احتضنت مدينة بنزرت على امتداد أيام 10 و11 و12 نوفمبر الجاري فعاليات الدورة الخامسة من الملتقى الدولي للرواية العربية الذي تنظمه رابطة الكتاب الأحرار ببنزرت، تحت عنوان " الوطن في الرواية العربية : جراح الواقع ولعبة التخييل"
وشهد هذا الملتقى مشاركة الروائي الدكتور عبدالقادر بن الحاج نصر شهادة له كشف فيها عن علاقته الوطيدة بالكتابة في المجال الإبداعي الروائي وهو الذي يعد من اغزر المؤلفين في هذا المجال اذ تتجاوز مؤلفاته الروائية الـ 18 عملا سرديا علاوة على المجموعات القصصية والاعمال الدرامية التلفزيونية والدارسات النقدية الأدبية.
محسن بن احمد
شدت هذه الشهادة انتباه الحاضرين لما تضمنته من تفاصيل دقيقة ومدهشة وهو الذي انطلقت رحلته مع الكتابة الإبداعية منذ مرحلة الصبا حيث يقول:
"رأيت خلال المرحلة الابتدائيّة من التعليم، والثانويّة، أنّني أكبر كلّما توسّعت دائرة النّظر والاهتمام، وأنّني أتجاوز الطّفولة لمّا أتوقّف وأحدّق في المحيط من حولي وفي ملامح بعض الناس، وأنتبه إلى حدث شدّ الانتباه.. وأبحر، وأنا أسير حيث يسير النّاس في بساتين اللّوز والزّيتون والتّين، متابعا دوّارات الرّيح والسّحب الماطرة والمراعي، ثمّ أبحر في فضاء القرية وحنفيّتها العموميّة التي لا ينقطع ماؤها.. على يميني الدّكاكين وحلقات القرويّين حول براريد الشاي، وعلى يساري روضة الشّهداء.
لم أتجاوز عمر الطّفولة حين تملّكني إحساس قاهر فأمسكت بالقلم وبسطت أمامي ورقة بيضاء.. كتبت وأنا جالس في ظلّ شجرة التوت في ساحة المدرسة، وكتبت وأنا جالس على الأرض متّكئا على جذع زيتونة، وكتبت وأنا مسند ظهري إلى حائط روضة الشّهداء.
روضة الشّهداء والزّيتونة لازماني طوال مراحل الكتابة وظلّتا مصدر إلهام ومحورا متجدّدا في المنظومة السرديّة، وكذلك كان فضاء القرية"
واستعرض المحاضر في هذه الشهادة موقفا له عاشه مع الزعيم الخالد الحبيب يورقيبة قائلا: "في ملتقى هواة الأدب بالمنستير بإشراف الرئيس الحبيب بورقيبة قرأت قصّة في الجلسة الختاميّة للملتقى تحمل عنوان – مياه تحت السدّ – تفجّر موضوعها من فضاء روضة الشّهداء.. شباب ثائر ضدّ الاستعمار ألقي عليهم القبض وسِيقوا ذات ليلة إلى أرض خلاء، أجبرهم جنود الاحتلال على حفر حفرة ثمّ أطلقوا عليهم الرّصاص وأهالوا عليهم التّراب.. وبكت القرية أبناءها.. لمّا فرغت من القراءة دمعت عينا الرئيس الحبيب بورقيبة ثمّ علّق بعبارات رفعتني فوق ما كنت أنتظر.
أفقت من نشوة التّعليق الرئاسيّ لأدرك أنّ قصّة لا تصنع كاتبا إنّما الكاتب مشروع ومسيرة وضرب في المسالك الوعرة، تحدّ وإصرار على التحدّي والمواجهة."
