إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الكاتب والمنتج التلفزيوني عبد الجبار الشريف .. السيادة الثقافية داخليا وخارجيا تتوقّف أساسا على سيادة اللغة العربية في وطنها وبين أبنائها

 

** العربية اليوم تعيش أسوء حالاتها، نطقا وتعبيرا عند العموم والقنوات الاذاعية والتلفزيونية الخاصة 

**التكاليف المالية الباهظة حالت دون إنتاج أعمال درامية بالعربية الفصحى

**من الضروري العمل على كسب رهان الإنتاج المشترك بتوطيد العلاقات مع الهيئات التلفزيونية المغاربية 

حوار محسن بن احمد

أقرت منظمة اليونسكو منذ سنوات خلت تاريخ السابع عشر من ديسمبر في كل عام مناسبة للاحتفال بيوم اللغة العربية باعتبارها من اللغات العالمية... وشهدت بلادنا في شهر ديسمبر الجاري ندوة دولية نظمتها جمعية منتدى قرطاج بالاشتراك مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) بعنوان :"اللسان العربي وحوارية الجوار اللغوي' تحت شعار (بالعربية نحلق) وبلغ عدد المتدخلين في هذا الحدث 60 متدخلا منهم ممثلو المنظمات الدولية الألكسو واليونسكو ومعهد العالم العربي بباريس والأمين العام للمجامع العلمية واللغوية الرسمية بالبلدان العربية. 

فإذا كان للغة العربية كل هذا الاعتبار لدى منظمة كاليونسكو تضمّ في عضويتها 194 دولة فأي حظّ للغتنا الأمّ في إعلامنا المرئي وتحديدا في تلفزتنا الوطنية بوصفها وسيلة إعلام جماهيرية، وفي دولة ينصّ دستورها على أن العربية لغتها والإسلام دينها؟ وبعبارة أدقّ يحقّ لنا التساؤل: لماذا لا يكون للغة العربية حضور في الدراما التلفزية ولو مرّة في العام خلال شهر رمضان بحكم ما للدراما التلفزية من تأثير في سلوك المشاهد وما تجره من قيم وأنماط ثقافية وسلوكية وبحكم أنها بمثابة الموقع المحوري في سياسة البرمجة .

 تساؤلات طرحناها على الكاتب والمنتج التلفزي الأستاذ عبد الجبار الشريف المعروف بمؤلفاته القصصية الموجهة للأطفال وبرامجه الثقافية الناطقة باللغة العربية الفصحى الموجهة للكبار والصغار فكان هذا الحوار  ..

 **عرفت طوال مسيرتك الأدبية والإعلامية بتعلقك باللغة العربية الفصحى والدفاع عنها في جميع الوسائط المعروفة المسموع منها والمكتوب والمرئي،، أي سر وراء هذا الاختيار؟

- ليست اللغة العربية مجرد وسيلة تعبير وتفاهم بين إنسان وآخر، انها بحكم منطقها الداخلي، وتاريخيتها، وبناها، وتراكيبها رابطه اجتماعية فكرية من الدرجة الأولى.. يتبيّن ذلك من زوايا ثلاث متكاملة بعضها مع بعض - فاللغة أداة تلقّى المعرفة وأداة التفكير ورمزه وتجسيده، انها الفكر نفسه في حالة العمل... فليس ثمة فكر مجرّد بغير رموز لغوية، ولا تفكير إلاّ في الألفاظ... وبقدر ما تكون اللغة دقيقة حيّة منظمة يكون الفكر دقيقا حيّا منظّما - واللغة من جهة أخرى تمثل ذاكرة الأمّة تختزن فيها تراثها، ومفاهيمها، وقيمها.. فهي أداة التواصل بين الماضي والحاضر وتمثّل الذاكرة الحضارية وقوام الشخصية، ومناط الأصالة - واللغة من جهة ثالثة أداة أساسية في حركة المجتمع ونموه وذات وظيفة اجتماعية وثيقة الصلة بهذه الأمة وبتطوّرها المستقبلي وبين اللغة والمجتمع علاقة متبادلة صميمة... فلا لغة حركية دون مجتمع حركي ولا مجتمعا حركيّا دون لغة حركية تماثله وتواكبه - واللغة العربية لهذه الأسباب جميعا تتّصل بعدّة ميادين ثقافية هي من أكثر الميادين خطرا وشأنا : ففيها الخصوصية القومية، والتراث والاستمرارية الثقافية، وحيوية الفكر العلمي، والإبداع الأدبي، ولما كانت العربية هي بالإضافة إلى ذلك كله، وقبل ذلك كله، لسان القرآن المبين، فهي أيضا متّصلة بالمعتقد الديني، ولها فيه دورها المكين، في الوقت الذي تدين له فيه بالبقاء والثبات الطويل.. إنّ امتلاك السيادة الثقافية داخليا وخارجيا يتوقف في الأساس على سيادة اللغة العربية في وطنها وبين أبنائها أوّلاً... لكنّ الواقع اليوم غير ذلك.

