إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

تعليق على " تعليق على كتاب مشاهير المطربين التونسيين اليهود"

للأستاذ عز الدين المدني

بقلم: السيّد العلاّني(*)

لا بدعةَ أنْ يتولّى الأستاذُ عزالدين المدني التعليقَ على كتاب" مشاهير المطربين التونسيين اليهود" للكاتب المؤرّخِ المحقّق فاخر الرويسي.( راجع جريدة الصباح- الخميس4 جانفي 2024) ، فالرجل قد نَذَرَ حياتَه كلَّها للجذر الثلاثيّ "الكاف والتاء والباء" بل لقد قلّبه على جميع أَوْجُهِهِ الصرفيّةِ وصيَغِه التصريفيّة ومعانيه النحويّة. وأنا أجْزِمُ أوْ أكاد أنّ كلّ متتبّعٍ للحركة الأدبيّة العربيّة بعامّة والتونسيّة بخاصّة ، في كلّ تضاريسها الطليعيّة والتجريبيّة ، في القصّة والمسرحيّة والمقالةِ والتراجم ، بل وحتّى في الإشراف على ملاحقَ أدبيّةٍ فكريّةٍ متميّزةٍ بنكهةٍ مخصوصةٍ ومذاقٍ متفرّدٍ وصوتٍ مغايرٍ في زمنٍ ارْتجَّت فيه الألسنُ وتبلّدت فيه الأذواقُ وكاد الناس فيه يهجرون الساحاتِ الأدبيّةَ ، إلاّ ويعترف للرجل بخصالٍ لا يشاركه فيها إلاّ النادرُ من الموهوبين. فمَنْ مِنْجيل سبعينات القرن الماضي وثمانيناته لا يذكرُ فضلَ الأستاذ عزالدين المدني حيث طلع على الساحة الأدبيّة بالملحق الأدبيّ الأسبوعي للجريدة اليوميّة "العمل" حين لم يكن أحدٌ يتوقّع منها ذلك الاصدار الذي أنعش الحياةَ الأدبيّةَ والفكريّة َوما زال إلى اليوم يمثّل مصدرا هامّا لكلّ باحث يروم دراسة اللحظات الفارقة في الحياة الأدبيّة التي مرّت بها تونس في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. فقد جمع فيه الأستاذُ أقلامًا كانت مُشتتّةً ولعلّها كانت مُحَاصَرَةً لأنّها تسعى كلُّها إلى إرْباك الواقع وتجاوز السائد وإرساء دعائمَ جديدةٍ لأدبٍ جديدٍ ورؤيةٍ جديدةٍ أيضا فاحتضن تجاربَ جريئةً تترسّخ في موروثٍ لا تكرّره ولا تقوّضُه وفي ذات الآن تَبْنِي مستقبلاً لا يَعْقِلُهُ قْيدٌ ولا يغِلُّه شَرْطٌ. ولا ينكر ذلك إلاّ عنيدٌ جاهل.

