اختار أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية، مولدي الأحمر، أن يحتكم إلى التفكير والشرح والتفسير المعمق في حديثه لـ"الصباح"، الذي تطرق فيه لهذا الموضوع، من خلال الإجابة عن بعض الأسئلة والاستفسارات حول أسباب حظوة رئيس الجمهورية قيس سعيد بثقة أغلب التونسيين بعد أربع سنوات من انتخابه رئيسا للجمهورية؟ وسبب تواصل هذه الثقة في مرحلتي حكمه تلك، رغم تواصل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والوضع المتردي وما خلفه من صعوبات. مقابل المحاولات المتكرر للمعارضة بمختلف تياراتها وألوانها "شيطنته" داخليا وخارجيا ومحاولات التصدي لمشروعه ومقاطعة و"عرقلة" المسار الذي يقوده؟ وقد أجاب المختص في علم الاجتماع والمتابع بشكل خاص لما هو اجتماعي سياسي، عن ذلك وغيرها من الاستفهامات الأخرى في الحوار التالي:
حاورته: نزيهة الغضباني
*لننطلق من الراهن هل يمكن الحديث عن ثقة في علاقة التونسيين برئيس الجمهورية قيس سعيد إلى حد هذه المرحلة؟
-أنت تشيرين بسؤالك إلى ظاهرة سياسية تونسية مثيرة بإمكان جريدة "الصباح" أن تخصص لها حوارات عديدة مع نخب مختلفة من المتخصصين الحقيقيين، فهذا شأن عام والنقاش فيه ملح خاصة من طرف المعارضين لقيس سعيد.
اسمحي لي بالقول أن الأساس الخفي للحيرة التي تتضمنها صيغة السؤال كما تطرحينه هو الانطلاق من نموذج نظري رسخته الديمقراطيات اللبرالية العريقة، حتى أصبح أداة قياس سياسية، مفاده أن الثقة في المسؤول السياسي ترتفع أو تنزل بقدر تحقيقه للإنجازات التي وعد بها خلال فترة زمنية مضبوطة. دعيني أقول لك أن قادة النظم الديمقراطية اللبرالية في الغرب لا يقومون كأشخاص بإنجازات فارقة بصفتهم تلك، أي عندما يكونون في الحكم، إلا في الحالات الاستثنائية التي يتزعمون فيها نخبة لها مشروع إصلاحي أو تحريري يتجاوز مؤقتا التناقضات السياسية الكبرى (تشرشل، ديغول...). أما في الحالة الروتينية فإن قادة النظم الديمقراطية اللبرالية مجرد منسقين ناجحين/فاشلين لعمل مؤسسات ليس لهم عليها سلطان، وهم غالبا لا يبتكرون البرامج بل يتبنون مقترحات تأتي من مؤسسات مختلفة تتابع الوضع الاجتماعي والسياسي والأمني بمهنية لا يملكها الرؤساء والوزراء. والمسؤول الجيد هو الذي يكون "مايسترو" ناجحا في تحقيق المشاريع التي تخدم مصالح شرائح واسعة من المجتمع. وأنا ربما أخيب ظنك عندما أقول بأن المسؤولين السياسيين في النظم الديمقراطية الراسخة لا يغيرون الواقع في الاتجاه الذي تتمناه أوسع الشرائع في المجتمع إلا بمقدار ضئيل جدا، وذلك لأن النموذج الذي أنتجهم قد حدد اللعبة اقتصاديا وإيديولوجيا منذ زمن، وأصبح الناس يرون ما ينبغي لهم أن يروا لا ما هو كائن حقا.
في تونس سبب الحيرة، أحيانا العفوية وأحيانا المفتعلة، هو أن هذا المقياس النظري، الذي لا تعرف النخبة غيره، لا يشتغل أي لا يفسر تشبث المواطنين، على الأقل بحسب قياسات الرأي العام، بشخصية سياسية تقول عنها المعارضة إنها لا شرعية ولا تنجز شيئا. والحقيقة أننا لسنا في حالة ديمقراطية ليبرالية راسخة حتى يشتغل النموذج، بل في مرحلة البحث عن ذاتنا السياسية والمعيارية. ربما يبتسم البعض لهذا القول، ومعه حق عندما يكون فكره يعرف الأجوبة قبل طرح الأسئلة، لكنني أتعامل مع المسألة بجدية تامة، فالثورة التونسية أعادت طرح قضية جدية على نموذج الديمقراطية اللبرالية يتجاوز المسألة السياسية التي كانت هوس فلاسفة الحداثة الغربية، وذلك من داخل المعايير الإنسانية المشتركة ذاتها التي غطتها الرأسمالية: كيف يمكن للإنسان أن يحيا حياة كريمة ليس فيها تعاسة المحرومين التي وصفتها أمهات الكتب السوسيولوجية والأخلاقية، والتي انطلقت منها كل الأديان لتزعم أنها وجدت لها الحل في عبادة قوى غيبية مختلفة؟
لهذه الأسباب، ولغيرها لا يتسع المجال لذكرها، تصيب الملاحظ في تونس حيرة أمام ظاهرة قيس سعيد، وستستمر حيرته طالما لم يتحرر من القوالب الجاهزة التي يحاول تطبيقها في سياقات تاريخية ومجتمعية مختلفة. وفي تقليدنا السياسي التونسي المتواضع عندما لا نفهم نسُب ونلعن ونتهم، وهذا السب والغضب يشتغل أحيانا غطاء يخفي العجز ويمنع من النظر إلى الظواهر بموضوعية وبروح نقدية تستهدف الذات والآخر.