فقد أصبحت العربية في وطنها، تُقرن أحيانا بالتخلّف الثقافي والفكري، في حين ارتبط الحراك الاجتماعي مكانة ودورا باللغات الأجنبية وباستخدام هذه اللغات في الشارع والفضاء العام وحتى في الإعلام المسموع والمرئي وفي القنوات الخاصة وحتى العمومية. 

** قلت إن امتلاك السيادة الثقافية داخليا وخارجيا يتوقّف في الأساس على سيادة اللغة العربية في وطنها وبين أبنائها فكيف يتحقّق ذلك؟ 

- اسمح لي بالقول أوّلا، أن الأمن اللغوي والثقافي ركن من أركان الأمن القومي الشامل، ولكنّ الأمن اللغوي في بلادنا ليس قائما بالقدر الكافي وعلى الوجه المطلوب، فالعربية اليوم تعيش أسوء حالاتها، نطقّا وكتابة خاصة عند العموم فتعبيرنا الشفوي وسط المجتمع أصبح خليطا من الكلمات الدارجة والكلمات الدخيلة مع استعمال عديد الصور غير الأخلاقية في اغلب الحالات... ولكنّ اخطر ما تعيشه اللغة العربية - بمستوييها الفصيح المشترك والدارج المحلّي- ببلادنا في العقود الأخيرة هو الخلط بين العربية واللغات الأجنبية في الإعلام المسموع والمرئي وفي القنوات الخاصة وحتى العمومية دون أن تتحرّك السلطات المختصة لترشيد الاستخدامات اللغوية الضارة بمتن اللغة ومكانتها في المجتمع وبالتالي بالثقافة الوطنية وسلامتها من الاختراق والتشويه والابتلاع.. وأمام هذا الواقع الخطير المتعلّق باستعمال اللغة العربية فإنني أهيب بسيادة رئيس الجمهورية الذي ما انفك يحرص في تواصله مع وزرائه وشعبنا بلغة عربية فصيحة ومبسّطة ، أن يبادر بحكم صلاحياته الدستورية، إلى ترشيد وتنظيم حال اللغة العربية بتونس بما يعيد إليها اعتبارها الكامل ويغرس الاعتزاز بها في نفوس كل المواطنين وخاصة الناشئة والشباب منهم، ويفعّل دورها التنموي والحضاري ويجعلها – لسانًا وثقافة وفكرا وتعبيرا علميّا ورابطة اجتماعية وعامل وحدة وطنية أساسية من ركائز السيادة الوطنية والأمن القومي لبلادنا •

**اشرت إلى ما للإعلام المرئي خاصة من اثر فعال في تشكيل النمط اللغوي والمرجعية الثقافية والسلوكية للمواطنين. فهل من توضيح لهذا الموقف.؟   

- أقصد بالإعلام المرئي، العمومي وتحديدا التلفزة الوطنية التي أرجو ان تحظى اللغة العربية-لغتنا الوطنية والقومية-

بأكثر ما يمكن ان تحظى به في أعمالها الدرامية الرمضانية... فقد كانت اللغة العربية قبل الثورة حاضرة في الأعمال الدرامية الرمضانية ولكنّ هذا التقليد الطيب والهادف غاب عن شاشة تلفزتنا الوطنية غيابا تاما بعد الثورة.. ومن ينسى مثل هذه الأعمال الخالدة: رباعية يحيى بن عمر-خضراء والكنز-بنت الخزّاف-دعبل أخو دهبل -مشاهير العرب... 

