إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

فن المقاومة في زمن المقاومة.. هل غيرت إحداثيات العصر ماهية المسرح التونسي؟

 

 

 

 

 

تونس - الصباح

هل مطلوب منا الموت لأجل الوطن أم البقاء قدر الإمكان على قيد الحياة لنروي قصتنا للعالم؟.. سؤال قد نجد إجابته على ركح المسرح الملتزم والمقاوم ..

منذ البداية كان المسرح فضاء لحرية الفكر .. وفي أثينا حكمت المحكمة بالموت على سقراط بتهمة التفكير .. ولم تتغير الحياة في زمننا .. يعتلي المسرحيون الخشبة بذاكرة مثقلة يالأوجاع، يقاومون أفكارا بالية مسبقة ويحكون يوميات الإنسانية المغتصبة.

الالتزام بفعل المقاومة يسكن المسار التاريخي للفن الرابع منذ نشأته، ولئن شهدت مراحل من تطور المسرح نوع من الاستقطاب لتيارات سلطوية توظف خارج سياقه التحرري فإن النظريات الفكرية والجمالية المؤسسة حافظت على هذا الفن كأداة للتغيير وقوة مقترح عبر الزمن.

في تونس تكسو المقاومة ملامح الفن الرابع منذ بداياته الأولى واليوم في واقع موجع، أٌحلك مشاهده القتل اليومي لأطفال فلسطين، تحاور المسرحيون في إطار ندوة "المسرح في زمن المقاومة" تم تنظيمها مؤخرا خلال الدورة الأولى من "مواسم الإبداع" عن دور الفن في مجتمعاتنا ومدى قدرته على التغيير وهل مازال للنفس التحرري بصمة في الممارسة المسرحية وماهي الرهانات الممكنة في ظل الراهن السياسي؟ 

"الصباح" اتخذت هذا النقاش الثري بين المسرحيين التونسيين منطلقا لطرح إشكاليات في علاقة بالمسرح التونسي وهل يمكن اعتباره اليوم قوة مقترح وأداة للتوعية والتغيير في الزمن بإحداثيات جديدة، تغيرت مفرداته، مفاهيمه وطرق التواصل بين أفراد مجتمعاته.

من زمن الرومان إلى اليوم

يقول الكاتب والمخرج المسرحي حسن المؤذن في حديثه لـ"الصباح" أن المسرح التونسي نشأ من رحم المقاومة سواء في العصور القديمة أو العصر الحديث ومسارح الهواء الطلق في تونس شهدت ازدهارا منذ زمن هيمنة القوى الرومانية على بلادنا بعد سقوط قرطاج ومنع أهل الأرض من تكلم لغتهم أو عبادة آلهتم. وتابع حسن المؤذن في ذات السياق: "أعتقد أن عدد المسارح المصنفة كمواقع أثرية عبر تاريخ بلادنا يقدر بـ 34 مسرحا أبرزها مسرح الجم".

وحرص الكاتب والمخرج حسن المؤذن على التأكيد على نشأة المسرح التونسي  الحديث في ظل الاستعمار الفرنسي من خلال مبادرات تونسيين ينشطون في الجمعيات الثقافية ومعظمهم شخصيات وطنية كانت في الهيئات المديرة لجمعيات ثقافية وأعضاء في أحزاب سياسية مؤكدا أن الهدف الأساسي لإنشاء المسرح في ذاك الزمن هو الحفاظ  على الهوية الوطنية والمخزون الثقافي الوطني وقد عمل التونسي على تأكيد ذاتيته أمام المستعمر من خلال الفنون ومن بينها المسرح والموسيقى بعد أن تحولت الحماية إلى نوع من الاستعمار الاستيطاني.

خطاب السلطة والمسرح

وأشار حسن المؤذن خلال لقائه مع "الصباح" والحديث عن المسرح باعتباره أداة مقاومة وتغيير إلى دور المستوطنين في تطور جانب من حضور المسرح في بلادنا موضحا أن استقلال تونس منح الفن الرابع بعدا جديدا فقد تبنت الدولة المسرح كقطاع للتنمية وحاولت السلطة توظيف الخطاب المسرحي لصالح الخطاب السلطوي قائلا : "شيئا فشيئا سعى المسرحيون للتخلص من الرقابة والثقافة الواحدة للحزب الواحد وبحثوا عن مجال يملكون أدواته وأيضا حرية خطابه واتخذ بذلك الفن الرابع شكلا جديدا وهو تحرر المسرح من الاستبداد".

ولفت حسن المؤذن الانتباه لمفارقة مهمة في تاريخ المسرح التونسي وهي اشتغال المسرح الخاص على البعد الثقافي في علاقة مباشرة بقضايا المجتمع التونسي على عكس عديد الدول، التي يقوم مسرح قطاعها الخاص على شباك التذاكر.

