لا يمكن فهم وتقييم طبيعة موقف بعض النخب التونسية بموضوعية من قضية انتمائهم إلى الهوية العربية الإسلامية في غياب التعرف الكافي على موقفهم من الموروث العربي الإسلامي
بقلم: أ.د محمود الذوادي (*)
يمثل تحليل الخطاب التونسي في وسائل الإعلام والسياسيين والمسؤولين الحكوميين أمرا مشروعا لفهم مضمونه وخفاياه. فالمفردات والتعبيرات التي يستعملها أصحاب الخطاب تعكس بطريقة غير مباشرة على الأقل الكثير من المعاني والأهداف التي يسعى أصحاب الخطاب إلى إبلاغها أو تحقيقها على أرض الواقع. ففي حديثها عن الصراع في غزة 2023 تتحاشى وسائل الإعلام التونسية ، مثلا، استعمال عبارة "المقاومة الإسلامية" في ذكرها لكتائب القسّام، فتكتفي فقط باستعمال كلمات "المقاومة" أو "المقاومة الفلسطينية" وذلك رغم أن المقاومة الإسلامية نجحت أكثر من غيرها في مواجهة العدو وحزب الله وحماس وبقية فصائل المقاومة الإسلامية أمثلة حية اليوم. فلماذا، إذن، يخجل الإعلام التونسي من ذكر نعت "الإسلامية" للمقاومة؟
لا يقتصر شحُّ ذكر كلمة "الإسلامية" على خطاب وسائل الإعلام المكتوبة فقط بل يشمل أيضا حديث الإذاعات والقنوات التلفزيونية. إذن، فنحن نعايش ظاهرة واسعة الانتشار في وسائل الإعلام الخاصة والعامة في المجتمع التونسي. فهي ظاهرة تحتاج إلى الفهم والتفسير من خلال مقولتنا التي ترى أن خطاب الإعلام التونسي يتأثر بعنصريْن رئيسيين :1- ثقافة النخب السياسية والثقافية و 2- ثقافة تعليم الصحافيين أنفسهم أو 1 و2 . يمكن الحديث اليوم عن تعليم جيلين من الإعلاميين التونسيين: 1- تعليم ما قبل 1956 و2- تعليم ما بعد الاستقلال. يوجد اليوم بعض الإعلاميين من الصنف الأول الذين درسوا في المدرسة الصادقية أو في مدارس البعثات الفرنسية ويوجد الفريق الثاني الذي تمثله أغلبيةُ الصحفيين اليوم الأصغر سنّا خريجي المدارس التونسية العمومية الذين يشبهون زملاءهم في الصنف الأول في كونهم لم يدرسوا جميع المواد باللغة العربية فقط حتى نهاية التعليم الثانوي. يفيد التحليل العلمي أن هذا العامل اللغوي – الذي لا يكاد يخطر على بال أحد- مؤثر في خطاب شح الصحفيين والنخب السياسية والثقافية في عدم ذكر عبارة ' المقاومة الإسلامية' كما تكشف عما هو أعظم بقيةُ سطور هذا المقال وذلك بطرح تفسير فكري مختلف.
ضُعف صداقة النخب للموروث العربي الإسلامي
لا يمكن فهم وتقييم طبيعة موقف بعض النخب التونسية بموضوعية من قضية انتمائهم إلى الهوية العربية الإسلامية في غياب التعرف الكافي أولا على موقفهم من الموروث العربي الإسلامي: اللغة العربية والدين الإسلامي. هناك ضُعف صداقة لدى النخب التونسية للموروث العربي الإسلامي. نود البدء بتشخيص ضُعف صداقة تلك النخب للجانب العربي من ذلك الموروث. نكتفي بذكر مثالين:
1- نظمت النساء الديمقراطيات لقاء في 28 -01-2012 في بيت الحكمة ليتحدث فيه بعض النساء المثقفات في العلوم الإنسانية والاجتماعية عن وضع المرأة بصفة عامة وفي المنطقة العربية الإسلامية خاصة. اختار هؤلاء جميعا اللغة الفرنسية في القيام بمداخلاتهن رغم أن مكانة المرأة في القرآن والحديث ولدى الفقهاء كانت الموضوع الرئيسي لمداخلتهن. 2- لا تستعمل الأغلبية الساحقة من النخب التونسية الحروف العربية في كتابة صكوكها/شيكاتها المصرفية. يبدو أن هذا السلوك اللغوي الكتابي النخبوي وعدم دراسة جميع المواد باللغة الوطنية فقط قد أثرا على معظم بقية الفئات التونسية في تحيزها أيضا لكتابة صكوكها باللغة الفرنسية.
