عن الم عبد المجيد النيفر رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتلفزة الأسبق هذا التشبيه المتداول عند العائلات الحضرية العريقة (كِي خْديمْةِ البَلْديّة) والمقصود به ما يُتعامل معه بنقيضين. فالخادم في البيوت البورجوازية يُلبسونها في المناسبات السعيدة ثيابا جديدة ويقُدّمونها للضيوف "بِنْتْنا" وما أن ينفضّ المحفل حتى ترتدي أسمالها وتعود إلى مكانها في المطبخ. هكذا حال الفنون في البلاد التي لا تقدّرها حقّ قدرها وتعتبرها ترفيها ووسيلة ناجعة لتحقيق غايات ظرفية.
وحديثنا قياس (موش حصيرة يُقعدوا عليها الناس).
عرفت فرقة الإذاعة سنوات العز والمجد أيام كان النظام الحاكم في حاجة لخدماتها لتأمين مناسباته السياسية والدينية والاجتماعية وحتى السهرات الخاصة التي يعقدها عليةُ القوم من الطبقة المتنفذة في السلطة لأعراس أبنائهم وختان أحفادهم وهو ما دفع أحد العازفين من ذوي الإعاقة المستدامة إلى تهديدنا بوقاحة: لا تستصغر شأننا، نحن ندخل بيوت رجال الدولة دون استثناء ونستطيع أن نحرّض نساءهم ونفتري عليك فتُقال في لمح البصر.
ومن مهازل الدهر أن ذلك ما حصل بالفعل مع زوجة رئيس حكومة أسبق أعطت الإذن للمدير العام آنذاك بطردنا من المؤسسة ولو تعسّفا (واشكي للعروي)، ولا يزال بعض من حضروا تلك السهرة واستمعوا إلى ما دار بينهما أحياء يشهدون.
شهد قصر قرطاج أيّام الرئيس بورڤيبة حفلات ومنوعات تلفزيونية مباشرة حضرها رئيس الجمهورية سواء للترفيه أو لعرضها أمام ضيوفه أثناء زياراتهم الرسمية. وفي كل مرة كان منتخب من فرقة الإذاعة يؤمن هذه الخدمات بمعية مطربين ومطربات مشهورين وعلى ذوق الزعيم. كانت هذه الفعاليات تقع في مسرحه الصغير ومسبارا لمعرفة الذائقة الجمالية المهزوزة لدى الطبقة السياسية الرسمية، فهي تتلوّن بحسب انطباعات الرئيس ودلالة قسمات وجهه، يصفّقون لِما يُعجبه ويجِمون حين يحِم، يضحكون لضحكه ويقنطون لقنوطه. مشهد حربائي يحيلنا رأسا إلى فهم أسباب تأزم الوضع الموسيقي العام ولماذا لم نخرج من عنق الزجاجة رغم كل المحاولات الجادة التي بذلها الكثيرون في فترات مختلفة.
كانت فرقة الإذاعة منذ تأسيسها عام 1957 وحتى عام 1971 اللاعب الوحيد في الساحة الموسيقية والمِخبر المتاح الذي تُنتَج فيه الموسيقى التونسية بمختلف أصنافها وتُنفّذ بعد أن تُجاز من طرف لجنتين، واحدة للشعر (الكلمات) والأخرى للألحان حتى وإن كان أصحابها من المُعتمَدين والمشهورين. ويحدث أن ترفض اللجنة الأولى كلمات تعتبرها غير صالحة للتلحين (؟) بينما يكون الملحن قد وضع موسيقاها، وفي هذه الحالة تُرجع المقطوعة إلى اللجنة لإعادة صياغتها أو كما كانوا يقولون "للإصلاح" حتى ولو بتغيير عبارة واحدة، وهو ما يبيّن أن نظام المعايير لا يستقيم من أساسه. وقد كانت لنا تجربة مضحكة من هذا القبيل عام 1965 مع ميني قصيدة "في الحيّ صبايا ومَرايا" تأليف المسرحي توفيق الجبالي التي استبدلوا فيها مرايا برواية.