وأٌقر محدث "الصباح" بأن المسرح التونسي احتفظ عضويا عبر مساره بنوع من الالتزام بين الفعل الإبداعي وفعل المقاومة وفي مضامينه طالما كانت القضية الفلسطينية حاضرة، فتاريخيا تدافع تونس فكرا ووجدانا عن هذا الوطن المسلوب وما يحدث الآن من إبادة بفلسطين ليس إلا حلقة من حلقات تدمير الوطن العربي من فلسطين إلى العراق، سوريا، اليمن وليبيا وهذه المسائل على درجة من الأهمية لا يمكن أن تكون على هامش المسرح التونسي. 

المسرح وانحصار الجمهور

وعن علاقة الجمهور التونسي بالمسرح ومدى تغيرها في الراهن، أكد الكاتب والمخرج حسن المؤذن وجود  نوع من الانحصار ولم يعد رواد الفن الرابع نفسهم في السبعينات والثمانيات وهذا التحول والانحصار بدأ في أواسط التسعينات معتقدا أنّ الساحة في حاجة إلى التجديد الفكري والجمالي وقال في السياق ذاته: "قد يكون إيغال المسرح التونسي في نوع من التجريد بعيدا عن قضايا المواطنين الحقيقية من أسباب انحصار الجمهور العريض وأحيانا يكون المشاهدون أيضا مسرحيين لذلك من المهم العودة لمناقشة العروض بعد تقديمها لاستعادة جمهور الفن الرابع".

مراحل الخمول ومراجعة المنطلقات

"المسرح هو المقاومة" بهذه العبارات استهل المخرج حمادي المزي حديثه لـ"الصباح" قائلا: " شهدت تونس العصر الذهبي للمسرح المدرسي ثم تحول المسرح الجامعي مع رواد وكبار المسرحيين ممن قدموا مضمونا فكريا ملتزما وهؤلاء أًصبحوا من المسؤولين في هياكل الدولة وفي المؤسسات الثقافية وكان هناك دائما هاجس يجمعهم وهو التركيز على توعية الناشئة والشباب خاصة من سنوات السبعينات إلى التسعينات  عبر الفن الرابع باعتباره أداة للتغيير ولذلك  كان هناك دينامكية كبيرة."

وأٌقر حمادي المزي بمرور المسرح بمراحل خمول ولكن اليوم هناك جيل جديد له مشاريع مهمة تحمل رؤية سوسيولوجية نفسية ثقافية مغايرة وفق قوله مشددا على أن المسرح التونسي سيعيش في السنوات القادمة قفزة نوعية جماليا وفكريا وعلى مستوى المعالجة الآنية للقضايا فهناك حسب رأيه شباب واعد ومثقف يمكنه تسليط الضوء على انتكاسات مجتمعنا من خلال أدواته الإبداعية المجددة في المسرح.

ودعا المخرج المسرحي حمادي المزي -أحدث إنتاجاته مسرحية "قطيع" - إلى مراجعة المنطلقات في الممارسة المسرحية بعد الإبادة، التي يتعرض لها الفلسطينيون اليوم متابعا حديثه بأن المسرح التونسي استقى التزامه من النصوص الغربية لكن النص يجب أن يكون تونسيا يطرح إشكاليات مجتمعه وتكون المحلية طريقا للعالمية مستدركا قوله بأن عددا من المرجعيات الجمالية تبقى مهمة الزاما منها نظريتا بريشت ومايرهولد فكلاهما عايشا معاناة وضغوط السلطة والرقابة لكن الراهن يفرض اليوم مراجعة كلية لكل القضايا، التي تهم الإنسان من فلسفة الأنوار إلى علاقتنا بالآخر فالفكر العربي في حاجة لرجة جديدة ليعيد صيغة ذاته من جديد جماليا وفكريا.

المسرح فعل مقاومة فكرة ترجمت عبر العصور وكما ذكر المسرحي سيف الدين الفرشيشي فقد عرفت معظم الشعوب تأثير هذا الفن في تنامي وعيها والتزامها بقيم الإنسانية فالمسرح الروسي شهد ازدهاره بعد الثورة البلشفية والمسرح الاسباني انخرط في المقاومة زمن الدكتاتورية وهو في أحدث أوجهه ببلادنا المسرح التونسي بعد 2011 ومقاومته للقوى الظلامية والإرهاب وثقافة العنف بالفن الرابع وتعبيراته التي لونت شوارع تونس انطلاقا من الحبيب بورقيبة مرورا إلى سفح جبل الشعانبي.