وَعَلَى ذلك وغيرِه من الاعتبارات يكون تعليقُه على أيِّ كتابٍ مُهِمًّا جدّا ومقصودا وَلاَفِتًا. وَتَـزْدَادُ هذه الأهميّةُ حين يتعلّق الأمر بكتابٍ حول شريحةٍ من يهودٍ تونسييّن ساهموا في إثراء الرصيد الموسيقيّ التونسيّ. يَـفْعـَلُ ذلك في وقتٍ صاخبٍ متوتّرٍ غامضٍ لا يفرّق فيه الناسُ عامّتُهم بين الدينِ والسياسةِ، بين العقيدةِ والفقه، بين الدنيًويّ وَ الأُخْرويّ، بين الفنّ الحرّ والإيديولوجيا المتحجّرة! فيأتي تعليقُ الأستاذ عزالدين المدني ليرفع غِشَاوةً قد تكونُ حجبت عن عيونٍ عناصرَ من الصورة دالّةً فيظنُّ أصحابُها بالكاتب والكِتاب والمقدّمِ له والمعلّقِ عليه ظنونَ سوءٍ لم تخطر على بال أيٍّ منهم إطلاقا. وَقـَبْلَ أنْ يشرعَ الاستاذُ المدني في التعليق نَـبَّهَ قَارِئَهُ إلى أنّه "قرأ الكتابَ وراجعه مرّتيْن مراجعةَ معرفةٍ ونقدٍ "وذكَر مُمَيِّزاتِ الكتابِ فـ"موضوعه غيرُ مسبوق " وهو" شهادة عن جانب عظيم من الثقافةِ التونسيّة وعن أماكن الموسيقى والطرب الشعبيّةِ والراقية" وقد جمع فيه مؤلِّفُه "ما لم يُجمع في غيره وقال في هذه الأيّامِ الساخنةِ ماَلاَ يقالُ لأنّه كاتبٌ فنّان حرّ ...يُعْلِمُ الأجيال الشابّةَ بأنّ النشاطَ الثقافيَّ والفنّيَّ الوطنيَّ قد اضطلع به اليهود التونسيّون بجانب كبير منه ولا تمايز بينهم وبين أبناء عمومتهم المسلمين" ولا يفوت الأستاذ المعلّق أنْ يذكّرَ بـ" الألفةِ التي قامت بين الرعايا المسلمين واليهود منذ أُفُول الدولة الفاطميّة إضافةً إلى هذا الإجمال المتعجّل عن محتوى الكتاب بيّن الأستاذُ بلهجة الصدقِ والموضوعيّةِ والجرأةِ الفكريّةِ بأنّ هؤلاء اليهودَ الذين يتحدّث عنهم الكتابُ" لا علاقة لهم بالصهاينة ولا بدولةِ تلّ أبيب ولا بالأشنكاز المُتأوْرِبين و المُتأمْرِكين ...ولا بأولئك الذين تعلّموا وتدرّبوا عل رسم أطوار التعذيب والقتل وعملوا على التوسّع على حساب الغير واستعمار الآخر المسالم" وهذا تدقيق مهمّ يوضّح موقف الأستاذ من القضيّة الفلسطينيّة توضيحا لا يدع للتأويل الخاطئ مجالاً. أكثر من ذلك فهو يَفْصِل فصلا حاسما بين هؤلاء الصهاينة المَكَرَةِ وبين نخبة اليهود في العالم و مثّلَ للبعض منهم بعالم الاجتماع "بول صبّاغ" الذي أفرد الجامع الأعظم جامع عقبة ابن نافع بكتاب كاملٍ أَوْ دع فيه إعجابه بعبقريّة المعماريّ المسلم في رفعِ بيتٍ يذكر فيه اسم اللـّه كما أنّه أهدى إلى مكتبة جامعة منّوبة كامل مكتبته الخاصّة. والمُعلّقُ لا يكتفي بإدانة الصهاينة فحسب بل يدين كذلك "كلَّ من ساند عصابات السوء والشرّ والباطل... وأيّدها وآزرها بالمال والسلاح وزكّى جرائمها بالتعليل الخاطئِ والمغرض" .

