إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

توفر ألف مليار للدروس الخصوصية.. العائلات تتنافس في الضغط على الأبناء من أجل مقابل لـ"تضحياتها"

 

 طغيان سيادة امتحان العدد على تقييم المعارف والمهارات أفرز التعلم الموازي

تونس – الصباح

لماذا اختزلت العملية التعليمية في تونس في النتائج والإعداد والتقييمات؟ وكيف تحولت علاقة التلميذ بمؤسسة التربوية إلى علاقة قائمة على "التقييمات" بدل التركيز على التعلمات والتكوين؟ ولماذا تحولت فترة الامتحانات إلى "كابوس" يؤرق الأسرة قبل التلميذ؟

انتهى الأسبوع المنقضي "ماراطون" الامتحانات.. الذي دام لأكثر من أسبوعين عاشت خلاله العائلة حالة "استنفار" بسبب مراجعة أبنائها والاستعداد لإجراء اختبارات الثلاثي الأول من السنة الدراسية.. فالبداية كانت بالتقييمات وصولا لأسبوع الشفاهي ثم أسبوع الاختبارات الكتابية.. فبين المراجعة المنزلية والدروس الخصوصية يعيش التلميذ ضغطا نفسيا غير مسبوق يرافقه إلى الفصل وحتى أثناء إجراء الامتحان.. حتى أن أغلب التلاميذ أصبح همهم الوحيد الانتهاء من هذه العملية بأخف الأضرار،ثم انطلقت بداية من أمس عطلة الشتاء التي تمثل استراحة المحارب بالنسبة للعائلات والتلاميذ..، لكن لماذا يهول التونسي امتحانات الأبناء ويعتبر النتائج هي مكافأته على تعبه..؟

كما نجد الأولياء يتذمرون من كثرة الدروس وطول فترة الاختبارات لتنتهي العملية بالبحث عن نتائج ترضيهم قبل أن ترضي التلميذ نفسه وكأن العلاقة بينها وبين المدرسة أو المعهد تختزل في دفتر الأعداد الذي يسلم إلى التلميذ مع نهاية كل ثلاثية.

"الاختبار المحنة"

الدكتورة سلوى عباسي متفقدة عامة للتعليم الثانوي أكدت لـ" الصباح" أن فترة الامتحانات اسم على مسمّى لم تبارح مفهوم "الاختبار المحنة" بينما كان من الأجدى أن ننحو بمنظومتنا التقييمية (من الجزاء)/التقويمية (من التقويم والدعم والعلاج) مذ سنوات مناحي أكثر وجاهة ونجاعة تحقق الأهداف المنوطة بالتقييم في حدّ ذاته باعتباره عمليّة متكاملة مركّبة هي محصّلة مسارات تعليميّة متنافذة تتطلب عدم فصل التعلم عن لحظات قيس وتشخيص فجمع معطيات فاتخاذ قرارات، فالتقييم يفترض أن يكون منطلقه المتعلّم أولا وقبل كل شيء بتشخيص حاجاته وحجم إمكاناته وأساليب عمله ودرجة صعوباته وأنواعها  ليسير في اتجاه تقييم أداء المنظومة بدءا بالبرامج أو المناهج مرورا بالممارسات التدريسية التقويمية وصولا إلى أداء المؤسسة ومنها استشراف سبل التعديل والتطوير. وهنا يكون تنزيل أحدث المقاربات التقويمية التي باتت تعرف في الأنظمة التربويّة المتقدّمة بـ"التقييم الموضعي"،(l’évaluation de positionnement) وهو من أنماط التقييم المستحدثة التي تتقصّد موضعة التلميذ في مسار تمدرسه وارتقائه من مستوى إلى آخر ومن مرحلة إلى أخرى ومن محطّة جزائيّة إلى بقيّة المحطّات حتى بلوغ طور التخريج والتوجيه الجامعيّ.

ومن ناحية ثانية أكدت العباسي أن أبرز الدراسات العلمية تشير إلى أنّ التقييم الأفضل هو ما كان متباعدا في الزمن متقاربا في محايثة مسارات التعلم لا فصل ولا انفصال، وأنه مرتبط ارتباطا وثيقا بمبحث الذاكرة والاستذكار (la mémorisation) وهو لا يكون بشكل مكثف مكدس طوال فترة واحدة أو دفعة واحدة ترهق فيها العائلات والمدرسين والتلاميذ، على حدّ سواء، بالمراجعة والإصلاح وإنما يكون على دفعات في "أويقات" تفصل بينها تعلّمات ومراجعات وتدريبات منظمة مهيكلة يسهم المتعلم بذاته وبمعيّة معلّمه وأقرانه في ضبط مخططها وانتقاء وسائلها ومواردها وبناء توزيعيتها وهيكلة المعارف والمكتسبات خلالها باستخدام الملخصات والملف المهاري والخطاطات وخرائط الذهن والملصقات والجداريات ومشاريع التعلم الذاتيّ والجماعي.