نجلاء قموع

 

 

 

فن المقاومة في زمن المقاومة..   هل غيرت إحداثيات العصر ماهية المسرح التونسي؟

 

 

 

 

 

تونس - الصباح

هل مطلوب منا الموت لأجل الوطن أم البقاء قدر الإمكان على قيد الحياة لنروي قصتنا للعالم؟.. سؤال قد نجد إجابته على ركح المسرح الملتزم والمقاوم ..

منذ البداية كان المسرح فضاء لحرية الفكر .. وفي أثينا حكمت المحكمة بالموت على سقراط بتهمة التفكير .. ولم تتغير الحياة في زمننا .. يعتلي المسرحيون الخشبة بذاكرة مثقلة يالأوجاع، يقاومون أفكارا بالية مسبقة ويحكون يوميات الإنسانية المغتصبة.

الالتزام بفعل المقاومة يسكن المسار التاريخي للفن الرابع منذ نشأته، ولئن شهدت مراحل من تطور المسرح نوع من الاستقطاب لتيارات سلطوية توظف خارج سياقه التحرري فإن النظريات الفكرية والجمالية المؤسسة حافظت على هذا الفن كأداة للتغيير وقوة مقترح عبر الزمن.

في تونس تكسو المقاومة ملامح الفن الرابع منذ بداياته الأولى واليوم في واقع موجع، أٌحلك مشاهده القتل اليومي لأطفال فلسطين، تحاور المسرحيون في إطار ندوة "المسرح في زمن المقاومة" تم تنظيمها مؤخرا خلال الدورة الأولى من "مواسم الإبداع" عن دور الفن في مجتمعاتنا ومدى قدرته على التغيير وهل مازال للنفس التحرري بصمة في الممارسة المسرحية وماهي الرهانات الممكنة في ظل الراهن السياسي؟ 

"الصباح" اتخذت هذا النقاش الثري بين المسرحيين التونسيين منطلقا لطرح إشكاليات في علاقة بالمسرح التونسي وهل يمكن اعتباره اليوم قوة مقترح وأداة للتوعية والتغيير في الزمن بإحداثيات جديدة، تغيرت مفرداته، مفاهيمه وطرق التواصل بين أفراد مجتمعاته.

من زمن الرومان إلى اليوم

يقول الكاتب والمخرج المسرحي حسن المؤذن في حديثه لـ"الصباح" أن المسرح التونسي نشأ من رحم المقاومة سواء في العصور القديمة أو العصر الحديث ومسارح الهواء الطلق في تونس شهدت ازدهارا منذ زمن هيمنة القوى الرومانية على بلادنا بعد سقوط قرطاج ومنع أهل الأرض من تكلم لغتهم أو عبادة آلهتم. وتابع حسن المؤذن في ذات السياق: "أعتقد أن عدد المسارح المصنفة كمواقع أثرية عبر تاريخ بلادنا يقدر بـ 34 مسرحا أبرزها مسرح الجم".

وحرص الكاتب والمخرج حسن المؤذن على التأكيد على نشأة المسرح التونسي  الحديث في ظل الاستعمار الفرنسي من خلال مبادرات تونسيين ينشطون في الجمعيات الثقافية ومعظمهم شخصيات وطنية كانت في الهيئات المديرة لجمعيات ثقافية وأعضاء في أحزاب سياسية مؤكدا أن الهدف الأساسي لإنشاء المسرح في ذاك الزمن هو الحفاظ  على الهوية الوطنية والمخزون الثقافي الوطني وقد عمل التونسي على تأكيد ذاتيته أمام المستعمر من خلال الفنون ومن بينها المسرح والموسيقى بعد أن تحولت الحماية إلى نوع من الاستعمار الاستيطاني.

خطاب السلطة والمسرح

وأشار حسن المؤذن خلال لقائه مع "الصباح" والحديث عن المسرح باعتباره أداة مقاومة وتغيير إلى دور المستوطنين في تطور جانب من حضور المسرح في بلادنا موضحا أن استقلال تونس منح الفن الرابع بعدا جديدا فقد تبنت الدولة المسرح كقطاع للتنمية وحاولت السلطة توظيف الخطاب المسرحي لصالح الخطاب السلطوي قائلا : "شيئا فشيئا سعى المسرحيون للتخلص من الرقابة والثقافة الواحدة للحزب الواحد وبحثوا عن مجال يملكون أدواته وأيضا حرية خطابه واتخذ بذلك الفن الرابع شكلا جديدا وهو تحرر المسرح من الاستبداد".

ولفت حسن المؤذن الانتباه لمفارقة مهمة في تاريخ المسرح التونسي وهي اشتغال المسرح الخاص على البعد الثقافي في علاقة مباشرة بقضايا المجتمع التونسي على عكس عديد الدول، التي يقوم مسرح قطاعها الخاص على شباك التذاكر.

