إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

2023حصاد الدم وموت الضمير الإنساني الدولي.. هل يتوقف النزيف في 2024؟

 نعيش منذ السابع من أكتوبر الماضي على نبض زحمة الأحداث في غزة..، تلازمنا في كل ساعة وكل حين..، نهتز لمعاناة أهلها وصرخات أطفالها واستغاثة نسائها وثكلاها وأيتامها ووجع صحافييها وفنانيها ومؤرخيها ولوعة أطبائها وهم يشهدون موت المصابين البطيء في قهر وعجز..، نعيش على وقع غزة وكأننا هناك نتألم نسمع نرصد نبكي أحيانا لما يحدث ونشعر بالإحباط، نشعر بالإحباط واليأس، ولكن لا نفقد الأمل لان هناك شعبا يكابد ينتصر كل يوم للحياة ويتفوق على رائحة الموت المنتشرة في المكان..، عيوننا ترحل إلى غزة كل يوم كما سبق ورحلت إلى القدس مع أنغام فيروز..، قد يكون هذا السبب جعل مختلف الكتاب والمحللين الذين شاركوننا أحلامنا وتطلعاتنا على وقع سنة تمضي وأخرى وبينهم الدكتور نبيل عمرو والمؤرخ نواف الزرو والخبير الأممي عبد الحميد صيام يكتبون عن غزة...

في غزة انتهت الرحلة عبر سنة 2023 التي نعيش على وقع الزمن القصير المتبقي فيها ومن غزة تبدأ الرحلة مع أولى ساعات سنة 2024 التي نستعد لاستقبالها على وقع ضجيج القنابل والصواريخ وصور المقابر الجماعية والأشلاء الآدمية... لا احد يعرف حصيلة الشهداء في حرب الإبادة الجماعية في غزة حتى اليوم السابع والثمانين من حرب الإبادة المفتوحة اقتربت الحصيلة من الاثنين وعشرين ألف شهيد ونحو ستين ألف مصاب دون اعتبار المفقودين الذين جمعتهم المقابر الجماعية... والجثث التي تم تشويهها وسرقة أعضائها.. ما تقدمه نشرات الأخبار يوميا من جرائم الحرب التي يقترفها جيش الاحتلال ليست سوى الظاهر أما ما خفي فقد لا يكتشف حجمه قبل وقت طويل.. غزة تنزف وكل قطرة من دماء ابنائها تشهد على بؤس وأنانية وانهيار القيم الإنسانية التي سقطت أمام اختبار آلة القتل الإسرائيلية وخذلت غزة وأهلها وتنكرت لحقهم في الحياة والكرامة وإنسانية الإنسان..

كم كنا نتمنى لو أن غزة وأهلها المطاردون على أرضهم بإمكانهم استقبال العام الجديد مثل بقية شعوب الأرض الذين يحتفلون بهذا الموعد ويستعدون له بكل مظاهر الفرح بلقاء الأهل و الأصدقاء وإطلاق الشماريخ وتبادل الهدايا وكل ما يسعد الأطفال ويمنح الجميع فرصة التطلع للتفكير بالمستقبل وتحقيق أحلامهم في الحياة.. لم يعد للحلم مكان في غزة أو في الضفة فجرائم الاحتلال التي تربط الليل بالنهار تصر على تدمير كل مظاهر الحياة والسطو على ما بقي من الهوية الفلسطينية ومن أسباب التمسك والبقاء على ارض فلسطين.. هكذا هي سياسات كيان الاحتلال منذ نشأتها قسرا من رحم عصبة الأمم والأمم المتحدة لاحقا التي سيتمرد عليها ويدوس على قراراتها بمباركة لحليف الأمريكي و البريطاني وتواطؤ بقية أعضاء نادي مجلس الأمن الدولي.. فقد قام الاحتلال منذ بداياته على الدم بداء من مجزرة دير ياسين والطنطورة واللد والرملة وصفد وصولا إلى القدس وصبرا وشاتيلا والخليل وغزة 1 وصولا إلى خامس حرب على القطاع مع اختلاف واحد وهو أن عصابات "الهاغاناه" و"الشترن" تحولت إلى جيش نظامي إرهابي.

..لا حديث اليوم إلا عن غزة وهذا ما يجب أن يكون حتى يتوقف العدوان لا الإعلام يجب أن يمل ولا الشعوب الحية والحقوقين الرافضين للظلم يجب أن يطبعوا ويستسلموا لما يحدث ويقبلوا بحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على القطاع المدمر فيما يتواصل صمت العالم وعجزه عن إيقاف الحرب وإيقاف شلال الدم المستمر...

أن ينحصر عنوان عام 2023 الذي نودع وعام 2024 الذي نستقبل، حول ما يحدث في غزة مسألة فرضتها الأحداث ولابد أن ما ستؤول إليه هذه الحرب سيكون ربما منطلقا لقراءة توجهات ومستقبل المنطقة العربية وهل ستغرق أكثر وأكثر في دماء شعوبها وتستمر في الانهيار والسقوط والتفكك أم أننا سنشهد صحوة مفاجئة تضع حدا لحالة التدمير الممنهج التي تعيش على وقعه المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج.. لم تكن سنة 2023 دون مآس قبل اندلاع الحرب على غزة فقد كان لزلزال سوريا وتركيا أثاره الثقيلة المؤلمة ولكن ما شهده العالم من تضامن إنساني على وقع المآسي الإنسانية أوحى ببقية من قيم إنسانية كونية تكابد من اجل البقاء... وكان لتزامن زلزال المغرب وطوفان درنة ما حول الأنظار عن المآسي الإنسانية العالقة في اليمن ومعاناته مع الصراعات والحروب والمجاعة ومع مآسي السودان الغارق في أزماته وصراعاته وحروب الإخوة الأعداء الذين اجتمعوا لإسقاط دكتاتورية نظام البشير فسقطوا في خلافاتهم وحروبهم التي تهدد السودان اليوم بأخطر التداعيات الأمنية والاجتماعية. ولو انتقلنا في جولة افتراضية لوجدنا المنطقة العربية تنوء بأرزائها وأثقالها وأزماتها بين دكتاتورية متسترة وشعبوية متمددة وبين أزمات اقتصادية واجتماعية وفقر مادي وآخر معرفي وعلمي وأمية ضاربة وتطرف بلا حدود..

يلقي البعض بالتلميح حينا والتصريح حينا آخر على حماس بالمسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع في غزة من خراب ودمار وموت في كل مكان...ولكن ينسى الكثيرون أن غزة قبل عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر لم تكن تحظ برغد العيش ولم يكن أهل غزة يعيشون في كنف الحرية والأمان.. كانت غزة محاصرة برا وبحرا وجوا وكان الجميع داخل سجن لا مجال لمغادرته وكان نصف شباب غزة مبتور الأطراف بفعل الاعتداءات الإسرائيلية على المتظاهرين على الحدود كل أسبوع... كأن غزة تعيش معاناة مضاعفة بمعزل عن كل العالم.. عملت إسرائيل بعد أوسلو على تمكين حماس في غزة على أمل تشتيت فتح وإضعافها ودفع الحركات الفلسطينية إلى السقوط في محاربة بعضها البعض... وهو ما يمكن القول إنها نجحت فيه..

جاءت عملية طوفان الأقصى لتوجه صفعة لم يتوقعها الاحتلال وقناعتنا أن كل التقارير التي تتحدث اليوم عن معرفة مسبقة للأجهزة الأمنية الإسرائيلية بالعملية والادعاء بان إسرائيل لم تمنع وقوعها حتى تعيد احتلال القطاع محاولات لإنقاذ حكومة نتنياهو وجيش الاحتلال من العار الذي سيلاحقه إلى ما لا نهاية... والأكيد أن الحقد الأعمى وكل العمليات الانتقامية التي تقودها إسرائيل في هذه الحرب هي أشبه بما يقوم به حيوان جريح في لحظات الهيجان... وبقطع النظر عن ردود الأفعال الإسرائيلية والأمريكية ونتائجها على الأرض فان إسرائيل وحلفائها لم يستسيغوا هزيمة الجيش الذي طالما وصف بأنه لا يقهر والهزيمة مشتركة لأنها تمتد أيضا للحلفاء الذين يمولون ويجهزون جيش الاحتلال بكل أنواع السلاح الحديث...

اليوم يدفع الشعب الفلسطيني ثمنا باهظا من دماء أطفاله ونسائه وشبابه وموروثه وكل مكونات غزة بآثارها ومساجدها وكنائسها.. بعض المؤشرات بدأت عن مفاوضات في القاهرة ومبادرة مصرية لإنهاء الحرب وتبادل الرهائن والأسرى.. من السابق لأوانه قراءة المشهد في ظل سموم القنابل المتهاطلة على أهالي غزة والممتد إلى الضفة في حرب الإبادة المنسية على الفلسطينيين في جنين والخليل والقدس..

هل يعني ذلك نهاية الآمال وانعدام الآفاق والمبادرات.. بالتأكيد لا والأمر يبقى بيد الفلسطينيين وحدهم وسيتعين على كل الفصائل الفلسطينية المقاومة وكل السياسيين عدم التفريط في هذه المحطة التاريخية في تاريخ القضية الفلسطينية وعدم إهدار دماء الشهداء والضحايا لان الأجيال القادمة لا ولن تغفر لهم ذلك.. غزة اليوم عنوان لصمود أسطوري ولكن لمعاناة غير مسبوقة في تاريخنا الحديث.. كان البلدوزر شارون يحلم أن يستيقظ ويجد أن غزة قد ابتلعها البحر.. في سجل شارون مجازر وجرائم ذهب ضحيتها آلاف الفلسطينيين... رحل شارون وقبر وبقيت غزة وهي اليوم تتحدى جلاديها وتواجه لا جيش الاحتلال الإسرائيلي فقط ولكنها تواجه معه كل القوى العنصرية الداعمة لصلف وغطرسة الاحتلال ...

ما الذي سيحمله 2024 لغزة وللعالم؟ قد يكون من الصعب التكهن بما سيؤول إليه المشهد في غزة والضفة ولكن الأكيد أن القضية انتفضت وخرجت من غياهب النسيان ولا يمكن أن تكون محل مقايضة وسمسرة مجددا..

سنعود إلى غزة ولن يكون ذلك عبر رحلة افتراضية وعبر رصد بين معاناة أهل القطاع ولكن عبر بحر غزة رئة القطاع ومتنفسه وقاطرته إلى كل العالم..، سنعود إلى غزة ونشهد عودة مهد العزة إلى أصحابها..، سنعود إلى غزة التي ترسم للعالم أروع الملاحم النضالية في زمن عزت فيه معاني النضال وباتت خاضعة للمقايضة في المنابر الأممية ومجلس أمنها الذي يبارك ذبح الأبرياء إرضاء لمكابرة و ظلم و همجية كيان الاحتلال..

سنعود إلى غزة لنسمع حكايات أمواج البحر المتدافعة هناك تتحدث عن بحرها مصدر ثرواتها وتجارتها وحضاراتها المتعاقبة التي صنعت تاريخ غزة وماضيها، ولكن أيضا مستقبلها ومستقبل الأجيال القادمة... سنعود إلى غزة والى فلسطين بالتأكيد..

اسيا العتروس

حرب غزة.. ما الذي انتهى وما الذي يبدأ؟

بقلم: نبيل عمرو

تحتاج إسرائيل إلى وقت طويل حتى تستوعب ما حلّ بها منذ يوم السابع من أكتوبر، وجرّاء حدث كبير كهذا تتشكل كالعادة لجنة لتحديد الثغرات والمسؤوليات، وغالباً ما يستفيق الرأي العام من الصدمة، لتعود الدولة العبرية ونظامها وساكنوها إلى ما تعودوا عليه من شعور بالقدرة على فعل كل شيء والتفوق على كل الخصوم.

حدث هذا أيضا في أكتوبر 73، حين تهاوى خط بارليف الحصين في ساعات أمام الجيش المصري، وحدث بعد الخسائر الكبيرة التي منيت بها إسرائيل في حرب 82 على لبنان، والتي لحقتها مذبحة صبرا وشاتيلا التي نظمها آرييل شارون، وسيحدث مثله بعد طوفان الأقصى.

 وقبل صدور خلاصات اللجنة التي ستتشكل، سيطيح جنرالات بأنفسهم، وسيكون أول من يُطاح به بنيامين نتنياهو الذي وقعت المصيبة الكبرى في عهده، لتضاف إلى سلسلة المصائب التي تسبب بها لإسرائيل ومنها، انقلابه على القضاء ليس في حركة تصحيحية كما يزعم وإنما للنجاة بجلده من التهم الكبيرة التي تلاحقه، فإمّا أن يذهب إلى البيت أو إلى السجن.

والذي انتهى في هذه الحرب مهما كانت نتائجها هي المساحة الاستقلالية التي لعبت فيها حكومة إسرائيل وبارتياح مع أمريكا ومن وراء ظهرها، هذه المساحة أزعجت واشنطن كثيراً وقللت من الإذعان التلقائي لسياساتها.

ما حدث في السابع من أكتوبر استدعى حاملات الطائرات الأمريكية للدفاع عن إسرائيل، وهذا وحده كافٍ لإظهار استحالة استمرار إسرائيل كيانا ونفوذاً دون الدعم الأمريكي المباشر، وحتى لو أنجزت الحكومة الإسرائيلية صورة نصر تسوقه للرأي العام فهذه المرة ستكون الصورة ملفوفة بالعلم الأمريكي.

على الجانب المقابل، حيث قوى الممانعة تبدو في هذه الحرب كهرم يقف على رأسه ورأس الهرم غزة التي تحملت على كاهلها المتعب أصلاً وزر حرب انتقامية مفتوحة الوسائل والمدى الزمني، ومدعومة بغطاء دولي حكومي يكاد يكون مغلقاً.

لم يبق من غزة إلا القليل من معالمها، ولم يبق من سكانها من لم يفقد طفلاً أو عدة أطفال على نحو وضع الجميع في حالة "من لم يمت اليوم ربما يموت غداً ومن لم يجرح في قصف سوف يجرح في القصف الذي يليه، ومن فقد داره والمشفى الذي كان يلوذ به لم يعد أمامه إلا العراء".

أمّا قوى الممانعة فلا يُنكر أنها قدّمت شهداء على جبهة الجنوب اللبناني وأنها أزعجت حملة السيوف الحديدية واستنفرت القوة الإستراتيجية الأمريكية وملاحقها الغربية، ويبدو.. ولا أحد يجزم بأن هذا هو أقصى ما يمكن أن يعمل بشأن غزة، ولأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فلم يعد بوسع قوى الممانعة أن تفعل أكثر مما فعلت.