**ما الذي تغيّر-حسب رأيك-لتختفي مثل هذه الأعمال من تلفزتنا الوطنية؟ 

-فقط إنه الزمن.. زمن اللهاث لمسايرة القنوات الخاصة واستقطاب الإشهار الذي يشجّع الرداءة واللهجة العامية بغثها وسمينها... فتعسا لهذا الزمن الذي همش لغتنا العربية الأم وحطّ من قيمتها ومكانتها في وجدان أهلها...

** سجلك حافل بالإنتاجات الدرامية الإذاعية الناجحة فلماذا لا نشاهد لك عملا دراميا تلفزيونيا بالعربية الفصحى في الدراما التلفزية الناطقة باللغة العربية الفصحى؟ 

- لا أخفي أنّي وجدت الدعم والتشجيع والتفهم من الرئيسة المديرة العامة للتلفزة التونسية، السيدة عواطف الدالي لإحياء هذا النمط من الدراما التلفزية في شهر رمضان، فتحمّست لإنتاج سلسلة تراثية هزلية كتبتها لتأثيث شبكة برامج رمضان في السنة الماضية لكن لأسباب خارجة عن نطاقها ونطاقي تبخّر الحلم... فأعدت التجربة هذا العام وتم قبول المسلسل التراثي الجديد لكنّ كلفته الباهظة حالت دون تنفيذه... 

** هذا يعني ان كلفة إنتاج هذا النوع من الدراما التلفزية بالعربية الفصحى هو ما يحول دون انتاجها؟ 

 - الأكيد أن ارتفاع الكلفة ما يزال عائقا أمام إنتاج درامي متواز مع الإمكانيات البشرية والتقنية المتوفرة للتلفزة التونسية... ومع تضاعف التكلفة من سنة الى اخرى فان الضغط على ميزانية الانتاج الدرامي الموسم حتى ما وضع حد اقصى لا تتجاوزه تكلفة اي عمل... وعلى اساسه يتم الاستغناء على الانتاج بعض الاعمال التي يتحتم حضورها في الانتاج الدرامي الرمضاني واهمها المسلسلات والسلاسل التاريخية والتراثية التي تناسب الشهر الفضيل بالدرجة الاولى، والاتجاه نحو التنويع في الموضوعات بالدرجة الثانية... وهكذا تحرم كفاءات تونسية من المساهمة في النهوض بالدراما التونسية وسدّ فراغ في نوعية من الانتاج يحبها المشاهد في شهر رمضان وقابلة للتسويق او التبادل 

** ما هو الحل في رأيك لتذليل هذه العقبة في المرفق العام؟

- لا شك ان الانتاجات الناطقة باللغة العربية الفصحى، كل المسلسلات التاريخية والتراثية والسلاسل الوثائقية، يسهل ترويجها في مختلف المحطات دون التعرض لمشاكل اللهجة العامية. 

 ومن الحلول التي يمكن اعتمادها لتقليل الكلفة، دعم وزارة الشؤون الثقافية للإنتاج التلفزي كما هو الحال بالنسبة للإنتاج السينمائي ومراجعة وتغيير طريقة التعامل المتّبعة بين القطاعين العام والخاص فيما يخصّ الإنتاج السمعي البصري فبدل أن تكتفي شركات الإنتاج الخاصة بتنفيذ الإنتاج ويتحمّل القطاع العام مجمل التكاليف العمل كما هو معتمدٌ حاليّا، من الممكن أن تتحمّل جهة الحكومة 50 في المائة من مجمل نفقات العمل وتتكفّل الشركة المكلّفة بالإنتاج بالخمسين بالمائة المتبقّية وذلك سواء من تمويلها الخاص أو عن طريق الدّعم، أو التّبنّي، أو الهبات.. مع إبرام عقد بين الطرفين يمنح الشركة المنتجة الاشتراك في ملكية الحقوق العمل ويمنح الطرف الحكومي المموّل حقّ استعادة أمواله في حال عدم موافقة اللجنة على صلوحيته الفنية والتقنية. هذه الطريقة ستمكّن من تخفيف التكلفة وتكثيف عدد الأعمال المنتجة • ومن الحلول أيضا الدخول في عمليات إنتاج مشترك مع الهيئات التلفزيونية الحكومية وشركات الانتاج العربية الخاصة ... هذا التعاون سيمكّن من إثراء السوق السمعية البصرية العربية بأعمال متميّزة.