لكن بفضل دعم أستاذنا الم عبد الحكيم عبد الجوّاد وسنده المُطلق بصفته كاتبا عاما للمؤسسة كسرنا الاحتكار عام 1971 وصرنا نسجّل أعمالنا بأوركسترا خارجية أسسناها باسم فرقة 71 للموسيقى العربية. كانت ضربة البداية مع منوّعة "أكحل وأبيض" ثم تلتها قصائد وموشحات ثم الموسيقى التصويرية لفيلم "في بلاد الطررني" ثم فيلم "وغدا". وكان المايسترو بلعلجية قال لنا قبل ذلك صراحة إن فرقة الإذاعة غير قادرة على تنفيذ الموسيقى البوليفونية الجديدة (متعددة الأصوات) لأن عناصرها ليسوا مهيئين تقنيّا لذلك.
عندما انتدبتنا المؤسسة أواخر سنة 1974 أقنعْنا مديرها العام الم صلاح الدين بن حميدة، وكان إعلاميا جسورا، بضرورة إنشاء قسم خاص يهتم بالموسيقى التلفزيونية باعتبار أن حاجيات المرئي تختلف عن المسموع. وأنشأنا مصلحة الموسيقى بالتلفزة في جانفي 1976 مستقلّة بفرقتها وهي نخبة من فرقة الإذاعة الموجودة مع عناصر تكميلية من خارج المؤسسة والعاملين في مجال التعليم الموسيقي.
ظهرت الفرقة الجديدة في العديد من المنوعات التلفزيونية وكانت آخر مرة في اختتام مهرجان حمامات الدولي أوت 1977 حيث عرضنا لوحات غنائية بعنوان "قصائد من الوطن المحتل" قدّمنا فيها لأول مرة قصائد لمحمود درويش وسميح القاسم غناها ثامر عبد الجوّاد وأحمد زروق وعزيزة. وانتهت هذه التجربة الرائدة بعد ذلك بفضل تضافر الجهود الهدّامة التي أجهضتها في المهد وعادوا إلى قواعدهم سالمين.
وبعد سنوات جاء هادم اللذات ومفرّق الجماعات، وتقرّر ذات يوم في ذات رواق أن يتمّ الاستغناء عن فرقة الإذاعة التي صارت ترهق كاهل الدولة ولم تعد في حاجة لخدماتها خاصة أن إملاءات الليبرالية وصناديقها المُقرضة تحتم ذلك.
*********************
عن الم عبد المجيد النيفر رئيس تحرير مجلة الإذاعة والتلفزة الأسبق هذا التشبيه المتداول عند العائلات الحضرية العريقة (كِي خْديمْةِ البَلْديّة) والمقصود به ما يُتعامل معه بنقيضين. فالخادم في البيوت البورجوازية يُلبسونها في المناسبات السعيدة ثيابا جديدة ويقُدّمونها للضيوف "بِنْتْنا" وما أن ينفضّ المحفل حتى ترتدي أسمالها وتعود إلى مكانها في المطبخ. هكذا حال الفنون في البلاد التي لا تقدّرها حقّ قدرها وتعتبرها ترفيها ووسيلة ناجعة لتحقيق غايات ظرفية.
وحديثنا قياس (موش حصيرة يُقعدوا عليها الناس).
عرفت فرقة الإذاعة سنوات العز والمجد أيام كان النظام الحاكم في حاجة لخدماتها لتأمين مناسباته السياسية والدينية والاجتماعية وحتى السهرات الخاصة التي يعقدها عليةُ القوم من الطبقة المتنفذة في السلطة لأعراس أبنائهم وختان أحفادهم وهو ما دفع أحد العازفين من ذوي الإعاقة المستدامة إلى تهديدنا بوقاحة: لا تستصغر شأننا، نحن ندخل بيوت رجال الدولة دون استثناء ونستطيع أن نحرّض نساءهم ونفتري عليك فتُقال في لمح البصر.
ومن مهازل الدهر أن ذلك ما حصل بالفعل مع زوجة رئيس حكومة أسبق أعطت الإذن للمدير العام آنذاك بطردنا من المؤسسة ولو تعسّفا (واشكي للعروي)، ولا يزال بعض من حضروا تلك السهرة واستمعوا إلى ما دار بينهما أحياء يشهدون.