*وما هو تفسيرك لتواصل هذه الثقة، رغم إجماع عديد الجهات على غياب المنجزات .. وعدم تحقق الكثير؟
-سأورد لكم شهادة لسياسي تونسي عريق في المعارضة سجن وناضل طويلا، ولا أحد قادر على المزايدة عليه في معارضة قيس سعيد، وقد صرح لي بها منذ أيام فقط: "نحن نطالب بمقاومة الفساد، سعيد يقوم بذلك، نحن نطالب بتغيير المنوال التنموي، سعيد له نفس الهاجس، نحن نطالب باسترجاع السيادة الوطنية، قيس سعيد يرفع نفس الشعار! ما الذي يفرقنا؟ استبداده برأيه والعمل دون تشريك من يتفق معه مبدئيا في هذه القضايا دون تحقيق نتائج، لا بل وضع المعارضين في السجن... وأضيف استنكاف قادة أحزاب عريقة في معارضة بن علي من العمل تحت سلطة وافد طارئ على السياسة"!
في هذا التقويم، من طرف معارض محترم لقيس سعيد، عندك نصف الجواب على سؤالك: خلال العشر سنوات التي تلت الثورة، وقبل تولي قيس سعيد رئاسة الدولة، كانت القضايا التي عددها هذا المعارض مطروحة بجدية، لأن الثورة قامت ضد الاستبداد الذي كرس الفساد منهجا سياسيا واقتصاديا، مدمرا في طريقه ركائز كل نهضة مجتمعية، وهي حرية الفكر والتعليم والصحة والنقل وثقافة العمل والاستحقاق المهني. لكن الثقافة السياسية التي غلبت على الأحزاب المُعارضة التي نشأت في ظل الاستبداد،وأسُسُ القيادة فيها، وغربتها الإيديولوجية، يمينا ويسارا ووسطا مزعوما، وكذلك ارتباط بعضها بمصالح فئات اجتماعية ضيقة هيمنت طويلا على الاقتصاد والسياسة، جعلها إما غير قادرة على الاستيعاب التنظيمي والفكري لمشاغل الثورة أو رافضة لها.
وهكذا أصبحت بعض هذه الأحزاب تخوض صراعات سخيفة لجلب أتباع منافسة تتفق معها في كل شيء إلا في القيادة (في اليسار خاصة)، وبعضها كان يمثل من اعتبروا أنفسهم متضررين من الثورة، وآخرون يريدون ضمان مكانهم وبقائهم ومستعدون لكل التوافقات تحت مسميات براقة. وفي الأثناء نسي الجميع الفساد ونموذج التنمية والسيادة الوطنية، وما تولد عن ذلك هو سقوط الأخلاق السياسية إلى الهاوية. ولقد شاهد التونسيون قادة سياسيين في مستوى رئاسة مجلس النواب وغيره يحضرون مجتمعين (بكل الرمزية التي في ذلك) حفلات زفاف مطلوبين للعدالة فاقدين لكل اعتبار ثقافي أو فني أو علمي يستحق التقدير والإشادة وطنيا... وفي ما كانوا هم يمثلون بطريقة تثير السخرية مسرحية الحداثة، كما كانوا يفهمونها، كان منافسوهم يحاولون ترتيب شروط استعادة المكاسب والمغانم دون فكرة استثمارها في ما يرفع من مستوى حياة الناس.
*إذا كيف تفسر المسألة..؟
-يمثل قيس سعيد حالة وفدت على الساحة من خارج هذه التجربة الهزيلة، فكثير من المراقبين والمعارضين يصفونه بأنه خارج عن التصنيف، بمن فيهم صاحب الشهادة التي عرضتها. وهو خارج عن التصنيف ليس لتجربة سياسية مميزة خاضها لمدة طويلة وصنعت منه أيقونة، بل لخصال اجتماعية وشخصية، توافقت مع الحظ والسياق بمفهوم ماكيافيلي، ومع تمثلات شرائح المحرومين والمهمشين والمحتقرين الواسعة في تونس. في بحث ميداني أجريناه بشكل مبكر في المناطق التي انطلقت منها الثورة صرح الناس بنسبة 95% بأنهم ثاروا ضد الفساد. ومفهوم الفساد ليس ميتافيزيقيا بل هو في منتهى الكثافة السياسية والأخلاقية. وهذا ما يتوافق مع صورة النقاء التي يتمثل بها اليوم هؤلاء الناس قيس سعيد. فهو يظهر في هذا السياق الذهني، بالنسبة لكثير من الناس، كمن يقود خيل الخير ضد خيل الشر، وذلك رغم بعض الجوانب الكاريكاتورية في هذه المعركة. والسبب هو أن الذين حكموا بعد الثورة أسقطوا من حسابهم الرمزية الأخلاقية لهذا المطلب، لقد اعتبروا أن لا معنى له من الناحية السياسية العقلانية والموضوعية حسب ثقافتهم السياسية النمطية، ومن رفعوا هذا الشعار وهم في السلطة اكتشف الناس بسرعة عدم صدقية ما يقولونه قياسا بما يفعلونه، وخاصة ممارسته الانتهازية، وهذا عكس قيس سعيد رغم تعثره ورغم ما يمكن قوله بشأن فاعليته. وبلغة ذكورية تونسية قال لي الكثير: "طلع أرجل منهم وأشجع منهم (هم تعود على المعارضة الحالية) في عدم التردد في إخضاع من اعتبر نفسه محميا للمحاسبة".