     أَلاَ أَكون بهذه المقدّمة قد أضفت إلى الماء بعد الجهد ماءً!؟ قَدْ يكون ذلك كذلك لكن رجائي أنْ تصبروا عليّ فقصدي من هذا أنّ أتقدّم بملاحظةٍ أعْقُبها باقتراحٍ. أمّا الملاحظة فتتعلّق بالمكتبات في القيروان التجاريّة منها والعموميّة على حدٍّ سواء فالأولى ،على زَعْمِي، لا ينطبق عليها اسمُ مكتبةٍ إذْ هيَ في الغالب الأعمّ "قِرطاسيّات" مدرسيّة تستجيب آليّا ،كأيّ مادّةٍ تجاريّة أخرى ، لِمَبْدَإِ العَرضِ والطلب و لِـلثاَّلوثِ التقليدي ثمنِ الشراء و مبلغِ الكلفة ثمّ نسبةِ الربح لا غير فلا كتب ولا كتّاب ولا حتّى إعلامٌ بالإصدارات الجديدةِ بل إنّ البعض منها يجد، في ما يقتنيه من مُخَلّفَاتِ المعارض من عناوين تروّجُ فكرا يقينيّا متجمّدا ،غنيمةً يَجني منها فائدة ماليّة آنيّة بِبيْعها جوائزَ مدرسيّةً ولعلّه لا ينتبه بعدئذٍ إنْ هيَ أضرّت بعقول ناشئةٍ تتطلّع إلى عصر عقلانيّ لا يهدأ فيه بالٌ ولا يستقرّ فيه مآل. أمّا المكتبات العموميّة فإيقاعُها إيقاع الادارة تُفْتح وتُغلق بتوقيتها وتتعطّل بعُطلها يُرْبِكُها كلُّ تغييرٍ ولا تَعْمُرُها غيرُ كتبٍ كانت جديدةً في عصرها الذي فات لكنّها قديمةٌ بالنسبة إلى ماهو آت وحتّى الدراسات التي تناولت تلك المراجعَ بالدرس والتمحيص والتحقيق نادرا ما نعثر عليها إنْ لم تكن منعدمة في رفوف مكتباتنا العموميّة التي لاتصل إليها حتّى منشورات المؤسّسات الرسميّة مثل منشورات بيت الحكمةِ والمعهد الوطنيّ للتراث ودوريات وزارة الثقافة والكليّات و"كاتالوكات" المعارض الفنيّة ومنشورات مركز البحوث والدراسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة و منشورات الكليّات وقل مثل ذلك عن منشورات المؤسّسات العربيّة والإسلاميّة ومعاجمها المتنوّعة المتخصّصة ودوريّاتها المُحكّمة المعتمدة فنفر عن هذه المكتبات قرّاؤها وانقطع عنها المشتركون إلاّ القليل النادر من تلاميذَ وأساتذةٍ طَالِبي التحصيل العلميّ النفعيّ الآنيّ فما بالك إذن ، والحال على ما وصفتُ، بمنشورات دور النشر الخاصّة التي تعاني ما تعاني من أجل الصمود والبقاء.

أَ لَيْس في هذا تبريرٌ كافٍ لتمجيد مقالٍ يصدرُ في جريدة يوميّة هيَ الجَدَّةُ الشرعيّةُ لكلّ الصحف السيّارة في تونس! لاَ سيّما وأنّ المقال يقدّم كتابا جديدا في بابه يعلّق عليه أستاذٌ مشهودٌ له بالكفاءة يُعْلِمنا، نحن سكّان السباسب العليا والسفلى أيْضا، ببعض الصادر الجديد وبالمواضيع التي تشغل السّاحةَ الفكريّةَ الفنيّةَ حتّى لا ننقطع تمام الانقطاع عن شروط الحياة وننصرف إلى تلاوة الفاتحة على موتانا الذين دُفِنُوا و كذلك على موتانا الذين لم يُدْفَنُوا بعدُ. أ ليسَ ذلك عملٌ يُحْمَدُ للقائمين عليه كاتبٍ وَكِتابٍ وَ مُقَدِّمٍ له ومعلّقٍ عليه وَصحيفةٍ مخبِرةٍ عنه لا سيّما وكلّهم من أهل الدراية و الصَّنْعَةِ الجيّدة.

أمّا المقترح الذي أرفعه لمن بيده حلٌّ وعقدٌ فهو إِلْتِمَاسُ تزويدِ المكتبات العموميّة بكلّ جديدٍ قَبْلَ أنْ يَبْلى وبكلّ قديمٍ لم يَفْقِد جدِّتَهُ لأنّنا ،على زَعْمِي، أحوجُ ما نكون إلى معاودةِ النظرِ في ما يقدَّم إليْنا مِنْ غذاءٍ فكريٍّ/معرفيٍّ/فنّيٍ نَأْمَل منه أنْ يصنعَ عقولاً خيْرا مِنْ عقولنا ، عقولاً تصنع مستقبلاً ناصِعًا لا يكرّر الماضي ولاَ يَنْبَتُّ عنه في ذات الآن.

*مستشار ثقافي سابق/ مسرحيّ.