وذات أمسية والكلام للمحاضر تجرّأت فقرأت قصّة في نادي القصّة أمام رموز الإبداع وفرسانه في ذلك الوقت، البشير خريّف والعروسي المطوي ورشاد الحمزاوي ومصطفى الفارسي والمختار بن جنّات وعبد المجيد عطيّة ويحيى محمّد وصالح الجابري وعزّ الدّين المدني وآخرين في بداية الطّريق مثلي.. عنوان القصّة – صلعاء يا حبيبتي – أثارت ضجّة.. لا يهمّ ما الذي قيل بشأنها لكنّ الذي استقرّ في الذّاكرة ولم يمح هو تعليق الكاتب الكبير عبد الله القويري وهو من ليبيا إذ قال بالحرف الواحد:
"كنت أحسب أنّ لهذا الشابّ الناشئ مستقبلا زاهرا في دنيا القصّة لكنّني تأكّدت الآن بما لا يدع مجالا للشّكّ أنّه لا يملك ذرّة واحدة من العقل".
ازدادت قناعة الروائي عبد القادر بن الحاج نصر رسوخا ان الوطن هو الملاذ الحقيقي للفرد حيث يقول :"الوطن والانتماء إليه والتّضحية من أجله هو الفضاء الّذي دارت فيه إذن أحداث قصّة مياه تحت السدّ، واتّسع الفضاء، اشتدّت رابطة المحبّة بين المبدع ووطنه فكانت الرواية الأولى – الزّيتون لا يموت – وكانت الجائزة الأولى المعتبرة.. أهديت للوطن نصّا طافحا بالمحبّة فأهداني نصيبا من المال كنت في حاجة إليه.
"كلّما فرغت من كتابة نصّ اشتدّ إحساسي بوجوب مواصلة البحث والحفر فما أنا إلاّ مبتدئ في كلّ مرحلة، والكتابة لا ترقى إلى منزلة الإبداع إلاّ إذا تنفّست حروفها رائحة الوطن.
لن أتعب من القول إنّ المتن السرديّ وطن يرفرف داخل الوجدان، يتوهّج عزّة وشموخا.
الروائيّ لا يجلس على الرّبوة إنّما يسير في الساحات والأنهج والأزقّة يلتقط من خلال ملامح المارّة والجالسين على الأرصفة أحجام الألم والمعاناة ومرارة الصّراع فيقبض عليها بوجدانه كالقابض على الجمر لتتفجّر ذات لحظة أدبا بين القلم والورقة.
يعيش المبدع واقعه فيبدع واقعا فوق الواقع، رواية أو شعرا أو مسرحا.. لا يسجّل الوقائع بل يحفر في الزّوايا التي لا يراها عامّة الناس وحتّى عامّة المثقّفين فيقدّم في الشّكل الفنّيّ المناسب الإضافة الأدبيّة التي تشدّ الانتباه.
ولِمَ لا.. لِم لا يجوس بخياله في الماضي حيث البداية، حيث أصل الحكاية، كلّ مجتمع يحمل في طيّات تاريخه قضاياه ومعاناته وهمومه، عقد ماضيه مساوئ المتنفّذين فيه.. المبدع الحاكي يعيد صياغة الأحداث حتّى تكشف الحكاية سلوك الحكّام وتخلص إلى استنتاج إلى أنّ أغلب الحكّام ما أحبّوا وطنهم إلاّ من رحم ربّك.
ويستعرض مجمل مؤلفاته الروائية قائلا انطلاقا من هنا، من أجل معرفة الحقيقة جاءت روايات:
- مملكة باردو - جنان بنت الريّ وقبلهما الزّيتون لا يموت.
مملكة باردو.. صياغة لبعض ما حدث في عهد الصّادق باي ووزيره مصطفى بن إسماعيل.
في جنان بنت الريّ عاد بنا الزّمان أو عدنا به إلى عهد المشير أحمد باي ووزيره بن عيّاد.
و أتت رواية قنديل باب المدينة لتروي محنة وطن ضحيّة تحوّل سياسيّ واقتصاديّ.. وعلى شاكلتها روايات حيّ باب سويقة – ملفّات مليحة – زقاق يأوي رجالا ونساء – صاحبة الجلالة – الإثم.