العلاقة الحميمة بين الإسلام والعربية
تفيد الملاحظات أن قوةالانتماء إلى الإسلام تحفز الناس كثيرا على الرغبة في تعلّم اللغة العربية. يعود ذلك إلى طبيعة تصاحب الإسلام واللغة العربية في مسيرة انتشار الإسلام في ما يسمى اليوم العالم العربي. يرى عديد المفكرين أن سرعة تعريب لسان سكان المنطقة العربية تمت بسبب دخول تلك الأقوام في الإسلام الذي عجّل أيضا في اندثار اللغات الأخرى. وهي ظاهرة لم تحدثها الغزواتُ السابقة للفتوحات الإسلامية. أي أن عامل الدين الجديد(الإسلام) حاسم في عملية الترحيب بلغة القرآن فقوة الانتماء إلى العقيدة الإسلامية تحفز على حب اللغة العربية والاعتزاز بها والدفاع عنها. وفي المقابل، فضُعف ذلك طالما يقود إلى علاقة ضعيفة مع اللغة العربية.
صورة المستعمَر لغويا
يمثل الاستعمار الفرنسي عاملا يُضعف العلاقة مع اللغة العربية. لم يصمت المثقف والكاتب التونسي الفرنسي اليهودي ألبار ميمي Albert Memmi عن أثر الاستعمار اللغوي في شخصية المستعمَر. يتحدث ميمَي عن آثار الازدواجية اللغوية/ الثنائية اللغوية لدى الشمالي الإفريقي (التونسي والجزائري والمغربي) كما يلي: إن هذا التمزق الجوهري للمستعمَر يجد تعبيره ورمزيته بشكل خاص في ازدواجية اللغة. فلا يتم إنقاذ المستعمَر من الأمية إلا ليقع في الازدواجية اللغوية. زيادة على ذلك، فإن لغة الأم الشائعة الاستعمال هذه لا تسمح ولو بتسيير بعض الأمور الاجتماعية أو اختراق نوافذ الإدارة أو تنظيم حركة البريد. حيث أن البيروقراطية بكاملها وكذلك التقنية بمختلف مجالاتها لا تستعمل إلا لغة المستعمَر، سواء في إشارات المسافات في الطرق ولوحات المحطات والشوارع إلخ.... هكذا، يكون المستعمَر غريبا في بلده. لأنه يخضع للغة الآخرين، لغة أسياده المستعمِرين. ففي هذه الأزمة اللغوية ، يجد التونسي، مثلا، لغته في موقع الانسحاق والازدراء. ومن ثم، يُبعد من ذاته اللغة العربية/الوطنية التي يعتبرها عاجزة من جراء الاستعمار فيُخفيها عن عيون الأجانب، بحيث لا يظهر ارتياحه إلا بالحديث بلغة المستعمَر.. إنها مأساة اللغة المزدوجة.
جذور وهن الصداقة للعربية والإسلام
1- ولشرح أوفى لضعف صداقة النخب والصحافيين التونسيين للغة العربية نرى أن علم النفس والاجتماع يساعدان على معرفة أسباب ذلك..فغياب ما نسميه البنود الثلاثة لميثاق اللغة بين كثير من النخب التونسية والصحفيين يُحدث اغترابا مع لغتهم الوطنية كما تحدده تلك البنود:1 -. استعمالهم لها وحدها في الحديث في كل شؤون حياتهم في مجتمعهم 2- استعمالهم لها فقط في الكتابة.3 - تنشأ عن 1و2 ما نسميها 'العلاقة الحميمة' مع اللغة العربية والتي تتجلى في حبها والغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها قبل أي لغة أخرى. فعدم امتثال الكثير من النخب التونسية والصحفيين لتلك البنود لا يكسبهم معادلة العلاقة السليمة مع لغتهم الوطنية/العربية = 1+2+3. ومنه، يُفهم ويُفسر ضُعف صداقتهم معها. تسود هذه العلاقة قبل 1956 بين خريجي المدرسة الصادقية ناهيك عن خريجي مدارس البعثات الفرنسية. وهم الذين تصدروا قيادة المجتمع التونسي بعد الاستقلال فأسسوا نظام تعليم تونسي يعيد إنتاج نمط تعليمهم كما يعبر عن ذلك مفهوم Reproduction في علم الاجتماع.
