إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

النفايات المنزلية.. البلاستيك والفوسفوجيبس أبرز الإشكاليات العالقة.. الاستراتيجية الوطنية للانتقال الايكولوجي في تونس تصطدم بتحديات الواقع

 

خبير دولي في البيئة والتنمية المستدامة لـ"الصباح":  الفوسفوجيبس خطير على البيئة ومسبب لتلوث المياه السطحية والجوفية

تونس- الصباح

تشدد الدولة ممثلة في وزارة البيئة على انها ماضية في تنفيذ استراتيجيتها الوطنية للانتقال الايكولوجي التي تمت المصادقة عليها منذ فيفري الماضي وتحديدا خلال مجلس وزاري أشرفت عليه رئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن بتاريخ 3 فيفري 2023. وللتذكير فإن هذه الاستراتيجية التي وصفت وفق بلاغ صادر حينها عن رئاسة الحكومة بأنها في تناغم مع المعاهدات والمواثيق الدولية التي صادقت عليها تونس، تهدف "الى توفير موارد وآليات تمويل ملائمة ومتاحة لكافة الفاعلين واعتماد تنمية محايدة للكربون متكيفة مع التغيرات المناخية وصامدة أمام الكوارث مع السعي الى ضمان التصرف الرشيد في الموارد الطبيعية وحماية واستصلاح المنظومات الايكولوجية".

 الإستراتيجية تهدف كذلك إلى "القضاء على النقاط السوداء للتلوث وتطهير واستصلاح المواقع الملوثة وتركيز الاقتصاد الدائري وتنمية الثقافة البيئية والعلوم والمعارف وكفاءة الموارد البشرية في مجالات حماية البيئة والتنمية المستدامة وتعميمها على مختلف القطاعات".

وعموما ترتكز الإستراتيجية الوطنية للانتقال الإيكولوجي كما يقدمها أهل الميدان، على محاور كبرى، وهي بالخصوص، الحوكمة البيئية، ومواجهة التغييرات المناخية للتخفيف من انبعاثات الغازات الدفيئة والتأقلم مع تأثيرات التغيرات المناخية، والعناية بالمنظومات البيئية والتنوع البيولوجي، والحد من التلوث والتوجه نحو تطوير أنماط الإنتاج والاستهلاك والسلوكيات، والمعرفة والبحث العلمي.

وإذا ما عرفنا أن الإستراتيجية الوطنية المذكورة، وضعت هدفا أساسيا وهو الوصول إلى صفر نفايات في أفق 2050، نفهم لماذا يتم التركيز بالذات على موضوع التصرف في النفايات الذي كان موضوع مجالس وزارية متعددة لعل آخرها المجلس الوزاري الذي انعقد يوم الثلاثاء 19 ديسمبر الجاري، بقصر الحكومة بالقصبة بإشراف رئيس الحكومة احمد الحشاني، والذي خصّص لمواصلة النظر في ملف التصرف في النفايات المنزلية والمشابهة.

وتم خلال هذه المجلس وفق بلاغ حول الموضوع، النظر في " اتخاذ الآليات الكفيلة بضمان استمرارية نشاط المرافق العمومية المتعلقة بالتصرف في النفايات المنزلية والمشابهة، وذلك إلى حين تنقيح قانون سنة 1996 المتعلق بالنفايات وبمراقبة التصرف فيها وإزالتها، والمعروض حاليا على أنظار مجلس نواب الشعب". مع العلم انه يعول كثيرا في بلادنا على تنقيح المنظومة القانونية المتعلقة بالبيئة من أجل رؤية ملتزمة أكثر بحماية البيئة للوصول في النهاية الى الهدف الاسمى وهو توفير جودة الحياة في تونس.