الدمار يتسع والشهداء يتزايدون يوما بعد يوم بل ساعة بعد ساعة، وغزة رأس الهرم المقلوب لا تطلب أكثر من بعض وقود وبعض ماء وبعض دواء، والواقع العربي والإقليمي والدولي، مكبلاً بالخوف من أن تكون بيروت هي غزة التالية، وربما غيرها كذلك.

ما العمل إذاً؟ على مدى ثلاثة أشهر كبيسة من الحرب، فالإقليم قال قولته في لقاءات القاهرة والرياض وعلى كل المستويات الرسمية والشعبية، والعالم المحارب في أوكرانيا قال قولته بشأن غزة في مجلس الأمن وفي الجمعية العامة وفي الشوارع. وما ينبغي أن يقال بعد كل ذلك من الظلم الفادح أن يظل الهرم واقفاً على رأسه.

أمّا الفلسطينيون الذين يحصون شهداءهم ويتابعون مقتلة غزة بأسى ويعيشون في الضفة تحت كوابيس ثقيلة حجبت أصوات الانفجارات المرعبة في غزة صوتها، وفي الضفة مدن وقرى تتناوب على اجتياحها والتنكيل بأهلها قوات الجيش النظامي مع المستوطنين المسلحين حتى الأسنان، بالبنادق وعبوات الوقود المعدة لحرق سيارات ومبان وأجساد، ومخيمات ضيقة ومكتظة تقصف بالأباتشي والمسيّرات، وحياة إن بدت في ظاهرها عادية نسبياً إلا أنها ممزوجة بقلق دائم على الأولاد خشية أن يخرجوا إلى المدارس ولا يعودون ، فماذا يفعل هؤلاء غير ما يفعلون، وما يفعلون كبير وكبير جداً.

إنهم يواصلون رغم قلة الإمكانيات تحدي الطاغوت الإسرائيلي في كل حي من القدس، إلى أضيق "زاروب" في مخيم، ثوابتهم لا تتزعزع، لا رايات بيضاء، ولا هجرة من الوطن مع مواصلة اعتناق هدف الحرية والاستقلال مهما ابتعد، وهؤلاء لم يعودوا يصغون إلى الشعارات ثقيلة العبارات وهم يرون العجز يحيط بهم من حولهم فهم ورغم ذلك يلوذون بقوة الحياة والإصرار عليها ما استطاعوا سبيلاً.

الحرب على غزة ستتوقف أخيراً والمفترض أن يبدأ بعدها جديد فلسطيني، ونأمل أن يوازيه جديد عربي يليق بشعب وأمة خرج من قاموسها كلمة استسلام، والشعب الفلسطيني بعد كل ما جرى ويجري وبعد صموده الأسطوري، يستحق قيادة لا تلوذ بالصمت وإنما تتوازى معه في القدرة والعطاء. 

2023عام الكوارث الطبيعية وحرب الإبادة على غزة(*)

بقلم: عبد الحميد صيام

اعتدت أن أكتب مقالا في نهاية كل عام أستعرض فيه أهم الأحداث التي شهدتها أيام وليالي ذلك العام الآفل. وفي كل من هذا الاستعراضات عادة يقف حدث أو حدثان بشكل واضح يعطيان صبغة معينة تحفر في الذاكرة وتبقى علامة مميزة وفارقة كلما ذكر ذلك العام. فمثلاً عندما نذكر عام 2011 نتذكر ثورات الربيع العربي ومحمد بوعزيزي وهروب بن علي وتبعه سقوط مبارك والقذافي وعلي عبد الله صالح، وعندما نمر على ذكر عام 2012 نتذكر أول انتخابات حرة في مصر ووصول رئيس مدني للحكم في مصر لأول مرة. وعندما شنت إسرائيل عدوانها على غزة عام 2012 في عملية عامود السحاب /حجارة سجيل، من 14 إلى 22 نوفمبر، نتذكر موقف مصر آنذاك عندما بقي المعبر مفتوحا ليلا نهارا، ودخل إلى غزة 75 برلمانيا مصريا ورئيس الوزراء هشام قنديل وأعلن الرئيس محمد مرسي "لن نترككم وحدكم يا أهل غزة"، فطارت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون إلى الرئيس المصري لترجوه وقف إطلاق النار فورا. وعندما نتذكر عام 2014 تقفز على الفور معركة الخمسين يوما في مواجهة غزة مع الكيان الصهيوني معركة الجرف الصامد/ العصف المأكول. لا ننسى يومها أن المعبر ظل مغلقا وصدر بيان عن وزارة الخارجية المصرية وصف تلك الحرب المدمرة على غزة التي استخدمت فيها القنابل الفوسفورية لأول مرة، بأنها «عنف متبادل» وطرح مبادرة بإعلان هدنة رفضتها كافة الفصائل الفلسطينية، واعتبر النظام ذلك حجة لإدارة الظهر. وعندما نتذكر عام 2020 تعود إلى الذاكرة انتشار وباء الكورونا من جهة واتفاقيات التطبيع الإماراتي البحريني ثم المغربي. وسيظل هذا العام مرتبطا بحرب الإبادة على غزة لأجيال وأجيال كما حدث في عام النكبة 1948.

كوارث طبيعية

ستبقى ذكريات هذا العام الموجعة عالقة في الأذهان لسنوات طويلة في فلسطين والمنطقة والعالم. أحداث عظام أخذت مواقعها في التاريخ. فالشعبان السوري والتركي لن ينسيا زلزال يوم 6 فيفري(فبراير) بقوة 7.8 (بمقياس رختر) والزلزال الذي لحق به بعد ساعات بقوة 7.5. وقد أدى الزلزالان إلى قتل أكثر من 56000 في تركيا ونحو 5000 في سوريا وجرح أكثر من 120000 وترك الزلزالان خسائر فادحة تقدر بمئات المليارت أصابت مناطق شاسعة وتركت نحو عشرين مليون إنسان دون مأوى من الطرفين.

 كما لا ننسى مع الشعب المغربي زلزال الحوز بقوة 6.8 يوم 8 سبتمبر مخلفا نحو 3000 ضحية و 5500 جريح. وأدى إلى تصدع كثير من المباني التاريخية . وهو الزلزال الأقوى منذ زلزال أغادير عام 1960. تضرر من الزلزال نحو 300000 مواطن. وقد قبل المغرب المساعدات الإنسانية من أربع دول فقط: إسبانيا وبريطانيا والإمارات العربية وقطر. لكن الشعب المغربي بكامله أظهر تضامنه مع المتضررين وانتشرت حملات شاملة لتقديم المساعدة للمتضررين.

وبعد أيام من زلزال المغرب، وفي يوم 10 سبتمبر تعرضت مدينة درنة الليبية إلى فيضانات بسبب إعصار دانيل غير مسبوقة دمرت المدينة تقريبا بالكامل. وتركت آلاف الضحايا بلا مأوى. وقدرت المنظمات الإنسانية أن 8 في المائة من سكان المدينة قتلوا أو فقدوا أي ما يزيد عن 11000 شخص.

حرب رفاق السلاح في السودان

وفي هذا العام لابد من أن نتذكر انفجار الأوضاع في السودان بين حلفاء الأمس الذي تآمروا على الثورة السودانية العظيمة. واستطاع عرابو التطبيع أن يجروا القيادات العسكرية إلى التصالح مع الكيان الصهيوني بحفنة دولارات. وهذه النتيجة "النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله". بدأت الحرب الأهلية يوم 15 أفريل بين قوات التدخل السريع بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، وقوات الجيش الذي يرأسه عبد الفتاح البرهان. الأزمة تفاقمت ولم تعد حربا أهلية بعد أن دخلت على الخط قوى عربية ودولية تعمل على تفتيت الدول وتحطيمها خدمة للكيان الصهيوني في غياب فاجع لدور مصر.

حرب الإبادة على غزة عاصمة العالم

منذ 7 أكتوبر الماضي وحتى هذه اللحظة لا أخبار ولا تقارير ولا حديث إلا عن غزة وصمودها وتضحياتها والمذابح التي ترتكب فيها جهارا أمام عيون العالم المنافق الذي يتحدث عن القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا وكوريا الشمالية ويصمت صمت الأنذال عندما يتعلق الأمر بفلسطين وغزة وأطفالها ونسائها وشيوخها.

إنها حرب الإبادة على غزة التي شنها الكيان الصهيوني وحلفاؤه "الأمروأوروبيون" بعد أن قامت حركات المقاومة الفلسطينية بهجوم مفاجئ في ساعات الصباح الأولى ليوم 7 أكتوبر الماضي على مستوطنات غلاف غزة استمر نحو ست ساعات، أثبتت للعرب والعالم كم هذا الكيان هش وضعيف وجبان. ولولا الدعم "الأمروأوروربي" لانهار وعاد كل فرد إلى بلده الذي جاء منه هو أو أبوه أو جده.

بعد هول الصدمة شنت إسرائيل هجوما شاملا على كل قطاع غزة وقطعت الماء والكهرباء والدواء عن كل القطاع. وبقيت تقصف القطاع لغاية 21 من نفس الشهر دون انقطاع ثم بدأ بعدها الهجوم البري بعد أن أمّن الرئيس الأمريكي بايدن ورؤساء دول الاستعمار القديم كل احتياجاتهم من الذخائر والمعدات. كانوا يعتقدون أن ضخامة الهجوم الذي شاركت في أكثر من 100 طائرة وصبت من المتفجرات أكثر من قنبلتين نوويتين ستؤدي إلى استسلام المقاومة. وهو ما طالبوا به لوقف الحرب على غزة. كم كانوا مخطئين وحالمين ومهزومين من الداخل. وهذه هي حرب الإبادة ضد المدنيين مستمرة لأنهم عجزوا عن كسر ظهر المقاومة بل ودفعوا أثمانا لا حصر لها في الأرواح والعتاد والآليات والاقتصاد والهجرة العكسية والاحتجاجات الدولية عبر عواصم ومدن العالم أجمع. مع نهاية هذا العام تكون حرب الإبادة قد مضى عليها 85 يوما تركت غزة كومة من حجارة وكشفت عن نفاق الدول الغربية وكذب ادعاءاتها باحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون.

كنا نظن أن الدول العربية كلها حرة وأن غزة الوحيدة تحت الحصار اكتشفنا أن العالم العربي كله محتل إلا غزة. هذه إحدى اليافطات التي يتم تداولها على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي. ما أدق هذا التعبير وأصدقه. انظروا إلى الدول التي تملك الجيوش والرتب والوزارات والطائرات تطأطئ رؤوسها وتختبئ وراء بيانات هزيلة تافهة لا تساوي الحبر الذي تكتب فيه. رؤساء وملوك سبع وخمسين دولة يجتمعون ويصدرون بيانا هزيلا ولا يستطيعون أن يدخلوا قارورة ماء دون موافقة الكيان الصهيوني.

لقد تسابق كل مسؤولي الأمم المتحدة صغارهم وكبارهم، وأولهم الأمين العام، بإدانة حماس واعتبارها تنظيما إرهابيا وإدانة العملية "الإرهابية". من جهة أخرى هبت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون وطاروا، واحدا تلو الآخر، للتضامن مع الكيان الصهيوني، الذي اعتبر أن كل ذلك الدعم ضوءا أخضر ليفعل ما يشاء. مدفوعا بغريزة الانتقام لم يبق مدرسة أو مستـشفي أو وكالة دولية أو عيادة طبية أو مجمعا حكوميا أو دور حضانة أو مراكز إيواء أو مستودعات وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) إلا وتعرض للقصف وبدأت أعداد الضحايا ترتفع يوما بعد يوم. فقد كان يقتل طفلا كل عشر دقائق. كذلك تم تصعيد الاقتحامات وعنف المستوطنين في الضفة الغربية والقدس بشكل غير مسبوق منذ عام 2005.

عجزت الأمم المتحدة أن تردع إسرائيل بسبب مظلة الحماية التي شكلتها الولايات المتحدة للكيان. استخدمت الولايات المتحدة «الفيتو" مرتين وفشلت روسيا مرتين في تمرير مشروعها لوقف إطلاق النار. القرار الذي اعتمده مجلس الأمن هو مشروع القرار المالطي (2712) الذي اعتمد يوم 15 نوفمبر والذي يدعو إلى هدن إنسانية لإيصال المساعدات، قال لهم سفير إسرائيل في الجلسة نفسها إن حكومته لن تلتزم به. أما القرار الثاني(2720) الذي اعتمد يوم 22 ديسمبر فهو أخطر من سوابقه إذ أعطى إسرائيل حق التدخل وتفتيش المساعدات الإنسانية، أما وقف الأعمال القتالية فمرهون بتهيئة الظروف.

 فضيحة بكل المقاييس

  الجمعية العامة اعتمدت قرارين الأول يوم 26 أكتوبر يدعو إلى هدنة إنسانية بتأييد 121 عضوا، والثاني يوم الثلاثاء 12 ديسمبر بتأييد 153 عضوا، يطلب وقف إطلاق النار فورا. لكن الكيان الصهيوني لم يكترث لا للقرار الأول ولا للثاني. إنه كيان فوق القانون وإلا لم حدثت هذه المجازر.

لقد وضع الكيان هدفين لحرب الإبادة التي يشنها: هزيمة حماس والمقاومة، وإطلاق سراح المحتجزين دون قيد أو شرط. وبعد 84 يوما، لا تحقق لا هذا ولا ذاك وما زالوا يحصون خسائرهم.

  صحيح أن خسائر الشعب الفلسطيني من المدنيين كبيرة، وكبيرة جدا. لكن هل ترك أمام الناس أي خيار؟ هل هناك مكان آمن؟ العالم يتفرج ثم يأتي من يحاضر العرب والمسلمين عن حقوق الإنسان وسيادة القانون. ألا بئس ما يقولون.

غزة أصبحت اليوم عنوانا للحق والحرية والعدالة. غزة النازفة ستترك لعنتها على وجوه الحكام المتخاذلين الذي أغلقوا حدودهم وساوموا على سيادتهم وباعوا أراضيهم وكرامتهم. غزة ستنتفض من تحت الرماد وتعيد كتابة التاريخ، فلا يكتب التاريخ إلا الشرفاء والمناضلون والأحرار.

* محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

لا هو موت ولا انتحار.. ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة...!

 

 بقلم: نواف الزرو(*)

 

 الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية للاحتلال لم تتوقف يوما على امتداد مساحة القطاع منذ الاحتلال عام 1967..، أهل غزة ورفح وخانيونس وبيت حانون ودير البلح وبيت لاهيا وعبسان الكبيرة والصغيرة وكل مخيمات اللجوء في القطاع لم يعرفوا سوى الصمود والمقاومة والتضحيات الكبيرة المستمرة بغية دحر الاحتلال والاستقلال، والذاكرة الوطنية لأهلنا في غزة لا تعي سوى الاحتلال والانتفاضة والمقاومة.