وارى أيضا ضرورة توطيد العلاقات مع الهيئات التلفزيونية في منطقة المغرب العربي نظرا للتقارب التاريخي وتشابه العادات والتقاليد والاهتمامات ومن الخطوات أيضا التي يتحتّم اتباعها للتخفيف من تكلفه الإنتاج، التعريف بالأعمال التونسية والعمل على تسويقها وترويجها بإبرام اتفاقيات توزيع برامج مع بعض الموزّعين المعتمدين للتسويق بعضا من الاعمال في الخارج مع تحديد السعر، البيع ، طريقة الدفع والمنطقة الجغرافية وعدد المحطات الموجودة فيها.

ان العمل التلفزي يبقى معتمدا على الصورة بدرجة أولى ولغة الصورة لها بُعد عالمي يتجاوز لغة الحوار. 

** اترك لك حرية اختتام هذا اللقاء؟ 

- انهيه برثاء اللغة العربية، مستشهدا بما قاله الشاعر الكبير حافظ ابراهيم على لسان هذه اللغة:

 أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ 

فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي 

فَيا وَيحَكُم أَبلى وَتَبلى مَحاسِني 

وَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَسَاتي

فَلا تَكِلوني لِلزَمانِ فَإِنَّني 

أَخافُ عَلَيكُم أَن تَحِينَ وَفاتي.

الكاتب والمنتج التلفزيوني عبد الجبار الشريف ..   السيادة الثقافية داخليا وخارجيا تتوقّف أساسا على سيادة اللغة العربية في وطنها وبين أبنائها

 

** العربية اليوم تعيش أسوء حالاتها، نطقا وتعبيرا عند العموم والقنوات الاذاعية والتلفزيونية الخاصة 

**التكاليف المالية الباهظة حالت دون إنتاج أعمال درامية بالعربية الفصحى

**من الضروري العمل على كسب رهان الإنتاج المشترك بتوطيد العلاقات مع الهيئات التلفزيونية المغاربية 

حوار محسن بن احمد

أقرت منظمة اليونسكو منذ سنوات خلت تاريخ السابع عشر من ديسمبر في كل عام مناسبة للاحتفال بيوم اللغة العربية باعتبارها من اللغات العالمية... وشهدت بلادنا في شهر ديسمبر الجاري ندوة دولية نظمتها جمعية منتدى قرطاج بالاشتراك مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) بعنوان :"اللسان العربي وحوارية الجوار اللغوي' تحت شعار (بالعربية نحلق) وبلغ عدد المتدخلين في هذا الحدث 60 متدخلا منهم ممثلو المنظمات الدولية الألكسو واليونسكو ومعهد العالم العربي بباريس والأمين العام للمجامع العلمية واللغوية الرسمية بالبلدان العربية. 

فإذا كان للغة العربية كل هذا الاعتبار لدى منظمة كاليونسكو تضمّ في عضويتها 194 دولة فأي حظّ للغتنا الأمّ في إعلامنا المرئي وتحديدا في تلفزتنا الوطنية بوصفها وسيلة إعلام جماهيرية، وفي دولة ينصّ دستورها على أن العربية لغتها والإسلام دينها؟ وبعبارة أدقّ يحقّ لنا التساؤل: لماذا لا يكون للغة العربية حضور في الدراما التلفزية ولو مرّة في العام خلال شهر رمضان بحكم ما للدراما التلفزية من تأثير في سلوك المشاهد وما تجره من قيم وأنماط ثقافية وسلوكية وبحكم أنها بمثابة الموقع المحوري في سياسة البرمجة .