إستراتيجيات التعلم والمذاكرة

وحسب العباسي فان عملية المراجعة التي تدوم ربع ساعة يوميا طيلة ثمانية أيام أفضل من ساعتين في الأسبوع وأن المراجعة المكثفة في آخر لحظات التعلم قبل اجتياز الاختبار تؤدّي إلى تشتيت الذهن وتشريد المعلومات أو جعل بعضها يغشي بعضا بما يعرف بظاهرة "التشميع"le bachetage/، كما يراعي التقييم الناجع أيضا البعدين الوجدانيّ والمهاري العمليّ في شخصية التلميذ ويجعله فاعلا، واعيا بمساراته ومنهجيته وصعوباته وقدراته، منخرطا، مستقلا، مسؤولا عن اتخاذ القرارات بعد حلّ المشكلات والتبصّر بإستراتيجيات التعلم والمذاكرة. وعليها ضبط خطط الدعم والعلاج أثناء التعلم لا بعده وإثر عطلة تدوم أسبوعين تتبخر فيها المعلومة أو تتناقص تدريجيا. فكلما شغّل الدماغ البشري محصلاته ووظفها واستعملها داخل سياقات ووضعيات متنوّعة رسخت المكتسبات وتطورت أكثر. وكلما نافذت التعلمات وتعابرت المواد أصبحت المعرفة مكينة إلى أبعد الحدود يصعب نسيانها. كلّ هذا لا أثر له في منظومتنا وبرامجها وامتحاناتها التي لا تزال ذات بعد كمّي جزائي ترتيبي تصنيفي إقصائي كمي لا يساوي بين المتعلمين لا في فرص التعلم ولا في معايير جودته ولا في حظوظ النجاح وإمكاناته ولا يعترف بالحق في الدعم والعلاج كما هو الحق في العلم الجيد والتقويم المنصف.

وخلصت العباسي إلى أن كلّ هذا أنتج طغيان الكم على النوع وسيادة امتحان العدد على تقييم المعارف والمهارات وجعل الجميع في سباق مزمن محموم، وفرض وتيرة خانقة أفرزت ظاهرة التعلم غير النظامي أو الموازي بشتى أشكاله ومنها الدروس الخصوصية التي تشتغل بنفس المنطق الذي لا يكوّن شخصية المتعلّم ولا يبني معارفه وخبراته ومهاراته بقدر ما يقدّم معلومة الدقيقة التسعين ولا يستعين غالبا إلا بالجاهز المحفوظ المتواتر المتشابه أو ما جاز نعته بـ"التقييمات المتسلسلة" نسبة إلى نظام السلاسل والتمارين التي تتناشر على صفحات التواصل الاجتماعي دون تدبّر وتمعّن في الحاجات الفارقية للمتعلم وفي مراكز الدعم والعلاج وفضاءات الدرس الخصوصي معولة كل التعويل على الكتب الموازية، وما تقادم وتكلس المواد التعليمية التقويمية التي لم تتغير شأنها في ذلك شأن برامج اهترأت وقتلت درسا آن أوان تجديدها وتغييرها وجعلها تواكب متطلبات المدرسة الحديثة وحاجات الفرد والمجتمع والتنمية.

ضغط مزدوج..

من جانبه اعتبر معز الشريف رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل أن ما يعيشه التلميذ خلال فترة الامتحانات من ضغط مزدوج سواء من أسرته أو من المؤسسة التربوية التي ينتمي لها التلميذ فالعائلة التونسية همها الوحيد اليوم دراسة أبنائها لذلك نجد أن الاستثمار الأول لديها يكون في الأبناء خاصة وأن مجانية التعليم تلاشت في خضم كثرة المصاريف المتعلقة بالعملية التعليمية مقارنة بإمكانيات جل الأسر التونسية المحدودة.

في مستوى التضحيات ..

