إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

التّونسي وانفصام الشخصيّة

انكشف النفاق السياسي ودُسّت المبادئ وضربت الثوابت عرض الحائط وأصبحت الحسابات الضيقة والمحسوبية سيّدة الموقف

بقلم:مصدّق الشّريف

يبدو أنّ شخصيّة الكثير من التونسيّات والتونسيّين عموما والنّخبة خصوصا تتّسم بالانفصام. فهم يقولون الشيء ونقيضه. يتبنّون الرّأي ويدافعون عنه ولكن سرعان ما يتغير موقفهم بنسبة مائة وثمانين درجة. يتقلّبون في أفكارهم في واضحة النّهار دون استحياء. وفي الأمر ما يبعث على القرف والاشمئزاز.

نعود مثلا إلى ما كانت تقوله حركة النهضة عن نداء تونس وما كان يصرّح به نداء تونس عن حركة النهضة قبل لقاء باريس الشهير بين راشد الغنوشي والمرحوم الباجي قائد السبسي. كان كلّ طرف يتّهم الآخر بالدونية والانتهازية ويؤكد أنّه ليس جديرا بقيادة تونس وأنّه دخيل على المسار الثوري. وأضحت الجملة التي قالها الباجي قائد السبسي، رحمه الله، أشهر من نار على علم: النهضة والنداء خطان متوازيان لا يلتقيان. ثم تقاطع الحزبان وأصبحا بين عشية وضحاها في "صحيفة العسل". وأضحى كل حزب يبارك أفكار الحزب الآخر ويمجّدها ويثني عليها. وغير بعيد عن نداء تونس، كثيرا ما كنّا نسمع سياسيّين من هنا وهناك يتّهمون حركة النّهضة وقيادتها بالضّلوع في الاغتيالات السياسيّة والتّسبّب في انهيار الوضع الاقتصادي والاجتماعي. ثم رأينا الأطراف نفسها تشكّل التحالفات وتبني التوافقات مع حركة النهضة وترتمي في أحضانها. عندها انكشف النفاق السياسي لكلّ من هبّ ودبّ ودُسّت المبادئ وضربت الثوابت عرض الحائط. وأصبحت الحسابات الضيقة والمحسوبية والزبونية سيّدة الموقف.

وقد تعدّت ازدواجيّة الخطاب من المواقف السياسيّة إلى المشاغل الاجتماعية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تعالت الأصوات مطالبة بالحق في الشغل وخلق فرص عمل لمن يعانون من كابوس البطالة وآثارها المقيتة. فالعمل قيمة ثابتة، وقد أقرّ الفلاسفة والمفكرون منذ القدم بأنّ الذات البشرية تتقي الاحتياج والقلق والرذيلة بفضيلة العمل. وفي هذا الإطار، نُظّمت التجمعات والمسيرات وأصدر رجال التعليم ونساؤه من جميع مستويات التعليم بيانات نقابية تنادي بضرورة تشغيل أصحاب الشهائد العليا وقد طالت بطالتهم وتقدم بهم السّن. ولكنّ هذا الخطاب يتناقض تماما مع سلوك بعض المربّين المتشبثّين بالتّدريس في المدارس الخاصة والحرة. وقد كان من الأجدر بهم أن يتخلّوا عن العمل في هكذا مدارس ومعاهد حتّى يُفسحوا المجال لمن يُدافعون عنهم ليلا نهارا من زملائهم المعطّلين عن العملǃ فهل من المنطق أن ندافع عن البطّالين ونجري في الوقت نفسه بل ونلهث وراء تقديم الدّروس الخصوصيّة في كل مكان (في المنازل، في المؤسّسات التربويّة العموميّة والخاصّة) وفي أي وقت (في الصباح، في المساء وحتى في الهزيع الثاني من الليل)؟

توجد أيضا فئة أخرى لطالما طالبت بضرورة مساندة المعطّلين عن العمل منذ سنوات طال مداها وحقهم في العيش الكريم. إنّنا نراها مبثوثة يوميا، لأكثر من مرّة أحيانا في اليوم ذاته، في دور الاعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة تحلّل الأخبار السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية وتقوم بدور العلاّمة. والحال أنّ الحضور القارّ في وسائل الإعلام هو عمل ثانوي يُضاف إلى شغلهم الأصلي. لقد كان من الأجدر أن يحتل المواقع في الإذاعات والتلفزات خريجو معهد الصحافة وعلوم الأخبار الذين درسوا في هذا المجال وتكوّنوا فيه وقد قدمت لهم المجموعة الوطنية الكثير من امكانياتها المادية والمعنوية ليكونوا أصحاب الكلمة والقلم داخل السلطة الرابعة.