 كل هذا جميل خاصة عندما نطلع على برامج عمل وزارة البيئة على امتداد اشهر العام وعلى اللقاءات التي تجريها الوزيرة ليلى الشتاوي المهداوي وعلى مبادرات الوزارة والشراكات مع هياكل وزارية ومؤسسات وطنية أخرى ومع هيئات ومنظمات دولية وأممية ناشطة في مجال البيئة وعلى خطوط التمويل المتوفرة من الداخل والخارج من اجل النهوض بالبيئة، نقر بوجود مجهود حقيقي من أجل توفير بيئة سليمة، لكن هل يصل ذلك إلى حد القناعة بانه من الممكن أن نصل في النهاية إلى تحقيق التحول الايكولوجي المنشود؟ وهل ستمكن هذه الجهود من رفع التحدي الكبير المتمثل في الوصول إلى صفر نفايات في تونس في أفق 2050؟

طبعا، لا يمكن أن نجزم بنعم أو بلا، مادامت الأمور مرتبطة بالمستقبل لكن في المقابل هناك مؤشرات من الواقع تؤكد أن هناك فرقا كبيرا بين المنشود وبين ما يحدث فعلا على الأرض وفي الميدان.

وأول هذه المؤشرات هي أننا لا نلمس تأثيرا كبير للخطط والاستراتيجيات والحملات المنظمة في الواقع. والواقع في تونس يشير إلى أنه رغم أن البلاد اتخذت العديد من الإجراءات وانها سخرت إمكانيات مادية كبيرة لحل مشاكل التصرف في النفايات المنزلية مثلا أو القضاء على انتشار مادة البلاستيك الضارة في البيئة، إلا اننا نظل نواجه معضلة حقيقية اسمها التصرف في النفايات المنزلية، ومشكل مادة البلاستيك لم يحل رغم منع الاكياس البلاستيكية في المساحات التجارية الكبرى والمخابز.

هل ترفع تونس تحدي صفر نفايات مع أفق 2050؟

وهناك إشكالية أخرى، بل هي معضلة حقيقية في تونس وهي أن بعض المقترحات لحل مشاكل البيئة تتحول بدورها إلى مشكل مما يهدد بان نظل في حلقة مفرغة قد تفاقم في الوضع البيئي المتردي أصلا وقد تحكم في النهاية- اذا لم تتوفر الحلول في الاثناء– إلى فشل الاستراتيجية الوطنية للتحول الايكولوجي المعلن عنها منذ فيفري الماضي.

ومن بين المشاكل الحارقة المطروحة منذ فترة طالت نسبيا هي ما يعرف بـ"تثمين" الفوسفوجيبس، هذه المادة الناجمة عن تكرير الفسفاط.

 ويبدو أن الدولة وتحت تأثير الدعوات الملحة خاصة من بعض الجامعات، قد تتجه نحو قبول فكرة "تثمين" هذه المادة واستعمالها في مجالات الهندسة المدنية والزراعية. ولعل الزيارة الأخيرة التي قامت بها كل من مديرة ديوان وزيرة البيئة ووزيرة الصناعة على ولاية قفصة هي التي دفعت ببعض الملاحظين إلى توقع شيء من هذا القبيل. فقد جاء في بلاغ رسمي أن الزيارة المذكورة التي تمت بتاريخ الأربعاء 13 ديسمبر قد شملت مصنع تحويل الفسفاط بالمظيلة1 التابع للمجمع الكيميائي التونسي بولاية قفصة، حيث يقع مصب مادة الفسفوجيبس والمنجم السطحي بأم الخشب ومركز البحوث بالمتلوي التابع لشركة فسفاط قفصة، وانه تم خلالها مواكبة عمل كلية العلوم بقفصة بهدف الاطلاع على مشاريع مخبرية لتثمين مادة الفسفوجيبس في قطاعات الفلاحة والنسيج ومواد البناء والطرقات. كما تم عرض أفكار مشاريع تثمين مادة الفسفوجيبس من قبل دكاترة وخبراء بقسم الكيمياء في الكلية.

وإذ لا يمكن أن نجزم بان الدولة قد حسمت أمرها بخصوص مادة الفوسفوجيبس، بالاستناد فقط على هذه الزيارة الرسمية، إلا أنها كانت كفيلة بإثارة مخاوف بعض الخبراء على غرار الخبير الدولي في البيئة والتنمية المستديمة محمد الشريف الذي قال في تصريح لنا: لقد أجريت العديد من التجارب على استعمال الفوسفوجيبس في الصناعات الكيمياوية والهندسة المدنية موّل جلها المصنع الكيمياوي التونسي الذي يتوفر على مخبر في كلية العلوم بصفاقس، لكن للأسف ثبتت عدم قابليتها لمنافسة المواد الخام ذات الخصائص الفيزيائية والكيمياوية المشابهة.