وفي سياق حديثه لـ "الصباح" أكد رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل أن الضغوطات الاقتصادية التي تعاني منها العائلات التونسية نتج عنها ضغط يمارس على الأبناء حيث أن التلميذ أصبح مطالبا أن يكون في مستوى التضحيات الأسرية وعليه أن يقدم نتائج في مستوى تلك التضحيات حتى ولو على حساب طاقته وحالته النفسية .

كما نبه الشريف من تحول سلوكيات العائلة في تونس تجاه أبنائها حيث أصبحت تطالبه بنتائج وإعداد تفوق حتى قدرته التعليمية لان الفكرة التقليدية السائدة عن منظومتنا التربوية تتلخص فقط في النتائج والتقييمات وكان الإعداد هي الفيصل الوحيد بين المدرسة والتلميذ ما ولد حالة إحباط وإحساس التلميذ بالتقصير تجاه عائلته دون أن ننسى ضغط المدرسة الذي تترجمه المناهج التعليمية نتيجة غياب الجودة،وفق تعبيره .

هذا واعتبر الشريف أن الدروس الخصوصية أصبحت ملاذ العائلة التونسية التي تخصص لها سنويا ميزانية قارة.

جدير بالذكر أن منظمة إرشاد المستهلك كشفت سنة 2018 بأن كلفة الدروس الخصوصية في تونس، تبلغ حوالي 1000 مليار سنويا.

وأجرى مركز نداء المنظمة استبيانا استهدف 2907 عيّنة من أولياء التلاميذ بتونس الكبرى وصفاقس وسوسة.

وأكد لطفي الرياحي رئيس المنظمة أن العائلة تصرف بين 30 و60 دينارا شهريا للمادة الواحدة، وبين 80 و150 دينارا شهريا للمادة الواحدة لتلاميذ الثانوي، كما كشف الاستبيان الذي أجرته المنظمة أن 56 بالمائة من تلاميذ الابتدائي يتلقون دروسا خصوصية، و66 بالمائة بالنسبة للمرحلة الإعدادية وحوالي90  بالمائة من تلاميذ المرحلة الثانوية يتلقون دروسا خصوصية.

وفي السياق نفسه حذر محدثنا من انعدام تكافؤ الفرص في التعليم حيث نجد مدارس نموذجية مسخر لها كل الاهتمام ومدارس عادية وكأننا نسعى لتكريس منظومة تربوية انتقائية.

وكان سليم قاسم،رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم أشار في تصريحات سابقة لـ "الصباح"  إلى أن الدولة تخلت منذ سنوات عن مبدأ مجانية التعليم، مؤكدا أن "ما نعيشه فقط هو مجانية التمدرس من حيث أنه لا يتم توظيف رسوم مقابل حضور التلاميذ في المدارس العمومية، أما ما عدا ذلك فإن الأسرة التونسية تدفع أموالا طائلة لتضمن تمكن أبنائها من متابعة تعليمهم، سواء كان ذلك على مستوى تكاليف العودة المدرسية أو للدروس الخصوصية أو لغير ذلك من التكاليف."

حلبة للمنافسة ..

كما  أفاد مهدي الشريف،ناشط مجتمع مدني ومختص في الإصلاح التربوي، في حدثيه لـ "الصباح" أن الضغط الذي يعيشه التلميذ في علاقة بالامتحانات سببه اقتصادي بالأساس لان التلميذ أصبح يسعى للتميز الدراسي مما يمكنه من الولوج إلى شعب تضمن له مستقبله في سوق الشغل بمعنى أن التلميذ وأسرته لا يختصران التعليم فقط في المناهج التعليمية والمكتسبات العلمية بقدر ما هو سبب أساسي ليضمن مستقبل التلميذ المهني، ونفس الشيء بالنسبة إلى الضغط الذي تعيشه العائلة التونسية تجاه الأبناء ومستقبلهم الدراسي حيث تحولت العملية التعليمية إلى حلبة للمنافسة بين الأولياء ومن يضمن لابنه أكثر دروس خصوصية.

وحسب محدثنا أصبحت العلاقة بين التلميذ والمدرسة غير تعليمية بقدر ما هي أعداد لإجراء الاختبارات وخوض عملية منافسة، وهي ظاهرة خطيرة لأنه ستصبح المدرسة منفرة للتلميذ لان التعلم أصبح وسيلة اقتصادية.

