقف الأمريكي وفقدت استقلالية القرار في علاقة بالقضايا الخارجية باسم الموقف الأوروبي الموحد.

سلخ إعلامي متواصل لأي حركة معارضة للموقف المنحاز للصهاينة

والحقيقة لم يكن موقف الرئيس ايمانيال ماكرون الذي مرت  (ست سنوات على رأس بلاده وهو في دورته الثانية والأخيرة ) غريبا أو غير متوقع وهو قادم من عالم مهني معروف بمواقفه المعادية لقضايا الحق وهو وريث جيد لعقلية الشركات  متعددة الجنسيات  التي اغلبها تحت هيمنة اللوبيات الصهيونية،  لكن ما يثير الاستغراب هو هذا الميلان بالكامل للطبقة السياسية للمحور الأمريكي الانقلوسكسوني الصهيوني. كل القوى السياسية ما عدا أقصى اليسار بقيادة جون لوك ميلانشون الذي يتعرض مع كتلته البرلمانية يوميا إلى السلخ في الإعلام الفرنسي بسبب موقفه المعارض للعدوان الصهيوني على غزة مع الصهاينة دون أي احتراز. هم يعددون يوميا فرائض الولاء والطاعة للكيان الصهيوني حتى بات الأمر وكأنها عبادة غريبة.. وهي ليست المرة الأولى التي نلاحظ فيها سعي فرنسا للخروج عن ثوابت السياسة الخارجية منذ تأسيس الجمهورية الفرنسية الخامسة وكان ديغول أول رئيس لها، فقد حاول من قبل الرئيس نيكولا ساركوزي (خلفه هولاند في دورة واحدة ثم ماكرون في دورة أولى وهو حاليا في الدورة الثانية) أن يقطع مع هذا الإرث لكن تمت مواجهته سياسيا وإعلاميا حتى أن جل مواقفه التي سعى فيها  إلى إتباع الخط الأمريكي كانت محل سخرية في جل المنابر الإعلامية. وها أن ماكرون ينجح بالكامل في ذلك باصطفافه الكامل مع  المحور الأمريكي البريطاني الصهيوني بل هو اليوم يزايد حتى  على الأمريكيين والبريطانيين في الانبطاح للكيان الصهيوني.

ولا يكاد الرئيس الفرنسي الذي أعلن منذ فترة قليلة عن تغيير رئيسة حكومته واستبدالها بشاب يعتبر الإعلام الفرنسي انه رجل الرئيس من الناحية السياسية طبعا( 34 سنة فقط) وعن إحداث تغييرات في الحكومة أعاد فيها  رشيدة داتي (من أصول مغربية) المثيرة للجدل  إلى الواجهة بتعيينها  على رأس وزارة الثقافة، ينفك عن اتخاذ المبادرات التي يعبر فيها عن التأييد المطلق للصهاينة. فقد أعلن مثلا عن تنظيم يوم لتكريم أسرى حركة المقاومة حماس وهم بضعة عشرات تم تحرير عدد منهم في صفقة لتبادل الأسرى خلال هدنة  انطلقت يوم 24 نوفمبر المنقضي كانت مقررة لأسبوع ثم تمت إضافة يومين، لكنه لم يشر إلى الطرف الآخر حيث يقبع الآلاف من الفلسطينيين في السجون الصهيونية.

والمثير للفضول كي لا نقول المضحك أحيانا أن الإعلام الفرنسي يبحث بكل قوة عن رهينة إسرائيلية تحمل الجنسية الفرنسية ليقع التركيز عليها ليضفي على عمله المنحاز للصهاينة شرعية بائسة انطلاقا من قاعدة القرب. وقد حاولوا مثلا التركيز على شابة وقع تحريرها في إطار صفقة تبادل الأسرى قالوا انها "فرنكو- إسرائيلية" لتكون وجها إعلاميا لما يفترض أن تكون بالنسبة لهم معاناة الأسرى الإسرائيليين في غزة لكنهم فشلوا في ذلك لان تصريحاتها الإعلامية المتحاملة بدت فاقدة للشرعية خاصة في مواجهة سيل من الأخبار  والمعلومات والصور الإيجابية التي بثها الإعلام العسكري التابع لحركة المقاومة حماس، والتي بين من خلالها  للعالم  كيف تعاملت الحركة مع أسراها. لا ننسى كذلك السيل الجارف من الأخبار والصور حول تعنيف الإسرائيليين للموقوفين الفلسطينيين وتعاملهم العنيف ووحشيتهم التي يمارسونها امام الكاميراهات خلال حملات المداهمة والاعتقالات للفلسطينيين والتي تعتبر حجة دامغة لا يمكن مواجهتها بدعاية كاذبة.