 فاستغلاله وفق محدثنا في الطرقات حيث يمكن استعماله بكميات كبيرة ارتبط بتفاعل مكوناته السامة مع عناصر أخرى لتلويث المحيط وخاصة المياه الجوفية والسطحية، عبر التحليل الكيميائي والفيزيائي الناتج عن مياه السيلان زيادة عن ارتفاع جهد الرصّ والتكثيف ووجوب انتقاء أماكن الاستعمال وعزل قاعدة الطريق لمنع تسرب المواد السامة إلى الطبقات الجوفية. وأضاف الخبير الدولي أنه كانت هناك محاولات لاستغلال هذه المادة في صناعة لوحات الجبس اثبت ضعف صلابته الفيزيائية مع كثرة التشققات والتعفنات زيادة عن الاشعاعات المنبعثة منه. اما تجارب استغلاله في الميدان الزراعي فقد اثبتت امتصاص النباتات للمواد المشعة والمعادن الثقيلة، زيادة على تحلل مكوناته السامة لمياه السيلان وتلويثها بالمياه السطحية والجوفية.

وفيما يخص استعمال مادة الفوسفوجبس في صناعة الاسمنت قال محدثنا ان التجارب المخبرية اثبتت تسببه في إطالة مدة التفاعل الكيمياوي وتأخر صلابة الاسمنت علاوة على كثرة التشققات السطحية ووجوب عزل المادة الجاهزة لمنع تحللها وافراز المواد السامة التي يحتويها.

وأشار الخبير الدولي محمد الشريف إلى أن معمل الكيمياوي التونسي يحاول اقناع الراي العام والمجتمع المدني بجهة صفاقس عبر ثلة من الباحثين الجامعيين العاملين بمخابر يمولها المعمل، بنجاح تحويل هذه المادة غير القابلة للتسويق إلى أحادي الفسفاط الرفيع، في حين انه كان جديرا بمسؤوليه وباحثيه منذ عشرات السنين تكثيف البحوث والتجارب لتغيير منظومة انتاج المصنع بإلحاق عملية تخميد الفوسفوجيبس بمادة الجير للحد من حموضتها وما تسببه من تفاعلات كيمياوية زيادة عن جمع مياه الرشح ومعالجتها قبل سكبها في المحيط الطبيعي لتفاعلها مع عناصر البيئة، والكلام له.

وشدد محدثنا على ما اسماه بمغالطة الرأي العام حول الموضوع، اذ يشير إلى أنه من المعلوم أن مادة الفوسفوجيبس التي يراد تثمينها في مواد البناء (وبالتالي ادخالها بيوت التونسيين وتكثيف احتكاكه بها) تتكون من حوالي 99% من جبس بعد انتزاع كمية الماء منه لكنها تحتوي كذلك على إشعاعات نووية وعدة شوائب أخرى متكونة من المعادن الثقيلة التي يمكن أن تشكل خطرا على الانسان والحيوان والمحيط الطبيعي، على غرار الكادميوم والنحاس والحديد والزنك والمنغنيز.

وذكر بانه في سنة 1993 قامت لجنة جهوية للصحة والسلامة المهنية بإجراء تحاليل متنوعة وصور بالأشعة لأكثر من 1200 شخص شملت مختلف مناطق قابس لمعرفة نسبة «الفليور» في الجسم، فكانت النتائج مرعبة وفق وصفه وتدعو الى دق نواقيس الخطر باعتبار أنّ هذه المادة تسبب امراضا عديدة كضيق التنفس وهشاشة العظام والسرطان والأمراض الجلدية، بل أن تأثيرها يتعدى إلى الأجهزة الهضمية والتناسلية. كما أقر المعهد الوطني للصحة والسلامة المهنية بوجود هذه الأمراض المهنية الناتجة عن التلوث، وفق قوله.