منظومة روايات أخرى جاءت لتعيد بناء الحدث في اللّحظات الحرجة حيث الانحراف على أشدّه والمؤامرة تتلوها أخرى.. تحدّى الكاتب الخوف وإمكانيّة التّصفية الجسديّة، ذلك لأنّ الوطن ينادي، ولأنّ رسالة المبدع هي الإبداع ووصف الحقيقة.. أليس منزلته مرتبطة بمواقفه؟
هكذا تتالت روايات من قتل شكري بلعيد – أحزان الجمهوريّة الثانية – بتلات الأقحوان.
من قتل شكري بلعيد عمليّة اغتيال لم تنكشف أسرارها إلى اليوم أو لا يراد لها أن تكشف، لكنّ للكاتب رأيا آخر.
بتلات الأقحوان انطلقت أحداثها من فضاء المجلس التأسيسيّ ذاك الذي تحوّلت قاعة مداولاته إلى تنافس بين الأعضاء ونوّاب الأحزاب في السباب والشّتم والعبارات البذيئة والحركات المخزية.. كذلك مضامين رواية أحزان الجمهوريّة الثانية.
عدد من الرّوايات الأخرى من بينها عتبة الحوش ومقهى الفنّ اتّسعت فيها مساحة المكان، وتوقّفت فيها حركة الزّمن لمّا ضاقت الأرض بما رحبت وضجّت الأنفس، وبلغت القلوب الحناجر يوم دخل بغداد على ظهر دبّابة شرذمة من أبناء العراق الخونة.. في هذا الزّمان والمكان لا بدّ أن يكون قلب الروائيّ وحواسّه ووجدانه هناك ليعزف أنغام سرديّة الحزن والألم والعذاب.
أمس بغداد واليوم غزّة.. يتربّص بها الخونة، ينتظرون لحظة يركبون بأمر أسيادهم ويدخلون القطاع فاتحين.
ألا كَم من خونة باعة أوطان في كلّ زمان ومكان!
كما وجه الدكتور عبد القادر بن الحاج نصر سهام نقده الى الادباء والمثقفين:"
منذ ما سمّي بثورات الرّبيع إلى يومنا هذا لم ينبس حاكم متنفّذ لدينا بلفظة أدب أو أديب، مبدع أو إبداع.. هل ننسى أنّه في يوم يتيم في العشريّة السابقة أقيم شبه عيد وطنيّ للثقافة، لكن ما الذي حدث أمام دهشة الجميع؟ منح وزير الثقافة لنفسه وسام الاستحقاق الثقافيّ الأكبر، ولبعض حاشيته أوسمة مختلفة، وبقي الكتّاب والمبدعون والمفكّرون والشّعراء في التسلّل.
الزّمن والمكان في كليهما أحداث ظاهرة وباطنة يرزح تحت وطأتها الوطن.. طبقات فقيرة تزداد فقرا وطبقة غنيّة تزداد تغوّلا وغنى.
ختم الدكتور عبد القادر بن الحاج نصر شهادته بسرد حكاية مولد روايته " هنشير اليهودية " قائلا :" كان الروائيّ يجلس باكرا كلّ صباح في الفضاء الخارجيّ للمقهى، مقهى بحيّ رياض الأندلس بالعاصمة، يكتب ما تمليه عليه الأحداث.عام أو عامان قد مرّا على ما سمّي بالثورة.
بجانب المقهى، على يسار الكاتب، أرض واسعة خالية.. على الأرض أخذت تتكدّس الفضلات حتّى أصبحت هضبة.. آنئذ توافد عليها البرباشة نساء ورجالا بنات وبنين كلّ بما أوتي من جهد وحيلة حتّى إذا التقطوا من الرّكام ما التقطوا انصرفوا يجرّون بضاعتهم أو يحملونها على ظهورهم قفز من خلفهم قطيع من الكلاب كانت تتربّص منتظرة.. وعلت الهضبة لتأخذ نصيبها من الغنيمة.