 سياسة النفاق وادعاء الفضل

ومن المبادرات المنحازة التي أعلن عنها ماكرون مؤخرا هو اقتراحه على الكيان الصهيوني  عمليات ممنهجة في غزة  للتقليص برأيه من عدد الضحايا المدنيين، وقد أشار إلى ذلك في خطابه بتاريخ 16 جانفي الذي سماه الإعلام  بالخطاب الموجه للأمة،  وكأنه فضلا منه أن يطلب من رئيس حكومة الكيان الصهيوني ناتنياهو الغارق في دماء أهل غزة، شيئا من هذا القبيل وهو يظن انه أرضا بذلك  ضميره  إزاء الدمار المسجل بغزة وإزاء آلاف الأرواح التي تزهق في غزة وإزاء تجويع السكان وترويعهم ودفعهم للهجرة قسريا وانفراد الآلة العسكرية الصهيونية بشعب اعزل تتفنن في قتله وتعذيبه.

 يعتقد ماكرون رئيس دولة فرنسا التي قرعت الآذان بدفاعها عن حقوق الإنسان وعن منظومة حقوق الانسان المنبثقة تاريخيا عن الثورة الفرنسية، ان بلاده  تقوم بواجبها تجاه القضية الفلسطينية وهو يتحدث عن المقترح الذي توجه به لسلطات الاحتلال الصهيوني بتوجيه  ضربات محددة وممنهجة في غزة في حين يطالب صراحة بوقف الحرب الروسية على أوكرانيا  بالتوازي مع الإعلان عن دعم هذه الأخيرة بأسلحة جديدة.

لا تقف الأمور عند هذا الحد بل يتصدر اعلان فرنسا رفضها اتهام إسرائيل بمحاولة إبادة الفلسطينيين معارضة بذلك جنوب افريقيا التي وجهت دعوة في الغرض إلى محكمة العدل الدولية بلاهاي التي انتصبت للغرض في الأسبوع الماضي، واجهة الاخبار الفرنسية،  وكانه فتح عظيم وكأن العالم في حاجة الى شهادة فرنسا وهو يرى بنفسه الصور الفظيعة حتى يعرف ان كان الكيان الصهيوني  يشن حرب إبادة ام لا في غزة.

طرد فرنسا من آخر معاقلها الاستعمارية ومراجعات للمواقف حتى لدى النخب المتأثرة أكثر من غيرها بالثقافة الفرنسية

لكن أن كان هناك شيء إيجابي في سياسة ماكرون الخارجية وتخليه عن السياسة العربية التي أرساها شارل ديغول، هو مساعدته بمواقفه ومواقف أمثاله الظالمة على فتح عيون العالم على حقيقة المتخفين وراء الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. وفعلا لقد بدأت فرنسا تفقد موقعها في اغلب البلدان التي كان لديها فيها حضور اقتصادي وثقافي كبير خاصة منها المستعمرات القديمة التي طوعتها لعقود مستعملة في ذلك سلاح الغزو الثقافي وما تسميه بالدعم الاقتصادي.

فقد سعت فرنسا إلى فرض هيمنتها على هذه البلدان من خلال سياسة تعاون اقتصادية غير متكافئة ومن خلال هيمنة ثقافية أداتها الأولى اللغة الفرنسية. لكن يكفي أن ننظر اليوم كيف ينظر في تونس مثلا التي تضم نخبة ثقافية متأثرة جدا بالثقافة الفرنسية، إلى فرنسا حتى ندرك تأثر الناس وصدمتهم في بلد الأنوار. هناك اليوم مراجعات للمواقف حتى لدى هذه النخبة التي اندهشت قبل غيرها من الموقف الفرنسي الرسمي المعادي صراحة للحق والمنتصر بشكل أعمى للعدوان الصهيوني على غزة، حتى أن احد نواب الشعب الفرنسي وصف الفلسطينيين  دون تردد في لقاء إعلامي  بأنهم سرطان (مرض السرطان)، نعم هكذا قال وبالحاح.