جهاد الكلبوسي

توفر ألف مليار للدروس الخصوصية..   العائلات تتنافس في الضغط على الأبناء من أجل مقابل لـ"تضحياتها"

 

 طغيان سيادة امتحان العدد على تقييم المعارف والمهارات أفرز التعلم الموازي

تونس – الصباح

لماذا اختزلت العملية التعليمية في تونس في النتائج والإعداد والتقييمات؟ وكيف تحولت علاقة التلميذ بمؤسسة التربوية إلى علاقة قائمة على "التقييمات" بدل التركيز على التعلمات والتكوين؟ ولماذا تحولت فترة الامتحانات إلى "كابوس" يؤرق الأسرة قبل التلميذ؟

انتهى الأسبوع المنقضي "ماراطون" الامتحانات.. الذي دام لأكثر من أسبوعين عاشت خلاله العائلة حالة "استنفار" بسبب مراجعة أبنائها والاستعداد لإجراء اختبارات الثلاثي الأول من السنة الدراسية.. فالبداية كانت بالتقييمات وصولا لأسبوع الشفاهي ثم أسبوع الاختبارات الكتابية.. فبين المراجعة المنزلية والدروس الخصوصية يعيش التلميذ ضغطا نفسيا غير مسبوق يرافقه إلى الفصل وحتى أثناء إجراء الامتحان.. حتى أن أغلب التلاميذ أصبح همهم الوحيد الانتهاء من هذه العملية بأخف الأضرار،ثم انطلقت بداية من أمس عطلة الشتاء التي تمثل استراحة المحارب بالنسبة للعائلات والتلاميذ..، لكن لماذا يهول التونسي امتحانات الأبناء ويعتبر النتائج هي مكافأته على تعبه..؟

كما نجد الأولياء يتذمرون من كثرة الدروس وطول فترة الاختبارات لتنتهي العملية بالبحث عن نتائج ترضيهم قبل أن ترضي التلميذ نفسه وكأن العلاقة بينها وبين المدرسة أو المعهد تختزل في دفتر الأعداد الذي يسلم إلى التلميذ مع نهاية كل ثلاثية.

"الاختبار المحنة"

الدكتورة سلوى عباسي متفقدة عامة للتعليم الثانوي أكدت لـ" الصباح" أن فترة الامتحانات اسم على مسمّى لم تبارح مفهوم "الاختبار المحنة" بينما كان من الأجدى أن ننحو بمنظومتنا التقييمية (من الجزاء)/التقويمية (من التقويم والدعم والعلاج) مذ سنوات مناحي أكثر وجاهة ونجاعة تحقق الأهداف المنوطة بالتقييم في حدّ ذاته باعتباره عمليّة متكاملة مركّبة هي محصّلة مسارات تعليميّة متنافذة تتطلب عدم فصل التعلم عن لحظات قيس وتشخيص فجمع معطيات فاتخاذ قرارات، فالتقييم يفترض أن يكون منطلقه المتعلّم أولا وقبل كل شيء بتشخيص حاجاته وحجم إمكاناته وأساليب عمله ودرجة صعوباته وأنواعها  ليسير في اتجاه تقييم أداء المنظومة بدءا بالبرامج أو المناهج مرورا بالممارسات التدريسية التقويمية وصولا إلى أداء المؤسسة ومنها استشراف سبل التعديل والتطوير. وهنا يكون تنزيل أحدث المقاربات التقويمية التي باتت تعرف في الأنظمة التربويّة المتقدّمة بـ"التقييم الموضعي"،(l’évaluation de positionnement) وهو من أنماط التقييم المستحدثة التي تتقصّد موضعة التلميذ في مسار تمدرسه وارتقائه من مستوى إلى آخر ومن مرحلة إلى أخرى ومن محطّة جزائيّة إلى بقيّة المحطّات حتى بلوغ طور التخريج والتوجيه الجامعيّ.

ومن ناحية ثانية أكدت العباسي أن أبرز الدراسات العلمية تشير إلى أنّ التقييم الأفضل هو ما كان متباعدا في الزمن متقاربا في محايثة مسارات التعلم لا فصل ولا انفصال، وأنه مرتبط ارتباطا وثيقا بمبحث الذاكرة والاستذكار (la mémorisation) وهو لا يكون بشكل مكثف مكدس طوال فترة واحدة أو دفعة واحدة ترهق فيها العائلات والمدرسين والتلاميذ، على حدّ سواء، بالمراجعة والإصلاح وإنما يكون على دفعات في "أويقات" تفصل بينها تعلّمات ومراجعات وتدريبات منظمة مهيكلة يسهم المتعلم بذاته وبمعيّة معلّمه وأقرانه في ضبط مخططها وانتقاء وسائلها ومواردها وبناء توزيعيتها وهيكلة المعارف والمكتسبات خلالها باستخدام الملخصات والملف المهاري والخطاطات وخرائط الذهن والملصقات والجداريات ومشاريع التعلم الذاتيّ والجماعي.