مجتمع يتعفّن، مجتمع يتأخّر، يدخل في فوضى، مجتمع تبخّرت أحلام شبابه فانتشر اليأس والإحباط والخوف وأصبح الغوص بالأصابع العارية في أكداس الفضلات عملا يوميّا لدى بعض فئات الشّباب والكهول نساء ورجالا، وحتّى لدى الأطفال صبيانا وصبايا.. وانتشرت الفضلات في كلّ مكان من المدن والأحياء.. أيّامها كانت عمليّات التّسفير، تسفير الجهاديّين.. الغلمان يعملون في خيام الأمراء.. وتسفير الجهاديّات، جهاد النّكاح، حرائر تونس يخدمن لدى أمراء الحرب.
وخلص المحاضر الى ان الروائي خرج من دائرة العقاب بالقول:"
حمدا لله خرج الرّوائيّ من دائرة العقاب. أتعرفون لماذا؟ لأن لا أحد من طائفة الحكّام وحاشياتهم يولي اهتماما بالإبداع الأدبيّ مضامينه وأشكاله فأغلبهم يعتبر المبدع "كاراكوزا" يمشي على وجه الأرض خارج الزّمان والمكان.
وختم بالتأكيد ان "الرواية تفتكّ الوطن من أيدي العابثين فتؤسّسه ركنا ركنا، تمنحه نبض القلب وعرق الجبين، وتهديه أجمل ما في الفنّ وأصدقه، والرّحلة التي بدأت بخطوة صغيرة محتشمة متردّدة خائفة ظلّت تضرب في طريق لا ضفاف لها من أجل وطن هو فقط لمن يحبّونه، يقدّسون هواءه وماءه وترابه ويبذلون ما يبذلون أدبا وفنّا لتخليصه من أيدي العابثين.
أخيرا أردّد مع من أحبّ الوطن بلا طمع ولا خوف:
خوذوا المناصب والمكاسب
لكن خلّولي الوطن."
تونس-الصباح
احتضنت مدينة بنزرت على امتداد أيام 10 و11 و12 نوفمبر الجاري فعاليات الدورة الخامسة من الملتقى الدولي للرواية العربية الذي تنظمه رابطة الكتاب الأحرار ببنزرت، تحت عنوان " الوطن في الرواية العربية : جراح الواقع ولعبة التخييل"
وشهد هذا الملتقى مشاركة الروائي الدكتور عبدالقادر بن الحاج نصر شهادة له كشف فيها عن علاقته الوطيدة بالكتابة في المجال الإبداعي الروائي وهو الذي يعد من اغزر المؤلفين في هذا المجال اذ تتجاوز مؤلفاته الروائية الـ 18 عملا سرديا علاوة على المجموعات القصصية والاعمال الدرامية التلفزيونية والدارسات النقدية الأدبية.
محسن بن احمد
شدت هذه الشهادة انتباه الحاضرين لما تضمنته من تفاصيل دقيقة ومدهشة وهو الذي انطلقت رحلته مع الكتابة الإبداعية منذ مرحلة الصبا حيث يقول:
"رأيت خلال المرحلة الابتدائيّة من التعليم، والثانويّة، أنّني أكبر كلّما توسّعت دائرة النّظر والاهتمام، وأنّني أتجاوز الطّفولة لمّا أتوقّف وأحدّق في المحيط من حولي وفي ملامح بعض الناس، وأنتبه إلى حدث شدّ الانتباه.. وأبحر، وأنا أسير حيث يسير النّاس في بساتين اللّوز والزّيتون والتّين، متابعا دوّارات الرّيح والسّحب الماطرة والمراعي، ثمّ أبحر في فضاء القرية وحنفيّتها العموميّة التي لا ينقطع ماؤها.. على يميني الدّكاكين وحلقات القرويّين حول براريد الشاي، وعلى يساري روضة الشّهداء.