 تساؤلات طرحناها على الكاتب والمنتج التلفزي الأستاذ عبد الجبار الشريف المعروف بمؤلفاته القصصية الموجهة للأطفال وبرامجه الثقافية الناطقة باللغة العربية الفصحى الموجهة للكبار والصغار فكان هذا الحوار  ..

 **عرفت طوال مسيرتك الأدبية والإعلامية بتعلقك باللغة العربية الفصحى والدفاع عنها في جميع الوسائط المعروفة المسموع منها والمكتوب والمرئي،، أي سر وراء هذا الاختيار؟

- ليست اللغة العربية مجرد وسيلة تعبير وتفاهم بين إنسان وآخر، انها بحكم منطقها الداخلي، وتاريخيتها، وبناها، وتراكيبها رابطه اجتماعية فكرية من الدرجة الأولى.. يتبيّن ذلك من زوايا ثلاث متكاملة بعضها مع بعض - فاللغة أداة تلقّى المعرفة وأداة التفكير ورمزه وتجسيده، انها الفكر نفسه في حالة العمل... فليس ثمة فكر مجرّد بغير رموز لغوية، ولا تفكير إلاّ في الألفاظ... وبقدر ما تكون اللغة دقيقة حيّة منظمة يكون الفكر دقيقا حيّا منظّما - واللغة من جهة أخرى تمثل ذاكرة الأمّة تختزن فيها تراثها، ومفاهيمها، وقيمها.. فهي أداة التواصل بين الماضي والحاضر وتمثّل الذاكرة الحضارية وقوام الشخصية، ومناط الأصالة - واللغة من جهة ثالثة أداة أساسية في حركة المجتمع ونموه وذات وظيفة اجتماعية وثيقة الصلة بهذه الأمة وبتطوّرها المستقبلي وبين اللغة والمجتمع علاقة متبادلة صميمة... فلا لغة حركية دون مجتمع حركي ولا مجتمعا حركيّا دون لغة حركية تماثله وتواكبه - واللغة العربية لهذه الأسباب جميعا تتّصل بعدّة ميادين ثقافية هي من أكثر الميادين خطرا وشأنا : ففيها الخصوصية القومية، والتراث والاستمرارية الثقافية، وحيوية الفكر العلمي، والإبداع الأدبي، ولما كانت العربية هي بالإضافة إلى ذلك كله، وقبل ذلك كله، لسان القرآن المبين، فهي أيضا متّصلة بالمعتقد الديني، ولها فيه دورها المكين، في الوقت الذي تدين له فيه بالبقاء والثبات الطويل.. إنّ امتلاك السيادة الثقافية داخليا وخارجيا يتوقف في الأساس على سيادة اللغة العربية في وطنها وبين أبنائها أوّلاً... لكنّ الواقع اليوم غير ذلك.

فقد أصبحت العربية في وطنها، تُقرن أحيانا بالتخلّف الثقافي والفكري، في حين ارتبط الحراك الاجتماعي مكانة ودورا باللغات الأجنبية وباستخدام هذه اللغات في الشارع والفضاء العام وحتى في الإعلام المسموع والمرئي وفي القنوات الخاصة وحتى العمومية. 

** قلت إن امتلاك السيادة الثقافية داخليا وخارجيا يتوقّف في الأساس على سيادة اللغة العربية في وطنها وبين أبنائها فكيف يتحقّق ذلك؟ 