 

تعليق على " تعليق على كتاب مشاهير المطربين التونسيين اليهود"

للأستاذ عز الدين المدني

بقلم: السيّد العلاّني(*)

لا بدعةَ أنْ يتولّى الأستاذُ عزالدين المدني التعليقَ على كتاب" مشاهير المطربين التونسيين اليهود" للكاتب المؤرّخِ المحقّق فاخر الرويسي.( راجع جريدة الصباح- الخميس4 جانفي 2024) ، فالرجل قد نَذَرَ حياتَه كلَّها للجذر الثلاثيّ "الكاف والتاء والباء" بل لقد قلّبه على جميع أَوْجُهِهِ الصرفيّةِ وصيَغِه التصريفيّة ومعانيه النحويّة. وأنا أجْزِمُ أوْ أكاد أنّ كلّ متتبّعٍ للحركة الأدبيّة العربيّة بعامّة والتونسيّة بخاصّة ، في كلّ تضاريسها الطليعيّة والتجريبيّة ، في القصّة والمسرحيّة والمقالةِ والتراجم ، بل وحتّى في الإشراف على ملاحقَ أدبيّةٍ فكريّةٍ متميّزةٍ بنكهةٍ مخصوصةٍ ومذاقٍ متفرّدٍ وصوتٍ مغايرٍ في زمنٍ ارْتجَّت فيه الألسنُ وتبلّدت فيه الأذواقُ وكاد الناس فيه يهجرون الساحاتِ الأدبيّةَ ، إلاّ ويعترف للرجل بخصالٍ لا يشاركه فيها إلاّ النادرُ من الموهوبين. فمَنْ مِنْجيل سبعينات القرن الماضي وثمانيناته لا يذكرُ فضلَ الأستاذ عزالدين المدني حيث طلع على الساحة الأدبيّة بالملحق الأدبيّ الأسبوعي للجريدة اليوميّة "العمل" حين لم يكن أحدٌ يتوقّع منها ذلك الاصدار الذي أنعش الحياةَ الأدبيّةَ والفكريّة َوما زال إلى اليوم يمثّل مصدرا هامّا لكلّ باحث يروم دراسة اللحظات الفارقة في الحياة الأدبيّة التي مرّت بها تونس في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين. فقد جمع فيه الأستاذُ أقلامًا كانت مُشتتّةً ولعلّها كانت مُحَاصَرَةً لأنّها تسعى كلُّها إلى إرْباك الواقع وتجاوز السائد وإرساء دعائمَ جديدةٍ لأدبٍ جديدٍ ورؤيةٍ جديدةٍ أيضا فاحتضن تجاربَ جريئةً تترسّخ في موروثٍ لا تكرّره ولا تقوّضُه وفي ذات الآن تَبْنِي مستقبلاً لا يَعْقِلُهُ قْيدٌ ولا يغِلُّه شَرْطٌ. ولا ينكر ذلك إلاّ عنيدٌ جاهل.