ضرورة نشر المعطيات المتعلقة بالأبحاث المخبرية كاملة

ونوه الخبير الدولي في البيئة والتنمية المستدامة محمد الشريف بالمناسبة بانه قبل ايهام الرأي العام بأن هناك حلا لهذه المعضلة في الافق، على الجهات المختصة وخاصة وزارة البيئة التعامل بحرفية مع المسألة ونشر كل المعطيات المتعلقة بهذه الأبحاث المخبرية أو المشاريع المزعومة ومنح المواطنين حقهم في النفاذ الى المعلومة لإبداء الرأي فيها من الناحية العلمية والعملية والبيئية والاقتصادية حتى يتحقق المواطن والمجتمع من سلامة الحلول المقترحة صحيا وبيئيا والكلام لنفس المتحدث.

هذا فيما يخص مشكل الفوسفوجيبس الذي بقدر ما تتعالى أصوات تشير إلى تحقيق "نجاحات" علمية ومخبرية تساعد على تثمين المادة، بقدر ما تتعالى أصوات أخرى ضد استعماله وتنبه من خطره على البيئة وتشكك في قيمة الأبحاث العلمية والمخبرية التي "تبشر" بإمكانية استعمال هذه المادة في الزراعة والبناء بالخصوص، دون ان ننسى طبعا احتجاجات المواطنين في قفصة وصفاقس وقابس (المناطق التي توجد بها مصانع كيمياوية ومناجم الفسفاط) على مشاريع استغلال الفوسفوجيبس خوفا من تأثيرها على صحتهم التي يؤكدون انها تضررت أصلا لوجود المصانع والمناجم المذكورة في محيطهم. وواضح أن المشكل شائك ومعقد وتتدخل فيه عدة عوامل وتختلف الآراء إلى حد التناقض، لكن ما رأينا في مشكل رفع الفضلات المنزلية الذي تحول إلى معضلة حقيقية، على الرغم من انه محل اجماع ومن البديهي ان يكون حله مطلب الجميع.

خطة للفرز الانتقائي قبل حل المشكل الأساسي

ان مشكل النفايات المنزلية على بداهته، ظل يراوح مكانه، وليس هناك مؤشرات تفيد بانه يمكن التخلص منه وخاصة من النقاط السوداء التي حولت حياة اغلب السكان إلى جحيم بسبب تكدس الفضلات والروائح المنبعثة منها، حتى انه يمكن القول ان البلاد وخاصة المدن الكبرى، العاصمة تونس وصفاقس بالأساس، غارقة في الفضلات التي تتسبب كما هو في معلوم في مشاكل صحية خطيرة. وزارة البيئة تتحدث في الاثناء عن الانطلاق في عملية الفرز الانتقائي من المصدر وهو من منظورنا مشروع وإن كان طموحا ومن حقنا أن نسعى إليه، إلا أنه في الظروف الحالية وحسب الواقع الميداني، قد يكون غير واقعيا، هذا إن لم يكن سابقا لأوانه. فنحن لم نهتد لحلول ناجعة لمشاكل رفع الفضلات ولم نصل بعد إلى ذلك الوعي الذي يفرض على الجميع الالتزام بالقوانين بشأن التخلص من النفايات المنزلية، بل نكاد نجزم بان المواطن مازال لا يشعر بانه ملزما باي شيء في علاقة بالموضوع، فكيف والحال تلك، الحديث عن الفرز الانتقائي الذي تعتمد عليه عادة البلدان التي تملك ما يمكن أن نسميه ثقافة "الحفاظ على النظافة وسلامة البيئة"، بل هي ثقافة متجذرة تجعل المواطن شريكا في الزام الجميع بتنفيذ القانون.

أما بالنسبة للبلاسيتيك، فإن الحقيقة الملموسة هي أن المواطن الذي كان يحصل على أكياس مجانية من المغازات الكبرى ومن المخابز صار يقتنيها بالمال، مما يعني أنه يفترض به أن يكون حلا لمشكل البيئة أصبح عبئا ماديا إضافيا على المواطن الذي اذعن للأمر الواقع وصار يشتري الاكياس بدل الحصول عليها مجانا. هل حل المشكل في النهاية؟ إن نظرة خاطفة على بيئتنا كفيلة بأن تعطينا الجواب.

