قصّة قصيرة : صلاح بوزيّان
تبدّل الجوّ فجأة فأتى على أبي سروال السّقطي حين من الدّهر لم يبع قطعة من الأطمار في دكّانه ، ولقد شغلته نُتف من أخبار المدينة كان يتسقّطها صباحا في المقهى ، شيخٌ و يذهب إلى المقهى و لا يستتر من أهل المدينة ، أصَمَّأذنيه عن أقاويل المغتابين ، حيّره أمر البنّ والسّكر والزّيت، وكان يُتعبه حديث الجمّالين وتزعجه أخبار الحمقى المتناثرة في المقاهي وعلى الأرصفة و بين الأزقّة، عراكٌ على الخبز الأبيض السّمج و صحاف اللّبلابي وكسكروت الكفتاجي وفراريج، وطوابير المدارس الخصوصيّة التي تتكاثر كالنّمل، يأسف للأشياء الثّمينة ترهّلت وغدت سلعة تباع وتُشترى بالمال ، ويرى المال بأيدي الأسقاط والأخلاط و يتأبّى على الشّريف ، وذات صباح اجتاز باب تونس فوجد ناسًا شدادا غلاظا اجتمعوا على رجل يضربونه و يصايحونه في شيء و قد أصبح خرقة بالية بين أيديهم، وكان من بينهم شيخٌ وقور كأنّه قاضي القضاة ، كان يصفعُ الرّجُلَ و يعين الحانقين ويقول:(جلبناك من تونس لنقتصّ منك، أتيت بغتة و أكلت مالنا ونهبت السّوق واستبحت المدائن، تالله إنّك لصٌّ ومُخرّب في ثوبِ ناسكٍ لعنك الله أينما حللتَ، هذه عثرة الخائنين، قبّحك الله و سوّد وجهك هنا وهناك). وكان صوت يأتي من جوف المدينة يردّد:( زدهُ فإنّك مأجورٌ).. تأسّف أبو سروال السّقطي لحال المدينة ، لقد سقط جزء من السّور على حين غفلة واتّضح العجز والإهمال ، والقرى مسّتها نار التّمائم و النّبيذ و المكائد ، والدّروب تلوّثت بالأدخنة والأراجيف والسِّحْرِ، والمنابر تلطّخت بزيغ الأفّاكين ، يستقسمون بالتدّجيل والخديعة ، وأحزنته مضاربة التُّجار المياسير، تبرّم أبو سروال من السّلطان يتكلّم كثيرا ولا يسمعُ ، خاب ظنّه فيه بعد سقوط جزء من سور المدينة و انتشار الغلاء في البلاد ، و يذكر أنّ بنّائين قضّوا السنوات في ترميم الجزء الدّاخلي من السّور من جهة باب الجديد ، وكان يمرّ و يراهم يطبخون الشّاي ولا ينطلقون في العمل إلاّ بعد العاشرة صباحا ثمّ ينصرفون عند منتصف النّهار بلا رقيب ولا حسيب، وكانوا يستعملون نوعا من حجارة طينية هشّة يرصّفها خدّامٌ في السّور، بعد أن يقلّع القديمة مبلّلة بالية، انتابه الحزن سنوات على بيوت قديمة هجرها أهلها ، التهبت فيها الحياة و صارت اليوم خاوية على عروشها ، يأوي إليها السّراق و عشّاق الرّذائل و الحشّاشون ، بيوت كانت تزهر بالتّراتيل آناء اللّيل وأطراف النّهار، ولولا ألطاف الله و أنّه ينتسب إلى أبي سعيد الحدّاد لتسرّب إليه اليأس وغالبه القنوط وهجر المدينة ، و ركب قاربا مع الفارّين من الأهوال و يمّم إلى لامبادوزه ، عَشِقَ أبو سروال السّقطي تجارة الملابس القديمة، و وجد فيها رزقًا و عفّة، وانسابت معه الدّنيا، فكان يكسبُ المال الوفير طيلة أشهر، وتقفرُ التجارة وينعدمُ الرّزق أياما و أشهرا لأنّه يُنفقُ ولا يعدّد ُ ولا يدّخرُ، ممّا أفسد عليه ماله وأفلس عديد المرّات، إلاّ أنّه لا يذيعُ ذلك بين النّاس، وما أكثر الشامتين و المنافقين بدون سبب في المدينة ، و كان أثناء ذلك