من الناحية الاجتماعية لا يأتي قيس سعيد من أصول تزعم لنفسها احتكار "قماش السلطة"، ولا من منطقة هيمنت طويلا على آليات وشبكات التحكم في السلطة والمنافع. وبسبب أن نخبة المستثمرين العليا في تونس، تلك التي تحدد التوجهات الاقتصادية للبلاد، هي في الأصل من إنتاج الدولة التونسية، خلافا للتجارب المرجعية الأوربية في المجال، فقد بدت بعض التيارات السياسية التي تشكلت بعد الثورة، وتمثل جانبا من هؤلاء المستثمرين، في ثوب من يدافع على مكانة فئة أو على جهة. في سيدي بوزيد قال لي أحد السكان سنة 2011: "يكفي ما هزوا الجمر بأيدينا"، يقصد أن النخب السياسية تستخدمهم فقط في معاركهم الفوقية عبر الانتخابات داخل الحزب الحاكم (كان في ولاية سيدي بوزيد أكثر من 600 شعبة دستورية). من هذا المنظور يبدو قيس سعيد شخصية متحررة من ماضي اجتماعي وسياسيّ، لا يمكنها تجاوزه، ومن ثمة فهو يبدو مقنعا – على الأقل على مستوى الخطاب- في محاربته للفساد بقطع النظر عن طريقته في تحقيقه لهذا المطلب، وهذا هو مصدر الثقة الشعبية فيه.
*هل تعني أن المعارضة وكل مكونات الطبقة السياسية ساهمت في بشكل مباشر وغير مباشر في ذلك؟
-ليس المجال هنا لتقييم ما إذا كانت طريقة قيس سعيد في استيعاب مطالب الثورة مثمرة أو مدمرة كما يقول معارضوه. كما أن ما أنجزه حتى الآن من مشروعه الذي يبدو مسقطا من فوق -ربما احتذاء ببورقيبة، فلا أحد من الفلاحين طلب التعاضد مثلا- موضوع جدال ونزاع. ومع ذلك فإن جزءا من النقاش قائم على ثقافة سياسية هزيلة لم يسأل أصحابها أبدا أنفسهم إن كان "الشعب" -بصفته مكونا من أفراد تصرفوا كمواطنين خرجوا لتوهم من كتاب "العقد الاجتماعي" لروسو- هو فعلا من اختار الذين وصلوا إلى مجلس النواب سنة 2014 و2019 وحتى 2022، وأنا أتكلم هنا بناء على دراسات وليس على تخمينات. لكن من المهم ملاحظة أن المعارضين للرئيس لا يطرحون بدائل تذهب في نفس الاتجاه الذي يتحدث عنه قيس سعيد وتحدث عنه أيضا السياسي الذي عرضت شهادته، بل يركزون على لا شرعية ما قام به رئيس الجمهورية منذ 25جويلية 2021وعلى احتكاره للسلطة.
وكما هو معروف في الحالات الانتقالية الكبرى نادرا جدا ما تقود الدساتير، بشكل حرفي، خطى السياسيين الذين يقدرون أن ما هو سائد مكبل للإرادة، ولا تصبح الإجراءات مقدسة إلا عندما تشيد مؤسسات وضوابط دستورية عليها اتفاق عام، وحينها ينتهي السياسيون بأن يكونوا هم ذاتهم من إنتاج روتين عمل تلك المؤسسات والقوانين. وبسبب التركيز على لا شرعية 25 جويلية بدا المعارضون كأن هاجسهم الوحيد هو السلطة، رغم أن طيفا واسعا منهم رحب بذلك الإجراء في البداية ربما باعتباره منفذا نحو تلك السلطة وقد خابوا في الوصول إليها انتخابيا. وما ترتب على ذلك هو الامتناع عن مشاركتهم السياسية في بناء المؤسسات الجديدة. صحيح أن المعارضة محقة في رفض دستور لم تشارك في كتابته، لكنها في فلسفة معارضتها لقيس سعيد ظلت حبيسة فكرة اللاشرعية دون استعادة ضمير مطالب الثورة، ما جعل عملها دون أفق سوى أفق استعادة السلطة بعد عشر سنوات من الفشل السياسي. وهذا لم يغب عن وعي حتى أبسط مواطن التقيت به.
*لماذا لم يذهب الناس وراء المعارضة رغم المحاولات المتكررة لاستقطاب الشارع والمراهنة على الأزمات والوضع الاجتماعي المتردي..؟
-بقي هذا السؤال مكبوتا في ثنايا سؤالك عن أسباب الثقة في قيس سعيد. وهذا سؤال مهم تتحاشى المعارضة الخوض فيه علنا لأنه يكشف هزال الثقافة السياسية في تونس. وكخلاصة: في حالات التحول الكبرى لا تفهم الظاهرة السياسية بأدوات تجارب أخرى رسخت نظما سياسية تحولت إلى روتين يعمل خارج إرادة المسؤلين طالما لم يدخل هذا النظام في أزمة فارقة. والجرأة السياسية تقتضي في الحالة التونسية طرح هذه القضية بمسؤولية، وبناء مواقف على أرضية النتائج التي يفرزها النقاش.