وأٌقر محدث "الصباح" بأن المسرح التونسي احتفظ عضويا عبر مساره بنوع من الالتزام بين الفعل الإبداعي وفعل المقاومة وفي مضامينه طالما كانت القضية الفلسطينية حاضرة، فتاريخيا تدافع تونس فكرا ووجدانا عن هذا الوطن المسلوب وما يحدث الآن من إبادة بفلسطين ليس إلا حلقة من حلقات تدمير الوطن العربي من فلسطين إلى العراق، سوريا، اليمن وليبيا وهذه المسائل على درجة من الأهمية لا يمكن أن تكون على هامش المسرح التونسي. 

المسرح وانحصار الجمهور

وعن علاقة الجمهور التونسي بالمسرح ومدى تغيرها في الراهن، أكد الكاتب والمخرج حسن المؤذن وجود  نوع من الانحصار ولم يعد رواد الفن الرابع نفسهم في السبعينات والثمانيات وهذا التحول والانحصار بدأ في أواسط التسعينات معتقدا أنّ الساحة في حاجة إلى التجديد الفكري والجمالي وقال في السياق ذاته: "قد يكون إيغال المسرح التونسي في نوع من التجريد بعيدا عن قضايا المواطنين الحقيقية من أسباب انحصار الجمهور العريض وأحيانا يكون المشاهدون أيضا مسرحيين لذلك من المهم العودة لمناقشة العروض بعد تقديمها لاستعادة جمهور الفن الرابع".

مراحل الخمول ومراجعة المنطلقات

"المسرح هو المقاومة" بهذه العبارات استهل المخرج حمادي المزي حديثه لـ"الصباح" قائلا: " شهدت تونس العصر الذهبي للمسرح المدرسي ثم تحول المسرح الجامعي مع رواد وكبار المسرحيين ممن قدموا مضمونا فكريا ملتزما وهؤلاء أًصبحوا من المسؤولين في هياكل الدولة وفي المؤسسات الثقافية وكان هناك دائما هاجس يجمعهم وهو التركيز على توعية الناشئة والشباب خاصة من سنوات السبعينات إلى التسعينات  عبر الفن الرابع باعتباره أداة للتغيير ولذلك  كان هناك دينامكية كبيرة."

وأٌقر حمادي المزي بمرور المسرح بمراحل خمول ولكن اليوم هناك جيل جديد له مشاريع مهمة تحمل رؤية سوسيولوجية نفسية ثقافية مغايرة وفق قوله مشددا على أن المسرح التونسي سيعيش في السنوات القادمة قفزة نوعية جماليا وفكريا وعلى مستوى المعالجة الآنية للقضايا فهناك حسب رأيه شباب واعد ومثقف يمكنه تسليط الضوء على انتكاسات مجتمعنا من خلال أدواته الإبداعية المجددة في المسرح.

ودعا المخرج المسرحي حمادي المزي -أحدث إنتاجاته مسرحية "قطيع" - إلى مراجعة المنطلقات في الممارسة المسرحية بعد الإبادة، التي يتعرض لها الفلسطينيون اليوم متابعا حديثه بأن المسرح التونسي استقى التزامه من النصوص الغربية لكن النص يجب أن يكون تونسيا يطرح إشكاليات مجتمعه وتكون المحلية طريقا للعالمية مستدركا قوله بأن عددا من المرجعيات الجمالية تبقى مهمة الزاما منها نظريتا بريشت ومايرهولد فكلاهما عايشا معاناة وضغوط السلطة والرقابة لكن الراهن يفرض اليوم مراجعة كلية لكل القضايا، التي تهم الإنسان من فلسفة الأنوار إلى علاقتنا بالآخر فالفكر العربي في حاجة لرجة جديدة ليعيد صيغة ذاته من جديد جماليا وفكريا.

المسرح فعل مقاومة فكرة ترجمت عبر العصور وكما ذكر المسرحي سيف الدين الفرشيشي فقد عرفت معظم الشعوب تأثير هذا الفن في تنامي وعيها والتزامها بقيم الإنسانية فالمسرح الروسي شهد ازدهاره بعد الثورة البلشفية والمسرح الاسباني انخرط في المقاومة زمن الدكتاتورية وهو في أحدث أوجهه ببلادنا المسرح التونسي بعد 2011 ومقاومته للقوى الظلامية والإرهاب وثقافة العنف بالفن الرابع وتعبيراته التي لونت شوارع تونس انطلاقا من الحبيب بورقيبة مرورا إلى سفح جبل الشعانبي.

نجلاء قموع