يلازمُ الصّمتَ و يطيلُ التّفكُّرَ، وتأبى نفسه أن يُعلمَ صديقًا كلّما راودهُ شيطان الطّمع فيما بين ذلك ، خاض معارك و حقّق بطولات وهو من الذّين أعدّوا لكلّ معركة سلاحها ، وأخطر سلاح يمتلكه رباطة الجأش و التّوثق بالله خَبِرَ طِبَاعَ أهل المدينة و أوقعته التّجاربُ في حبالهم ونجا مرّة تلوى خرى ، واكتفى ليالٍ بقليل من الكسكس ترسلهُ إليه أخته من المطعم الشّعبي الّذي آثرتها به أمّهما الحاجّة هناء خلسة قبل وفاتها وأبرمت عقد الملكية ، وكان كلّما تذكّر فعلة والدته أجهش بالبكاء وقال " أوتفعلين يا أمّي ، وأنا الذي استنقذتكم من الهوان وأعليتُ بنيانكم بعد أن هدّته القبائحُ ، يا ويلك يا أختي من يوم غد". و لم يصارح أخته بالموضوع ، سَهِرَ ليلهُ يتدبّر أمره فوقع له الرّأي في الثّلث الأخير ، وفي الصّباح ذهب إلى السّوق و اشترى الهدايا والمقروض وخبز الحاكم و أكياس شاي ليبيا والحلوى و الطّحين و عُلبَ الياغورت .. واكترى شاحنة ايسيزي و ملأها بضاعة خضرا وغلالَ تخيّرها و انتقى أكياسًا من ملابسه القديمة ، أحذية ومعاطف وأكسية وجوارب و قمصانا صوفية ، و عرّج على الجزّار فيشتري نصف شاة ، و مالَ إلى الفحّام وابتاع كيس فحم ، ثمّ مضى إلى أحبابه يخترق الفجاج ، وحلّ بينهم و كان يجلسُ معهم و يرى السّعادة على وجوههم ، والفرحة به تنبعُ من قلوبهم بلا خديعة و لا مكرٍ و لا طمعٍ ، فيقضّي عندهم أياما يستريح من شواغل الدّنيا و يتدبّر أمره وهو يتنعّم بالهواء النّقي والسّجايا الطّيبة و يستلذّ الطّعام والشّاي الأحمر والعصيدة.. ويأوي إلى كهفٍ غير بعيد يطيل فيه البقاء بين صلاة و مناجاة ، ثمّ يأتي أحبابه فيضحك بين الفينة والأخرى هؤلاء أحبابه الذين اتّخذوه رأسًا و سندا و متكأ ساعات العسرة وأيّام الضنك وسنين الجدب، علّمهم و كساهم و آواهم .. كان يلاقي كبارهم و يتشاطر معهم الحديث عن حبيبه الغوث " المدّب غرس الله " و ابن أبي زيد القيرواني و محرز بن خلف و شقران .. و يستمتعُ بمغامرات الفارس عمارة بن الحاج صالح الشّريطي .. و تمضي الأيّام بسرعة مذهلة فيعود إلى المدينة. اعتاد أبو سروال الجلوس في عتبة دكّانه يتلمّس الدّفء ، دكّان شرقي متّسعٌ بابه خشبيّ سميك .. يقعُ قُرب زاوية عبد السّلام الأسمر..و كان بين الفينة والأخرى يحثّ الخطى إلى البضاعة ، يرتّب الملابس ، وينثر ما علق بها من تراب و أدخنة و أبخرة ، ويمسح ما اندرس من علامات تبدي جودتها. إنّك حينما تطالع وجهه تتأكّد أنّه مقاتل لا يكلّ، بعض التّجاعيد على جبينه، و بريق نور على صفحة وجهه الأسمر. تملّكته الحيرة منذ أيّام ، كان يطيل الاستذكار والموازنة ، ويطرق كلّ باب وهو يفكّر في الخلاص، ويطلّ عليه باب الله فيتيقّط فيه الأمل رغم أنّه لم يبع قطعة واحدة من كيس الملابس. ويذوق طعم النّوم و يتنعّم بكسكس أخته، صابر ينتظرُ الفرج من الله داخل الدّكان ، الدّكان عالي السقف ، شرقيّ مربّع ، فيه نافذة فوق الباب ، ومسامير قديمة مصفوفة وموغلة في الجدار حدّ نصف الطّول، تتدلّى منها معاطف و بدلات رياضية وكسوات و أقمصة و سراويل و قلانيس و فساتين نساء و قبّعات وأحذية ملطّخة بمسحوق التّلميع، ينبعث الهدوء في أركان المحلّ. كان أبو سروال عطوفا على الغلابى والمساكين .