 حياة السايب

 

 

 

 

 

 

 

 

 

النفايات المنزلية.. البلاستيك والفوسفوجيبس أبرز الإشكاليات العالقة..   الاستراتيجية الوطنية للانتقال الايكولوجي في تونس تصطدم بتحديات الواقع

 

خبير دولي في البيئة والتنمية المستدامة لـ"الصباح":  الفوسفوجيبس خطير على البيئة ومسبب لتلوث المياه السطحية والجوفية

تونس- الصباح

تشدد الدولة ممثلة في وزارة البيئة على انها ماضية في تنفيذ استراتيجيتها الوطنية للانتقال الايكولوجي التي تمت المصادقة عليها منذ فيفري الماضي وتحديدا خلال مجلس وزاري أشرفت عليه رئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن بتاريخ 3 فيفري 2023. وللتذكير فإن هذه الاستراتيجية التي وصفت وفق بلاغ صادر حينها عن رئاسة الحكومة بأنها في تناغم مع المعاهدات والمواثيق الدولية التي صادقت عليها تونس، تهدف "الى توفير موارد وآليات تمويل ملائمة ومتاحة لكافة الفاعلين واعتماد تنمية محايدة للكربون متكيفة مع التغيرات المناخية وصامدة أمام الكوارث مع السعي الى ضمان التصرف الرشيد في الموارد الطبيعية وحماية واستصلاح المنظومات الايكولوجية".

 الإستراتيجية تهدف كذلك إلى "القضاء على النقاط السوداء للتلوث وتطهير واستصلاح المواقع الملوثة وتركيز الاقتصاد الدائري وتنمية الثقافة البيئية والعلوم والمعارف وكفاءة الموارد البشرية في مجالات حماية البيئة والتنمية المستدامة وتعميمها على مختلف القطاعات".

وعموما ترتكز الإستراتيجية الوطنية للانتقال الإيكولوجي كما يقدمها أهل الميدان، على محاور كبرى، وهي بالخصوص، الحوكمة البيئية، ومواجهة التغييرات المناخية للتخفيف من انبعاثات الغازات الدفيئة والتأقلم مع تأثيرات التغيرات المناخية، والعناية بالمنظومات البيئية والتنوع البيولوجي، والحد من التلوث والتوجه نحو تطوير أنماط الإنتاج والاستهلاك والسلوكيات، والمعرفة والبحث العلمي.

وإذا ما عرفنا أن الإستراتيجية الوطنية المذكورة، وضعت هدفا أساسيا وهو الوصول إلى صفر نفايات في أفق 2050، نفهم لماذا يتم التركيز بالذات على موضوع التصرف في النفايات الذي كان موضوع مجالس وزارية متعددة لعل آخرها المجلس الوزاري الذي انعقد يوم الثلاثاء 19 ديسمبر الجاري، بقصر الحكومة بالقصبة بإشراف رئيس الحكومة احمد الحشاني، والذي خصّص لمواصلة النظر في ملف التصرف في النفايات المنزلية والمشابهة.

وتم خلال هذه المجلس وفق بلاغ حول الموضوع، النظر في " اتخاذ الآليات الكفيلة بضمان استمرارية نشاط المرافق العمومية المتعلقة بالتصرف في النفايات المنزلية والمشابهة، وذلك إلى حين تنقيح قانون سنة 1996 المتعلق بالنفايات وبمراقبة التصرف فيها وإزالتها، والمعروض حاليا على أنظار مجلس نواب الشعب". مع العلم انه يعول كثيرا في بلادنا على تنقيح المنظومة القانونية المتعلقة بالبيئة من أجل رؤية ملتزمة أكثر بحماية البيئة للوصول في النهاية الى الهدف الاسمى وهو توفير جودة الحياة في تونس.