إستراتيجيات التعلم والمذاكرة

وحسب العباسي فان عملية المراجعة التي تدوم ربع ساعة يوميا طيلة ثمانية أيام أفضل من ساعتين في الأسبوع وأن المراجعة المكثفة في آخر لحظات التعلم قبل اجتياز الاختبار تؤدّي إلى تشتيت الذهن وتشريد المعلومات أو جعل بعضها يغشي بعضا بما يعرف بظاهرة "التشميع"le bachetage/، كما يراعي التقييم الناجع أيضا البعدين الوجدانيّ والمهاري العمليّ في شخصية التلميذ ويجعله فاعلا، واعيا بمساراته ومنهجيته وصعوباته وقدراته، منخرطا، مستقلا، مسؤولا عن اتخاذ القرارات بعد حلّ المشكلات والتبصّر بإستراتيجيات التعلم والمذاكرة. وعليها ضبط خطط الدعم والعلاج أثناء التعلم لا بعده وإثر عطلة تدوم أسبوعين تتبخر فيها المعلومة أو تتناقص تدريجيا. فكلما شغّل الدماغ البشري محصلاته ووظفها واستعملها داخل سياقات ووضعيات متنوّعة رسخت المكتسبات وتطورت أكثر. وكلما نافذت التعلمات وتعابرت المواد أصبحت المعرفة مكينة إلى أبعد الحدود يصعب نسيانها. كلّ هذا لا أثر له في منظومتنا وبرامجها وامتحاناتها التي لا تزال ذات بعد كمّي جزائي ترتيبي تصنيفي إقصائي كمي لا يساوي بين المتعلمين لا في فرص التعلم ولا في معايير جودته ولا في حظوظ النجاح وإمكاناته ولا يعترف بالحق في الدعم والعلاج كما هو الحق في العلم الجيد والتقويم المنصف.

وخلصت العباسي إلى أن كلّ هذا أنتج طغيان الكم على النوع وسيادة امتحان العدد على تقييم المعارف والمهارات وجعل الجميع في سباق مزمن محموم، وفرض وتيرة خانقة أفرزت ظاهرة التعلم غير النظامي أو الموازي بشتى أشكاله ومنها الدروس الخصوصية التي تشتغل بنفس المنطق الذي لا يكوّن شخصية المتعلّم ولا يبني معارفه وخبراته ومهاراته بقدر ما يقدّم معلومة الدقيقة التسعين ولا يستعين غالبا إلا بالجاهز المحفوظ المتواتر المتشابه أو ما جاز نعته بـ"التقييمات المتسلسلة" نسبة إلى نظام السلاسل والتمارين التي تتناشر على صفحات التواصل الاجتماعي دون تدبّر وتمعّن في الحاجات الفارقية للمتعلم وفي مراكز الدعم والعلاج وفضاءات الدرس الخصوصي معولة كل التعويل على الكتب الموازية، وما تقادم وتكلس المواد التعليمية التقويمية التي لم تتغير شأنها في ذلك شأن برامج اهترأت وقتلت درسا آن أوان تجديدها وتغييرها وجعلها تواكب متطلبات المدرسة الحديثة وحاجات الفرد والمجتمع والتنمية.

ضغط مزدوج..

من جانبه اعتبر معز الشريف رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل أن ما يعيشه التلميذ خلال فترة الامتحانات من ضغط مزدوج سواء من أسرته أو من المؤسسة التربوية التي ينتمي لها التلميذ فالعائلة التونسية همها الوحيد اليوم دراسة أبنائها لذلك نجد أن الاستثمار الأول لديها يكون في الأبناء خاصة وأن مجانية التعليم تلاشت في خضم كثرة المصاريف المتعلقة بالعملية التعليمية مقارنة بإمكانيات جل الأسر التونسية المحدودة.

في مستوى التضحيات ..