*لماذا تحظى تحركات وزيارات وتصريحات سعيد، على خلاف بقية الرؤساء الذين سبقوه، بمتابعة واهتمام المواطنين ..؟
-يمكن أن أبني جوابي على ما قلته في الفقرات السابقة. وهنا أستحضر نقطة هامة جدا في نقد المعارضة لسلطة قيس سعيد بوصفه رئيسا للجمهورية. وهي أنه بصدد بناء منظومة سياسية تجعله في الصدارة في كل شيء والمسؤول الأول عن كل شيء، وهذا أمر غير مقبول وليس من مصلحة قيس سعيد في حد ذاته. فمثل هذه النظم لا تنتج مؤسسات بل تخلق أتباعا، والأتباع لا يشكلون مؤسسة أو فكرة، بل هم حرفاء سياسيون يمكن أن يتفرقوا في يوم واحد كما حدث للباجي قائد السبسي ولمعمر القذافي ولصدام حسين والأمثلة كثيرة. قد يجيب قيس سعيد بأن المرحلة انتقالية، وأنه بصدد بناء مؤسسات جديدة تعيد الصلة بين المواطنين ومؤسسات أخذ القرار، وحين تترسخ وتنتج هذه المؤسسات روتينها الخاص سيتخلى بذلك الرئيس، أيا كان، عن احتلال الصدارة. في واقع الأمر، ومن منظور التجارب السياسية المعروفة، نادرا جدا ما تخلى رئيس، يعتبر نفسه مؤسسا، عن مواصلة إدارة ما يعتبره ثمرة عمله الخاص، والمثال الحاضر هو بورقيبة والرؤساء الدائمين للأحزاب التونسية، وهذا من المفارقات، تتهم قيس سعيد بأنه يريد أن يبقى إلى ما لا نهاية في الحكم. لكن الأخطر من ذلك هو أن المعارضة تعتبر أن ما هو بصدد البناء سيشكل مستقبل تونس لفترة طويلة بينما لم تشارك هي بطريقة أو بأخرى في بنائه. وهذا يعني أنه أمر مفروض من فوق، وتحاجج هذه المعارضة في ذلك بعدم مشاركة المواطنين في الانتخابات، مع مفارقة كبيرة وهي أن كثيرا من الأحزاب المعارضة ليس لها قواعد انتخابية عريضة. كيف ستحل هذه المعضلة؟ الجواب حاسم: إذا فشلت التجربة في التأسيس لنهضة حقيقية أو لم تظهر على الأقل بوادر حقيقية تنبئ بذلك فإن كل شيء سيهوي بشكل درامي.
كما لاحظتم سؤالكم، يؤدي حاليا منحى رئيس الجمهورية إلى أخذ كل شيء على كاهله إلى غياب الحكومة عن مسرح الفعل العمومي المرئي. وهذا يحدث في عصر الصورة والتواصل الإعلامي الكثيف. عمليا يشكل هذا الوضع عقبة تجعل من أعضاء الحكومة لا يحققون ذاتهم في فعلهم اليومي، بينما عملهم يقوم في الواقع على فكرة قيادة وزعامة فرقهم من المستشارين ومن العاملين في الميدان، وكل المعنيين بالمجال الذي تختص به وزارته. وحينما يكون سقف القيادة والزعامة مغلقا يحدث إحباط وميل نحو كبت الطموح السياسي، وعدول عن الرغبة في العمل بحماس والتميز لجلب احترام المواطنين ومحبتهم وفتح الأفق السياسي الخاص، وهذا أمر خطير على مستوى الفعل السياسي.
*لكن، إذا كانت رئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن اختارت الابتعاد عن الحوارات والتصريحات فإن رئيس الحكومة الحالي أحمد الحشاني قال إنه يريد العمل بصمت؟
-نعم لقد قال رئيس الحكومة أنه يحبذ العمل بصمت. وما فهمته هو أنه لا يريد إعطاء فرصة لما يعتبره إعلاما معاديا كي يقدم للجمهور، بطريقة مغرضة، مشاريعه وأعماله وتوجهاته، وهو محق في تقييمه لأداء بعض الإعلاميين الذين يجب الاعتراف بأنهم مأجورين فعلا. لكن هل هذه حجة كافية؟ لا أظن ذلك لأن المواطنين في حاجة لمعرفة ما يفعله رئيس الحكومة بأموالهم، وما يعده لحاضرهم ومستقبل أولادهم، وما عليه إلا أن يحيط نفسه بإعلاميين مهنيين قادرين على إيصال مشاريعه وأعماله إلى عامة الناس، وتحليلها بشكل موضوعي ومقنع قدر المستطاع ما يمكن أن يفتح لهم باب الأمل. والناس ليسوا حمقى. فبطول الوقت يستطيعون فرز الحقائق من الأكاذيب والتضليل ويساندوه إن حقق لهم بعضا من مطالبهم الأساسية كي يواصل عمله. فهذا نضال مطلوب من رئيس الحكومة أن يخوضه. لكن منظومة العمل الحكومي والرئاسي التي هي بصدد التشكل قد لا تسمح حاليا بذلك، وربما يعود ذلك أيضا لعدم الخبرة السياسية لكل الفريق في التعامل مع الإعلام، ومواجهة استفزازاته المغرضة، والرد على بعض السياسيين في المعارضة، الماهرين في مجال اقتناص التصريحات والأفعال والحركات لتحطيم سمعة وهيبة منافسيهم، أحيانا بطرق مقززة، وهذا من تخلف الثقافة السياسية التي أورثها لنا الاستبداد وقلدها الغُفل بعد الثورة.