لم أتجاوز عمر الطّفولة حين تملّكني إحساس قاهر فأمسكت بالقلم وبسطت أمامي ورقة بيضاء.. كتبت وأنا جالس في ظلّ شجرة التوت في ساحة المدرسة، وكتبت وأنا جالس على الأرض متّكئا على جذع زيتونة، وكتبت وأنا مسند ظهري إلى حائط روضة الشّهداء.
روضة الشّهداء والزّيتونة لازماني طوال مراحل الكتابة وظلّتا مصدر إلهام ومحورا متجدّدا في المنظومة السرديّة، وكذلك كان فضاء القرية"
واستعرض المحاضر في هذه الشهادة موقفا له عاشه مع الزعيم الخالد الحبيب يورقيبة قائلا: "في ملتقى هواة الأدب بالمنستير بإشراف الرئيس الحبيب بورقيبة قرأت قصّة في الجلسة الختاميّة للملتقى تحمل عنوان – مياه تحت السدّ – تفجّر موضوعها من فضاء روضة الشّهداء.. شباب ثائر ضدّ الاستعمار ألقي عليهم القبض وسِيقوا ذات ليلة إلى أرض خلاء، أجبرهم جنود الاحتلال على حفر حفرة ثمّ أطلقوا عليهم الرّصاص وأهالوا عليهم التّراب.. وبكت القرية أبناءها.. لمّا فرغت من القراءة دمعت عينا الرئيس الحبيب بورقيبة ثمّ علّق بعبارات رفعتني فوق ما كنت أنتظر.
أفقت من نشوة التّعليق الرئاسيّ لأدرك أنّ قصّة لا تصنع كاتبا إنّما الكاتب مشروع ومسيرة وضرب في المسالك الوعرة، تحدّ وإصرار على التحدّي والمواجهة."
وذات أمسية والكلام للمحاضر تجرّأت فقرأت قصّة في نادي القصّة أمام رموز الإبداع وفرسانه في ذلك الوقت، البشير خريّف والعروسي المطوي ورشاد الحمزاوي ومصطفى الفارسي والمختار بن جنّات وعبد المجيد عطيّة ويحيى محمّد وصالح الجابري وعزّ الدّين المدني وآخرين في بداية الطّريق مثلي.. عنوان القصّة – صلعاء يا حبيبتي – أثارت ضجّة.. لا يهمّ ما الذي قيل بشأنها لكنّ الذي استقرّ في الذّاكرة ولم يمح هو تعليق الكاتب الكبير عبد الله القويري وهو من ليبيا إذ قال بالحرف الواحد:
"كنت أحسب أنّ لهذا الشابّ الناشئ مستقبلا زاهرا في دنيا القصّة لكنّني تأكّدت الآن بما لا يدع مجالا للشّكّ أنّه لا يملك ذرّة واحدة من العقل".
ازدادت قناعة الروائي عبد القادر بن الحاج نصر رسوخا ان الوطن هو الملاذ الحقيقي للفرد حيث يقول :"الوطن والانتماء إليه والتّضحية من أجله هو الفضاء الّذي دارت فيه إذن أحداث قصّة مياه تحت السدّ، واتّسع الفضاء، اشتدّت رابطة المحبّة بين المبدع ووطنه فكانت الرواية الأولى – الزّيتون لا يموت – وكانت الجائزة الأولى المعتبرة.. أهديت للوطن نصّا طافحا بالمحبّة فأهداني نصيبا من المال كنت في حاجة إليه.
"كلّما فرغت من كتابة نصّ اشتدّ إحساسي بوجوب مواصلة البحث والحفر فما أنا إلاّ مبتدئ في كلّ مرحلة، والكتابة لا ترقى إلى منزلة الإبداع إلاّ إذا تنفّست حروفها رائحة الوطن.
لن أتعب من القول إنّ المتن السرديّ وطن يرفرف داخل الوجدان، يتوهّج عزّة وشموخا.