2 - أما وهن صداقة خريجي المدرسة الصادقية والبعثات الفرنسية مع الإسلام فيعود أساسا إلى ضُعف تكوينهم الثقافي الفكري في الثقافة الإسلامية. فكما طغى استعمال الفرنسية في تدريس التونسيين، طغى أيضا تدريس الثقافة الفرنسية ( التاريخ والجغرافيا والأدب و الفلسفة...) في هذين النمطين من التعليم. وبالإضافة إلى ذلك، توجه الكثير من هؤلاء التلاميذ التونسيين إلى الدراسة الجامعية في فرنسا حيث للغة والثقافة الفرنسيتين وفكرهما نصيب الأسد في التكوين الثقافي لهؤلاء التونسيين. وهو تكوين فكري لا يكاد يخلو من نقد كبير أو صغير خاصة لبعض معالم الإسلام. فلا يستطيع هؤلاء الجامعيون التونسيون الدفاع بسهولة وبمقدرة متينة عنه.. يرى علما الاجتماع والنفس أنه من الصعب انتظار صداقةقوية للإسلام بين النخب السياسية والثقافية التونسية التي قادت مسيرة البلاد في الفترات الأولى من الاستقلال. إنها نخب تونسية غير متحمسة في صداقتها للغة العربية والدين الإسلامي. فوهن تلك العلاقة مع العمود الفقري للهوية التونسية (العربية والإسلام) هو حصاد غير مفاجئ زُرعت بذورهفي تكوينهم اللغوي الثقافيالمغترب.
الهوية المرشحة للتصدّع
تشير المعطيات السابقة بقوة إلى ترشح هوية النخب والصحفيين التونسيين للتصدع لغويا ودينيا. فالرئيس بورقيبة قائد في تصدع الهوية: أ- فقد هاجم بحزم وعزم معالم الإسلام: اجتثاث جامع الزيتونة الذي درس فيه ابن خلدون والطاهر الحداد وأبو القاسم الشابي ومحمد الطاهر بن عاشور وأنهى نظام الأوقاف الذي يموّل الكثير من الجامعات في الغرب ودعا إلى إبطال ممارسة فريضة الصيام. ب- أما بالنسبة للغة العربية فلم يرحب بسياسة التعريب وتحدث بالفرنسية (بدلا عن العربية اللغة الوطنية) مع المسئولين الذين لا يفهمونها مثلا في أمريكا وألمانيا وبالتالي تُرجمت أحديثه إليهم من الفرنسية عوضا عن العربية. هناك اليوم من الإعلاميين التونسيين الذين يتبنون موقف الرئيس من قطبيْ الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي. وربما ينكرون أيضا آثار عامل اللغة في تصدع تلك الهوية كما جاء في البحوث العلمية. يشخص صاحب كتاب العقل العربي Patai 1983 آثار التعليم الثنائي اللغة ( استعمال لغتين كوسيلتيْ تدريس: الازدواجية اللغوية ) في المجتمعات العربية لصالح الفرنسية وثقافتها كما هو الحال في أنظمة التعليم في مجتمعات المغرب العربي على الخصوص. فوجد المؤلف أن التعليم الثنائي اللغة يؤدي عموما إلى الأعراض التالية لدى خريجيه: 1 ـ الانتماء إلى ثقافتين دون القدرة على تعريف الذات بالانتماء الكامل لأي منهما.2 ـ التذبذب المزدوج يتمثل في رغبتهم كسب علاقة حميمة كاملة مع الغرب ومع مجتمعهم في نفس الوقت دون النجاح في أي منهما. 3 ـ يتصف خريجو ذلك التعليم بشخصية منفصمة ناتجة عن معايشة عاملين قويين متعاكسين: الارتباط بالثقافة العربية والانجذاب إلى الثقافة الغربية 4 ـ عداء سافر للاستعمار الفرنسي يقابله ترحيب كبير بلغته وثقافته.