وفي الجزائر ومنذ مدة لم يعد للدولة الجزائرية أي رغبة في استمرار  الحضور الفرنسي بنفس الطريقة حتى أن الدولة مضت في تنفيذ تهديدها باستعمال اللغة الانقليزية لغة ثانية بدل الفرنسية ونحن نعلم مدى تغلغل الفرنسية لدى الجزائريين ومع ذلك فهناك إرادة قوية في التحرر من هذه الهيمنة التي لم تجن منها الشعوب إلا مزيدا من القهر وهي ترى ثرواتها وطاقاتها تستنزف وتهدر امام عينيها.

ولم يكتف سكان بلدان الساحل الإفريقي من جهتهم بمواقف رافضة للهيمنة الفرنسية بل مروا إلى الفعل وطردوا فرنسا من أراضيهم التي كانت تتمسك بحضور عسكري لها بهذه البلدان بدعوى المساعدة ومواجهة الإرهاب وقد خسرت المعركة  خاصة بعد خروجها من النيجر.

 أصلا لقد ظلت دول الساحل الإفريقي (وبالخصوص بوركينافاسو، مالي،  النيجر،والتشاد) من أفقر بلدان القارة الفرنسية وهي التي تزخر بالموارد الطبيعية بسبب هيمنة القوى الاستعمارية السابقة وأساسا فرنسا التي تعتبر سببا أساسيا في تخلف هذه البلدان التي عانت طويلا من عدم الاستقرار السياسي بسبب أطماعها.

ربما للرئيس ماكرون حساباته وهو يصطف وراء الحلف الصهيوني، مظهرا ازدراء واضحا للأرواح الفلسطينية التي تسقط تحت ضربات الآلة العسكرية الصهيونية، لكنه قدم خدمة للطرف المقابل من حيث لا يحتسب.  فقد منح الدليل للمترددين بأنه لا يرجى من الآخرين شيئا وأننا لن نتحرر فعلا إلا بتحرير أنفسنا من الآخر ومن ثقافة الآخر ومن فكر الآخر المتسلط وخاصة من نفاق الآخرين.   

تحليل إخباري..   مع الحرب على غزة.. فرنسا تقطع بالكامل مع السياسة العربية ومع الإرث الديغولي في العلاقات الدولية

 

تونس- الصباح

كانت البداية بتحول الرئيس الفرنسي ايمانيال ماكرون إلى إسرائيل وتقديمه الولاء الكامل للكيان الصهيوني باسم التضامن مع الإسرائيليين اثر عملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية بغزة داخل الأراضي الإسرائيلية بتاريخ 7 أكتوبر 2023 وأسفرت عن عدد من القتلى والجرحى والرهائن الإسرائيليين.

حياة السايب

 مع العلم أن عدد القتلى اثر عملية طوفان الأقصى لا يمكن تحديده بالضبط فالإعلام الفرنسي الذي يستقي معلوماته من مصادر عبرية لا يشكك فيها ابدا في حين يضع ارقام الطرف الفلسطيني دائما موضوع تساؤل، تارة يخفّض في العدد وتارة أخرى يمدد فيه حسب اهواء  سلطات الكيان الصهيوني التي  تقدم في كل مرة إحصائية جديدة.

ولم يكن الرئيس الفرنسي الذي زار الدولة العبرية في 23 أكتوبر 2023 التي استقبلت جحافل كبيرة من المساندين لها من المسؤولين بأوروبا وامريكا، مختلفا عن غيره من نظرائه بالغرب في الانحياز المطلق للكيان الصهيوني الذي افزع العالم بتصلفه ووحشيته وحربه الظالمة التي يشنها على المواطنين العزل في غزة منذ 7 أكتوبر وإلى اليوم متسببا في ازهاق أرواح الآلاف معظمهم من الأطفال ومخلفا دمارا هائلا. وهذا الانحياز الكامل رغم كل التعلات التي يمكن ان يتخفى وراءها الموقف الفرنسي الرسمي، يتعارض مع ثوابت السياسة الخارجية الفرنسية وعلاقاتها الدولية وديبلوماسيتها التي كانت تقوم على شيء من التوازن وتنبذ التطرف في المواقف. وقد مضى ذلك العهد الذي كانت فيه فرنسا تسعى دائما إلى الحفاظ على استقلالية قرارها في علاقة بالقضايا الخارجية وان لا تكون مجرد تابع للولايات المتحدة في كل ما يتعلق بقضايا الشرق الأوسط ومخططات أمريكا وحليفتها بريطانيا  للمنطقة.