 كل هذا جميل خاصة عندما نطلع على برامج عمل وزارة البيئة على امتداد اشهر العام وعلى اللقاءات التي تجريها الوزيرة ليلى الشتاوي المهداوي وعلى مبادرات الوزارة والشراكات مع هياكل وزارية ومؤسسات وطنية أخرى ومع هيئات ومنظمات دولية وأممية ناشطة في مجال البيئة وعلى خطوط التمويل المتوفرة من الداخل والخارج من اجل النهوض بالبيئة، نقر بوجود مجهود حقيقي من أجل توفير بيئة سليمة، لكن هل يصل ذلك إلى حد القناعة بانه من الممكن أن نصل في النهاية إلى تحقيق التحول الايكولوجي المنشود؟ وهل ستمكن هذه الجهود من رفع التحدي الكبير المتمثل في الوصول إلى صفر نفايات في تونس في أفق 2050؟

طبعا، لا يمكن أن نجزم بنعم أو بلا، مادامت الأمور مرتبطة بالمستقبل لكن في المقابل هناك مؤشرات من الواقع تؤكد أن هناك فرقا كبيرا بين المنشود وبين ما يحدث فعلا على الأرض وفي الميدان.

وأول هذه المؤشرات هي أننا لا نلمس تأثيرا كبير للخطط والاستراتيجيات والحملات المنظمة في الواقع. والواقع في تونس يشير إلى أنه رغم أن البلاد اتخذت العديد من الإجراءات وانها سخرت إمكانيات مادية كبيرة لحل مشاكل التصرف في النفايات المنزلية مثلا أو القضاء على انتشار مادة البلاستيك الضارة في البيئة، إلا اننا نظل نواجه معضلة حقيقية اسمها التصرف في النفايات المنزلية، ومشكل مادة البلاستيك لم يحل رغم منع الاكياس البلاستيكية في المساحات التجارية الكبرى والمخابز.

هل ترفع تونس تحدي صفر نفايات مع أفق 2050؟

وهناك إشكالية أخرى، بل هي معضلة حقيقية في تونس وهي أن بعض المقترحات لحل مشاكل البيئة تتحول بدورها إلى مشكل مما يهدد بان نظل في حلقة مفرغة قد تفاقم في الوضع البيئي المتردي أصلا وقد تحكم في النهاية- اذا لم تتوفر الحلول في الاثناء– إلى فشل الاستراتيجية الوطنية للتحول الايكولوجي المعلن عنها منذ فيفري الماضي.

ومن بين المشاكل الحارقة المطروحة منذ فترة طالت نسبيا هي ما يعرف بـ"تثمين" الفوسفوجيبس، هذه المادة الناجمة عن تكرير الفسفاط.

 ويبدو أن الدولة وتحت تأثير الدعوات الملحة خاصة من بعض الجامعات، قد تتجه نحو قبول فكرة "تثمين" هذه المادة واستعمالها في مجالات الهندسة المدنية والزراعية. ولعل الزيارة الأخيرة التي قامت بها كل من مديرة ديوان وزيرة البيئة ووزيرة الصناعة على ولاية قفصة هي التي دفعت ببعض الملاحظين إلى توقع شيء من هذا القبيل. فقد جاء في بلاغ رسمي أن الزيارة المذكورة التي تمت بتاريخ الأربعاء 13 ديسمبر قد شملت مصنع تحويل الفسفاط بالمظيلة1 التابع للمجمع الكيميائي التونسي بولاية قفصة، حيث يقع مصب مادة الفسفوجيبس والمنجم السطحي بأم الخشب ومركز البحوث بالمتلوي التابع لشركة فسفاط قفصة، وانه تم خلالها مواكبة عمل كلية العلوم بقفصة بهدف الاطلاع على مشاريع مخبرية لتثمين مادة الفسفوجيبس في قطاعات الفلاحة والنسيج ومواد البناء والطرقات. كما تم عرض أفكار مشاريع تثمين مادة الفسفوجيبس من قبل دكاترة وخبراء بقسم الكيمياء في الكلية.

وإذ لا يمكن أن نجزم بان الدولة قد حسمت أمرها بخصوص مادة الفوسفوجيبس، بالاستناد فقط على هذه الزيارة الرسمية، إلا أنها كانت كفيلة بإثارة مخاوف بعض الخبراء على غرار الخبير الدولي في البيئة والتنمية المستديمة محمد الشريف الذي قال في تصريح لنا: لقد أجريت العديد من التجارب على استعمال الفوسفوجيبس في الصناعات الكيمياوية والهندسة المدنية موّل جلها المصنع الكيمياوي التونسي الذي يتوفر على مخبر في كلية العلوم بصفاقس، لكن للأسف ثبتت عدم قابليتها لمنافسة المواد الخام ذات الخصائص الفيزيائية والكيمياوية المشابهة.