* عالم الاجتماع
لا يمكن فهم وتقييم طبيعة موقف بعض النخب التونسية بموضوعية من قضية انتمائهم إلى الهوية العربية الإسلامية في غياب التعرف الكافي على موقفهم من الموروث العربي الإسلامي
بقلم: أ.د محمود الذوادي (*)
يمثل تحليل الخطاب التونسي في وسائل الإعلام والسياسيين والمسؤولين الحكوميين أمرا مشروعا لفهم مضمونه وخفاياه. فالمفردات والتعبيرات التي يستعملها أصحاب الخطاب تعكس بطريقة غير مباشرة على الأقل الكثير من المعاني والأهداف التي يسعى أصحاب الخطاب إلى إبلاغها أو تحقيقها على أرض الواقع. ففي حديثها عن الصراع في غزة 2023 تتحاشى وسائل الإعلام التونسية ، مثلا، استعمال عبارة "المقاومة الإسلامية" في ذكرها لكتائب القسّام، فتكتفي فقط باستعمال كلمات "المقاومة" أو "المقاومة الفلسطينية" وذلك رغم أن المقاومة الإسلامية نجحت أكثر من غيرها في مواجهة العدو وحزب الله وحماس وبقية فصائل المقاومة الإسلامية أمثلة حية اليوم. فلماذا، إذن، يخجل الإعلام التونسي من ذكر نعت "الإسلامية" للمقاومة؟
لا يقتصر شحُّ ذكر كلمة "الإسلامية" على خطاب وسائل الإعلام المكتوبة فقط بل يشمل أيضا حديث الإذاعات والقنوات التلفزيونية. إذن، فنحن نعايش ظاهرة واسعة الانتشار في وسائل الإعلام الخاصة والعامة في المجتمع التونسي. فهي ظاهرة تحتاج إلى الفهم والتفسير من خلال مقولتنا التي ترى أن خطاب الإعلام التونسي يتأثر بعنصريْن رئيسيين :1- ثقافة النخب السياسية والثقافية و 2- ثقافة تعليم الصحافيين أنفسهم أو 1 و2 . يمكن الحديث اليوم عن تعليم جيلين من الإعلاميين التونسيين: 1- تعليم ما قبل 1956 و2- تعليم ما بعد الاستقلال. يوجد اليوم بعض الإعلاميين من الصنف الأول الذين درسوا في المدرسة الصادقية أو في مدارس البعثات الفرنسية ويوجد الفريق الثاني الذي تمثله أغلبيةُ الصحفيين اليوم الأصغر سنّا خريجي المدارس التونسية العمومية الذين يشبهون زملاءهم في الصنف الأول في كونهم لم يدرسوا جميع المواد باللغة العربية فقط حتى نهاية التعليم الثانوي. يفيد التحليل العلمي أن هذا العامل اللغوي – الذي لا يكاد يخطر على بال أحد- مؤثر في خطاب شح الصحفيين والنخب السياسية والثقافية في عدم ذكر عبارة ' المقاومة الإسلامية' كما تكشف عما هو أعظم بقيةُ سطور هذا المقال وذلك بطرح تفسير فكري مختلف.
ضُعف صداقة النخب للموروث العربي الإسلامي
لا يمكن فهم وتقييم طبيعة موقف بعض النخب التونسية بموضوعية من قضية انتمائهم إلى الهوية العربية الإسلامية في غياب التعرف الكافي أولا على موقفهم من الموروث العربي الإسلامي: اللغة العربية والدين الإسلامي. هناك ضُعف صداقة لدى النخب التونسية للموروث العربي الإسلامي. نود البدء بتشخيص ضُعف صداقة تلك النخب للجانب العربي من ذلك الموروث. نكتفي بذكر مثالين:
1- نظمت النساء الديمقراطيات لقاء في 28 -01-2012 في بيت الحكمة ليتحدث فيه بعض النساء المثقفات في العلوم الإنسانية والاجتماعية عن وضع المرأة بصفة عامة وفي المنطقة العربية الإسلامية خاصة. اختار هؤلاء جميعا اللغة الفرنسية في القيام بمداخلاتهن رغم أن مكانة المرأة في القرآن والحديث ولدى الفقهاء كانت الموضوع الرئيسي لمداخلتهن. 2- لا تستعمل الأغلبية الساحقة من النخب التونسية الحروف العربية في كتابة صكوكها/شيكاتها المصرفية. يبدو أن هذا السلوك اللغوي الكتابي النخبوي وعدم دراسة جميع المواد باللغة الوطنية فقط قد أثرا على معظم بقية الفئات التونسية في تحيزها أيضا لكتابة صكوكها باللغة الفرنسية.