إننا نقول لهؤلاء القلقين والمتحسرين على حال المحرومين من حقهم في الشغل إنّكم بدوركم تؤزّمون أوضاع المعطّلين عن العمل وتسهمون في رفع نسبة البطالة.

ولا تخفى سلوكيّات شريحة كبيرة من التونسييّن والتونسيّات المخادعة على أحد. فمن النّاس من يشتكي من غلاء بعض المواد وخاصة في المواسم والأعياد الدّينيّة والمناسبات الاجتماعيّة مثل رأس السنة الإداريّة ورمضان وعيد الأضحى والمولد النبوي الشريف ويدعو إلى مقاطعتها. ويؤكد بعضهم أنّ العيش يتواصل والحياة تستمر ولو تمّ الاستغناء عن البيض والدّجاج واللحم والزڤوڤو والمرطبات. ولكنّنا نجد هؤلاء أنفسهم في الصّفوف الأماميّة للمساحات العامة يزاحم بعضهم بعضا لشراء ما لذّ وطاب ولو خفّ وزنه وغلا سعره. أمّا الدعوة إلى مقاطعة البضاعة الأجنبية كالمشروبات الغازية أو السّجائر أو الملابس الفاخرة أو السيّارات الفارهة فحدث ولا حرجǃ إنّه كلام بكلام وليس كلاما بفعالǃ

وعلى العموم، فإنّنا أمام مشهد يحتمل توصيفا سلبيّا واحدا للمواطن التّونسي وهو أنّه يقول ما لا يفعل وأنّ مواقفه لا تتعدّى الشعارات الرّنانة الطنّانة إذ أنّ ممارساته تكذّب ادعاءاته وتحطم صورة المدافع المقدام وتفضح ازدواج شخصيّته وانفصامها بامتياز.

 

 

 

التّونسي وانفصام الشخصيّة

انكشف النفاق السياسي ودُسّت المبادئ وضربت الثوابت عرض الحائط وأصبحت الحسابات الضيقة والمحسوبية سيّدة الموقف

بقلم:مصدّق الشّريف

يبدو أنّ شخصيّة الكثير من التونسيّات والتونسيّين عموما والنّخبة خصوصا تتّسم بالانفصام. فهم يقولون الشيء ونقيضه. يتبنّون الرّأي ويدافعون عنه ولكن سرعان ما يتغير موقفهم بنسبة مائة وثمانين درجة. يتقلّبون في أفكارهم في واضحة النّهار دون استحياء. وفي الأمر ما يبعث على القرف والاشمئزاز.

نعود مثلا إلى ما كانت تقوله حركة النهضة عن نداء تونس وما كان يصرّح به نداء تونس عن حركة النهضة قبل لقاء باريس الشهير بين راشد الغنوشي والمرحوم الباجي قائد السبسي. كان كلّ طرف يتّهم الآخر بالدونية والانتهازية ويؤكد أنّه ليس جديرا بقيادة تونس وأنّه دخيل على المسار الثوري. وأضحت الجملة التي قالها الباجي قائد السبسي، رحمه الله، أشهر من نار على علم: النهضة والنداء خطان متوازيان لا يلتقيان. ثم تقاطع الحزبان وأصبحا بين عشية وضحاها في "صحيفة العسل". وأضحى كل حزب يبارك أفكار الحزب الآخر ويمجّدها ويثني عليها. وغير بعيد عن نداء تونس، كثيرا ما كنّا نسمع سياسيّين من هنا وهناك يتّهمون حركة النّهضة وقيادتها بالضّلوع في الاغتيالات السياسيّة والتّسبّب في انهيار الوضع الاقتصادي والاجتماعي. ثم رأينا الأطراف نفسها تشكّل التحالفات وتبني التوافقات مع حركة النهضة وترتمي في أحضانها. عندها انكشف النفاق السياسي لكلّ من هبّ ودبّ ودُسّت المبادئ وضربت الثوابت عرض الحائط. وأصبحت الحسابات الضيقة والمحسوبية والزبونية سيّدة الموقف.