ضياع استقلالية القرار

ويمكن أن نذكر في هذا الباب كيف سارع الرئيس الراحل جاك شيراك بارسال وزير خارجته آنذاك دومينيك دوفيلبان للأمم المتحدة ليعلن في خطاب قوي بانه يرفض الحرب على العراق (2003) التي ادعت فيها الولايات المتحدة امتلاك نظام صدام حسين لأسلحة دمار شامل واتخذتها تعلة لشن عدوان على بلاد الرافدين لم تتخلص العراق بعد 21 سنة من أثاره السلبية.

ولم يكف الرئيس الفرنسي الحالي عن اتخاذ مواقف تؤكد مضيّه في تغيير ثوابت السياسة الخارجية التي تبنتها فرنسا منذ عهد الجنرال شارل ديغول مؤسس ما يعرف بسياسة فرنسا العربية والتي تمكنت بفضلها من فرض نفسها كدولة قوية ولها مواقفها المستقلة حول ابرز القضايا الإقليمية والدولية. اليوم لا اثر تقريبا لهذه السياسة. لا اثر لسياسة فرنسا العربية التي عززتها مع الصدمة التي شهدها العالم حينما أوقفت الدول العربية في أكتوبر 1973 ضخ النفط إلى العالم احتجاجا على التوسع الإسرائيلي في الدول العربية.  وقد حافظت فرنسا على الخطوط الكبرى لهذه السياسة خاصة مع الرؤساء الذين اتبعوا الخط الديغولي وأبرزهم الرئيس جاك شيراك الذي عزز العلاقات الفرنسية العربية  ليس فقط رغبة في السير على نهج ديغول وإنما بالخصوص  حرصا على مصلحة البلاد وعلى سمعتها وعلى هيبتها.

لكن  فرنسا اليوم وكما هو واضح من خلال سياستها الخارجية ومواقفها من القضايا الإقليمية وخاصة من القضية الفلسطينية ليست ذاتها فرنسا في العهد الديغولي. لقد اصطفت تماما مع الموقف الأمريكي وفقدت استقلالية القرار في علاقة بالقضايا الخارجية باسم الموقف الأوروبي الموحد.

سلخ إعلامي متواصل لأي حركة معارضة للموقف المنحاز للصهاينة

والحقيقة لم يكن موقف الرئيس ايمانيال ماكرون الذي مرت  (ست سنوات على رأس بلاده وهو في دورته الثانية والأخيرة ) غريبا أو غير متوقع وهو قادم من عالم مهني معروف بمواقفه المعادية لقضايا الحق وهو وريث جيد لعقلية الشركات  متعددة الجنسيات  التي اغلبها تحت هيمنة اللوبيات الصهيونية،  لكن ما يثير الاستغراب هو هذا الميلان بالكامل للطبقة السياسية للمحور الأمريكي الانقلوسكسوني الصهيوني. كل القوى السياسية ما عدا أقصى اليسار بقيادة جون لوك ميلانشون الذي يتعرض مع كتلته البرلمانية يوميا إلى السلخ في الإعلام الفرنسي بسبب موقفه المعارض للعدوان الصهيوني على غزة مع الصهاينة دون أي احتراز. هم يعددون يوميا فرائض الولاء والطاعة للكيان الصهيوني حتى بات الأمر وكأنها عبادة غريبة.. وهي ليست المرة الأولى التي نلاحظ فيها سعي فرنسا للخروج عن ثوابت السياسة الخارجية منذ تأسيس الجمهورية الفرنسية الخامسة وكان ديغول أول رئيس لها، فقد حاول من قبل الرئيس نيكولا ساركوزي (خلفه هولاند في دورة واحدة ثم ماكرون في دورة أولى وهو حاليا في الدورة الثانية) أن يقطع مع هذا الإرث لكن تمت مواجهته سياسيا وإعلاميا حتى أن جل مواقفه التي سعى فيها  إلى إتباع الخط الأمريكي كانت محل سخرية في جل المنابر الإعلامية. وها أن ماكرون ينجح بالكامل في ذلك باصطفافه الكامل مع  المحور الأمريكي البريطاني الصهيوني بل هو اليوم يزايد حتى  على الأمريكيين والبريطانيين في الانبطاح للكيان الصهيوني.