وفي سياق حديثه لـ "الصباح" أكد رئيس الجمعية التونسية للدفاع عن حقوق الطفل أن الضغوطات الاقتصادية التي تعاني منها العائلات التونسية نتج عنها ضغط يمارس على الأبناء حيث أن التلميذ أصبح مطالبا أن يكون في مستوى التضحيات الأسرية وعليه أن يقدم نتائج في مستوى تلك التضحيات حتى ولو على حساب طاقته وحالته النفسية .

كما نبه الشريف من تحول سلوكيات العائلة في تونس تجاه أبنائها حيث أصبحت تطالبه بنتائج وإعداد تفوق حتى قدرته التعليمية لان الفكرة التقليدية السائدة عن منظومتنا التربوية تتلخص فقط في النتائج والتقييمات وكان الإعداد هي الفيصل الوحيد بين المدرسة والتلميذ ما ولد حالة إحباط وإحساس التلميذ بالتقصير تجاه عائلته دون أن ننسى ضغط المدرسة الذي تترجمه المناهج التعليمية نتيجة غياب الجودة،وفق تعبيره .

هذا واعتبر الشريف أن الدروس الخصوصية أصبحت ملاذ العائلة التونسية التي تخصص لها سنويا ميزانية قارة.

جدير بالذكر أن منظمة إرشاد المستهلك كشفت سنة 2018 بأن كلفة الدروس الخصوصية في تونس، تبلغ حوالي 1000 مليار سنويا.

وأجرى مركز نداء المنظمة استبيانا استهدف 2907 عيّنة من أولياء التلاميذ بتونس الكبرى وصفاقس وسوسة.

وأكد لطفي الرياحي رئيس المنظمة أن العائلة تصرف بين 30 و60 دينارا شهريا للمادة الواحدة، وبين 80 و150 دينارا شهريا للمادة الواحدة لتلاميذ الثانوي، كما كشف الاستبيان الذي أجرته المنظمة أن 56 بالمائة من تلاميذ الابتدائي يتلقون دروسا خصوصية، و66 بالمائة بالنسبة للمرحلة الإعدادية وحوالي90  بالمائة من تلاميذ المرحلة الثانوية يتلقون دروسا خصوصية.

وفي السياق نفسه حذر محدثنا من انعدام تكافؤ الفرص في التعليم حيث نجد مدارس نموذجية مسخر لها كل الاهتمام ومدارس عادية وكأننا نسعى لتكريس منظومة تربوية انتقائية.

وكان سليم قاسم،رئيس الجمعية التونسية لجودة التعليم أشار في تصريحات سابقة لـ "الصباح"  إلى أن الدولة تخلت منذ سنوات عن مبدأ مجانية التعليم، مؤكدا أن "ما نعيشه فقط هو مجانية التمدرس من حيث أنه لا يتم توظيف رسوم مقابل حضور التلاميذ في المدارس العمومية، أما ما عدا ذلك فإن الأسرة التونسية تدفع أموالا طائلة لتضمن تمكن أبنائها من متابعة تعليمهم، سواء كان ذلك على مستوى تكاليف العودة المدرسية أو للدروس الخصوصية أو لغير ذلك من التكاليف."

حلبة للمنافسة ..

كما  أفاد مهدي الشريف،ناشط مجتمع مدني ومختص في الإصلاح التربوي، في حدثيه لـ "الصباح" أن الضغط الذي يعيشه التلميذ في علاقة بالامتحانات سببه اقتصادي بالأساس لان التلميذ أصبح يسعى للتميز الدراسي مما يمكنه من الولوج إلى شعب تضمن له مستقبله في سوق الشغل بمعنى أن التلميذ وأسرته لا يختصران التعليم فقط في المناهج التعليمية والمكتسبات العلمية بقدر ما هو سبب أساسي ليضمن مستقبل التلميذ المهني، ونفس الشيء بالنسبة إلى الضغط الذي تعيشه العائلة التونسية تجاه الأبناء ومستقبلهم الدراسي حيث تحولت العملية التعليمية إلى حلبة للمنافسة بين الأولياء ومن يضمن لابنه أكثر دروس خصوصية.

وحسب محدثنا أصبحت العلاقة بين التلميذ والمدرسة غير تعليمية بقدر ما هي أعداد لإجراء الاختبارات وخوض عملية منافسة، وهي ظاهرة خطيرة لأنه ستصبح المدرسة منفرة للتلميذ لان التعلم أصبح وسيلة اقتصادية.

جهاد الكلبوسي