العلاقة الحميمة بين الإسلام والعربية
تفيد الملاحظات أن قوةالانتماء إلى الإسلام تحفز الناس كثيرا على الرغبة في تعلّم اللغة العربية. يعود ذلك إلى طبيعة تصاحب الإسلام واللغة العربية في مسيرة انتشار الإسلام في ما يسمى اليوم العالم العربي. يرى عديد المفكرين أن سرعة تعريب لسان سكان المنطقة العربية تمت بسبب دخول تلك الأقوام في الإسلام الذي عجّل أيضا في اندثار اللغات الأخرى. وهي ظاهرة لم تحدثها الغزواتُ السابقة للفتوحات الإسلامية. أي أن عامل الدين الجديد(الإسلام) حاسم في عملية الترحيب بلغة القرآن فقوة الانتماء إلى العقيدة الإسلامية تحفز على حب اللغة العربية والاعتزاز بها والدفاع عنها. وفي المقابل، فضُعف ذلك طالما يقود إلى علاقة ضعيفة مع اللغة العربية.
صورة المستعمَر لغويا
يمثل الاستعمار الفرنسي عاملا يُضعف العلاقة مع اللغة العربية. لم يصمت المثقف والكاتب التونسي الفرنسي اليهودي ألبار ميمي Albert Memmi عن أثر الاستعمار اللغوي في شخصية المستعمَر. يتحدث ميمَي عن آثار الازدواجية اللغوية/ الثنائية اللغوية لدى الشمالي الإفريقي (التونسي والجزائري والمغربي) كما يلي: إن هذا التمزق الجوهري للمستعمَر يجد تعبيره ورمزيته بشكل خاص في ازدواجية اللغة. فلا يتم إنقاذ المستعمَر من الأمية إلا ليقع في الازدواجية اللغوية. زيادة على ذلك، فإن لغة الأم الشائعة الاستعمال هذه لا تسمح ولو بتسيير بعض الأمور الاجتماعية أو اختراق نوافذ الإدارة أو تنظيم حركة البريد. حيث أن البيروقراطية بكاملها وكذلك التقنية بمختلف مجالاتها لا تستعمل إلا لغة المستعمَر، سواء في إشارات المسافات في الطرق ولوحات المحطات والشوارع إلخ.... هكذا، يكون المستعمَر غريبا في بلده. لأنه يخضع للغة الآخرين، لغة أسياده المستعمِرين. ففي هذه الأزمة اللغوية ، يجد التونسي، مثلا، لغته في موقع الانسحاق والازدراء. ومن ثم، يُبعد من ذاته اللغة العربية/الوطنية التي يعتبرها عاجزة من جراء الاستعمار فيُخفيها عن عيون الأجانب، بحيث لا يظهر ارتياحه إلا بالحديث بلغة المستعمَر.. إنها مأساة اللغة المزدوجة.
جذور وهن الصداقة للعربية والإسلام
1- ولشرح أوفى لضعف صداقة النخب والصحافيين التونسيين للغة العربية نرى أن علم النفس والاجتماع يساعدان على معرفة أسباب ذلك..فغياب ما نسميه البنود الثلاثة لميثاق اللغة بين كثير من النخب التونسية والصحفيين يُحدث اغترابا مع لغتهم الوطنية كما تحدده تلك البنود:1 -. استعمالهم لها وحدها في الحديث في كل شؤون حياتهم في مجتمعهم 2- استعمالهم لها فقط في الكتابة.3 - تنشأ عن 1و2 ما نسميها 'العلاقة الحميمة' مع اللغة العربية والتي تتجلى في حبها والغيرة عليها والدفاع عنها والاعتزاز بها قبل أي لغة أخرى. فعدم امتثال الكثير من النخب التونسية والصحفيين لتلك البنود لا يكسبهم معادلة العلاقة السليمة مع لغتهم الوطنية/العربية = 1+2+3. ومنه، يُفهم ويُفسر ضُعف صداقتهم معها. تسود هذه العلاقة قبل 1956 بين خريجي المدرسة الصادقية ناهيك عن خريجي مدارس البعثات الفرنسية. وهم الذين تصدروا قيادة المجتمع التونسي بعد الاستقلال فأسسوا نظام تعليم تونسي يعيد إنتاج نمط تعليمهم كما يعبر عن ذلك مفهوم Reproduction في علم الاجتماع.