شهد قصر قرطاج أيّام الرئيس بورڤيبة حفلات ومنوعات تلفزيونية مباشرة حضرها رئيس الجمهورية سواء للترفيه أو لعرضها أمام ضيوفه أثناء زياراتهم الرسمية. وفي كل مرة كان منتخب من فرقة الإذاعة يؤمن هذه الخدمات بمعية مطربين ومطربات مشهورين وعلى ذوق الزعيم. كانت هذه الفعاليات تقع في مسرحه الصغير ومسبارا لمعرفة الذائقة الجمالية المهزوزة لدى الطبقة السياسية الرسمية، فهي تتلوّن بحسب انطباعات الرئيس ودلالة قسمات وجهه، يصفّقون لِما يُعجبه ويجِمون حين يحِم، يضحكون لضحكه ويقنطون لقنوطه. مشهد حربائي يحيلنا رأسا إلى فهم أسباب تأزم الوضع الموسيقي العام ولماذا لم نخرج من عنق الزجاجة رغم كل المحاولات الجادة التي بذلها الكثيرون في فترات مختلفة.
كانت فرقة الإذاعة منذ تأسيسها عام 1957 وحتى عام 1971 اللاعب الوحيد في الساحة الموسيقية والمِخبر المتاح الذي تُنتَج فيه الموسيقى التونسية بمختلف أصنافها وتُنفّذ بعد أن تُجاز من طرف لجنتين، واحدة للشعر (الكلمات) والأخرى للألحان حتى وإن كان أصحابها من المُعتمَدين والمشهورين. ويحدث أن ترفض اللجنة الأولى كلمات تعتبرها غير صالحة للتلحين (؟) بينما يكون الملحن قد وضع موسيقاها، وفي هذه الحالة تُرجع المقطوعة إلى اللجنة لإعادة صياغتها أو كما كانوا يقولون "للإصلاح" حتى ولو بتغيير عبارة واحدة، وهو ما يبيّن أن نظام المعايير لا يستقيم من أساسه. وقد كانت لنا تجربة مضحكة من هذا القبيل عام 1965 مع ميني قصيدة "في الحيّ صبايا ومَرايا" تأليف المسرحي توفيق الجبالي التي استبدلوا فيها مرايا برواية.
لكن بفضل دعم أستاذنا الم عبد الحكيم عبد الجوّاد وسنده المُطلق بصفته كاتبا عاما للمؤسسة كسرنا الاحتكار عام 1971 وصرنا نسجّل أعمالنا بأوركسترا خارجية أسسناها باسم فرقة 71 للموسيقى العربية. كانت ضربة البداية مع منوّعة "أكحل وأبيض" ثم تلتها قصائد وموشحات ثم الموسيقى التصويرية لفيلم "في بلاد الطررني" ثم فيلم "وغدا". وكان المايسترو بلعلجية قال لنا قبل ذلك صراحة إن فرقة الإذاعة غير قادرة على تنفيذ الموسيقى البوليفونية الجديدة (متعددة الأصوات) لأن عناصرها ليسوا مهيئين تقنيّا لذلك.
عندما انتدبتنا المؤسسة أواخر سنة 1974 أقنعْنا مديرها العام الم صلاح الدين بن حميدة، وكان إعلاميا جسورا، بضرورة إنشاء قسم خاص يهتم بالموسيقى التلفزيونية باعتبار أن حاجيات المرئي تختلف عن المسموع. وأنشأنا مصلحة الموسيقى بالتلفزة في جانفي 1976 مستقلّة بفرقتها وهي نخبة من فرقة الإذاعة الموجودة مع عناصر تكميلية من خارج المؤسسة والعاملين في مجال التعليم الموسيقي.
ظهرت الفرقة الجديدة في العديد من المنوعات التلفزيونية وكانت آخر مرة في اختتام مهرجان حمامات الدولي أوت 1977 حيث عرضنا لوحات غنائية بعنوان "قصائد من الوطن المحتل" قدّمنا فيها لأول مرة قصائد لمحمود درويش وسميح القاسم غناها ثامر عبد الجوّاد وأحمد زروق وعزيزة. وانتهت هذه التجربة الرائدة بعد ذلك بفضل تضافر الجهود الهدّامة التي أجهضتها في المهد وعادوا إلى قواعدهم سالمين.
وبعد سنوات جاء هادم اللذات ومفرّق الجماعات، وتقرّر ذات يوم في ذات رواق أن يتمّ الاستغناء عن فرقة الإذاعة التي صارت ترهق كاهل الدولة ولم تعد في حاجة لخدماتها خاصة أن إملاءات الليبرالية وصناديقها المُقرضة تحتم ذلك.