تونس – الصباح
اختار أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية، مولدي الأحمر، أن يحتكم إلى التفكير والشرح والتفسير المعمق في حديثه لـ"الصباح"، الذي تطرق فيه لهذا الموضوع، من خلال الإجابة عن بعض الأسئلة والاستفسارات حول أسباب حظوة رئيس الجمهورية قيس سعيد بثقة أغلب التونسيين بعد أربع سنوات من انتخابه رئيسا للجمهورية؟ وسبب تواصل هذه الثقة في مرحلتي حكمه تلك، رغم تواصل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والوضع المتردي وما خلفه من صعوبات. مقابل المحاولات المتكرر للمعارضة بمختلف تياراتها وألوانها "شيطنته" داخليا وخارجيا ومحاولات التصدي لمشروعه ومقاطعة و"عرقلة" المسار الذي يقوده؟ وقد أجاب المختص في علم الاجتماع والمتابع بشكل خاص لما هو اجتماعي سياسي، عن ذلك وغيرها من الاستفهامات الأخرى في الحوار التالي:
حاورته: نزيهة الغضباني
*لننطلق من الراهن هل يمكن الحديث عن ثقة في علاقة التونسيين برئيس الجمهورية قيس سعيد إلى حد هذه المرحلة؟
-أنت تشيرين بسؤالك إلى ظاهرة سياسية تونسية مثيرة بإمكان جريدة "الصباح" أن تخصص لها حوارات عديدة مع نخب مختلفة من المتخصصين الحقيقيين، فهذا شأن عام والنقاش فيه ملح خاصة من طرف المعارضين لقيس سعيد.
اسمحي لي بالقول أن الأساس الخفي للحيرة التي تتضمنها صيغة السؤال كما تطرحينه هو الانطلاق من نموذج نظري رسخته الديمقراطيات اللبرالية العريقة، حتى أصبح أداة قياس سياسية، مفاده أن الثقة في المسؤول السياسي ترتفع أو تنزل بقدر تحقيقه للإنجازات التي وعد بها خلال فترة زمنية مضبوطة. دعيني أقول لك أن قادة النظم الديمقراطية اللبرالية في الغرب لا يقومون كأشخاص بإنجازات فارقة بصفتهم تلك، أي عندما يكونون في الحكم، إلا في الحالات الاستثنائية التي يتزعمون فيها نخبة لها مشروع إصلاحي أو تحريري يتجاوز مؤقتا التناقضات السياسية الكبرى (تشرشل، ديغول...). أما في الحالة الروتينية فإن قادة النظم الديمقراطية اللبرالية مجرد منسقين ناجحين/فاشلين لعمل مؤسسات ليس لهم عليها سلطان، وهم غالبا لا يبتكرون البرامج بل يتبنون مقترحات تأتي من مؤسسات مختلفة تتابع الوضع الاجتماعي والسياسي والأمني بمهنية لا يملكها الرؤساء والوزراء. والمسؤول الجيد هو الذي يكون "مايسترو" ناجحا في تحقيق المشاريع التي تخدم مصالح شرائح واسعة من المجتمع. وأنا ربما أخيب ظنك عندما أقول بأن المسؤولين السياسيين في النظم الديمقراطية الراسخة لا يغيرون الواقع في الاتجاه الذي تتمناه أوسع الشرائع في المجتمع إلا بمقدار ضئيل جدا، وذلك لأن النموذج الذي أنتجهم قد حدد اللعبة اقتصاديا وإيديولوجيا منذ زمن، وأصبح الناس يرون ما ينبغي لهم أن يروا لا ما هو كائن حقا.
في تونس سبب الحيرة، أحيانا العفوية وأحيانا المفتعلة، هو أن هذا المقياس النظري، الذي لا تعرف النخبة غيره، لا يشتغل أي لا يفسر تشبث المواطنين، على الأقل بحسب قياسات الرأي العام، بشخصية سياسية تقول عنها المعارضة إنها لا شرعية ولا تنجز شيئا. والحقيقة أننا لسنا في حالة ديمقراطية ليبرالية راسخة حتى يشتغل النموذج، بل في مرحلة البحث عن ذاتنا السياسية والمعيارية. ربما يبتسم البعض لهذا القول، ومعه حق عندما يكون فكره يعرف الأجوبة قبل طرح الأسئلة، لكنني أتعامل مع المسألة بجدية تامة، فالثورة التونسية أعادت طرح قضية جدية على نموذج الديمقراطية اللبرالية يتجاوز المسألة السياسية التي كانت هوس فلاسفة الحداثة الغربية، وذلك من داخل المعايير الإنسانية المشتركة ذاتها التي غطتها الرأسمالية: كيف يمكن للإنسان أن يحيا حياة كريمة ليس فيها تعاسة المحرومين التي وصفتها أمهات الكتب السوسيولوجية والأخلاقية، والتي انطلقت منها كل الأديان لتزعم أنها وجدت لها الحل في عبادة قوى غيبية مختلفة؟
لهذه الأسباب، ولغيرها لا يتسع المجال لذكرها، تصيب الملاحظ في تونس حيرة أمام ظاهرة قيس سعيد، وستستمر حيرته طالما لم يتحرر من القوالب الجاهزة التي يحاول تطبيقها في سياقات تاريخية ومجتمعية مختلفة. وفي تقليدنا السياسي التونسي المتواضع عندما لا نفهم نسُب ونلعن ونتهم، وهذا السب والغضب يشتغل أحيانا غطاء يخفي العجز ويمنع من النظر إلى الظواهر بموضوعية وبروح نقدية تستهدف الذات والآخر.