الروائيّ لا يجلس على الرّبوة إنّما يسير في الساحات والأنهج والأزقّة يلتقط من خلال ملامح المارّة والجالسين على الأرصفة أحجام الألم والمعاناة ومرارة الصّراع فيقبض عليها بوجدانه كالقابض على الجمر لتتفجّر ذات لحظة أدبا بين القلم والورقة.
يعيش المبدع واقعه فيبدع واقعا فوق الواقع، رواية أو شعرا أو مسرحا.. لا يسجّل الوقائع بل يحفر في الزّوايا التي لا يراها عامّة الناس وحتّى عامّة المثقّفين فيقدّم في الشّكل الفنّيّ المناسب الإضافة الأدبيّة التي تشدّ الانتباه.
ولِمَ لا.. لِم لا يجوس بخياله في الماضي حيث البداية، حيث أصل الحكاية، كلّ مجتمع يحمل في طيّات تاريخه قضاياه ومعاناته وهمومه، عقد ماضيه مساوئ المتنفّذين فيه.. المبدع الحاكي يعيد صياغة الأحداث حتّى تكشف الحكاية سلوك الحكّام وتخلص إلى استنتاج إلى أنّ أغلب الحكّام ما أحبّوا وطنهم إلاّ من رحم ربّك.
ويستعرض مجمل مؤلفاته الروائية قائلا انطلاقا من هنا، من أجل معرفة الحقيقة جاءت روايات:
- مملكة باردو - جنان بنت الريّ وقبلهما الزّيتون لا يموت.
مملكة باردو.. صياغة لبعض ما حدث في عهد الصّادق باي ووزيره مصطفى بن إسماعيل.
في جنان بنت الريّ عاد بنا الزّمان أو عدنا به إلى عهد المشير أحمد باي ووزيره بن عيّاد.
و أتت رواية قنديل باب المدينة لتروي محنة وطن ضحيّة تحوّل سياسيّ واقتصاديّ.. وعلى شاكلتها روايات حيّ باب سويقة – ملفّات مليحة – زقاق يأوي رجالا ونساء – صاحبة الجلالة – الإثم.
منظومة روايات أخرى جاءت لتعيد بناء الحدث في اللّحظات الحرجة حيث الانحراف على أشدّه والمؤامرة تتلوها أخرى.. تحدّى الكاتب الخوف وإمكانيّة التّصفية الجسديّة، ذلك لأنّ الوطن ينادي، ولأنّ رسالة المبدع هي الإبداع ووصف الحقيقة.. أليس منزلته مرتبطة بمواقفه؟
هكذا تتالت روايات من قتل شكري بلعيد – أحزان الجمهوريّة الثانية – بتلات الأقحوان.
من قتل شكري بلعيد عمليّة اغتيال لم تنكشف أسرارها إلى اليوم أو لا يراد لها أن تكشف، لكنّ للكاتب رأيا آخر.
بتلات الأقحوان انطلقت أحداثها من فضاء المجلس التأسيسيّ ذاك الذي تحوّلت قاعة مداولاته إلى تنافس بين الأعضاء ونوّاب الأحزاب في السباب والشّتم والعبارات البذيئة والحركات المخزية.. كذلك مضامين رواية أحزان الجمهوريّة الثانية.
عدد من الرّوايات الأخرى من بينها عتبة الحوش ومقهى الفنّ اتّسعت فيها مساحة المكان، وتوقّفت فيها حركة الزّمن لمّا ضاقت الأرض بما رحبت وضجّت الأنفس، وبلغت القلوب الحناجر يوم دخل بغداد على ظهر دبّابة شرذمة من أبناء العراق الخونة.. في هذا الزّمان والمكان لا بدّ أن يكون قلب الروائيّ وحواسّه ووجدانه هناك ليعزف أنغام سرديّة الحزن والألم والعذاب.
أمس بغداد واليوم غزّة.. يتربّص بها الخونة، ينتظرون لحظة يركبون بأمر أسيادهم ويدخلون القطاع فاتحين.