 

يعترف شارون وجنرالات الاحتلال بهذه الحقيقة الكبيرة الصارخة رغما عن أنوفهم..، فلولا الانتفاضة والضربات المؤلمة للمقاومة.. ولولا نجاح أهل القطاع من أقصاه إلى أقصاه بتحويل مشروع الاحتلال إلى مشروع خاسر بالكامل، لما طأطأ شارون رأسه وهامته معترفا بصورة غير مباشرة بأن "مشروع الاستيطان والاحتلال فشل في غزة..، وانه لا أمل في أن يتحول اليهود إلى غالبية في تلك المنطقة".

 

يقول شارون في لقاء أجرته معه صحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية: "أن غزة ليست واردة في أي خطة إسرائيلية ولم نخطط أبدا للبقاء فيها".

 

   وكان ديفيد بن غوريون مؤسس دولتهم يخشى من اجتياح القطاع عام 1948، بينما تمنى اسحق رابين أن يستيقظ ذات صباح ليرى "غزة وقد ابتلعها البحر"، "فقطاع غزة يشكل كابوسا لـ"الإسرائيليين"، يصل إلى حد أنهم يقولون بالعبرية "ليخ لغزة" (أي اذهب إلى غزة) عندما يريدون القول "اذهب إلى الجحيم".

 

بن غوريون الذي رفض غزو غزة خلال الحرب العربية-الإسرائيلية الأولى أطلق كذلك فكرة "نقل الإشراف على قطاع غزة من مصر إلى الأردن"، لكن هذه الخطة لم يكتب لها النجاح...!.

 

     ويقول الباحث عكيفا الدار "الوحيد الذي كان رفض التخلي عن القطاع هو رئيس الوزراء مناحيم بيغن (1977-1983) الذي لم يدرك أن مسألة اللاجئين ستتحول كابوسا لـ"إسرائيل" رافضا التخلي عن القطاع لمصر، بغية إقامة مستوطنات جديدة فيها".

 

     وقد اندلعت الانتفاضة الأولى في ديسمبر (كانون الاول)1987 في مخيم جباليا للاجئين، وبعد شهر على اندلاع الانتفاضة الثانية في سبتمبر (أيلول) 2000، بدأ إطلاق الصواريخ من قطاع غزة باتجاه "إسرائيل".

 

رئيس أركان جيش الاحتلال الأسبق الجنرال موشيه يعلون أعلن قائلا:"أن حربنا مع الفلسطينيين صعبة ومعقدة وليس فيها ضربة قاضية". والجنرال "عيبال جلعاد" احد الآباء المؤسسين لـ "فك الارتباط" رئيس وحدة التخطيط الاستراتيجي في شعبة التخطيط في الأركان العسكرية الإسرائيلية اعترف في لقاء صريح له مع صحيفة "معاريف" وبمنتهى الوضوح قائلا:"رغم كل القدرات الإسرائيلية والأفضلية العسكرية على الفلسطينيين بكل المقاييس والقدرات الاقتصادية والسياسية والدولية.. رغم كل ذلك لم نتمكن من إخضاع الفلسطينيين". ويكشف "جلعاد" النقاب عن "أن شارون كان قد اقترح الانسحاب من غزة عام 1988 – في أعقاب الانتفاضة الأولى – ثم عاد وطرح الفكرة نفسها عام 1992- في أعقاب تفاقم الوضع الإسرائيلي في كل المجالات – وأخيرا رأى شارون – في أعقاب الانتفاضة الثانية/2000 – أن الوقت قد حان للانسحاب من غزة".

 

    مؤيدو "فك الارتباط" يعترفون بدورهم "أن للمقاومة الفلسطينية تأثير كبير على اتخاذ القرار بالانسحاب وإخلاء المستوطنات بينما يقول معارضو الخطة: "إن خطة شارون هي استسلام لإرهاب – الانتفاضة والمقاومة".

 

   الكاتب الإسرائيلي المعروف "عوزي بنزيمان" يكثف هذه المعطيات والاعترافات الإسرائيلية بفعل صمود ومقاومة أهل غزة في مقالة نشرتها صحيفة "هآرتس" تحت عنوان: "نعتذر عن الهزيمة"، قائلا: "إن الجولة الأخيرة في الصراع – المواجهات – كوت الوعي الفلسطيني بفكرة الانتصار ودفعت الإسرائيليين إلى إدراك قصور قوتهم ومحدوديتها.. وبكلمات أخرى: "للانتفاضة الفلسطينية المسلحة تأثير حقيقي على قرار الانسحاب، وبينما يصر القادة الإسرائيليون على الادعاء بأن إسرائيل قد انتصرت على الفلسطينيين، إلا أن الحقائق تشير إلى عكس ذلك.. فكل المساحيق لن تغطي ندوب الواقع: فحرب العصابات الفلسطينية تدفع إسرائيل إلى جر ذيولها من كل قطاع غزة، والجيش الإسرائيلي العظيم وباقي الأذرع الأمنية المتطورة لم ينجحوا في تركيع الانتفاضة.. وقد توصلت إسرائيل إلى هذه النتيجة مؤخرا..".

 

    وفي غزة هاشم- استخدمت دولة الاحتلال في حروبها العدوانية الأخيرة عليها ما أطلق عليه لديهم "استراتيجية الضاحية"،- أي التدمير الشامل ومحو البنية التحتية وما فوق الأرض عن وجه الأرض، على نمط "ما حصل في الضاحية الجنوبية لبيروت في صيف2006"، فلذلك ما ظهر بعد كل عدوان منها: "أن هناك" أحياء كاملة مدمرة محيت عن وجه الأرض على نحو وصفه شهود عيان انه لا يصدق أبدا...!"، وإحصائيا وصل عدد المباني التي دمرت حتى كتابة هذه السطور إلى نحو 350 ألف مبنى بين تدمير كلي وجزئي...!.

 

     كما استخدم الاحتلال سياسة "الإبادة والمجازر الجماعية البشعة التي ارتقت إلى مستوى ما بعد الجريمة.. والى مستوى المحرقة الحقيقية"، فكان الحصاد الإجرامي حتى اليوم حوالي 31 ألف شهيد منهم حوالي 12 ألف طفل، وحوالي 57 ألف جريح حوالي 75 بالمائة منهم من الأطفال والنساء، بينما قدر عدد المفقودين تحت الأنقاض بحوالي 12 ألف فلسطيني، غير أن لحقيقة مشهد المحرقة والمجازر والدمار تأثير هائل ومروع اشد أضعاف المرات مما للأرقام الجافة...!

 

   فكان هناك أن "أطلقت قوات الاحتلال الكلاب لنهش جثث الشهداء"، وكان هناك "مئات العائلات المحتجزة في غرف صغيرة داخل المنازل"، و كان هناك "الموت يترصد المواطنين في كل زاوية"، وكذلك كان هناك أن " فلسطين تشهد أضخم واخطر عدوان حربي مجازري وأطول حصار في تاريخ الصراعات"، وكان هناك أن "بلدوزرات الاحتلال أخذت تعمل على إعادة رسم خريطة فلسطين من جديد".

 

 إلى ذلك- فان هدير الطائرات والدبابات والجرافات على امتداد مساحة القطاع لم يتوقف عن أهلها أبداً ..

 

  وعربدة الوحدات الخاصة وأصوات التفجيرات الإرهابية المبيتة وصواريخ المروحيات والاغتيالات باتت تطغي على كل شيء فيها. وقد وصف "ناعوم تشومسكي" عالم اللغويات والمفكر اليهودي الأمريكي الشهير "محرقة غزة" قائلا:"بشاعة العدوان الإسرائيلي على غزة جعلت لساني عاجزا عن وصف دقيق لما يحدث هناك.. بحثت في القاموس عن لفظة تجسد هول ما يحدث، فلم أجد.. حتى مفردة (الإرهاب) أو (العدوان) غير معبرة عن حقيقة المأساة".

 

   لقد أثقلت مشاهد القتل الجماعي والتدمير المروع التي ألحقتها آلة الحرب التدميرية الإسرائيلية مجددا الذاكرة الوطنية الفلسطينية.. لقد أراد منفذو المحرقة حسب الباحث ميرون بنفنستي في هآرتس 22 /1/2009 "أن يميزوها بتعريفين متناقضين:"رب البيت جن" ويرد بوحشية مجنونة، و"غضب مضبوط" أيضا، أي عملية عقلانية ترمي إلى الردع، ولكن ينبغي أن نضيف إلى هذين التعريفين تعريفا آخر وهو أنها رد غريزي مكرر من جماعة مهاجرين مغتصبة"، ويوضح بنفنستي هذا البعد قائلا:"لقد كتب ديفيد دي، وهو احد ابرز الباحثين في مسارات سيطرة مجتمعات المهاجرين على مجتمعات أبناء البلاد:"الرد الوحشي على كل علامة انتفاضة من قبل الشعوب من أبناء البلاد يرمي إلى أن يسمي وعي المحتلين والواقعين تحت الاحتلال بنطاق ومحدودية الاحتلال وعدم بقاء استمرار المقاومة، بالرغم من أن هذه الوحشية قد تقوض المطلب الأخلاقي للمجتمع المغتصب للسيطرة على المنطقة التي احتلها"، مردفا:"اجل توجد أمثلة تاريخية كثيرة تبين كيف استعملوا مقاومة أبناء البلاد العنيفة لاغتصاب أرضهم لتسويغ رد عسكري غير متناسب، يرمي تحت غطاء "محاربة الإرهاب" إلى تحطيم معنوياتهم وسلب أراضيهم. تنبعث رائحة شديدة للعفن الاستعماري من العملية الغزية وعمليات مشابهة تمت في الماضي".

 

  وبحسب ما يؤكد الصحافي والمؤرخ الإسرائيلي توم سيغف، الذي كان واحدًا من الأصوات الإسرائيلية القليلة التي سمّت الأشياء بأسمائها الحقيقية، فور أن بدأت المدافع دويّهـا"، فقد كتب في زاويته الأسبوعية في صحيفة "هآرتس"، 28 ديسمبر 2008، عن الحروب على غزة يقول: إسرائيل تسدّد الضربات إلى الفلسطينيين من أجل "أن تلقنهم درسًا"، وهذه هي إحدى الفرضيات الأساسية، التي ترافق المشروع الصهيوني منذ بدايته، فنحن- اليهود- مندوبو التقدّم والحضارة، الحنكة العقلانية والأخلاق، والعرب هم رعاع بدائيون ذوو نزعات عنيفة وهوجاء، جهلة لا بُدّ من تربيتهم وتعليمهم الفهم الصحيح بطريقة "العصا والجزرة"، على غرار ما يفعل المكاريّ مع حماره". ويضيف:"يفترض بقصف غزة أن "يقضي على سلطة حماس"، وفقًا لفرضية أخرى ترافق الحركة الصهيونية منذ تأسيسها، وبموجبها في الوسع أن نفرض على الفلسطينيين قيادة "معتدلة" تتنازل عن تطلعاتهم القومية".

 

    ولذلك تتدحرج"المحرقة" ويتصاعد لهيبها بينما يستخدم جنرالات الاحتلال المزيد والمزيد من القوة الابادية التدميرية، و"يغطون المجزرة بمجزرة أفظع، ويقابلون شجاعة أبنائنا المقاتلين، بالمزيد من إبادة الأبرياء، وبات الموت فائضاً يتجاوز قدرة من يراقبون من بعيد، على الاحتمال والتماسك، فالمدمنون على الجريمة لا يعرفون متى يتوقفون، إن كانوا من الخاسرين أو كانوا من الرابحين، فهم يرون في صمود الفلسطينيين، وفي عدم رفعهم للرايات البيضاء، مدعاة لنيران أعتى، بصرف النظر عن الضحايا من الأبرياء".

 

      إذن- هي مشاهد وحكايات وجراح قديمة – جديدة – متجددة تنطق بها المدن والأحياء والبيوت المهدمة والقبور الجماعية.. كلها تتراكم وتتقافز على أرض قطاع فلسطين لتحكي لنا قصة فلسطين من بدايات الصراع والنكبة الأولى مرورا بالفصول والمراحل المختلفة على مدى العقود الماضية من عمر القضية، وصولا إلى الحرب العدوانية الجارية2023، والتي ترتقي إلى مستوى الهولوكوست...!

 

في مواجهة كل تلك العناوين التي تجمع كلها على أننا في مواجهة أعتى وأقسى وأبشع حرب عدوانية، وأمام جرائم حرب هي الأبشع حتى الآن التي تقترفها دولة الاحتلال، وفي مواجهة كمائن الموت اليومي التي نصبتها وما تزال تنصبها قوات الاحتلال لنساء وأطفال وشيوخ أهلنا هناك أيضاً نتابع:

 

كان هناك "قرار وإرادة التصدي" و"روحية الصمود والإباء والكبرياء والبقاء"، و"إرادة الحياة في مواجهة الموت"، و"كسر الحصار والإصرار على البقاء"، وكان هناك "الأطفال والنساء والشيوخ الذين يتحدون الصواريخ والرصاص والدبابات"..!

 

إنها قصة الكارثة/المحرقة- والبطولة الفلسطينية تتفاعل في قلب مدن وقرى ومخيمات القطاع ، وعلى امتداد مساحة فلسطين التاريخ والتراث والحضارة والاقتصاد والسياسة والنضال.. !.

 

لا هو موت ولا انتحار..

 

ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة

 

    وكان الراحل محمود درويش شاعر فلسطين والعرب قد عبر أعمق تعبير عن "غزة وروحها وصمودها وبطولاتها ومعنوياتها وجدارتها بالحياة"، حينما كتب قائلا:"ليست لغزة خيول، ولا طائرات، ولا عصى سحرية، ولا مكاتب في العواصم، إن غزة تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا، ومن غزاتها في وقت واحد، وحين نلتقي بها ـ ذات حلم ـ ربما لن تعرفنا، لأن غزة من مواليد النار، ونحن من مواليد الانتظار، والبكاء على الديار، صحيح أن لغزة ظروفًا خاصة، وتقاليد ثورية خاصة، ولكن سرها ليس لغزًا، مقاومتها شعبية متلاحمة، تعرف ماذا تريد "تريد طرد العدو من ثيابها، لم تقبل وصاية أحد، ولم تعلق مصيرها على توقيع أحد، أو بصمة أحد، ولا يهمها كثيرًا أن نعرف اسمها وصورتها وفصاحتها، لم تصدق أنها مادة إعلامية، لم تتأهب لعدسات التصوير ولم تضع معجون الابتسام على وجهها. وقد ينتصر الأعداء على غزة، وقد ينتصر البحر الهائج على جزيرة، قد يقطعون كل أشجارها، قد يكسرون عظامها.. قد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها، وقد يرمون في البحر أو الرمل أو الدم، ولكنها لن تكرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم وستستمر في الانفجار.