وَعَلَى ذلك وغيرِه من الاعتبارات يكون تعليقُه على أيِّ كتابٍ مُهِمًّا جدّا ومقصودا وَلاَفِتًا. وَتَـزْدَادُ هذه الأهميّةُ حين يتعلّق الأمر بكتابٍ حول شريحةٍ من يهودٍ تونسييّن ساهموا في إثراء الرصيد الموسيقيّ التونسيّ. يَـفْعـَلُ ذلك في وقتٍ صاخبٍ متوتّرٍ غامضٍ لا يفرّق فيه الناسُ عامّتُهم بين الدينِ والسياسةِ، بين العقيدةِ والفقه، بين الدنيًويّ وَ الأُخْرويّ، بين الفنّ الحرّ والإيديولوجيا المتحجّرة! فيأتي تعليقُ الأستاذ عزالدين المدني ليرفع غِشَاوةً قد تكونُ حجبت عن عيونٍ عناصرَ من الصورة دالّةً فيظنُّ أصحابُها بالكاتب والكِتاب والمقدّمِ له والمعلّقِ عليه ظنونَ سوءٍ لم تخطر على بال أيٍّ منهم إطلاقا. وَقـَبْلَ أنْ يشرعَ الاستاذُ المدني في التعليق نَـبَّهَ قَارِئَهُ إلى أنّه "قرأ الكتابَ وراجعه مرّتيْن مراجعةَ معرفةٍ ونقدٍ "وذكَر مُمَيِّزاتِ الكتابِ فـ"موضوعه غيرُ مسبوق " وهو" شهادة عن جانب عظيم من الثقافةِ التونسيّة وعن أماكن الموسيقى والطرب الشعبيّةِ والراقية" وقد جمع فيه مؤلِّفُه "ما لم يُجمع في غيره وقال في هذه الأيّامِ الساخنةِ ماَلاَ يقالُ لأنّه كاتبٌ فنّان حرّ ...يُعْلِمُ الأجيال الشابّةَ بأنّ النشاطَ الثقافيَّ والفنّيَّ الوطنيَّ قد اضطلع به اليهود التونسيّون بجانب كبير منه ولا تمايز بينهم وبين أبناء عمومتهم المسلمين" ولا يفوت الأستاذ المعلّق أنْ يذكّرَ بـ" الألفةِ التي قامت بين الرعايا المسلمين واليهود منذ أُفُول الدولة الفاطميّة إضافةً إلى هذا الإجمال المتعجّل عن محتوى الكتاب بيّن الأستاذُ بلهجة الصدقِ والموضوعيّةِ والجرأةِ الفكريّةِ بأنّ هؤلاء اليهودَ الذين يتحدّث عنهم الكتابُ" لا علاقة لهم بالصهاينة ولا بدولةِ تلّ أبيب ولا بالأشنكاز المُتأوْرِبين و المُتأمْرِكين ...ولا بأولئك الذين تعلّموا وتدرّبوا عل رسم أطوار التعذيب والقتل وعملوا على التوسّع على حساب الغير واستعمار الآخر المسالم" وهذا تدقيق مهمّ يوضّح موقف الأستاذ من القضيّة الفلسطينيّة توضيحا لا يدع للتأويل الخاطئ مجالاً. أكثر من ذلك فهو يَفْصِل فصلا حاسما بين هؤلاء الصهاينة المَكَرَةِ وبين نخبة اليهود في العالم و مثّلَ للبعض منهم بعالم الاجتماع "بول صبّاغ" الذي أفرد الجامع الأعظم جامع عقبة ابن نافع بكتاب كاملٍ أَوْ دع فيه إعجابه بعبقريّة المعماريّ المسلم في رفعِ بيتٍ يذكر فيه اسم اللـّه كما أنّه أهدى إلى مكتبة جامعة منّوبة كامل مكتبته الخاصّة. والمُعلّقُ لا يكتفي بإدانة الصهاينة فحسب بل يدين كذلك "كلَّ من ساند عصابات السوء والشرّ والباطل... وأيّدها وآزرها بالمال والسلاح وزكّى جرائمها بالتعليل الخاطئِ والمغرض" .