*وما هو تفسيرك لتواصل هذه الثقة، رغم إجماع عديد الجهات على غياب المنجزات .. وعدم تحقق الكثير؟
-سأورد لكم شهادة لسياسي تونسي عريق في المعارضة سجن وناضل طويلا، ولا أحد قادر على المزايدة عليه في معارضة قيس سعيد، وقد صرح لي بها منذ أيام فقط: "نحن نطالب بمقاومة الفساد، سعيد يقوم بذلك، نحن نطالب بتغيير المنوال التنموي، سعيد له نفس الهاجس، نحن نطالب باسترجاع السيادة الوطنية، قيس سعيد يرفع نفس الشعار! ما الذي يفرقنا؟ استبداده برأيه والعمل دون تشريك من يتفق معه مبدئيا في هذه القضايا دون تحقيق نتائج، لا بل وضع المعارضين في السجن... وأضيف استنكاف قادة أحزاب عريقة في معارضة بن علي من العمل تحت سلطة وافد طارئ على السياسة"!
في هذا التقويم، من طرف معارض محترم لقيس سعيد، عندك نصف الجواب على سؤالك: خلال العشر سنوات التي تلت الثورة، وقبل تولي قيس سعيد رئاسة الدولة، كانت القضايا التي عددها هذا المعارض مطروحة بجدية، لأن الثورة قامت ضد الاستبداد الذي كرس الفساد منهجا سياسيا واقتصاديا، مدمرا في طريقه ركائز كل نهضة مجتمعية، وهي حرية الفكر والتعليم والصحة والنقل وثقافة العمل والاستحقاق المهني. لكن الثقافة السياسية التي غلبت على الأحزاب المُعارضة التي نشأت في ظل الاستبداد،وأسُسُ القيادة فيها، وغربتها الإيديولوجية، يمينا ويسارا ووسطا مزعوما، وكذلك ارتباط بعضها بمصالح فئات اجتماعية ضيقة هيمنت طويلا على الاقتصاد والسياسة، جعلها إما غير قادرة على الاستيعاب التنظيمي والفكري لمشاغل الثورة أو رافضة لها.
وهكذا أصبحت بعض هذه الأحزاب تخوض صراعات سخيفة لجلب أتباع منافسة تتفق معها في كل شيء إلا في القيادة (في اليسار خاصة)، وبعضها كان يمثل من اعتبروا أنفسهم متضررين من الثورة، وآخرون يريدون ضمان مكانهم وبقائهم ومستعدون لكل التوافقات تحت مسميات براقة. وفي الأثناء نسي الجميع الفساد ونموذج التنمية والسيادة الوطنية، وما تولد عن ذلك هو سقوط الأخلاق السياسية إلى الهاوية. ولقد شاهد التونسيون قادة سياسيين في مستوى رئاسة مجلس النواب وغيره يحضرون مجتمعين (بكل الرمزية التي في ذلك) حفلات زفاف مطلوبين للعدالة فاقدين لكل اعتبار ثقافي أو فني أو علمي يستحق التقدير والإشادة وطنيا... وفي ما كانوا هم يمثلون بطريقة تثير السخرية مسرحية الحداثة، كما كانوا يفهمونها، كان منافسوهم يحاولون ترتيب شروط استعادة المكاسب والمغانم دون فكرة استثمارها في ما يرفع من مستوى حياة الناس.
*إذا كيف تفسر المسألة..؟
-يمثل قيس سعيد حالة وفدت على الساحة من خارج هذه التجربة الهزيلة، فكثير من المراقبين والمعارضين يصفونه بأنه خارج عن التصنيف، بمن فيهم صاحب الشهادة التي عرضتها. وهو خارج عن التصنيف ليس لتجربة سياسية مميزة خاضها لمدة طويلة وصنعت منه أيقونة، بل لخصال اجتماعية وشخصية، توافقت مع الحظ والسياق بمفهوم ماكيافيلي، ومع تمثلات شرائح المحرومين والمهمشين والمحتقرين الواسعة في تونس. في بحث ميداني أجريناه بشكل مبكر في المناطق التي انطلقت منها الثورة صرح الناس بنسبة 95% بأنهم ثاروا ضد الفساد. ومفهوم الفساد ليس ميتافيزيقيا بل هو في منتهى الكثافة السياسية والأخلاقية. وهذا ما يتوافق مع صورة النقاء التي يتمثل بها اليوم هؤلاء الناس قيس سعيد. فهو يظهر في هذا السياق الذهني، بالنسبة لكثير من الناس، كمن يقود خيل الخير ضد خيل الشر، وذلك رغم بعض الجوانب الكاريكاتورية في هذه المعركة. والسبب هو أن الذين حكموا بعد الثورة أسقطوا من حسابهم الرمزية الأخلاقية لهذا المطلب، لقد اعتبروا أن لا معنى له من الناحية السياسية العقلانية والموضوعية حسب ثقافتهم السياسية النمطية، ومن رفعوا هذا الشعار وهم في السلطة اكتشف الناس بسرعة عدم صدقية ما يقولونه قياسا بما يفعلونه، وخاصة ممارسته الانتهازية، وهذا عكس قيس سعيد رغم تعثره ورغم ما يمكن قوله بشأن فاعليته. وبلغة ذكورية تونسية قال لي الكثير: "طلع أرجل منهم وأشجع منهم (هم تعود على المعارضة الحالية) في عدم التردد في إخضاع من اعتبر نفسه محميا للمحاسبة".