 

لا هو موت، ولا هو انتحار، ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة".

 

• باحث و مؤرخ وكاتب فلسطيني وأسير سابق

 

 

 

يوميات صحفي في غزة ..

 

بقلم: محمد صالح العجلة

 

تكون قلقا وخائفا وأنت جالس في البيت الذي نزحت إليه من مدينة غزة إلى جنوب قطاع غزة، فلا تدري، هل سيكون الدور عليه، ليقصف على رؤوس ساكنيه، فتكون واحدا من مئات الشهداء الذين يرتقون يوميا، ولم تعد أسماؤهم تذكر من كثرتهم، أو تكون مصابا لتدخل دوامة الدخول لإحدى المستشفيات، فتكتشف نعمة لو أنك كنت من الشهداء، من صعوبة الوضع الذي تواجهه المستشفيات في ظل الضغط الشديد وتزايد أعداد المصابين والجرحى، الذين هم بالآلاف، وبعضهم يكون أقرب للموت من الحياة. هذا طبعا لو كنت محظوظا بأنك تقيم في المناطق التي يسمونها آمنة، أما غير الآمنة، فلم يعد توجد فيها مستشفيات، ويبقى الجريح ينزف حتى يلاقي وجه الله، وربما تدخلت عناية الله فيكون جرحك ليس غائرا، ويسمح بعد يوم أو يومين لسيارة إسعاف بالدخول، فيتم إنقاذك، ونقلك للمستشفى...

 

ونعود الآن للبيت الذي نزحت إليه، ولنفترض أنه لم يقصف بعد على رؤوس ساكنيه، فتقوم صباحا، لتجهيز نفسك أنت وأبناؤك للذهاب إلى المستشفى لزيارة ابنتك المصابة، والتي ترقد هناك منذ شهر وأسبوع، ولتطمئن عليها وعلى والدتها المرافقة لها..

 

بعد أخذ دور على الحمام قد يستمر الأمر لساعات، الطوابير طويلة، تغسل بماء مالح كماء البحر تماما، وحتى هذا الماء لا يتوفر بكميات كافية. تتناول ما قسم الله لكم من فطور، إن توفر الخبز. وفي حالة توفره تتناول نفس الفطور الذي اعتدت على تناوله منذ بداية الحرب، قبل أكثر من ثمانين يوما، هذا إن كنت محظوظا أكثر من غيرك واستطعت توفير المال لشراء معلبات الفول والجبنة الفيتا وربما المرتديلا، وكل هذه المعلبات تضاعف سعرها عن الطبيعي ما لا يقل عن أربعة أضعاف تخرج من البيت وسط أصوات غارات الطيران وقذائف المدفعية التي لا تتوقف، لتبحث عن سيارة تقلك من منطقة إقامتك إلى المستشفى، وأنت تعرف أنك ستدفع للسائق خمسة أضعاف الأجرة الطبيعية، ويا ليتك تجد سيارة، فمن أين للسيارات بالوقود، الذي لا يدخل للبلد إلا بكميات قليلة جدا، ولأغراض محدودة، وهذا بعد تدخل رئيس أمريكا.

 

 وإذا فشلت في العثور على سيارة فما عليك إلا البحث عن كارة يجرها حمار أو حصان، فتقطع المسافة في خمسة أو ستة أضعاف الزمن الذي تحتاجه السيارة. في طريق البحث عن سيارة أو كارة حمار أو حصان، أو في طريقك للمستشفى، تكتشف أن الأرصفة التي كنت تسير عليها أمس، أقام نازحون جدد عليها خياما لتؤويهم هم وأسرهم، وتجد ما تبقى من مساحات هنا وهناك، وقد امتلأت بخيام جديدة للنازحين، وتسأل عن هؤلاء النازحين، فيجيئك الجواب أن الغزاة اجتاحوا مخيمي البريج والمغازي، والناس هربوا من شدة القصف. في المساء بعد عودتك من المستشفى، تحاول أن تتناسى كل ما مر بك من مشاهد مؤلمة وقصص محزنة، لكي تستمر الحياة، إن نجوت من قصف أو غارة. تعود كما تفعل كل يوم لتحاول الاتصال على أخيك، أختك، ابن عمك، صديقك...، لتعرف أخبارهم وأسرهم، فربما مر الآن شهر على آخر مكالمة تسنى لك إجراؤها، فتفشل في الاتصال كما هي العادة، والإنترنت لم يعد متوفرا بطبيعة الحال. أما إذا جن عليك الليل وأنت لا تزال بخير، فتمضي ليلتك الثقيلة بالدعاء إلى الله، أن يجنبك ويلات هذه الحرب، إلى أن يطلع الفجر. وعند ذهابك للمستشفى في اليوم التالي، عليك كما تفعل كل يوم، أن تتظاهر أمام ابنتك المصابة ووالدتها المرافقة معها، بالثبات والقوة وعدم الانكسار..

 

 وهكذا، لا نزال ونحن على أعتاب الثلاثة شهور من هذه الحرب البشعة، نعيش كل يوم هذه الأيام المتشابهة، التي تفوح منها رائحة الدم، ومشاهد الأشلاء والمدينة التي دمرها الغزاة وكانت من أجمل المدن العربية.

 

إيران والحرب على غزة .. الدولة بين واقعها وخيال حكامها

 

بقلم: هاني مبارك(*)

 

اعتبار الدولة كظاهرة اجتماعية أوجدتها متاعب البحث عن وهم الانتصار النهائي، لا ينفي مطلقا أنها ظاهرة طبيعية في ميكانيزمات بقائها وآليات تطوير هذا البقاء، وأن حجم أخطاء وفشل السلطة يكون دائما في مساحة الالتباس التي يخلقها عقلها -أي السلطة- في فهم وابتكار وسائل التعايش المر بين كونها اجتماعية في مبررات استمرارها لتمتين ركائز السلم الأهلية، وبين كونها طبيعية تسير وفق نمط تطور مطرد ومتواصل يمليه عليها دورها الاجتماعي الذي يعمل بصورة طبيعية رغم كل محاولات عقلنته.

 

ومحاولات العقلنة هذه أو ما يسمى في علمي الاجتماع والسياسة، بصياغة سياسة الدولة وتحديد اختياراتها وتحالفاتها على المستويين الداخلي والخارجي هي المكون الحاسم الذي سيحدد مصير سلطة أي دولة من ناحية ومآلات استمرار حركتها في مداريها الإقليمي والدولي من ناحية ثانية، وهنا يتم التوقف طويلا أمام مكونات عقل السلطة في الدولة في بعديه البيروقراطي الملموس والسببية العميقة في فهم تمظهراته لتحديد طبيعته وتفحص وسائل ضبطه وإجراءات تعديل طرق عمله وفهم حجم القيود المفروضة عليه لتقييد الخيالي فيه أو الإيديولوجي أو العقيدي لمحاولة استشراف ما يسمى باستراتيجيات الدولة المستقبلية التي تختزل مختلف المتغيرات أو هكذا يجب أن تكون.

 

وحتى لا نسترسل كثيرا في النبش بعقل سلطة الدولة، سنكتفي بالقول إنه يجب الاعتراف المباشر بالدور الحاسم لموقع إيديولوجيا أي مجموعة سياسية حاكمة في صناعة قرارها وتقرير نوعية سياسات دولها حتى وإن كانت على النقيض من احتياجات الدولة الطبيعية الحقيقية والواقعية. نثير هذه الإشارة الثقيلة في سياق اضطراري يطرحه النقاش المحتدم حول حدود الدور المرتقب لإيران أو لأذرعها الإقليمية المؤثرة وخاصة حزب الله في الحرب الإجرامية التي تقودها مباشرة الولايات المتحدة بسلاحها وعدتها واستخباراتها المتنوعة عن طريق وبواسطة الجيش الإسرائيلي لحسابات إستراتيجية تتجاوز حدود المكان الإقليمي كما تتجاوز حدود الزمن الراهن لما هو مستقبلي بعيد.

 

فعلى ما يبدو أن مختلف التنظيرات التي أعقبت انهيار الإتحاد السوفييتي وبشرت بانهيار فروض نظرية ماكندر كانت تنظيرات متسرعة أو أن استنتاجاتها جاءت تحت وهج انتصار الخيار الليبرالي المزعوم، التي لم تأخذ بنظر الاعتبار متغيرات فروض نظريات الجغرافيا السياسية التي تقوم بشكل أساسي على أكثر المفاهيم تغيرا في حياة الدول وهو مفهوم قوة الدولة.

 

والحقيقة أن الاستراتيجيين الأمريكيين هم الذين كانوا أبكر وعيا بوهن هذه الاستنتاجات المتسرعة اثر التعافي الكبير والسريع الذي طرأ على قوة الدولة الروسية عقب إستراتيجية انتشال الدولة التي وضعها الكرملين وتنامي قوة الصين.

 

وعلى ما يبدو أن هذا الوعي صار أكثر عمقا في أعقاب عملية السابع من أكتوبر الماضي، حيث تجسد ذلك برد الفعل الأمريكي الخاطف على تلك العملية رغم الانشغال العميق بمجريات الحرب في أوكرانيا التي افتعلتها أمريكا لسببين أولهما وقف الاندفاع الألماني والأوروبي بصورة عامة للتوسع بعلاقاتها الأفقية مع روسيا وثانيهما إعادة تطويق تنامي القوة الروسية وإغراقها بحرب استنزاف طويلة الأمد للتفرغ نهائيا لاحتواء تصاعد النفوذ الصيني.

 

ولا يخفى على دارسي العلاقات الدولية أن مرد هذا التفاعل الأمريكي العاجل هي الطبيعة اليمينية لإتباع الراتزلية في الإدارة الأمريكية التي صارت أكثر وضوحا مع إدارتي ترامب وبايدن من ناحية ولعودة الاعتبار لفروض ماكندر بعد كسر احتكار تملك التكنولوجيا الحديثة من قبل دول بعينها وانتشار السلاح النووي الذي حوله إلى سلاح ردعي فقط غير قابل للاستعمال وعودة أهمية العوامل الجغرافية من ناحية ثانية.

 

وتأسيسا على ذلك فانه لم يعد أمام الإدارة الأمريكية سوى خيارين فقط، إما القبول الطوعي بإعادة تقاسم العالم إلى مناطق نفوذ جديدة تعترف من خلالها، لغيرها من الدول الصاعدة بدور أكثر تقريرا في قيادة النظام الدولي، أو الاستمرار في محاولة الانفراد بقيادته، ولكن إلى أي مدى؟؟.

 

الحقيقة من الصعب جدا الجزم بترجيح احتمال على آخر، ولكن ذلك لا ينفي آن النهج الأمريكي القائم حاليا يظهر بوضوح شديد عزم واشنطن على رفض قبول أي شريك لها بإدارة الشأن الدولي، وتستخدم في سبيل ذلك تكتيكين متلازمين احدهما يقوم على تفويض مفتوح لإسرائيل في حربها الراهنة لتحقيق انتصار ساحق، لا يمكنها من تفكيك القوة العسكرية للتنظيمات المسلحة الفلسطينية وحسب، بل وتنصيب نفسها ''سيدا'' مطلق اليدين في المنطقة بعد إعادة تنشيط واستكمال عمليات التطبيع بما يضمن لواشنطن كافة مصالحها الإستراتيجية خاصة في بعدها الأوروبي، أما الثاني فيقوم على الردع لمنع أي طرف إقليمي من التفكير بصناعة فرصة له من خلال مجريات هذه الخرب.

 

وفي هذا السياق فالجهد الأمريكي يتركز بصورة كلية على الدور الإيراني بكل اذرعه، وخاصة ذراعها في لبنان.

 

صحيح إننا لا نمتلك المعلومات الكافية للتأكد من أن فصائل المقاومة الفلسطينية إن بشكل مباشر أو ضمني تدير المعركة مع طهران ومن هم وراء طهران وفقا لتكتيك صارم يقوم على الاستثمار المجدي والفعال في استخدام عناصر القوة لاحتمالات أطول زمن يمكن أن تمتد إليه هذه الحرب، ولكن من الواضح أن هناك نوعا من استخدام الساحات الأكثر أضرارا بالجبهة المعادية والأقل خسائر في صفوفها مثل الجبهتين اليمنية والعراقية وانه يجري استخدام موارد الجبهة الشمالية بسقف محدود، ولكن من غير المؤكد إن كان ذلك قابل للتطوير أم لا؟.

 

الحقيقة إن ذلك يتوقف على فهم سلطة الدولة في إيران لدور الدولة الإقليمي، وفيما إذا كانت تتعامل مع هذه الدولة وفقا لواقعها الذي خلقته قياداتها السياسية المتعاقبة منذ عام 1979، كدولة إقليمية تختلف التحليلات في تفسير دوافعها بين ما هو ديني - طائفي وقومي فارسي وجيوبوليتكي أملته عليها حدود قوتها التي بنتها سلطتها.

 

لا شك أن التحليلات على هذا الصعيد كثيرة ومتعددة ولكل منها حججها وبراهينها، ولكن يبقى القول النهائي والحكم القاطع على صحة هذا التفسير أو ذلك رهينا لنتيجة الصمود الفلسطيني، ففي حالة الانهيار لا قدر الله دون تدخل من إيران واذرعها في الحرب، فالمؤكد عندها أن عقل السلطة لم يتسق وواقع الدولة بل ذهب وفق خيال حكامها وإرهاصات عقائدها وأن النتيجة ستكون طي الخيام والرحيل وانتهاء حقبة محور الممانعة والمقاومة، إما بفعل أمريكي-إسرائيلي مباشر، أو بفعل تآكل المصداقية وكذب الشعارات، وأن كان واقع العمليات العسكرية في غزة قد يعفي هذه الشعارات هذا الامتحان الصعب، إذ أن الصمود الفلسطيني وتآكل قوة الجيش الإسرائيلي يشيران لترجيح كفة الصمود والانتصار على الجيش الإسرائيلي الذي باتت مظاهر الإنهاك عليه أكثر وضوحا وقوة.