ولا يكاد الرئيس الفرنسي الذي أعلن منذ فترة قليلة عن تغيير رئيسة حكومته واستبدالها بشاب يعتبر الإعلام الفرنسي انه رجل الرئيس من الناحية السياسية طبعا( 34 سنة فقط) وعن إحداث تغييرات في الحكومة أعاد فيها  رشيدة داتي (من أصول مغربية) المثيرة للجدل  إلى الواجهة بتعيينها  على رأس وزارة الثقافة، ينفك عن اتخاذ المبادرات التي يعبر فيها عن التأييد المطلق للصهاينة. فقد أعلن مثلا عن تنظيم يوم لتكريم أسرى حركة المقاومة حماس وهم بضعة عشرات تم تحرير عدد منهم في صفقة لتبادل الأسرى خلال هدنة  انطلقت يوم 24 نوفمبر المنقضي كانت مقررة لأسبوع ثم تمت إضافة يومين، لكنه لم يشر إلى الطرف الآخر حيث يقبع الآلاف من الفلسطينيين في السجون الصهيونية.

والمثير للفضول كي لا نقول المضحك أحيانا أن الإعلام الفرنسي يبحث بكل قوة عن رهينة إسرائيلية تحمل الجنسية الفرنسية ليقع التركيز عليها ليضفي على عمله المنحاز للصهاينة شرعية بائسة انطلاقا من قاعدة القرب. وقد حاولوا مثلا التركيز على شابة وقع تحريرها في إطار صفقة تبادل الأسرى قالوا انها "فرنكو- إسرائيلية" لتكون وجها إعلاميا لما يفترض أن تكون بالنسبة لهم معاناة الأسرى الإسرائيليين في غزة لكنهم فشلوا في ذلك لان تصريحاتها الإعلامية المتحاملة بدت فاقدة للشرعية خاصة في مواجهة سيل من الأخبار  والمعلومات والصور الإيجابية التي بثها الإعلام العسكري التابع لحركة المقاومة حماس، والتي بين من خلالها  للعالم  كيف تعاملت الحركة مع أسراها. لا ننسى كذلك السيل الجارف من الأخبار والصور حول تعنيف الإسرائيليين للموقوفين الفلسطينيين وتعاملهم العنيف ووحشيتهم التي يمارسونها امام الكاميراهات خلال حملات المداهمة والاعتقالات للفلسطينيين والتي تعتبر حجة دامغة لا يمكن مواجهتها بدعاية كاذبة.

 سياسة النفاق وادعاء الفضل

ومن المبادرات المنحازة التي أعلن عنها ماكرون مؤخرا هو اقتراحه على الكيان الصهيوني  عمليات ممنهجة في غزة  للتقليص برأيه من عدد الضحايا المدنيين، وقد أشار إلى ذلك في خطابه بتاريخ 16 جانفي الذي سماه الإعلام  بالخطاب الموجه للأمة،  وكأنه فضلا منه أن يطلب من رئيس حكومة الكيان الصهيوني ناتنياهو الغارق في دماء أهل غزة، شيئا من هذا القبيل وهو يظن انه أرضا بذلك  ضميره  إزاء الدمار المسجل بغزة وإزاء آلاف الأرواح التي تزهق في غزة وإزاء تجويع السكان وترويعهم ودفعهم للهجرة قسريا وانفراد الآلة العسكرية الصهيونية بشعب اعزل تتفنن في قتله وتعذيبه.

 يعتقد ماكرون رئيس دولة فرنسا التي قرعت الآذان بدفاعها عن حقوق الإنسان وعن منظومة حقوق الانسان المنبثقة تاريخيا عن الثورة الفرنسية، ان بلاده  تقوم بواجبها تجاه القضية الفلسطينية وهو يتحدث عن المقترح الذي توجه به لسلطات الاحتلال الصهيوني بتوجيه  ضربات محددة وممنهجة في غزة في حين يطالب صراحة بوقف الحرب الروسية على أوكرانيا  بالتوازي مع الإعلان عن دعم هذه الأخيرة بأسلحة جديدة.