من الناحية الاجتماعية لا يأتي قيس سعيد من أصول تزعم لنفسها احتكار "قماش السلطة"، ولا من منطقة هيمنت طويلا على آليات وشبكات التحكم في السلطة والمنافع. وبسبب أن نخبة المستثمرين العليا في تونس، تلك التي تحدد التوجهات الاقتصادية للبلاد، هي في الأصل من إنتاج الدولة التونسية، خلافا للتجارب المرجعية الأوربية في المجال، فقد بدت بعض التيارات السياسية التي تشكلت بعد الثورة، وتمثل جانبا من هؤلاء المستثمرين، في ثوب من يدافع على مكانة فئة أو على جهة. في سيدي بوزيد قال لي أحد السكان سنة 2011: "يكفي ما هزوا الجمر بأيدينا"، يقصد أن النخب السياسية تستخدمهم فقط في معاركهم الفوقية عبر الانتخابات داخل الحزب الحاكم (كان في ولاية سيدي بوزيد أكثر من 600 شعبة دستورية). من هذا المنظور يبدو قيس سعيد شخصية متحررة من ماضي اجتماعي وسياسيّ، لا يمكنها تجاوزه، ومن ثمة فهو يبدو مقنعا – على الأقل على مستوى الخطاب- في محاربته للفساد بقطع النظر عن طريقته في تحقيقه لهذا المطلب، وهذا هو مصدر الثقة الشعبية فيه.
*هل تعني أن المعارضة وكل مكونات الطبقة السياسية ساهمت في بشكل مباشر وغير مباشر في ذلك؟
-ليس المجال هنا لتقييم ما إذا كانت طريقة قيس سعيد في استيعاب مطالب الثورة مثمرة أو مدمرة كما يقول معارضوه. كما أن ما أنجزه حتى الآن من مشروعه الذي يبدو مسقطا من فوق -ربما احتذاء ببورقيبة، فلا أحد من الفلاحين طلب التعاضد مثلا- موضوع جدال ونزاع. ومع ذلك فإن جزءا من النقاش قائم على ثقافة سياسية هزيلة لم يسأل أصحابها أبدا أنفسهم إن كان "الشعب" -بصفته مكونا من أفراد تصرفوا كمواطنين خرجوا لتوهم من كتاب "العقد الاجتماعي" لروسو- هو فعلا من اختار الذين وصلوا إلى مجلس النواب سنة 2014 و2019 وحتى 2022، وأنا أتكلم هنا بناء على دراسات وليس على تخمينات. لكن من المهم ملاحظة أن المعارضين للرئيس لا يطرحون بدائل تذهب في نفس الاتجاه الذي يتحدث عنه قيس سعيد وتحدث عنه أيضا السياسي الذي عرضت شهادته، بل يركزون على لا شرعية ما قام به رئيس الجمهورية منذ 25جويلية 2021وعلى احتكاره للسلطة.
وكما هو معروف في الحالات الانتقالية الكبرى نادرا جدا ما تقود الدساتير، بشكل حرفي، خطى السياسيين الذين يقدرون أن ما هو سائد مكبل للإرادة، ولا تصبح الإجراءات مقدسة إلا عندما تشيد مؤسسات وضوابط دستورية عليها اتفاق عام، وحينها ينتهي السياسيون بأن يكونوا هم ذاتهم من إنتاج روتين عمل تلك المؤسسات والقوانين. وبسبب التركيز على لا شرعية 25 جويلية بدا المعارضون كأن هاجسهم الوحيد هو السلطة، رغم أن طيفا واسعا منهم رحب بذلك الإجراء في البداية ربما باعتباره منفذا نحو تلك السلطة وقد خابوا في الوصول إليها انتخابيا. وما ترتب على ذلك هو الامتناع عن مشاركتهم السياسية في بناء المؤسسات الجديدة. صحيح أن المعارضة محقة في رفض دستور لم تشارك في كتابته، لكنها في فلسفة معارضتها لقيس سعيد ظلت حبيسة فكرة اللاشرعية دون استعادة ضمير مطالب الثورة، ما جعل عملها دون أفق سوى أفق استعادة السلطة بعد عشر سنوات من الفشل السياسي. وهذا لم يغب عن وعي حتى أبسط مواطن التقيت به.
*لماذا لم يذهب الناس وراء المعارضة رغم المحاولات المتكررة لاستقطاب الشارع والمراهنة على الأزمات والوضع الاجتماعي المتردي..؟
-بقي هذا السؤال مكبوتا في ثنايا سؤالك عن أسباب الثقة في قيس سعيد. وهذا سؤال مهم تتحاشى المعارضة الخوض فيه علنا لأنه يكشف هزال الثقافة السياسية في تونس. وكخلاصة: في حالات التحول الكبرى لا تفهم الظاهرة السياسية بأدوات تجارب أخرى رسخت نظما سياسية تحولت إلى روتين يعمل خارج إرادة المسؤلين طالما لم يدخل هذا النظام في أزمة فارقة. والجرأة السياسية تقتضي في الحالة التونسية طرح هذه القضية بمسؤولية، وبناء مواقف على أرضية النتائج التي يفرزها النقاش.