 

*أستاذ الإعلام في جامعة منوبة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

2023حصاد الدم وموت الضمير الإنساني الدولي.. هل يتوقف النزيف في 2024؟

 نعيش منذ السابع من أكتوبر الماضي على نبض زحمة الأحداث في غزة..، تلازمنا في كل ساعة وكل حين..، نهتز لمعاناة أهلها وصرخات أطفالها واستغاثة نسائها وثكلاها وأيتامها ووجع صحافييها وفنانيها ومؤرخيها ولوعة أطبائها وهم يشهدون موت المصابين البطيء في قهر وعجز..، نعيش على وقع غزة وكأننا هناك نتألم نسمع نرصد نبكي أحيانا لما يحدث ونشعر بالإحباط، نشعر بالإحباط واليأس، ولكن لا نفقد الأمل لان هناك شعبا يكابد ينتصر كل يوم للحياة ويتفوق على رائحة الموت المنتشرة في المكان..، عيوننا ترحل إلى غزة كل يوم كما سبق ورحلت إلى القدس مع أنغام فيروز..، قد يكون هذا السبب جعل مختلف الكتاب والمحللين الذين شاركوننا أحلامنا وتطلعاتنا على وقع سنة تمضي وأخرى وبينهم الدكتور نبيل عمرو والمؤرخ نواف الزرو والخبير الأممي عبد الحميد صيام يكتبون عن غزة...

في غزة انتهت الرحلة عبر سنة 2023 التي نعيش على وقع الزمن القصير المتبقي فيها ومن غزة تبدأ الرحلة مع أولى ساعات سنة 2024 التي نستعد لاستقبالها على وقع ضجيج القنابل والصواريخ وصور المقابر الجماعية والأشلاء الآدمية... لا احد يعرف حصيلة الشهداء في حرب الإبادة الجماعية في غزة حتى اليوم السابع والثمانين من حرب الإبادة المفتوحة اقتربت الحصيلة من الاثنين وعشرين ألف شهيد ونحو ستين ألف مصاب دون اعتبار المفقودين الذين جمعتهم المقابر الجماعية... والجثث التي تم تشويهها وسرقة أعضائها.. ما تقدمه نشرات الأخبار يوميا من جرائم الحرب التي يقترفها جيش الاحتلال ليست سوى الظاهر أما ما خفي فقد لا يكتشف حجمه قبل وقت طويل.. غزة تنزف وكل قطرة من دماء ابنائها تشهد على بؤس وأنانية وانهيار القيم الإنسانية التي سقطت أمام اختبار آلة القتل الإسرائيلية وخذلت غزة وأهلها وتنكرت لحقهم في الحياة والكرامة وإنسانية الإنسان..

كم كنا نتمنى لو أن غزة وأهلها المطاردون على أرضهم بإمكانهم استقبال العام الجديد مثل بقية شعوب الأرض الذين يحتفلون بهذا الموعد ويستعدون له بكل مظاهر الفرح بلقاء الأهل و الأصدقاء وإطلاق الشماريخ وتبادل الهدايا وكل ما يسعد الأطفال ويمنح الجميع فرصة التطلع للتفكير بالمستقبل وتحقيق أحلامهم في الحياة.. لم يعد للحلم مكان في غزة أو في الضفة فجرائم الاحتلال التي تربط الليل بالنهار تصر على تدمير كل مظاهر الحياة والسطو على ما بقي من الهوية الفلسطينية ومن أسباب التمسك والبقاء على ارض فلسطين.. هكذا هي سياسات كيان الاحتلال منذ نشأتها قسرا من رحم عصبة الأمم والأمم المتحدة لاحقا التي سيتمرد عليها ويدوس على قراراتها بمباركة لحليف الأمريكي و البريطاني وتواطؤ بقية أعضاء نادي مجلس الأمن الدولي.. فقد قام الاحتلال منذ بداياته على الدم بداء من مجزرة دير ياسين والطنطورة واللد والرملة وصفد وصولا إلى القدس وصبرا وشاتيلا والخليل وغزة 1 وصولا إلى خامس حرب على القطاع مع اختلاف واحد وهو أن عصابات "الهاغاناه" و"الشترن" تحولت إلى جيش نظامي إرهابي.

..لا حديث اليوم إلا عن غزة وهذا ما يجب أن يكون حتى يتوقف العدوان لا الإعلام يجب أن يمل ولا الشعوب الحية والحقوقين الرافضين للظلم يجب أن يطبعوا ويستسلموا لما يحدث ويقبلوا بحرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل على القطاع المدمر فيما يتواصل صمت العالم وعجزه عن إيقاف الحرب وإيقاف شلال الدم المستمر...

أن ينحصر عنوان عام 2023 الذي نودع وعام 2024 الذي نستقبل، حول ما يحدث في غزة مسألة فرضتها الأحداث ولابد أن ما ستؤول إليه هذه الحرب سيكون ربما منطلقا لقراءة توجهات ومستقبل المنطقة العربية وهل ستغرق أكثر وأكثر في دماء شعوبها وتستمر في الانهيار والسقوط والتفكك أم أننا سنشهد صحوة مفاجئة تضع حدا لحالة التدمير الممنهج التي تعيش على وقعه المنطقة العربية من المحيط إلى الخليج.. لم تكن سنة 2023 دون مآس قبل اندلاع الحرب على غزة فقد كان لزلزال سوريا وتركيا أثاره الثقيلة المؤلمة ولكن ما شهده العالم من تضامن إنساني على وقع المآسي الإنسانية أوحى ببقية من قيم إنسانية كونية تكابد من اجل البقاء... وكان لتزامن زلزال المغرب وطوفان درنة ما حول الأنظار عن المآسي الإنسانية العالقة في اليمن ومعاناته مع الصراعات والحروب والمجاعة ومع مآسي السودان الغارق في أزماته وصراعاته وحروب الإخوة الأعداء الذين اجتمعوا لإسقاط دكتاتورية نظام البشير فسقطوا في خلافاتهم وحروبهم التي تهدد السودان اليوم بأخطر التداعيات الأمنية والاجتماعية. ولو انتقلنا في جولة افتراضية لوجدنا المنطقة العربية تنوء بأرزائها وأثقالها وأزماتها بين دكتاتورية متسترة وشعبوية متمددة وبين أزمات اقتصادية واجتماعية وفقر مادي وآخر معرفي وعلمي وأمية ضاربة وتطرف بلا حدود..

يلقي البعض بالتلميح حينا والتصريح حينا آخر على حماس بالمسؤولية فيما آلت إليه الأوضاع في غزة من خراب ودمار وموت في كل مكان...ولكن ينسى الكثيرون أن غزة قبل عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر لم تكن تحظ برغد العيش ولم يكن أهل غزة يعيشون في كنف الحرية والأمان.. كانت غزة محاصرة برا وبحرا وجوا وكان الجميع داخل سجن لا مجال لمغادرته وكان نصف شباب غزة مبتور الأطراف بفعل الاعتداءات الإسرائيلية على المتظاهرين على الحدود كل أسبوع... كأن غزة تعيش معاناة مضاعفة بمعزل عن كل العالم.. عملت إسرائيل بعد أوسلو على تمكين حماس في غزة على أمل تشتيت فتح وإضعافها ودفع الحركات الفلسطينية إلى السقوط في محاربة بعضها البعض... وهو ما يمكن القول إنها نجحت فيه..

جاءت عملية طوفان الأقصى لتوجه صفعة لم يتوقعها الاحتلال وقناعتنا أن كل التقارير التي تتحدث اليوم عن معرفة مسبقة للأجهزة الأمنية الإسرائيلية بالعملية والادعاء بان إسرائيل لم تمنع وقوعها حتى تعيد احتلال القطاع محاولات لإنقاذ حكومة نتنياهو وجيش الاحتلال من العار الذي سيلاحقه إلى ما لا نهاية... والأكيد أن الحقد الأعمى وكل العمليات الانتقامية التي تقودها إسرائيل في هذه الحرب هي أشبه بما يقوم به حيوان جريح في لحظات الهيجان... وبقطع النظر عن ردود الأفعال الإسرائيلية والأمريكية ونتائجها على الأرض فان إسرائيل وحلفائها لم يستسيغوا هزيمة الجيش الذي طالما وصف بأنه لا يقهر والهزيمة مشتركة لأنها تمتد أيضا للحلفاء الذين يمولون ويجهزون جيش الاحتلال بكل أنواع السلاح الحديث...

اليوم يدفع الشعب الفلسطيني ثمنا باهظا من دماء أطفاله ونسائه وشبابه وموروثه وكل مكونات غزة بآثارها ومساجدها وكنائسها.. بعض المؤشرات بدأت عن مفاوضات في القاهرة ومبادرة مصرية لإنهاء الحرب وتبادل الرهائن والأسرى.. من السابق لأوانه قراءة المشهد في ظل سموم القنابل المتهاطلة على أهالي غزة والممتد إلى الضفة في حرب الإبادة المنسية على الفلسطينيين في جنين والخليل والقدس..

هل يعني ذلك نهاية الآمال وانعدام الآفاق والمبادرات.. بالتأكيد لا والأمر يبقى بيد الفلسطينيين وحدهم وسيتعين على كل الفصائل الفلسطينية المقاومة وكل السياسيين عدم التفريط في هذه المحطة التاريخية في تاريخ القضية الفلسطينية وعدم إهدار دماء الشهداء والضحايا لان الأجيال القادمة لا ولن تغفر لهم ذلك.. غزة اليوم عنوان لصمود أسطوري ولكن لمعاناة غير مسبوقة في تاريخنا الحديث.. كان البلدوزر شارون يحلم أن يستيقظ ويجد أن غزة قد ابتلعها البحر.. في سجل شارون مجازر وجرائم ذهب ضحيتها آلاف الفلسطينيين... رحل شارون وقبر وبقيت غزة وهي اليوم تتحدى جلاديها وتواجه لا جيش الاحتلال الإسرائيلي فقط ولكنها تواجه معه كل القوى العنصرية الداعمة لصلف وغطرسة الاحتلال ...

ما الذي سيحمله 2024 لغزة وللعالم؟ قد يكون من الصعب التكهن بما سيؤول إليه المشهد في غزة والضفة ولكن الأكيد أن القضية انتفضت وخرجت من غياهب النسيان ولا يمكن أن تكون محل مقايضة وسمسرة مجددا..

سنعود إلى غزة ولن يكون ذلك عبر رحلة افتراضية وعبر رصد بين معاناة أهل القطاع ولكن عبر بحر غزة رئة القطاع ومتنفسه وقاطرته إلى كل العالم..، سنعود إلى غزة ونشهد عودة مهد العزة إلى أصحابها..، سنعود إلى غزة التي ترسم للعالم أروع الملاحم النضالية في زمن عزت فيه معاني النضال وباتت خاضعة للمقايضة في المنابر الأممية ومجلس أمنها الذي يبارك ذبح الأبرياء إرضاء لمكابرة و ظلم و همجية كيان الاحتلال..

سنعود إلى غزة لنسمع حكايات أمواج البحر المتدافعة هناك تتحدث عن بحرها مصدر ثرواتها وتجارتها وحضاراتها المتعاقبة التي صنعت تاريخ غزة وماضيها، ولكن أيضا مستقبلها ومستقبل الأجيال القادمة... سنعود إلى غزة والى فلسطين بالتأكيد..

اسيا العتروس

حرب غزة.. ما الذي انتهى وما الذي يبدأ؟

بقلم: نبيل عمرو

تحتاج إسرائيل إلى وقت طويل حتى تستوعب ما حلّ بها منذ يوم السابع من أكتوبر، وجرّاء حدث كبير كهذا تتشكل كالعادة لجنة لتحديد الثغرات والمسؤوليات، وغالباً ما يستفيق الرأي العام من الصدمة، لتعود الدولة العبرية ونظامها وساكنوها إلى ما تعودوا عليه من شعور بالقدرة على فعل كل شيء والتفوق على كل الخصوم.

حدث هذا أيضا في أكتوبر 73، حين تهاوى خط بارليف الحصين في ساعات أمام الجيش المصري، وحدث بعد الخسائر الكبيرة التي منيت بها إسرائيل في حرب 82 على لبنان، والتي لحقتها مذبحة صبرا وشاتيلا التي نظمها آرييل شارون، وسيحدث مثله بعد طوفان الأقصى.

 وقبل صدور خلاصات اللجنة التي ستتشكل، سيطيح جنرالات بأنفسهم، وسيكون أول من يُطاح به بنيامين نتنياهو الذي وقعت المصيبة الكبرى في عهده، لتضاف إلى سلسلة المصائب التي تسبب بها لإسرائيل ومنها، انقلابه على القضاء ليس في حركة تصحيحية كما يزعم وإنما للنجاة بجلده من التهم الكبيرة التي تلاحقه، فإمّا أن يذهب إلى البيت أو إلى السجن.

والذي انتهى في هذه الحرب مهما كانت نتائجها هي المساحة الاستقلالية التي لعبت فيها حكومة إسرائيل وبارتياح مع أمريكا ومن وراء ظهرها، هذه المساحة أزعجت واشنطن كثيراً وقللت من الإذعان التلقائي لسياساتها.

ما حدث في السابع من أكتوبر استدعى حاملات الطائرات الأمريكية للدفاع عن إسرائيل، وهذا وحده كافٍ لإظهار استحالة استمرار إسرائيل كيانا ونفوذاً دون الدعم الأمريكي المباشر، وحتى لو أنجزت الحكومة الإسرائيلية صورة نصر تسوقه للرأي العام فهذه المرة ستكون الصورة ملفوفة بالعلم الأمريكي.

على الجانب المقابل، حيث قوى الممانعة تبدو في هذه الحرب كهرم يقف على رأسه ورأس الهرم غزة التي تحملت على كاهلها المتعب أصلاً وزر حرب انتقامية مفتوحة الوسائل والمدى الزمني، ومدعومة بغطاء دولي حكومي يكاد يكون مغلقاً.

لم يبق من غزة إلا القليل من معالمها، ولم يبق من سكانها من لم يفقد طفلاً أو عدة أطفال على نحو وضع الجميع في حالة "من لم يمت اليوم ربما يموت غداً ومن لم يجرح في قصف سوف يجرح في القصف الذي يليه، ومن فقد داره والمشفى الذي كان يلوذ به لم يعد أمامه إلا العراء".

أمّا قوى الممانعة فلا يُنكر أنها قدّمت شهداء على جبهة الجنوب اللبناني وأنها أزعجت حملة السيوف الحديدية واستنفرت القوة الإستراتيجية الأمريكية وملاحقها الغربية، ويبدو.. ولا أحد يجزم بأن هذا هو أقصى ما يمكن أن يعمل بشأن غزة، ولأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها فلم يعد بوسع قوى الممانعة أن تفعل أكثر مما فعلت.