ألا كَم من خونة باعة أوطان في كلّ زمان ومكان!
كما وجه الدكتور عبد القادر بن الحاج نصر سهام نقده الى الادباء والمثقفين:"
منذ ما سمّي بثورات الرّبيع إلى يومنا هذا لم ينبس حاكم متنفّذ لدينا بلفظة أدب أو أديب، مبدع أو إبداع.. هل ننسى أنّه في يوم يتيم في العشريّة السابقة أقيم شبه عيد وطنيّ للثقافة، لكن ما الذي حدث أمام دهشة الجميع؟ منح وزير الثقافة لنفسه وسام الاستحقاق الثقافيّ الأكبر، ولبعض حاشيته أوسمة مختلفة، وبقي الكتّاب والمبدعون والمفكّرون والشّعراء في التسلّل.
الزّمن والمكان في كليهما أحداث ظاهرة وباطنة يرزح تحت وطأتها الوطن.. طبقات فقيرة تزداد فقرا وطبقة غنيّة تزداد تغوّلا وغنى.
ختم الدكتور عبد القادر بن الحاج نصر شهادته بسرد حكاية مولد روايته " هنشير اليهودية " قائلا :" كان الروائيّ يجلس باكرا كلّ صباح في الفضاء الخارجيّ للمقهى، مقهى بحيّ رياض الأندلس بالعاصمة، يكتب ما تمليه عليه الأحداث.عام أو عامان قد مرّا على ما سمّي بالثورة.
بجانب المقهى، على يسار الكاتب، أرض واسعة خالية.. على الأرض أخذت تتكدّس الفضلات حتّى أصبحت هضبة.. آنئذ توافد عليها البرباشة نساء ورجالا بنات وبنين كلّ بما أوتي من جهد وحيلة حتّى إذا التقطوا من الرّكام ما التقطوا انصرفوا يجرّون بضاعتهم أو يحملونها على ظهورهم قفز من خلفهم قطيع من الكلاب كانت تتربّص منتظرة.. وعلت الهضبة لتأخذ نصيبها من الغنيمة.
مجتمع يتعفّن، مجتمع يتأخّر، يدخل في فوضى، مجتمع تبخّرت أحلام شبابه فانتشر اليأس والإحباط والخوف وأصبح الغوص بالأصابع العارية في أكداس الفضلات عملا يوميّا لدى بعض فئات الشّباب والكهول نساء ورجالا، وحتّى لدى الأطفال صبيانا وصبايا.. وانتشرت الفضلات في كلّ مكان من المدن والأحياء.. أيّامها كانت عمليّات التّسفير، تسفير الجهاديّين.. الغلمان يعملون في خيام الأمراء.. وتسفير الجهاديّات، جهاد النّكاح، حرائر تونس يخدمن لدى أمراء الحرب.
وخلص المحاضر الى ان الروائي خرج من دائرة العقاب بالقول:"
حمدا لله خرج الرّوائيّ من دائرة العقاب. أتعرفون لماذا؟ لأن لا أحد من طائفة الحكّام وحاشياتهم يولي اهتماما بالإبداع الأدبيّ مضامينه وأشكاله فأغلبهم يعتبر المبدع "كاراكوزا" يمشي على وجه الأرض خارج الزّمان والمكان.
وختم بالتأكيد ان "الرواية تفتكّ الوطن من أيدي العابثين فتؤسّسه ركنا ركنا، تمنحه نبض القلب وعرق الجبين، وتهديه أجمل ما في الفنّ وأصدقه، والرّحلة التي بدأت بخطوة صغيرة محتشمة متردّدة خائفة ظلّت تضرب في طريق لا ضفاف لها من أجل وطن هو فقط لمن يحبّونه، يقدّسون هواءه وماءه وترابه ويبذلون ما يبذلون أدبا وفنّا لتخليصه من أيدي العابثين.