 فاستغلاله وفق محدثنا في الطرقات حيث يمكن استعماله بكميات كبيرة ارتبط بتفاعل مكوناته السامة مع عناصر أخرى لتلويث المحيط وخاصة المياه الجوفية والسطحية، عبر التحليل الكيميائي والفيزيائي الناتج عن مياه السيلان زيادة عن ارتفاع جهد الرصّ والتكثيف ووجوب انتقاء أماكن الاستعمال وعزل قاعدة الطريق لمنع تسرب المواد السامة إلى الطبقات الجوفية. وأضاف الخبير الدولي أنه كانت هناك محاولات لاستغلال هذه المادة في صناعة لوحات الجبس اثبت ضعف صلابته الفيزيائية مع كثرة التشققات والتعفنات زيادة عن الاشعاعات المنبعثة منه. اما تجارب استغلاله في الميدان الزراعي فقد اثبتت امتصاص النباتات للمواد المشعة والمعادن الثقيلة، زيادة على تحلل مكوناته السامة لمياه السيلان وتلويثها بالمياه السطحية والجوفية.

وفيما يخص استعمال مادة الفوسفوجبس في صناعة الاسمنت قال محدثنا ان التجارب المخبرية اثبتت تسببه في إطالة مدة التفاعل الكيمياوي وتأخر صلابة الاسمنت علاوة على كثرة التشققات السطحية ووجوب عزل المادة الجاهزة لمنع تحللها وافراز المواد السامة التي يحتويها.

وأشار الخبير الدولي محمد الشريف إلى أن معمل الكيمياوي التونسي يحاول اقناع الراي العام والمجتمع المدني بجهة صفاقس عبر ثلة من الباحثين الجامعيين العاملين بمخابر يمولها المعمل، بنجاح تحويل هذه المادة غير القابلة للتسويق إلى أحادي الفسفاط الرفيع، في حين انه كان جديرا بمسؤوليه وباحثيه منذ عشرات السنين تكثيف البحوث والتجارب لتغيير منظومة انتاج المصنع بإلحاق عملية تخميد الفوسفوجيبس بمادة الجير للحد من حموضتها وما تسببه من تفاعلات كيمياوية زيادة عن جمع مياه الرشح ومعالجتها قبل سكبها في المحيط الطبيعي لتفاعلها مع عناصر البيئة، والكلام له.

وشدد محدثنا على ما اسماه بمغالطة الرأي العام حول الموضوع، اذ يشير إلى أنه من المعلوم أن مادة الفوسفوجيبس التي يراد تثمينها في مواد البناء (وبالتالي ادخالها بيوت التونسيين وتكثيف احتكاكه بها) تتكون من حوالي 99% من جبس بعد انتزاع كمية الماء منه لكنها تحتوي كذلك على إشعاعات نووية وعدة شوائب أخرى متكونة من المعادن الثقيلة التي يمكن أن تشكل خطرا على الانسان والحيوان والمحيط الطبيعي، على غرار الكادميوم والنحاس والحديد والزنك والمنغنيز.

وذكر بانه في سنة 1993 قامت لجنة جهوية للصحة والسلامة المهنية بإجراء تحاليل متنوعة وصور بالأشعة لأكثر من 1200 شخص شملت مختلف مناطق قابس لمعرفة نسبة «الفليور» في الجسم، فكانت النتائج مرعبة وفق وصفه وتدعو الى دق نواقيس الخطر باعتبار أنّ هذه المادة تسبب امراضا عديدة كضيق التنفس وهشاشة العظام والسرطان والأمراض الجلدية، بل أن تأثيرها يتعدى إلى الأجهزة الهضمية والتناسلية. كما أقر المعهد الوطني للصحة والسلامة المهنية بوجود هذه الأمراض المهنية الناتجة عن التلوث، وفق قوله.