استقرّ عزمه على مساعدة المعوزين و لو أدّت به الحال إلى الإفلاس ، ولقد قارب الإفلاس و نجا ، وكان كلّما أوغل في المساعدة أوشك على الإفلاس و تتخطّفه الرّحمة الإلهية من براث الهلاك ، فيسلم و يعود من جديد ، إلاّ أنّه لم يقلع عن ملاطفة المحتاجين ، كانوا يشترون منه الملابس بأثمان بخسة تصل حدّ نصف حقّها الأصلي و يؤجّلون الباقي لوقت غير معلوم، و يتقادم الإمهال و تتراكم الدّيون، و تأخذه سِنة و غفلة أبو سروال من أخذ و من أعطى، ولا يبالي ، و يكتفي بنظراته في وجوه الفقراء رأس كلّ شهر، علّه يستردّ بعضا من الأثمان و لكن دون جدوى، فيرضى لنفسه السّكات والصّبر.. غضب عليه تُجّار الروبافيكيا و لم يكفّوا تأنيبهم له .. و ساسوا ديونه بالأناة و التّفهم.. وأدركوا أنّ الرّجل أهلكه تحنانه على الفقراء والمحرومين .. فسامحوه، وعقدوا العزم أن يعطوه كيس ملابس تفضّلا منهم و كيسين بنصف الثّمن ، واتّفقوا على أن يدوم هذا الأمر سنتين لا أكثر و لا أقلّ ، علّ أبا سروال يستنهض همّته و يتطهّر من الدّيون و يستنكف من إثقال المحتاجين ، إلاّ أنّ الهاني كبير التّجار أخفى وثيقة حبّرها إثر الاجتماع ، ثمّ بعث أحد أعوانه إلى أبي سروال ليُناقله كلام التُّجار المنبثق عن مجلسهم ، كان أبو سروال واقفا يحاسبُ زبونا ، وفجأة أطّل مسعود ضاحكا و سلّم عليه ، فردّ أبو سروال السّلام مرتعدا و أوجد له كرسيًّا، انصرف الزّبون ، تهالك السّقطي على المقعد ليستجمع قواه وقَدْ انزعج وتحيَّرَ، تمهَّلَ ثمَّ قال متظاهرا بالثّبات:( مرحبا بك سي مسعود ، كيف حال سي الهاني و جماعته ؟ والله يا سي مسعود إنّني ..)، فقاطعه مسعود قائلا:( يا أبا سروال، أنت رجل أمين و أصيل ، تحسن إلى النّاس و ترضى لنفسك بالرّبح القليل و أحيانا الدّيون والإفلاس ، نحن نعرفك منذ تاجرتَ في الجّريد قُربَ أبي علي النّفطي وهاجرت إلى بغداد قُربَ الجيلاني ثمّ صرفت أياما في دمشق عند ابن عربي ومكثت بالمدينة المنوّرة ثمّ عُدْتَ إلى القيروان، هذا بعض منكَ ، و أزيدُكَ زيادة أليس حبيبك محرز بن خلف و عبد الله بن أبي زيد و القابسي و يوسف الدّهماني و المدّب غرس الله ؟ لقد بلغت مبلغ الرّجال نحنُ نعلم كلّ شيء ، جئتُ الآن لأبلّغك سلام التجار وأعلمك أنّهم اتّفقوا أن يأخذوا بيدك ، ولن أطيل عليك و اجْتَهِدْ أن تذهب معي إلى كبير التّجار ليحدّثك )، وكان أبو سروال يَجْفُنُ نفسه عن البكاء، و بحار الشّوق الهائجة تمور.. و يهمسُ: (رحمتك يا ربّي رحمتك)، أسرع فألقى برنسه على كتفيه وعمد إلى باب الدكّان فأغلقه، و أطبقَ فمه و انطلق مع مسعود إلى شركة الهاني ، ونفسه تحدّثه مرّة بالخلاص وأخرى بالهلاك ، ووسواسُ الدّين يتوعّده. ركبا السّيارة ، لم يشعر بشيء ، كان تائها حائرا واجما يجمّل نفسه باليقين في الله ، رغم أنّ مسعود كان يحدّثه عن أحوال البلاد ، و يبدي رأيه في مجلس النّواب والقوانين الجديدة و يبثّه