الدمار يتسع والشهداء يتزايدون يوما بعد يوم بل ساعة بعد ساعة، وغزة رأس الهرم المقلوب لا تطلب أكثر من بعض وقود وبعض ماء وبعض دواء، والواقع العربي والإقليمي والدولي، مكبلاً بالخوف من أن تكون بيروت هي غزة التالية، وربما غيرها كذلك.

ما العمل إذاً؟ على مدى ثلاثة أشهر كبيسة من الحرب، فالإقليم قال قولته في لقاءات القاهرة والرياض وعلى كل المستويات الرسمية والشعبية، والعالم المحارب في أوكرانيا قال قولته بشأن غزة في مجلس الأمن وفي الجمعية العامة وفي الشوارع. وما ينبغي أن يقال بعد كل ذلك من الظلم الفادح أن يظل الهرم واقفاً على رأسه.

أمّا الفلسطينيون الذين يحصون شهداءهم ويتابعون مقتلة غزة بأسى ويعيشون في الضفة تحت كوابيس ثقيلة حجبت أصوات الانفجارات المرعبة في غزة صوتها، وفي الضفة مدن وقرى تتناوب على اجتياحها والتنكيل بأهلها قوات الجيش النظامي مع المستوطنين المسلحين حتى الأسنان، بالبنادق وعبوات الوقود المعدة لحرق سيارات ومبان وأجساد، ومخيمات ضيقة ومكتظة تقصف بالأباتشي والمسيّرات، وحياة إن بدت في ظاهرها عادية نسبياً إلا أنها ممزوجة بقلق دائم على الأولاد خشية أن يخرجوا إلى المدارس ولا يعودون ، فماذا يفعل هؤلاء غير ما يفعلون، وما يفعلون كبير وكبير جداً.

إنهم يواصلون رغم قلة الإمكانيات تحدي الطاغوت الإسرائيلي في كل حي من القدس، إلى أضيق "زاروب" في مخيم، ثوابتهم لا تتزعزع، لا رايات بيضاء، ولا هجرة من الوطن مع مواصلة اعتناق هدف الحرية والاستقلال مهما ابتعد، وهؤلاء لم يعودوا يصغون إلى الشعارات ثقيلة العبارات وهم يرون العجز يحيط بهم من حولهم فهم ورغم ذلك يلوذون بقوة الحياة والإصرار عليها ما استطاعوا سبيلاً.

الحرب على غزة ستتوقف أخيراً والمفترض أن يبدأ بعدها جديد فلسطيني، ونأمل أن يوازيه جديد عربي يليق بشعب وأمة خرج من قاموسها كلمة استسلام، والشعب الفلسطيني بعد كل ما جرى ويجري وبعد صموده الأسطوري، يستحق قيادة لا تلوذ بالصمت وإنما تتوازى معه في القدرة والعطاء. 

2023عام الكوارث الطبيعية وحرب الإبادة على غزة(*)

بقلم: عبد الحميد صيام

اعتدت أن أكتب مقالا في نهاية كل عام أستعرض فيه أهم الأحداث التي شهدتها أيام وليالي ذلك العام الآفل. وفي كل من هذا الاستعراضات عادة يقف حدث أو حدثان بشكل واضح يعطيان صبغة معينة تحفر في الذاكرة وتبقى علامة مميزة وفارقة كلما ذكر ذلك العام. فمثلاً عندما نذكر عام 2011 نتذكر ثورات الربيع العربي ومحمد بوعزيزي وهروب بن علي وتبعه سقوط مبارك والقذافي وعلي عبد الله صالح، وعندما نمر على ذكر عام 2012 نتذكر أول انتخابات حرة في مصر ووصول رئيس مدني للحكم في مصر لأول مرة. وعندما شنت إسرائيل عدوانها على غزة عام 2012 في عملية عامود السحاب /حجارة سجيل، من 14 إلى 22 نوفمبر، نتذكر موقف مصر آنذاك عندما بقي المعبر مفتوحا ليلا نهارا، ودخل إلى غزة 75 برلمانيا مصريا ورئيس الوزراء هشام قنديل وأعلن الرئيس محمد مرسي "لن نترككم وحدكم يا أهل غزة"، فطارت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون إلى الرئيس المصري لترجوه وقف إطلاق النار فورا. وعندما نتذكر عام 2014 تقفز على الفور معركة الخمسين يوما في مواجهة غزة مع الكيان الصهيوني معركة الجرف الصامد/ العصف المأكول. لا ننسى يومها أن المعبر ظل مغلقا وصدر بيان عن وزارة الخارجية المصرية وصف تلك الحرب المدمرة على غزة التي استخدمت فيها القنابل الفوسفورية لأول مرة، بأنها «عنف متبادل» وطرح مبادرة بإعلان هدنة رفضتها كافة الفصائل الفلسطينية، واعتبر النظام ذلك حجة لإدارة الظهر. وعندما نتذكر عام 2020 تعود إلى الذاكرة انتشار وباء الكورونا من جهة واتفاقيات التطبيع الإماراتي البحريني ثم المغربي. وسيظل هذا العام مرتبطا بحرب الإبادة على غزة لأجيال وأجيال كما حدث في عام النكبة 1948.

كوارث طبيعية

ستبقى ذكريات هذا العام الموجعة عالقة في الأذهان لسنوات طويلة في فلسطين والمنطقة والعالم. أحداث عظام أخذت مواقعها في التاريخ. فالشعبان السوري والتركي لن ينسيا زلزال يوم 6 فيفري(فبراير) بقوة 7.8 (بمقياس رختر) والزلزال الذي لحق به بعد ساعات بقوة 7.5. وقد أدى الزلزالان إلى قتل أكثر من 56000 في تركيا ونحو 5000 في سوريا وجرح أكثر من 120000 وترك الزلزالان خسائر فادحة تقدر بمئات المليارت أصابت مناطق شاسعة وتركت نحو عشرين مليون إنسان دون مأوى من الطرفين.

 كما لا ننسى مع الشعب المغربي زلزال الحوز بقوة 6.8 يوم 8 سبتمبر مخلفا نحو 3000 ضحية و 5500 جريح. وأدى إلى تصدع كثير من المباني التاريخية . وهو الزلزال الأقوى منذ زلزال أغادير عام 1960. تضرر من الزلزال نحو 300000 مواطن. وقد قبل المغرب المساعدات الإنسانية من أربع دول فقط: إسبانيا وبريطانيا والإمارات العربية وقطر. لكن الشعب المغربي بكامله أظهر تضامنه مع المتضررين وانتشرت حملات شاملة لتقديم المساعدة للمتضررين.

وبعد أيام من زلزال المغرب، وفي يوم 10 سبتمبر تعرضت مدينة درنة الليبية إلى فيضانات بسبب إعصار دانيل غير مسبوقة دمرت المدينة تقريبا بالكامل. وتركت آلاف الضحايا بلا مأوى. وقدرت المنظمات الإنسانية أن 8 في المائة من سكان المدينة قتلوا أو فقدوا أي ما يزيد عن 11000 شخص.

حرب رفاق السلاح في السودان

وفي هذا العام لابد من أن نتذكر انفجار الأوضاع في السودان بين حلفاء الأمس الذي تآمروا على الثورة السودانية العظيمة. واستطاع عرابو التطبيع أن يجروا القيادات العسكرية إلى التصالح مع الكيان الصهيوني بحفنة دولارات. وهذه النتيجة "النار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله". بدأت الحرب الأهلية يوم 15 أفريل بين قوات التدخل السريع بقيادة الجنرال محمد حمدان دقلو، المعروف باسم حميدتي، وقوات الجيش الذي يرأسه عبد الفتاح البرهان. الأزمة تفاقمت ولم تعد حربا أهلية بعد أن دخلت على الخط قوى عربية ودولية تعمل على تفتيت الدول وتحطيمها خدمة للكيان الصهيوني في غياب فاجع لدور مصر.

حرب الإبادة على غزة عاصمة العالم

منذ 7 أكتوبر الماضي وحتى هذه اللحظة لا أخبار ولا تقارير ولا حديث إلا عن غزة وصمودها وتضحياتها والمذابح التي ترتكب فيها جهارا أمام عيون العالم المنافق الذي يتحدث عن القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا وكوريا الشمالية ويصمت صمت الأنذال عندما يتعلق الأمر بفلسطين وغزة وأطفالها ونسائها وشيوخها.

إنها حرب الإبادة على غزة التي شنها الكيان الصهيوني وحلفاؤه "الأمروأوروبيون" بعد أن قامت حركات المقاومة الفلسطينية بهجوم مفاجئ في ساعات الصباح الأولى ليوم 7 أكتوبر الماضي على مستوطنات غلاف غزة استمر نحو ست ساعات، أثبتت للعرب والعالم كم هذا الكيان هش وضعيف وجبان. ولولا الدعم "الأمروأوروربي" لانهار وعاد كل فرد إلى بلده الذي جاء منه هو أو أبوه أو جده.

بعد هول الصدمة شنت إسرائيل هجوما شاملا على كل قطاع غزة وقطعت الماء والكهرباء والدواء عن كل القطاع. وبقيت تقصف القطاع لغاية 21 من نفس الشهر دون انقطاع ثم بدأ بعدها الهجوم البري بعد أن أمّن الرئيس الأمريكي بايدن ورؤساء دول الاستعمار القديم كل احتياجاتهم من الذخائر والمعدات. كانوا يعتقدون أن ضخامة الهجوم الذي شاركت في أكثر من 100 طائرة وصبت من المتفجرات أكثر من قنبلتين نوويتين ستؤدي إلى استسلام المقاومة. وهو ما طالبوا به لوقف الحرب على غزة. كم كانوا مخطئين وحالمين ومهزومين من الداخل. وهذه هي حرب الإبادة ضد المدنيين مستمرة لأنهم عجزوا عن كسر ظهر المقاومة بل ودفعوا أثمانا لا حصر لها في الأرواح والعتاد والآليات والاقتصاد والهجرة العكسية والاحتجاجات الدولية عبر عواصم ومدن العالم أجمع. مع نهاية هذا العام تكون حرب الإبادة قد مضى عليها 85 يوما تركت غزة كومة من حجارة وكشفت عن نفاق الدول الغربية وكذب ادعاءاتها باحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون.

كنا نظن أن الدول العربية كلها حرة وأن غزة الوحيدة تحت الحصار اكتشفنا أن العالم العربي كله محتل إلا غزة. هذه إحدى اليافطات التي يتم تداولها على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي. ما أدق هذا التعبير وأصدقه. انظروا إلى الدول التي تملك الجيوش والرتب والوزارات والطائرات تطأطئ رؤوسها وتختبئ وراء بيانات هزيلة تافهة لا تساوي الحبر الذي تكتب فيه. رؤساء وملوك سبع وخمسين دولة يجتمعون ويصدرون بيانا هزيلا ولا يستطيعون أن يدخلوا قارورة ماء دون موافقة الكيان الصهيوني.

لقد تسابق كل مسؤولي الأمم المتحدة صغارهم وكبارهم، وأولهم الأمين العام، بإدانة حماس واعتبارها تنظيما إرهابيا وإدانة العملية "الإرهابية". من جهة أخرى هبت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون وطاروا، واحدا تلو الآخر، للتضامن مع الكيان الصهيوني، الذي اعتبر أن كل ذلك الدعم ضوءا أخضر ليفعل ما يشاء. مدفوعا بغريزة الانتقام لم يبق مدرسة أو مستـشفي أو وكالة دولية أو عيادة طبية أو مجمعا حكوميا أو دور حضانة أو مراكز إيواء أو مستودعات وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) إلا وتعرض للقصف وبدأت أعداد الضحايا ترتفع يوما بعد يوم. فقد كان يقتل طفلا كل عشر دقائق. كذلك تم تصعيد الاقتحامات وعنف المستوطنين في الضفة الغربية والقدس بشكل غير مسبوق منذ عام 2005.

عجزت الأمم المتحدة أن تردع إسرائيل بسبب مظلة الحماية التي شكلتها الولايات المتحدة للكيان. استخدمت الولايات المتحدة «الفيتو" مرتين وفشلت روسيا مرتين في تمرير مشروعها لوقف إطلاق النار. القرار الذي اعتمده مجلس الأمن هو مشروع القرار المالطي (2712) الذي اعتمد يوم 15 نوفمبر والذي يدعو إلى هدن إنسانية لإيصال المساعدات، قال لهم سفير إسرائيل في الجلسة نفسها إن حكومته لن تلتزم به. أما القرار الثاني(2720) الذي اعتمد يوم 22 ديسمبر فهو أخطر من سوابقه إذ أعطى إسرائيل حق التدخل وتفتيش المساعدات الإنسانية، أما وقف الأعمال القتالية فمرهون بتهيئة الظروف.

 فضيحة بكل المقاييس

  الجمعية العامة اعتمدت قرارين الأول يوم 26 أكتوبر يدعو إلى هدنة إنسانية بتأييد 121 عضوا، والثاني يوم الثلاثاء 12 ديسمبر بتأييد 153 عضوا، يطلب وقف إطلاق النار فورا. لكن الكيان الصهيوني لم يكترث لا للقرار الأول ولا للثاني. إنه كيان فوق القانون وإلا لم حدثت هذه المجازر.

لقد وضع الكيان هدفين لحرب الإبادة التي يشنها: هزيمة حماس والمقاومة، وإطلاق سراح المحتجزين دون قيد أو شرط. وبعد 84 يوما، لا تحقق لا هذا ولا ذاك وما زالوا يحصون خسائرهم.

  صحيح أن خسائر الشعب الفلسطيني من المدنيين كبيرة، وكبيرة جدا. لكن هل ترك أمام الناس أي خيار؟ هل هناك مكان آمن؟ العالم يتفرج ثم يأتي من يحاضر العرب والمسلمين عن حقوق الإنسان وسيادة القانون. ألا بئس ما يقولون.

غزة أصبحت اليوم عنوانا للحق والحرية والعدالة. غزة النازفة ستترك لعنتها على وجوه الحكام المتخاذلين الذي أغلقوا حدودهم وساوموا على سيادتهم وباعوا أراضيهم وكرامتهم. غزة ستنتفض من تحت الرماد وتعيد كتابة التاريخ، فلا يكتب التاريخ إلا الشرفاء والمناضلون والأحرار.

* محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بولاية نيوجرسي

لا هو موت ولا انتحار.. ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة...!

 

 بقلم: نواف الزرو(*)

 

 الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية للاحتلال لم تتوقف يوما على امتداد مساحة القطاع منذ الاحتلال عام 1967..، أهل غزة ورفح وخانيونس وبيت حانون ودير البلح وبيت لاهيا وعبسان الكبيرة والصغيرة وكل مخيمات اللجوء في القطاع لم يعرفوا سوى الصمود والمقاومة والتضحيات الكبيرة المستمرة بغية دحر الاحتلال والاستقلال، والذاكرة الوطنية لأهلنا في غزة لا تعي سوى الاحتلال والانتفاضة والمقاومة.