ضرورة نشر المعطيات المتعلقة بالأبحاث المخبرية كاملة

ونوه الخبير الدولي في البيئة والتنمية المستدامة محمد الشريف بالمناسبة بانه قبل ايهام الرأي العام بأن هناك حلا لهذه المعضلة في الافق، على الجهات المختصة وخاصة وزارة البيئة التعامل بحرفية مع المسألة ونشر كل المعطيات المتعلقة بهذه الأبحاث المخبرية أو المشاريع المزعومة ومنح المواطنين حقهم في النفاذ الى المعلومة لإبداء الرأي فيها من الناحية العلمية والعملية والبيئية والاقتصادية حتى يتحقق المواطن والمجتمع من سلامة الحلول المقترحة صحيا وبيئيا والكلام لنفس المتحدث.

هذا فيما يخص مشكل الفوسفوجيبس الذي بقدر ما تتعالى أصوات تشير إلى تحقيق "نجاحات" علمية ومخبرية تساعد على تثمين المادة، بقدر ما تتعالى أصوات أخرى ضد استعماله وتنبه من خطره على البيئة وتشكك في قيمة الأبحاث العلمية والمخبرية التي "تبشر" بإمكانية استعمال هذه المادة في الزراعة والبناء بالخصوص، دون ان ننسى طبعا احتجاجات المواطنين في قفصة وصفاقس وقابس (المناطق التي توجد بها مصانع كيمياوية ومناجم الفسفاط) على مشاريع استغلال الفوسفوجيبس خوفا من تأثيرها على صحتهم التي يؤكدون انها تضررت أصلا لوجود المصانع والمناجم المذكورة في محيطهم. وواضح أن المشكل شائك ومعقد وتتدخل فيه عدة عوامل وتختلف الآراء إلى حد التناقض، لكن ما رأينا في مشكل رفع الفضلات المنزلية الذي تحول إلى معضلة حقيقية، على الرغم من انه محل اجماع ومن البديهي ان يكون حله مطلب الجميع.

خطة للفرز الانتقائي قبل حل المشكل الأساسي

ان مشكل النفايات المنزلية على بداهته، ظل يراوح مكانه، وليس هناك مؤشرات تفيد بانه يمكن التخلص منه وخاصة من النقاط السوداء التي حولت حياة اغلب السكان إلى جحيم بسبب تكدس الفضلات والروائح المنبعثة منها، حتى انه يمكن القول ان البلاد وخاصة المدن الكبرى، العاصمة تونس وصفاقس بالأساس، غارقة في الفضلات التي تتسبب كما هو في معلوم في مشاكل صحية خطيرة. وزارة البيئة تتحدث في الاثناء عن الانطلاق في عملية الفرز الانتقائي من المصدر وهو من منظورنا مشروع وإن كان طموحا ومن حقنا أن نسعى إليه، إلا أنه في الظروف الحالية وحسب الواقع الميداني، قد يكون غير واقعيا، هذا إن لم يكن سابقا لأوانه. فنحن لم نهتد لحلول ناجعة لمشاكل رفع الفضلات ولم نصل بعد إلى ذلك الوعي الذي يفرض على الجميع الالتزام بالقوانين بشأن التخلص من النفايات المنزلية، بل نكاد نجزم بان المواطن مازال لا يشعر بانه ملزما باي شيء في علاقة بالموضوع، فكيف والحال تلك، الحديث عن الفرز الانتقائي الذي تعتمد عليه عادة البلدان التي تملك ما يمكن أن نسميه ثقافة "الحفاظ على النظافة وسلامة البيئة"، بل هي ثقافة متجذرة تجعل المواطن شريكا في الزام الجميع بتنفيذ القانون.

أما بالنسبة للبلاسيتيك، فإن الحقيقة الملموسة هي أن المواطن الذي كان يحصل على أكياس مجانية من المغازات الكبرى ومن المخابز صار يقتنيها بالمال، مما يعني أنه يفترض به أن يكون حلا لمشكل البيئة أصبح عبئا ماديا إضافيا على المواطن الذي اذعن للأمر الواقع وصار يشتري الاكياس بدل الحصول عليها مجانا. هل حل المشكل في النهاية؟ إن نظرة خاطفة على بيئتنا كفيلة بأن تعطينا الجواب.

 حياة السايب