2 - أما وهن صداقة خريجي المدرسة الصادقية والبعثات الفرنسية مع الإسلام فيعود أساسا إلى ضُعف تكوينهم الثقافي الفكري في الثقافة الإسلامية. فكما طغى استعمال الفرنسية في تدريس التونسيين، طغى أيضا تدريس الثقافة الفرنسية ( التاريخ والجغرافيا والأدب و الفلسفة...) في هذين النمطين من التعليم. وبالإضافة إلى ذلك، توجه الكثير من هؤلاء التلاميذ التونسيين إلى الدراسة الجامعية في فرنسا حيث للغة والثقافة الفرنسيتين وفكرهما نصيب الأسد في التكوين الثقافي لهؤلاء التونسيين. وهو تكوين فكري لا يكاد يخلو من نقد كبير أو صغير خاصة لبعض معالم الإسلام. فلا يستطيع هؤلاء الجامعيون التونسيون الدفاع بسهولة وبمقدرة متينة عنه.. يرى علما الاجتماع والنفس أنه من الصعب انتظار صداقةقوية للإسلام بين النخب السياسية والثقافية التونسية التي قادت مسيرة البلاد في الفترات الأولى من الاستقلال. إنها نخب تونسية غير متحمسة في صداقتها للغة العربية والدين الإسلامي. فوهن تلك العلاقة مع العمود الفقري للهوية التونسية (العربية والإسلام) هو حصاد غير مفاجئ زُرعت بذورهفي تكوينهم اللغوي الثقافيالمغترب.
الهوية المرشحة للتصدّع
تشير المعطيات السابقة بقوة إلى ترشح هوية النخب والصحفيين التونسيين للتصدع لغويا ودينيا. فالرئيس بورقيبة قائد في تصدع الهوية: أ- فقد هاجم بحزم وعزم معالم الإسلام: اجتثاث جامع الزيتونة الذي درس فيه ابن خلدون والطاهر الحداد وأبو القاسم الشابي ومحمد الطاهر بن عاشور وأنهى نظام الأوقاف الذي يموّل الكثير من الجامعات في الغرب ودعا إلى إبطال ممارسة فريضة الصيام. ب- أما بالنسبة للغة العربية فلم يرحب بسياسة التعريب وتحدث بالفرنسية (بدلا عن العربية اللغة الوطنية) مع المسئولين الذين لا يفهمونها مثلا في أمريكا وألمانيا وبالتالي تُرجمت أحديثه إليهم من الفرنسية عوضا عن العربية. هناك اليوم من الإعلاميين التونسيين الذين يتبنون موقف الرئيس من قطبيْ الهوية العربية الإسلامية للشعب التونسي. وربما ينكرون أيضا آثار عامل اللغة في تصدع تلك الهوية كما جاء في البحوث العلمية. يشخص صاحب كتاب العقل العربي Patai 1983 آثار التعليم الثنائي اللغة ( استعمال لغتين كوسيلتيْ تدريس: الازدواجية اللغوية ) في المجتمعات العربية لصالح الفرنسية وثقافتها كما هو الحال في أنظمة التعليم في مجتمعات المغرب العربي على الخصوص. فوجد المؤلف أن التعليم الثنائي اللغة يؤدي عموما إلى الأعراض التالية لدى خريجيه: 1 ـ الانتماء إلى ثقافتين دون القدرة على تعريف الذات بالانتماء الكامل لأي منهما.2 ـ التذبذب المزدوج يتمثل في رغبتهم كسب علاقة حميمة كاملة مع الغرب ومع مجتمعهم في نفس الوقت دون النجاح في أي منهما. 3 ـ يتصف خريجو ذلك التعليم بشخصية منفصمة ناتجة عن معايشة عاملين قويين متعاكسين: الارتباط بالثقافة العربية والانجذاب إلى الثقافة الغربية 4 ـ عداء سافر للاستعمار الفرنسي يقابله ترحيب كبير بلغته وثقافته.