 

يعترف شارون وجنرالات الاحتلال بهذه الحقيقة الكبيرة الصارخة رغما عن أنوفهم..، فلولا الانتفاضة والضربات المؤلمة للمقاومة.. ولولا نجاح أهل القطاع من أقصاه إلى أقصاه بتحويل مشروع الاحتلال إلى مشروع خاسر بالكامل، لما طأطأ شارون رأسه وهامته معترفا بصورة غير مباشرة بأن "مشروع الاستيطان والاحتلال فشل في غزة..، وانه لا أمل في أن يتحول اليهود إلى غالبية في تلك المنطقة".

 

يقول شارون في لقاء أجرته معه صحيفة "يديعوت أحرنوت" العبرية: "أن غزة ليست واردة في أي خطة إسرائيلية ولم نخطط أبدا للبقاء فيها".

 

   وكان ديفيد بن غوريون مؤسس دولتهم يخشى من اجتياح القطاع عام 1948، بينما تمنى اسحق رابين أن يستيقظ ذات صباح ليرى "غزة وقد ابتلعها البحر"، "فقطاع غزة يشكل كابوسا لـ"الإسرائيليين"، يصل إلى حد أنهم يقولون بالعبرية "ليخ لغزة" (أي اذهب إلى غزة) عندما يريدون القول "اذهب إلى الجحيم".

 

بن غوريون الذي رفض غزو غزة خلال الحرب العربية-الإسرائيلية الأولى أطلق كذلك فكرة "نقل الإشراف على قطاع غزة من مصر إلى الأردن"، لكن هذه الخطة لم يكتب لها النجاح...!.

 

     ويقول الباحث عكيفا الدار "الوحيد الذي كان رفض التخلي عن القطاع هو رئيس الوزراء مناحيم بيغن (1977-1983) الذي لم يدرك أن مسألة اللاجئين ستتحول كابوسا لـ"إسرائيل" رافضا التخلي عن القطاع لمصر، بغية إقامة مستوطنات جديدة فيها".

 

     وقد اندلعت الانتفاضة الأولى في ديسمبر (كانون الاول)1987 في مخيم جباليا للاجئين، وبعد شهر على اندلاع الانتفاضة الثانية في سبتمبر (أيلول) 2000، بدأ إطلاق الصواريخ من قطاع غزة باتجاه "إسرائيل".

 

رئيس أركان جيش الاحتلال الأسبق الجنرال موشيه يعلون أعلن قائلا:"أن حربنا مع الفلسطينيين صعبة ومعقدة وليس فيها ضربة قاضية". والجنرال "عيبال جلعاد" احد الآباء المؤسسين لـ "فك الارتباط" رئيس وحدة التخطيط الاستراتيجي في شعبة التخطيط في الأركان العسكرية الإسرائيلية اعترف في لقاء صريح له مع صحيفة "معاريف" وبمنتهى الوضوح قائلا:"رغم كل القدرات الإسرائيلية والأفضلية العسكرية على الفلسطينيين بكل المقاييس والقدرات الاقتصادية والسياسية والدولية.. رغم كل ذلك لم نتمكن من إخضاع الفلسطينيين". ويكشف "جلعاد" النقاب عن "أن شارون كان قد اقترح الانسحاب من غزة عام 1988 – في أعقاب الانتفاضة الأولى – ثم عاد وطرح الفكرة نفسها عام 1992- في أعقاب تفاقم الوضع الإسرائيلي في كل المجالات – وأخيرا رأى شارون – في أعقاب الانتفاضة الثانية/2000 – أن الوقت قد حان للانسحاب من غزة".

 

    مؤيدو "فك الارتباط" يعترفون بدورهم "أن للمقاومة الفلسطينية تأثير كبير على اتخاذ القرار بالانسحاب وإخلاء المستوطنات بينما يقول معارضو الخطة: "إن خطة شارون هي استسلام لإرهاب – الانتفاضة والمقاومة".

 

   الكاتب الإسرائيلي المعروف "عوزي بنزيمان" يكثف هذه المعطيات والاعترافات الإسرائيلية بفعل صمود ومقاومة أهل غزة في مقالة نشرتها صحيفة "هآرتس" تحت عنوان: "نعتذر عن الهزيمة"، قائلا: "إن الجولة الأخيرة في الصراع – المواجهات – كوت الوعي الفلسطيني بفكرة الانتصار ودفعت الإسرائيليين إلى إدراك قصور قوتهم ومحدوديتها.. وبكلمات أخرى: "للانتفاضة الفلسطينية المسلحة تأثير حقيقي على قرار الانسحاب، وبينما يصر القادة الإسرائيليون على الادعاء بأن إسرائيل قد انتصرت على الفلسطينيين، إلا أن الحقائق تشير إلى عكس ذلك.. فكل المساحيق لن تغطي ندوب الواقع: فحرب العصابات الفلسطينية تدفع إسرائيل إلى جر ذيولها من كل قطاع غزة، والجيش الإسرائيلي العظيم وباقي الأذرع الأمنية المتطورة لم ينجحوا في تركيع الانتفاضة.. وقد توصلت إسرائيل إلى هذه النتيجة مؤخرا..".

 

    وفي غزة هاشم- استخدمت دولة الاحتلال في حروبها العدوانية الأخيرة عليها ما أطلق عليه لديهم "استراتيجية الضاحية"،- أي التدمير الشامل ومحو البنية التحتية وما فوق الأرض عن وجه الأرض، على نمط "ما حصل في الضاحية الجنوبية لبيروت في صيف2006"، فلذلك ما ظهر بعد كل عدوان منها: "أن هناك" أحياء كاملة مدمرة محيت عن وجه الأرض على نحو وصفه شهود عيان انه لا يصدق أبدا...!"، وإحصائيا وصل عدد المباني التي دمرت حتى كتابة هذه السطور إلى نحو 350 ألف مبنى بين تدمير كلي وجزئي...!.

 

     كما استخدم الاحتلال سياسة "الإبادة والمجازر الجماعية البشعة التي ارتقت إلى مستوى ما بعد الجريمة.. والى مستوى المحرقة الحقيقية"، فكان الحصاد الإجرامي حتى اليوم حوالي 31 ألف شهيد منهم حوالي 12 ألف طفل، وحوالي 57 ألف جريح حوالي 75 بالمائة منهم من الأطفال والنساء، بينما قدر عدد المفقودين تحت الأنقاض بحوالي 12 ألف فلسطيني، غير أن لحقيقة مشهد المحرقة والمجازر والدمار تأثير هائل ومروع اشد أضعاف المرات مما للأرقام الجافة...!

 

   فكان هناك أن "أطلقت قوات الاحتلال الكلاب لنهش جثث الشهداء"، وكان هناك "مئات العائلات المحتجزة في غرف صغيرة داخل المنازل"، و كان هناك "الموت يترصد المواطنين في كل زاوية"، وكذلك كان هناك أن " فلسطين تشهد أضخم واخطر عدوان حربي مجازري وأطول حصار في تاريخ الصراعات"، وكان هناك أن "بلدوزرات الاحتلال أخذت تعمل على إعادة رسم خريطة فلسطين من جديد".

 

 إلى ذلك- فان هدير الطائرات والدبابات والجرافات على امتداد مساحة القطاع لم يتوقف عن أهلها أبداً ..

 

  وعربدة الوحدات الخاصة وأصوات التفجيرات الإرهابية المبيتة وصواريخ المروحيات والاغتيالات باتت تطغي على كل شيء فيها. وقد وصف "ناعوم تشومسكي" عالم اللغويات والمفكر اليهودي الأمريكي الشهير "محرقة غزة" قائلا:"بشاعة العدوان الإسرائيلي على غزة جعلت لساني عاجزا عن وصف دقيق لما يحدث هناك.. بحثت في القاموس عن لفظة تجسد هول ما يحدث، فلم أجد.. حتى مفردة (الإرهاب) أو (العدوان) غير معبرة عن حقيقة المأساة".

 

   لقد أثقلت مشاهد القتل الجماعي والتدمير المروع التي ألحقتها آلة الحرب التدميرية الإسرائيلية مجددا الذاكرة الوطنية الفلسطينية.. لقد أراد منفذو المحرقة حسب الباحث ميرون بنفنستي في هآرتس 22 /1/2009 "أن يميزوها بتعريفين متناقضين:"رب البيت جن" ويرد بوحشية مجنونة، و"غضب مضبوط" أيضا، أي عملية عقلانية ترمي إلى الردع، ولكن ينبغي أن نضيف إلى هذين التعريفين تعريفا آخر وهو أنها رد غريزي مكرر من جماعة مهاجرين مغتصبة"، ويوضح بنفنستي هذا البعد قائلا:"لقد كتب ديفيد دي، وهو احد ابرز الباحثين في مسارات سيطرة مجتمعات المهاجرين على مجتمعات أبناء البلاد:"الرد الوحشي على كل علامة انتفاضة من قبل الشعوب من أبناء البلاد يرمي إلى أن يسمي وعي المحتلين والواقعين تحت الاحتلال بنطاق ومحدودية الاحتلال وعدم بقاء استمرار المقاومة، بالرغم من أن هذه الوحشية قد تقوض المطلب الأخلاقي للمجتمع المغتصب للسيطرة على المنطقة التي احتلها"، مردفا:"اجل توجد أمثلة تاريخية كثيرة تبين كيف استعملوا مقاومة أبناء البلاد العنيفة لاغتصاب أرضهم لتسويغ رد عسكري غير متناسب، يرمي تحت غطاء "محاربة الإرهاب" إلى تحطيم معنوياتهم وسلب أراضيهم. تنبعث رائحة شديدة للعفن الاستعماري من العملية الغزية وعمليات مشابهة تمت في الماضي".

 

  وبحسب ما يؤكد الصحافي والمؤرخ الإسرائيلي توم سيغف، الذي كان واحدًا من الأصوات الإسرائيلية القليلة التي سمّت الأشياء بأسمائها الحقيقية، فور أن بدأت المدافع دويّهـا"، فقد كتب في زاويته الأسبوعية في صحيفة "هآرتس"، 28 ديسمبر 2008، عن الحروب على غزة يقول: إسرائيل تسدّد الضربات إلى الفلسطينيين من أجل "أن تلقنهم درسًا"، وهذه هي إحدى الفرضيات الأساسية، التي ترافق المشروع الصهيوني منذ بدايته، فنحن- اليهود- مندوبو التقدّم والحضارة، الحنكة العقلانية والأخلاق، والعرب هم رعاع بدائيون ذوو نزعات عنيفة وهوجاء، جهلة لا بُدّ من تربيتهم وتعليمهم الفهم الصحيح بطريقة "العصا والجزرة"، على غرار ما يفعل المكاريّ مع حماره". ويضيف:"يفترض بقصف غزة أن "يقضي على سلطة حماس"، وفقًا لفرضية أخرى ترافق الحركة الصهيونية منذ تأسيسها، وبموجبها في الوسع أن نفرض على الفلسطينيين قيادة "معتدلة" تتنازل عن تطلعاتهم القومية".

 

    ولذلك تتدحرج"المحرقة" ويتصاعد لهيبها بينما يستخدم جنرالات الاحتلال المزيد والمزيد من القوة الابادية التدميرية، و"يغطون المجزرة بمجزرة أفظع، ويقابلون شجاعة أبنائنا المقاتلين، بالمزيد من إبادة الأبرياء، وبات الموت فائضاً يتجاوز قدرة من يراقبون من بعيد، على الاحتمال والتماسك، فالمدمنون على الجريمة لا يعرفون متى يتوقفون، إن كانوا من الخاسرين أو كانوا من الرابحين، فهم يرون في صمود الفلسطينيين، وفي عدم رفعهم للرايات البيضاء، مدعاة لنيران أعتى، بصرف النظر عن الضحايا من الأبرياء".

 

      إذن- هي مشاهد وحكايات وجراح قديمة – جديدة – متجددة تنطق بها المدن والأحياء والبيوت المهدمة والقبور الجماعية.. كلها تتراكم وتتقافز على أرض قطاع فلسطين لتحكي لنا قصة فلسطين من بدايات الصراع والنكبة الأولى مرورا بالفصول والمراحل المختلفة على مدى العقود الماضية من عمر القضية، وصولا إلى الحرب العدوانية الجارية2023، والتي ترتقي إلى مستوى الهولوكوست...!

 

في مواجهة كل تلك العناوين التي تجمع كلها على أننا في مواجهة أعتى وأقسى وأبشع حرب عدوانية، وأمام جرائم حرب هي الأبشع حتى الآن التي تقترفها دولة الاحتلال، وفي مواجهة كمائن الموت اليومي التي نصبتها وما تزال تنصبها قوات الاحتلال لنساء وأطفال وشيوخ أهلنا هناك أيضاً نتابع:

 

كان هناك "قرار وإرادة التصدي" و"روحية الصمود والإباء والكبرياء والبقاء"، و"إرادة الحياة في مواجهة الموت"، و"كسر الحصار والإصرار على البقاء"، وكان هناك "الأطفال والنساء والشيوخ الذين يتحدون الصواريخ والرصاص والدبابات"..!

 

إنها قصة الكارثة/المحرقة- والبطولة الفلسطينية تتفاعل في قلب مدن وقرى ومخيمات القطاع ، وعلى امتداد مساحة فلسطين التاريخ والتراث والحضارة والاقتصاد والسياسة والنضال.. !.

 

لا هو موت ولا انتحار..

 

ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة

 

    وكان الراحل محمود درويش شاعر فلسطين والعرب قد عبر أعمق تعبير عن "غزة وروحها وصمودها وبطولاتها ومعنوياتها وجدارتها بالحياة"، حينما كتب قائلا:"ليست لغزة خيول، ولا طائرات، ولا عصى سحرية، ولا مكاتب في العواصم، إن غزة تحرر نفسها من صفاتنا ولغتنا، ومن غزاتها في وقت واحد، وحين نلتقي بها ـ ذات حلم ـ ربما لن تعرفنا، لأن غزة من مواليد النار، ونحن من مواليد الانتظار، والبكاء على الديار، صحيح أن لغزة ظروفًا خاصة، وتقاليد ثورية خاصة، ولكن سرها ليس لغزًا، مقاومتها شعبية متلاحمة، تعرف ماذا تريد "تريد طرد العدو من ثيابها، لم تقبل وصاية أحد، ولم تعلق مصيرها على توقيع أحد، أو بصمة أحد، ولا يهمها كثيرًا أن نعرف اسمها وصورتها وفصاحتها، لم تصدق أنها مادة إعلامية، لم تتأهب لعدسات التصوير ولم تضع معجون الابتسام على وجهها. وقد ينتصر الأعداء على غزة، وقد ينتصر البحر الهائج على جزيرة، قد يقطعون كل أشجارها، قد يكسرون عظامها.. قد يزرعون الدبابات في أحشاء أطفالها ونسائها، وقد يرمون في البحر أو الرمل أو الدم، ولكنها لن تكرر الأكاذيب ولن تقول للغزاة: نعم وستستمر في الانفجار.