- اسمح لي بالقول أوّلا، أن الأمن اللغوي والثقافي ركن من أركان الأمن القومي الشامل، ولكنّ الأمن اللغوي في بلادنا ليس قائما بالقدر الكافي وعلى الوجه المطلوب، فالعربية اليوم تعيش أسوء حالاتها، نطقّا وكتابة خاصة عند العموم فتعبيرنا الشفوي وسط المجتمع أصبح خليطا من الكلمات الدارجة والكلمات الدخيلة مع استعمال عديد الصور غير الأخلاقية في اغلب الحالات... ولكنّ اخطر ما تعيشه اللغة العربية - بمستوييها الفصيح المشترك والدارج المحلّي- ببلادنا في العقود الأخيرة هو الخلط بين العربية واللغات الأجنبية في الإعلام المسموع والمرئي وفي القنوات الخاصة وحتى العمومية دون أن تتحرّك السلطات المختصة لترشيد الاستخدامات اللغوية الضارة بمتن اللغة ومكانتها في المجتمع وبالتالي بالثقافة الوطنية وسلامتها من الاختراق والتشويه والابتلاع.. وأمام هذا الواقع الخطير المتعلّق باستعمال اللغة العربية فإنني أهيب بسيادة رئيس الجمهورية الذي ما انفك يحرص في تواصله مع وزرائه وشعبنا بلغة عربية فصيحة ومبسّطة ، أن يبادر بحكم صلاحياته الدستورية، إلى ترشيد وتنظيم حال اللغة العربية بتونس بما يعيد إليها اعتبارها الكامل ويغرس الاعتزاز بها في نفوس كل المواطنين وخاصة الناشئة والشباب منهم، ويفعّل دورها التنموي والحضاري ويجعلها – لسانًا وثقافة وفكرا وتعبيرا علميّا ورابطة اجتماعية وعامل وحدة وطنية أساسية من ركائز السيادة الوطنية والأمن القومي لبلادنا •

**اشرت إلى ما للإعلام المرئي خاصة من اثر فعال في تشكيل النمط اللغوي والمرجعية الثقافية والسلوكية للمواطنين. فهل من توضيح لهذا الموقف.؟   

- أقصد بالإعلام المرئي، العمومي وتحديدا التلفزة الوطنية التي أرجو ان تحظى اللغة العربية-لغتنا الوطنية والقومية-

بأكثر ما يمكن ان تحظى به في أعمالها الدرامية الرمضانية... فقد كانت اللغة العربية قبل الثورة حاضرة في الأعمال الدرامية الرمضانية ولكنّ هذا التقليد الطيب والهادف غاب عن شاشة تلفزتنا الوطنية غيابا تاما بعد الثورة.. ومن ينسى مثل هذه الأعمال الخالدة: رباعية يحيى بن عمر-خضراء والكنز-بنت الخزّاف-دعبل أخو دهبل -مشاهير العرب... 

**ما الذي تغيّر-حسب رأيك-لتختفي مثل هذه الأعمال من تلفزتنا الوطنية؟ 

-فقط إنه الزمن.. زمن اللهاث لمسايرة القنوات الخاصة واستقطاب الإشهار الذي يشجّع الرداءة واللهجة العامية بغثها وسمينها... فتعسا لهذا الزمن الذي همش لغتنا العربية الأم وحطّ من قيمتها ومكانتها في وجدان أهلها...

** سجلك حافل بالإنتاجات الدرامية الإذاعية الناجحة فلماذا لا نشاهد لك عملا دراميا تلفزيونيا بالعربية الفصحى في الدراما التلفزية الناطقة باللغة العربية الفصحى؟ 

- لا أخفي أنّي وجدت الدعم والتشجيع والتفهم من الرئيسة المديرة العامة للتلفزة التونسية، السيدة عواطف الدالي لإحياء هذا النمط من الدراما التلفزية في شهر رمضان، فتحمّست لإنتاج سلسلة تراثية هزلية كتبتها لتأثيث شبكة برامج رمضان في السنة الماضية لكن لأسباب خارجة عن نطاقها ونطاقي تبخّر الحلم... فأعدت التجربة هذا العام وتم قبول المسلسل التراثي الجديد لكنّ كلفته الباهظة حالت دون تنفيذه... 