*لماذا تحظى تحركات وزيارات وتصريحات سعيد، على خلاف بقية الرؤساء الذين سبقوه، بمتابعة واهتمام المواطنين ..؟
-يمكن أن أبني جوابي على ما قلته في الفقرات السابقة. وهنا أستحضر نقطة هامة جدا في نقد المعارضة لسلطة قيس سعيد بوصفه رئيسا للجمهورية. وهي أنه بصدد بناء منظومة سياسية تجعله في الصدارة في كل شيء والمسؤول الأول عن كل شيء، وهذا أمر غير مقبول وليس من مصلحة قيس سعيد في حد ذاته. فمثل هذه النظم لا تنتج مؤسسات بل تخلق أتباعا، والأتباع لا يشكلون مؤسسة أو فكرة، بل هم حرفاء سياسيون يمكن أن يتفرقوا في يوم واحد كما حدث للباجي قائد السبسي ولمعمر القذافي ولصدام حسين والأمثلة كثيرة. قد يجيب قيس سعيد بأن المرحلة انتقالية، وأنه بصدد بناء مؤسسات جديدة تعيد الصلة بين المواطنين ومؤسسات أخذ القرار، وحين تترسخ وتنتج هذه المؤسسات روتينها الخاص سيتخلى بذلك الرئيس، أيا كان، عن احتلال الصدارة. في واقع الأمر، ومن منظور التجارب السياسية المعروفة، نادرا جدا ما تخلى رئيس، يعتبر نفسه مؤسسا، عن مواصلة إدارة ما يعتبره ثمرة عمله الخاص، والمثال الحاضر هو بورقيبة والرؤساء الدائمين للأحزاب التونسية، وهذا من المفارقات، تتهم قيس سعيد بأنه يريد أن يبقى إلى ما لا نهاية في الحكم. لكن الأخطر من ذلك هو أن المعارضة تعتبر أن ما هو بصدد البناء سيشكل مستقبل تونس لفترة طويلة بينما لم تشارك هي بطريقة أو بأخرى في بنائه. وهذا يعني أنه أمر مفروض من فوق، وتحاجج هذه المعارضة في ذلك بعدم مشاركة المواطنين في الانتخابات، مع مفارقة كبيرة وهي أن كثيرا من الأحزاب المعارضة ليس لها قواعد انتخابية عريضة. كيف ستحل هذه المعضلة؟ الجواب حاسم: إذا فشلت التجربة في التأسيس لنهضة حقيقية أو لم تظهر على الأقل بوادر حقيقية تنبئ بذلك فإن كل شيء سيهوي بشكل درامي.
كما لاحظتم سؤالكم، يؤدي حاليا منحى رئيس الجمهورية إلى أخذ كل شيء على كاهله إلى غياب الحكومة عن مسرح الفعل العمومي المرئي. وهذا يحدث في عصر الصورة والتواصل الإعلامي الكثيف. عمليا يشكل هذا الوضع عقبة تجعل من أعضاء الحكومة لا يحققون ذاتهم في فعلهم اليومي، بينما عملهم يقوم في الواقع على فكرة قيادة وزعامة فرقهم من المستشارين ومن العاملين في الميدان، وكل المعنيين بالمجال الذي تختص به وزارته. وحينما يكون سقف القيادة والزعامة مغلقا يحدث إحباط وميل نحو كبت الطموح السياسي، وعدول عن الرغبة في العمل بحماس والتميز لجلب احترام المواطنين ومحبتهم وفتح الأفق السياسي الخاص، وهذا أمر خطير على مستوى الفعل السياسي.
*لكن، إذا كانت رئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن اختارت الابتعاد عن الحوارات والتصريحات فإن رئيس الحكومة الحالي أحمد الحشاني قال إنه يريد العمل بصمت؟
-نعم لقد قال رئيس الحكومة أنه يحبذ العمل بصمت. وما فهمته هو أنه لا يريد إعطاء فرصة لما يعتبره إعلاما معاديا كي يقدم للجمهور، بطريقة مغرضة، مشاريعه وأعماله وتوجهاته، وهو محق في تقييمه لأداء بعض الإعلاميين الذين يجب الاعتراف بأنهم مأجورين فعلا. لكن هل هذه حجة كافية؟ لا أظن ذلك لأن المواطنين في حاجة لمعرفة ما يفعله رئيس الحكومة بأموالهم، وما يعده لحاضرهم ومستقبل أولادهم، وما عليه إلا أن يحيط نفسه بإعلاميين مهنيين قادرين على إيصال مشاريعه وأعماله إلى عامة الناس، وتحليلها بشكل موضوعي ومقنع قدر المستطاع ما يمكن أن يفتح لهم باب الأمل. والناس ليسوا حمقى. فبطول الوقت يستطيعون فرز الحقائق من الأكاذيب والتضليل ويساندوه إن حقق لهم بعضا من مطالبهم الأساسية كي يواصل عمله. فهذا نضال مطلوب من رئيس الحكومة أن يخوضه. لكن منظومة العمل الحكومي والرئاسي التي هي بصدد التشكل قد لا تسمح حاليا بذلك، وربما يعود ذلك أيضا لعدم الخبرة السياسية لكل الفريق في التعامل مع الإعلام، ومواجهة استفزازاته المغرضة، والرد على بعض السياسيين في المعارضة، الماهرين في مجال اقتناص التصريحات والأفعال والحركات لتحطيم سمعة وهيبة منافسيهم، أحيانا بطرق مقززة، وهذا من تخلف الثقافة السياسية التي أورثها لنا الاستبداد وقلدها الغُفل بعد الثورة.