لا تقف الأمور عند هذا الحد بل يتصدر اعلان فرنسا رفضها اتهام إسرائيل بمحاولة إبادة الفلسطينيين معارضة بذلك جنوب افريقيا التي وجهت دعوة في الغرض إلى محكمة العدل الدولية بلاهاي التي انتصبت للغرض في الأسبوع الماضي، واجهة الاخبار الفرنسية،  وكانه فتح عظيم وكأن العالم في حاجة الى شهادة فرنسا وهو يرى بنفسه الصور الفظيعة حتى يعرف ان كان الكيان الصهيوني  يشن حرب إبادة ام لا في غزة.

طرد فرنسا من آخر معاقلها الاستعمارية ومراجعات للمواقف حتى لدى النخب المتأثرة أكثر من غيرها بالثقافة الفرنسية

لكن أن كان هناك شيء إيجابي في سياسة ماكرون الخارجية وتخليه عن السياسة العربية التي أرساها شارل ديغول، هو مساعدته بمواقفه ومواقف أمثاله الظالمة على فتح عيون العالم على حقيقة المتخفين وراء الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. وفعلا لقد بدأت فرنسا تفقد موقعها في اغلب البلدان التي كان لديها فيها حضور اقتصادي وثقافي كبير خاصة منها المستعمرات القديمة التي طوعتها لعقود مستعملة في ذلك سلاح الغزو الثقافي وما تسميه بالدعم الاقتصادي.

فقد سعت فرنسا إلى فرض هيمنتها على هذه البلدان من خلال سياسة تعاون اقتصادية غير متكافئة ومن خلال هيمنة ثقافية أداتها الأولى اللغة الفرنسية. لكن يكفي أن ننظر اليوم كيف ينظر في تونس مثلا التي تضم نخبة ثقافية متأثرة جدا بالثقافة الفرنسية، إلى فرنسا حتى ندرك تأثر الناس وصدمتهم في بلد الأنوار. هناك اليوم مراجعات للمواقف حتى لدى هذه النخبة التي اندهشت قبل غيرها من الموقف الفرنسي الرسمي المعادي صراحة للحق والمنتصر بشكل أعمى للعدوان الصهيوني على غزة، حتى أن احد نواب الشعب الفرنسي وصف الفلسطينيين  دون تردد في لقاء إعلامي  بأنهم سرطان (مرض السرطان)، نعم هكذا قال وبالحاح.

وفي الجزائر ومنذ مدة لم يعد للدولة الجزائرية أي رغبة في استمرار  الحضور الفرنسي بنفس الطريقة حتى أن الدولة مضت في تنفيذ تهديدها باستعمال اللغة الانقليزية لغة ثانية بدل الفرنسية ونحن نعلم مدى تغلغل الفرنسية لدى الجزائريين ومع ذلك فهناك إرادة قوية في التحرر من هذه الهيمنة التي لم تجن منها الشعوب إلا مزيدا من القهر وهي ترى ثرواتها وطاقاتها تستنزف وتهدر امام عينيها.

ولم يكتف سكان بلدان الساحل الإفريقي من جهتهم بمواقف رافضة للهيمنة الفرنسية بل مروا إلى الفعل وطردوا فرنسا من أراضيهم التي كانت تتمسك بحضور عسكري لها بهذه البلدان بدعوى المساعدة ومواجهة الإرهاب وقد خسرت المعركة  خاصة بعد خروجها من النيجر.

 أصلا لقد ظلت دول الساحل الإفريقي (وبالخصوص بوركينافاسو، مالي،  النيجر،والتشاد) من أفقر بلدان القارة الفرنسية وهي التي تزخر بالموارد الطبيعية بسبب هيمنة القوى الاستعمارية السابقة وأساسا فرنسا التي تعتبر سببا أساسيا في تخلف هذه البلدان التي عانت طويلا من عدم الاستقرار السياسي بسبب أطماعها.

ربما للرئيس ماكرون حساباته وهو يصطف وراء الحلف الصهيوني، مظهرا ازدراء واضحا للأرواح الفلسطينية التي تسقط تحت ضربات الآلة العسكرية الصهيونية، لكنه قدم خدمة للطرف المقابل من حيث لا يحتسب.  فقد منح الدليل للمترددين بأنه لا يرجى من الآخرين شيئا وأننا لن نتحرر فعلا إلا بتحرير أنفسنا من الآخر ومن ثقافة الآخر ومن فكر الآخر المتسلط وخاصة من نفاق الآخرين.