     أَلاَ أَكون بهذه المقدّمة قد أضفت إلى الماء بعد الجهد ماءً!؟ قَدْ يكون ذلك كذلك لكن رجائي أنْ تصبروا عليّ فقصدي من هذا أنّ أتقدّم بملاحظةٍ أعْقُبها باقتراحٍ. أمّا الملاحظة فتتعلّق بالمكتبات في القيروان التجاريّة منها والعموميّة على حدٍّ سواء فالأولى ،على زَعْمِي، لا ينطبق عليها اسمُ مكتبةٍ إذْ هيَ في الغالب الأعمّ "قِرطاسيّات" مدرسيّة تستجيب آليّا ،كأيّ مادّةٍ تجاريّة أخرى ، لِمَبْدَإِ العَرضِ والطلب و لِـلثاَّلوثِ التقليدي ثمنِ الشراء و مبلغِ الكلفة ثمّ نسبةِ الربح لا غير فلا كتب ولا كتّاب ولا حتّى إعلامٌ بالإصدارات الجديدةِ بل إنّ البعض منها يجد، في ما يقتنيه من مُخَلّفَاتِ المعارض من عناوين تروّجُ فكرا يقينيّا متجمّدا ،غنيمةً يَجني منها فائدة ماليّة آنيّة بِبيْعها جوائزَ مدرسيّةً ولعلّه لا ينتبه بعدئذٍ إنْ هيَ أضرّت بعقول ناشئةٍ تتطلّع إلى عصر عقلانيّ لا يهدأ فيه بالٌ ولا يستقرّ فيه مآل. أمّا المكتبات العموميّة فإيقاعُها إيقاع الادارة تُفْتح وتُغلق بتوقيتها وتتعطّل بعُطلها يُرْبِكُها كلُّ تغييرٍ ولا تَعْمُرُها غيرُ كتبٍ كانت جديدةً في عصرها الذي فات لكنّها قديمةٌ بالنسبة إلى ماهو آت وحتّى الدراسات التي تناولت تلك المراجعَ بالدرس والتمحيص والتحقيق نادرا ما نعثر عليها إنْ لم تكن منعدمة في رفوف مكتباتنا العموميّة التي لاتصل إليها حتّى منشورات المؤسّسات الرسميّة مثل منشورات بيت الحكمةِ والمعهد الوطنيّ للتراث ودوريات وزارة الثقافة والكليّات و"كاتالوكات" المعارض الفنيّة ومنشورات مركز البحوث والدراسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة و منشورات الكليّات وقل مثل ذلك عن منشورات المؤسّسات العربيّة والإسلاميّة ومعاجمها المتنوّعة المتخصّصة ودوريّاتها المُحكّمة المعتمدة فنفر عن هذه المكتبات قرّاؤها وانقطع عنها المشتركون إلاّ القليل النادر من تلاميذَ وأساتذةٍ طَالِبي التحصيل العلميّ النفعيّ الآنيّ فما بالك إذن ، والحال على ما وصفتُ، بمنشورات دور النشر الخاصّة التي تعاني ما تعاني من أجل الصمود والبقاء.

أَ لَيْس في هذا تبريرٌ كافٍ لتمجيد مقالٍ يصدرُ في جريدة يوميّة هيَ الجَدَّةُ الشرعيّةُ لكلّ الصحف السيّارة في تونس! لاَ سيّما وأنّ المقال يقدّم كتابا جديدا في بابه يعلّق عليه أستاذٌ مشهودٌ له بالكفاءة يُعْلِمنا، نحن سكّان السباسب العليا والسفلى أيْضا، ببعض الصادر الجديد وبالمواضيع التي تشغل السّاحةَ الفكريّةَ الفنيّةَ حتّى لا ننقطع تمام الانقطاع عن شروط الحياة وننصرف إلى تلاوة الفاتحة على موتانا الذين دُفِنُوا و كذلك على موتانا الذين لم يُدْفَنُوا بعدُ. أ ليسَ ذلك عملٌ يُحْمَدُ للقائمين عليه كاتبٍ وَكِتابٍ وَ مُقَدِّمٍ له ومعلّقٍ عليه وَصحيفةٍ مخبِرةٍ عنه لا سيّما وكلّهم من أهل الدراية و الصَّنْعَةِ الجيّدة.

أمّا المقترح الذي أرفعه لمن بيده حلٌّ وعقدٌ فهو إِلْتِمَاسُ تزويدِ المكتبات العموميّة بكلّ جديدٍ قَبْلَ أنْ يَبْلى وبكلّ قديمٍ لم يَفْقِد جدِّتَهُ لأنّنا ،على زَعْمِي، أحوجُ ما نكون إلى معاودةِ النظرِ في ما يقدَّم إليْنا مِنْ غذاءٍ فكريٍّ/معرفيٍّ/فنّيٍ نَأْمَل منه أنْ يصنعَ عقولاً خيْرا مِنْ عقولنا ، عقولاً تصنع مستقبلاً ناصِعًا لا يكرّر الماضي ولاَ يَنْبَتُّ عنه في ذات الآن.

*مستشار ثقافي سابق/ مسرحيّ.