** هذا يعني ان كلفة إنتاج هذا النوع من الدراما التلفزية بالعربية الفصحى هو ما يحول دون انتاجها؟ 

 - الأكيد أن ارتفاع الكلفة ما يزال عائقا أمام إنتاج درامي متواز مع الإمكانيات البشرية والتقنية المتوفرة للتلفزة التونسية... ومع تضاعف التكلفة من سنة الى اخرى فان الضغط على ميزانية الانتاج الدرامي الموسم حتى ما وضع حد اقصى لا تتجاوزه تكلفة اي عمل... وعلى اساسه يتم الاستغناء على الانتاج بعض الاعمال التي يتحتم حضورها في الانتاج الدرامي الرمضاني واهمها المسلسلات والسلاسل التاريخية والتراثية التي تناسب الشهر الفضيل بالدرجة الاولى، والاتجاه نحو التنويع في الموضوعات بالدرجة الثانية... وهكذا تحرم كفاءات تونسية من المساهمة في النهوض بالدراما التونسية وسدّ فراغ في نوعية من الانتاج يحبها المشاهد في شهر رمضان وقابلة للتسويق او التبادل 

** ما هو الحل في رأيك لتذليل هذه العقبة في المرفق العام؟

- لا شك ان الانتاجات الناطقة باللغة العربية الفصحى، كل المسلسلات التاريخية والتراثية والسلاسل الوثائقية، يسهل ترويجها في مختلف المحطات دون التعرض لمشاكل اللهجة العامية. 

 ومن الحلول التي يمكن اعتمادها لتقليل الكلفة، دعم وزارة الشؤون الثقافية للإنتاج التلفزي كما هو الحال بالنسبة للإنتاج السينمائي ومراجعة وتغيير طريقة التعامل المتّبعة بين القطاعين العام والخاص فيما يخصّ الإنتاج السمعي البصري فبدل أن تكتفي شركات الإنتاج الخاصة بتنفيذ الإنتاج ويتحمّل القطاع العام مجمل التكاليف العمل كما هو معتمدٌ حاليّا، من الممكن أن تتحمّل جهة الحكومة 50 في المائة من مجمل نفقات العمل وتتكفّل الشركة المكلّفة بالإنتاج بالخمسين بالمائة المتبقّية وذلك سواء من تمويلها الخاص أو عن طريق الدّعم، أو التّبنّي، أو الهبات.. مع إبرام عقد بين الطرفين يمنح الشركة المنتجة الاشتراك في ملكية الحقوق العمل ويمنح الطرف الحكومي المموّل حقّ استعادة أمواله في حال عدم موافقة اللجنة على صلوحيته الفنية والتقنية. هذه الطريقة ستمكّن من تخفيف التكلفة وتكثيف عدد الأعمال المنتجة • ومن الحلول أيضا الدخول في عمليات إنتاج مشترك مع الهيئات التلفزيونية الحكومية وشركات الانتاج العربية الخاصة ... هذا التعاون سيمكّن من إثراء السوق السمعية البصرية العربية بأعمال متميّزة.

وارى أيضا ضرورة توطيد العلاقات مع الهيئات التلفزيونية في منطقة المغرب العربي نظرا للتقارب التاريخي وتشابه العادات والتقاليد والاهتمامات ومن الخطوات أيضا التي يتحتّم اتباعها للتخفيف من تكلفه الإنتاج، التعريف بالأعمال التونسية والعمل على تسويقها وترويجها بإبرام اتفاقيات توزيع برامج مع بعض الموزّعين المعتمدين للتسويق بعضا من الاعمال في الخارج مع تحديد السعر، البيع ، طريقة الدفع والمنطقة الجغرافية وعدد المحطات الموجودة فيها.

ان العمل التلفزي يبقى معتمدا على الصورة بدرجة أولى ولغة الصورة لها بُعد عالمي يتجاوز لغة الحوار. 

** اترك لك حرية اختتام هذا اللقاء؟ 

- انهيه برثاء اللغة العربية، مستشهدا بما قاله الشاعر الكبير حافظ ابراهيم على لسان هذه اللغة:

 أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ 

فَهَل سَأَلوا الغَوّاصَ عَن صَدَفاتي 

فَيا وَيحَكُم أَبلى وَتَبلى مَحاسِني 

وَمِنكُم وَإِن عَزَّ الدَواءُ أَسَاتي

فَلا تَكِلوني لِلزَمانِ فَإِنَّني 

أَخافُ عَلَيكُم أَن تَحِينَ وَفاتي.