وقد تعدّت ازدواجيّة الخطاب من المواقف السياسيّة إلى المشاغل الاجتماعية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تعالت الأصوات مطالبة بالحق في الشغل وخلق فرص عمل لمن يعانون من كابوس البطالة وآثارها المقيتة. فالعمل قيمة ثابتة، وقد أقرّ الفلاسفة والمفكرون منذ القدم بأنّ الذات البشرية تتقي الاحتياج والقلق والرذيلة بفضيلة العمل. وفي هذا الإطار، نُظّمت التجمعات والمسيرات وأصدر رجال التعليم ونساؤه من جميع مستويات التعليم بيانات نقابية تنادي بضرورة تشغيل أصحاب الشهائد العليا وقد طالت بطالتهم وتقدم بهم السّن. ولكنّ هذا الخطاب يتناقض تماما مع سلوك بعض المربّين المتشبثّين بالتّدريس في المدارس الخاصة والحرة. وقد كان من الأجدر بهم أن يتخلّوا عن العمل في هكذا مدارس ومعاهد حتّى يُفسحوا المجال لمن يُدافعون عنهم ليلا نهارا من زملائهم المعطّلين عن العملǃ فهل من المنطق أن ندافع عن البطّالين ونجري في الوقت نفسه بل ونلهث وراء تقديم الدّروس الخصوصيّة في كل مكان (في المنازل، في المؤسّسات التربويّة العموميّة والخاصّة) وفي أي وقت (في الصباح، في المساء وحتى في الهزيع الثاني من الليل)؟

توجد أيضا فئة أخرى لطالما طالبت بضرورة مساندة المعطّلين عن العمل منذ سنوات طال مداها وحقهم في العيش الكريم. إنّنا نراها مبثوثة يوميا، لأكثر من مرّة أحيانا في اليوم ذاته، في دور الاعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة تحلّل الأخبار السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية وتقوم بدور العلاّمة. والحال أنّ الحضور القارّ في وسائل الإعلام هو عمل ثانوي يُضاف إلى شغلهم الأصلي. لقد كان من الأجدر أن يحتل المواقع في الإذاعات والتلفزات خريجو معهد الصحافة وعلوم الأخبار الذين درسوا في هذا المجال وتكوّنوا فيه وقد قدمت لهم المجموعة الوطنية الكثير من امكانياتها المادية والمعنوية ليكونوا أصحاب الكلمة والقلم داخل السلطة الرابعة.

إننا نقول لهؤلاء القلقين والمتحسرين على حال المحرومين من حقهم في الشغل إنّكم بدوركم تؤزّمون أوضاع المعطّلين عن العمل وتسهمون في رفع نسبة البطالة.

ولا تخفى سلوكيّات شريحة كبيرة من التونسييّن والتونسيّات المخادعة على أحد. فمن النّاس من يشتكي من غلاء بعض المواد وخاصة في المواسم والأعياد الدّينيّة والمناسبات الاجتماعيّة مثل رأس السنة الإداريّة ورمضان وعيد الأضحى والمولد النبوي الشريف ويدعو إلى مقاطعتها. ويؤكد بعضهم أنّ العيش يتواصل والحياة تستمر ولو تمّ الاستغناء عن البيض والدّجاج واللحم والزڤوڤو والمرطبات. ولكنّنا نجد هؤلاء أنفسهم في الصّفوف الأماميّة للمساحات العامة يزاحم بعضهم بعضا لشراء ما لذّ وطاب ولو خفّ وزنه وغلا سعره. أمّا الدعوة إلى مقاطعة البضاعة الأجنبية كالمشروبات الغازية أو السّجائر أو الملابس الفاخرة أو السيّارات الفارهة فحدث ولا حرجǃ إنّه كلام بكلام وليس كلاما بفعالǃ

وعلى العموم، فإنّنا أمام مشهد يحتمل توصيفا سلبيّا واحدا للمواطن التّونسي وهو أنّه يقول ما لا يفعل وأنّ مواقفه لا تتعدّى الشعارات الرّنانة الطنّانة إذ أنّ ممارساته تكذّب ادعاءاته وتحطم صورة المدافع المقدام وتفضح ازدواج شخصيّته وانفصامها بامتياز.