الأخبار، إلاّ أنّ أبا سروال يرى أحوال البلاد في أحواله و أحوال من حوله من الغلابى والمعدمين ، يسعد إذا سعدوا و يحزن إذا حزنوا، وكان يقطع قيود الشيطان بسيف اليقين البتّار و يفتّت حبال الخوف ، مَرّ الرّكبُ بحيّ محمّد علي والمنصورة ، تعطّلت السّيارة في الزّحام ثوان ، فلمحَ زبونا اشترى منه ملابس كثيرة وأخلف الوعد في مائة دينار، وما إن وقعت العينعلى العين حتّى استخفى بين النّاس، والسّيارة تسرعُ ، فقال أبو سروال في نفسه:( اهنأ سامحتك ، ولعن الله الدَّيْنَ حيرة باللّيل و مذلّة بالنّهار)، بدأت السّيارة تقتربُ من موضع الشركة ، تهيّأ وجمعَ أطراف برنسه ، رويدًا رويدا وصلوا إلى مقرّ الشركة في حومة علي باي ، نزلاَ و دخلاَ ، هذا مكتب واسع ، و خدّام في المدخل ، و عربات تنقل الأكياس في الشّارع ، و شابّ يجلسُ أمام طاولة عليها حاسوب وأكوام أوراق، هناك رجلان يعدّان مالاً ، دلف مسعود وأبو سروال إلى داخل الشّركة ، مكان فسيح عالي الأسقف ، دافئ و نظيف ، مبلّط بأجود أنواع الرّخام ، و ما إن فتح مسعود بابا مجلّدا حتّى هبّ الهاني إلى أبي سروال يقبّله و يسلّم عليه بحرارة و رائحة عطر فاخر تنبعث من معطفه الكشمير، قال:( لماذا غبتَ عنّي يا طيّب ؟ ألأجل الدّيون تهجرنا ؟ أليست بيننا مودّة و عشرة ؟ ) فقال أبو سروال وهو يكاد يسقط من شدّة الفرح ، وقد أخذ موثق الأمان :( يا سي الهاني أنت رجل تاجر لك شواغلك و لا أريد أن أشغلك بأحوالي ، إلاّ أنّني كنتُ أتدبّر أمر خلاص الدّيون و ..) فأردف الهاني:( يا رجل لا تشغل بالك ، نحن اليوم بعث إليك لنشدّ أزرك و نقدّم لك مقترح عمل ، وقبل ذلك لنشرب القهوة ثمّ نتحدّث و لا تخرج من هنا إلاّ وأنت مسرورا منصورا )، تقدّم الخادم بطبق القهوة و قطع المرطّبات ، استمتع الرّجال وهُمْ يتندّرون و يضحكون و يستحضرون الأيّام الخوالي ،عندما كانوا يذهبون إلى الأسواق الأسبوعية معا ، ويحملون أكياس الروبفيكيا وأثقالهم في حافلة الرّابعة صباحامنذ 1970،انْفَضَّ المجلس ، فخرج أبو سروال من الشّركة و في يده عقد شراكة مع الهاني ، وخرقة أوثق فيها خمسة آلاف دينار، مالت الشّمسُ و هبّ الدّفء على المدينة ، و حَلاَ الوقتُ ، دخل أبو سروال السّوق ، و تذكّر جيرانه فاشترى لحما و سمكا و خضرا وغلالا و خبزا ودقيقا و بنًّا و زيتًا و استأجر عونًا أوكل إليه حمل قفّته واستأثر بقفّة الجيران ثقيلة دسّ في سافلها مائتي دينار ألصق أوراقا عليها أسماء في الأوراق النقدية العشر، و نثر في عاليها الحلوى و عُلب الياغورت و الحليب و قنينات زيت و أكياس البنّ و السّكر، وجاس خلال الدّروب و الأزقّة و التّابعُ وراءه يتعقّبه و يلهثُ و يتطلّعُ إلى الأبواب و السّقوف .. و يمّم شطر الزّقاق الدّقيق ، وقف أمام أوّل بيت وأعطى العون أجرته و صرفه ، ثمّ دقّ الباب ، خرجت امرأة تستطلعُ الطّارق فغمرتها الفرحة وهي تردّد:( سيدي مرحبا يا سيدي ) أعطاها القفّة و أشار إليها بسبّابته و إلى البيوت المجاورة ، ثمّ وضع سبّابته على فمه ، فأحجمت ، استطاب سكاتها وتبسّم لها وانطلق نحو دكّانه .