 

لا هو موت، ولا هو انتحار، ولكنه أسلوب غزة في إعلان جدارتها بالحياة".

 

• باحث و مؤرخ وكاتب فلسطيني وأسير سابق

 

 

 

يوميات صحفي في غزة ..

 

بقلم: محمد صالح العجلة

 

تكون قلقا وخائفا وأنت جالس في البيت الذي نزحت إليه من مدينة غزة إلى جنوب قطاع غزة، فلا تدري، هل سيكون الدور عليه، ليقصف على رؤوس ساكنيه، فتكون واحدا من مئات الشهداء الذين يرتقون يوميا، ولم تعد أسماؤهم تذكر من كثرتهم، أو تكون مصابا لتدخل دوامة الدخول لإحدى المستشفيات، فتكتشف نعمة لو أنك كنت من الشهداء، من صعوبة الوضع الذي تواجهه المستشفيات في ظل الضغط الشديد وتزايد أعداد المصابين والجرحى، الذين هم بالآلاف، وبعضهم يكون أقرب للموت من الحياة. هذا طبعا لو كنت محظوظا بأنك تقيم في المناطق التي يسمونها آمنة، أما غير الآمنة، فلم يعد توجد فيها مستشفيات، ويبقى الجريح ينزف حتى يلاقي وجه الله، وربما تدخلت عناية الله فيكون جرحك ليس غائرا، ويسمح بعد يوم أو يومين لسيارة إسعاف بالدخول، فيتم إنقاذك، ونقلك للمستشفى...

 

ونعود الآن للبيت الذي نزحت إليه، ولنفترض أنه لم يقصف بعد على رؤوس ساكنيه، فتقوم صباحا، لتجهيز نفسك أنت وأبناؤك للذهاب إلى المستشفى لزيارة ابنتك المصابة، والتي ترقد هناك منذ شهر وأسبوع، ولتطمئن عليها وعلى والدتها المرافقة لها..

 

بعد أخذ دور على الحمام قد يستمر الأمر لساعات، الطوابير طويلة، تغسل بماء مالح كماء البحر تماما، وحتى هذا الماء لا يتوفر بكميات كافية. تتناول ما قسم الله لكم من فطور، إن توفر الخبز. وفي حالة توفره تتناول نفس الفطور الذي اعتدت على تناوله منذ بداية الحرب، قبل أكثر من ثمانين يوما، هذا إن كنت محظوظا أكثر من غيرك واستطعت توفير المال لشراء معلبات الفول والجبنة الفيتا وربما المرتديلا، وكل هذه المعلبات تضاعف سعرها عن الطبيعي ما لا يقل عن أربعة أضعاف تخرج من البيت وسط أصوات غارات الطيران وقذائف المدفعية التي لا تتوقف، لتبحث عن سيارة تقلك من منطقة إقامتك إلى المستشفى، وأنت تعرف أنك ستدفع للسائق خمسة أضعاف الأجرة الطبيعية، ويا ليتك تجد سيارة، فمن أين للسيارات بالوقود، الذي لا يدخل للبلد إلا بكميات قليلة جدا، ولأغراض محدودة، وهذا بعد تدخل رئيس أمريكا.

 

 وإذا فشلت في العثور على سيارة فما عليك إلا البحث عن كارة يجرها حمار أو حصان، فتقطع المسافة في خمسة أو ستة أضعاف الزمن الذي تحتاجه السيارة. في طريق البحث عن سيارة أو كارة حمار أو حصان، أو في طريقك للمستشفى، تكتشف أن الأرصفة التي كنت تسير عليها أمس، أقام نازحون جدد عليها خياما لتؤويهم هم وأسرهم، وتجد ما تبقى من مساحات هنا وهناك، وقد امتلأت بخيام جديدة للنازحين، وتسأل عن هؤلاء النازحين، فيجيئك الجواب أن الغزاة اجتاحوا مخيمي البريج والمغازي، والناس هربوا من شدة القصف. في المساء بعد عودتك من المستشفى، تحاول أن تتناسى كل ما مر بك من مشاهد مؤلمة وقصص محزنة، لكي تستمر الحياة، إن نجوت من قصف أو غارة. تعود كما تفعل كل يوم لتحاول الاتصال على أخيك، أختك، ابن عمك، صديقك...، لتعرف أخبارهم وأسرهم، فربما مر الآن شهر على آخر مكالمة تسنى لك إجراؤها، فتفشل في الاتصال كما هي العادة، والإنترنت لم يعد متوفرا بطبيعة الحال. أما إذا جن عليك الليل وأنت لا تزال بخير، فتمضي ليلتك الثقيلة بالدعاء إلى الله، أن يجنبك ويلات هذه الحرب، إلى أن يطلع الفجر. وعند ذهابك للمستشفى في اليوم التالي، عليك كما تفعل كل يوم، أن تتظاهر أمام ابنتك المصابة ووالدتها المرافقة معها، بالثبات والقوة وعدم الانكسار..

 

 وهكذا، لا نزال ونحن على أعتاب الثلاثة شهور من هذه الحرب البشعة، نعيش كل يوم هذه الأيام المتشابهة، التي تفوح منها رائحة الدم، ومشاهد الأشلاء والمدينة التي دمرها الغزاة وكانت من أجمل المدن العربية.

 

إيران والحرب على غزة .. الدولة بين واقعها وخيال حكامها

 

بقلم: هاني مبارك(*)

 

اعتبار الدولة كظاهرة اجتماعية أوجدتها متاعب البحث عن وهم الانتصار النهائي، لا ينفي مطلقا أنها ظاهرة طبيعية في ميكانيزمات بقائها وآليات تطوير هذا البقاء، وأن حجم أخطاء وفشل السلطة يكون دائما في مساحة الالتباس التي يخلقها عقلها -أي السلطة- في فهم وابتكار وسائل التعايش المر بين كونها اجتماعية في مبررات استمرارها لتمتين ركائز السلم الأهلية، وبين كونها طبيعية تسير وفق نمط تطور مطرد ومتواصل يمليه عليها دورها الاجتماعي الذي يعمل بصورة طبيعية رغم كل محاولات عقلنته.

 

ومحاولات العقلنة هذه أو ما يسمى في علمي الاجتماع والسياسة، بصياغة سياسة الدولة وتحديد اختياراتها وتحالفاتها على المستويين الداخلي والخارجي هي المكون الحاسم الذي سيحدد مصير سلطة أي دولة من ناحية ومآلات استمرار حركتها في مداريها الإقليمي والدولي من ناحية ثانية، وهنا يتم التوقف طويلا أمام مكونات عقل السلطة في الدولة في بعديه البيروقراطي الملموس والسببية العميقة في فهم تمظهراته لتحديد طبيعته وتفحص وسائل ضبطه وإجراءات تعديل طرق عمله وفهم حجم القيود المفروضة عليه لتقييد الخيالي فيه أو الإيديولوجي أو العقيدي لمحاولة استشراف ما يسمى باستراتيجيات الدولة المستقبلية التي تختزل مختلف المتغيرات أو هكذا يجب أن تكون.

 

وحتى لا نسترسل كثيرا في النبش بعقل سلطة الدولة، سنكتفي بالقول إنه يجب الاعتراف المباشر بالدور الحاسم لموقع إيديولوجيا أي مجموعة سياسية حاكمة في صناعة قرارها وتقرير نوعية سياسات دولها حتى وإن كانت على النقيض من احتياجات الدولة الطبيعية الحقيقية والواقعية. نثير هذه الإشارة الثقيلة في سياق اضطراري يطرحه النقاش المحتدم حول حدود الدور المرتقب لإيران أو لأذرعها الإقليمية المؤثرة وخاصة حزب الله في الحرب الإجرامية التي تقودها مباشرة الولايات المتحدة بسلاحها وعدتها واستخباراتها المتنوعة عن طريق وبواسطة الجيش الإسرائيلي لحسابات إستراتيجية تتجاوز حدود المكان الإقليمي كما تتجاوز حدود الزمن الراهن لما هو مستقبلي بعيد.

 

فعلى ما يبدو أن مختلف التنظيرات التي أعقبت انهيار الإتحاد السوفييتي وبشرت بانهيار فروض نظرية ماكندر كانت تنظيرات متسرعة أو أن استنتاجاتها جاءت تحت وهج انتصار الخيار الليبرالي المزعوم، التي لم تأخذ بنظر الاعتبار متغيرات فروض نظريات الجغرافيا السياسية التي تقوم بشكل أساسي على أكثر المفاهيم تغيرا في حياة الدول وهو مفهوم قوة الدولة.

 

والحقيقة أن الاستراتيجيين الأمريكيين هم الذين كانوا أبكر وعيا بوهن هذه الاستنتاجات المتسرعة اثر التعافي الكبير والسريع الذي طرأ على قوة الدولة الروسية عقب إستراتيجية انتشال الدولة التي وضعها الكرملين وتنامي قوة الصين.

 

وعلى ما يبدو أن هذا الوعي صار أكثر عمقا في أعقاب عملية السابع من أكتوبر الماضي، حيث تجسد ذلك برد الفعل الأمريكي الخاطف على تلك العملية رغم الانشغال العميق بمجريات الحرب في أوكرانيا التي افتعلتها أمريكا لسببين أولهما وقف الاندفاع الألماني والأوروبي بصورة عامة للتوسع بعلاقاتها الأفقية مع روسيا وثانيهما إعادة تطويق تنامي القوة الروسية وإغراقها بحرب استنزاف طويلة الأمد للتفرغ نهائيا لاحتواء تصاعد النفوذ الصيني.

 

ولا يخفى على دارسي العلاقات الدولية أن مرد هذا التفاعل الأمريكي العاجل هي الطبيعة اليمينية لإتباع الراتزلية في الإدارة الأمريكية التي صارت أكثر وضوحا مع إدارتي ترامب وبايدن من ناحية ولعودة الاعتبار لفروض ماكندر بعد كسر احتكار تملك التكنولوجيا الحديثة من قبل دول بعينها وانتشار السلاح النووي الذي حوله إلى سلاح ردعي فقط غير قابل للاستعمال وعودة أهمية العوامل الجغرافية من ناحية ثانية.

 

وتأسيسا على ذلك فانه لم يعد أمام الإدارة الأمريكية سوى خيارين فقط، إما القبول الطوعي بإعادة تقاسم العالم إلى مناطق نفوذ جديدة تعترف من خلالها، لغيرها من الدول الصاعدة بدور أكثر تقريرا في قيادة النظام الدولي، أو الاستمرار في محاولة الانفراد بقيادته، ولكن إلى أي مدى؟؟.

 

الحقيقة من الصعب جدا الجزم بترجيح احتمال على آخر، ولكن ذلك لا ينفي آن النهج الأمريكي القائم حاليا يظهر بوضوح شديد عزم واشنطن على رفض قبول أي شريك لها بإدارة الشأن الدولي، وتستخدم في سبيل ذلك تكتيكين متلازمين احدهما يقوم على تفويض مفتوح لإسرائيل في حربها الراهنة لتحقيق انتصار ساحق، لا يمكنها من تفكيك القوة العسكرية للتنظيمات المسلحة الفلسطينية وحسب، بل وتنصيب نفسها ''سيدا'' مطلق اليدين في المنطقة بعد إعادة تنشيط واستكمال عمليات التطبيع بما يضمن لواشنطن كافة مصالحها الإستراتيجية خاصة في بعدها الأوروبي، أما الثاني فيقوم على الردع لمنع أي طرف إقليمي من التفكير بصناعة فرصة له من خلال مجريات هذه الخرب.

 

وفي هذا السياق فالجهد الأمريكي يتركز بصورة كلية على الدور الإيراني بكل اذرعه، وخاصة ذراعها في لبنان.

 

صحيح إننا لا نمتلك المعلومات الكافية للتأكد من أن فصائل المقاومة الفلسطينية إن بشكل مباشر أو ضمني تدير المعركة مع طهران ومن هم وراء طهران وفقا لتكتيك صارم يقوم على الاستثمار المجدي والفعال في استخدام عناصر القوة لاحتمالات أطول زمن يمكن أن تمتد إليه هذه الحرب، ولكن من الواضح أن هناك نوعا من استخدام الساحات الأكثر أضرارا بالجبهة المعادية والأقل خسائر في صفوفها مثل الجبهتين اليمنية والعراقية وانه يجري استخدام موارد الجبهة الشمالية بسقف محدود، ولكن من غير المؤكد إن كان ذلك قابل للتطوير أم لا؟.

 

الحقيقة إن ذلك يتوقف على فهم سلطة الدولة في إيران لدور الدولة الإقليمي، وفيما إذا كانت تتعامل مع هذه الدولة وفقا لواقعها الذي خلقته قياداتها السياسية المتعاقبة منذ عام 1979، كدولة إقليمية تختلف التحليلات في تفسير دوافعها بين ما هو ديني - طائفي وقومي فارسي وجيوبوليتكي أملته عليها حدود قوتها التي بنتها سلطتها.

 

لا شك أن التحليلات على هذا الصعيد كثيرة ومتعددة ولكل منها حججها وبراهينها، ولكن يبقى القول النهائي والحكم القاطع على صحة هذا التفسير أو ذلك رهينا لنتيجة الصمود الفلسطيني، ففي حالة الانهيار لا قدر الله دون تدخل من إيران واذرعها في الحرب، فالمؤكد عندها أن عقل السلطة لم يتسق وواقع الدولة بل ذهب وفق خيال حكامها وإرهاصات عقائدها وأن النتيجة ستكون طي الخيام والرحيل وانتهاء حقبة محور الممانعة والمقاومة، إما بفعل أمريكي-إسرائيلي مباشر، أو بفعل تآكل المصداقية وكذب الشعارات، وأن كان واقع العمليات العسكرية في غزة قد يعفي هذه الشعارات هذا الامتحان الصعب، إذ أن الصمود الفلسطيني وتآكل قوة الجيش الإسرائيلي يشيران لترجيح كفة الصمود والانتصار على الجيش الإسرائيلي الذي باتت مظاهر الإنهاك عليه أكثر وضوحا وقوة.

 

*أستاذ الإعلام في جامعة منوبة