إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

اندونيسيا وطريق النهضة الاقتصادية.. من دولة ناشئة إلى أكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا ورابع سوق استهلاك في العالم

 

- 30 مليار دولار مساهمة السياحة في الناتج المحلي الإجمالي فقط في الربع الأول من سنة 2023

-"بالي" منطلقها.. الاستثمار في تنوع الديانات تجاريا وفنيا وثقافيا

اندونيسيا-الصباح- من مبعوثتنا وفاء بن محمد

 كانت الانطلاقة اقتصادية بامتياز، من العاصمة جاكارتا، في الجولة الاستكشافية التي نظمتها سفارة الجمهورية الاندونيسية بتونس منصف شهر أكتوبر لوفد من الصحفيين التونسيين، الانطلاقة كانت من المعرض التجاري الدولي الاندونيسي الثامن والثلاثين " ترايد اكسبو 38" في مدينة "بي اس دي" تانجيرانج، هذا الفضاء الذي اختصر بكل تفاصيله واقع وحجم اقتصاد اندونيسيا في المشهد العالمي وما حققته من تنمية ونهضة اقتصادية جعلت منها تجربة نموذجية ناجحة تحتذي بها اليوم اغلب دول العالم..

وأنت تتجول في أروقة المعرض التجاري في جاكارتا على مساحة واسعة تتوزع على ثمانية أقسام من المعروضات في العديد من القطاعات الحيوية والاقتصادية، تكتشف من الوهلة الأولى التنوع والثراء الصناعي والتجاري والزراعي والخدماتي، وهي التي تعد دعائم المنظومة الاقتصادية الاندونيسية التي بفضلها نجحت وأصبحت من أقوى اقتصاديات العالم اليوم وهي التي تصنف رابع سوق عالمية..

وفي الحقيقة هذه التظاهرة هي واحدة فقط من بين التظاهرات الاقتصادية الدولية التي تنظمها اندونيسيا بشكل دوري وعلى كامل أشهر السنة باعتبار الحركية الاقتصادية الكبرى التي تتميز بها لتصبح ابرز الدول التي تستقطب رواد المال والأعمال والمستثمرين في أسواق العالم، لتوجه بطريقة سلسلة البوصلة إلى قطاعات أخرى تكتسي أهمية هي الأخرى على غرار السياحة والثقافة والفن وتكتمل بالتالي الأهداف التي وضعتها الدولة الاندونيسية لتحقيق نهضتها الشاملة في ظرف وجيز...

من اقتصاد ناشئ إلى كتلة وازنة في اقتصاديات العالم

وهنا حري بنا أن نقف بالأرقام والإحصائيات التي تؤكد النهضة الاقتصادية التي حققتها اندونيسيا، وهي التي تعد من الاقتصاديات الناشئة ومتوسطة الدخل، لتحتل اليوم المرتبة 16 في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي الاسمي وبالمرتبة السابعة كأكبر اقتصاد في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي بالقدرة الشرائية بقيمة تناهز 1.10 تريليون دولار، بزيادة قدرت بـ 5.17 بالمائة مقارنة بسنة 2022، كما تعد اندونيسيا اكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا وتعد رابع اكبر سوق استهلاك في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين والهند... مع توقعات بان يتخطى اقتصاد الإنترنت لإندونيسيا حاجز 130 مليار دولار بحلول عام 2025.

هذه الدولة التي تزخر باليد العاملة خاصة في جزء هام منها من فئة الشباب من جملة عدد السكان ما يقارب 279 مليون شخص، وهذا ما يجعلها رابع أكبر دولة من حيث التعداد السكاني، وتبلغ مساحة إندونيسيا نحو مليون و919 كيلومتراً، وهي صاحبة أكبر أرخبيل وعدد من الجزر في العالم، حيث تمتلك 17500 جزيرة من بينها 600 جزيرة غير مأهولة بالسكان، وتتميز إندونيسيا بالتعددية الثقافية والدينية والعرقية، إذ يسكن الأرخبيل ما يصل إلى 300 جماعة عرقية ومختلف الديانات، ولكنها تعيش بانسجام بفضل "مبدأ بانكسيلا"، أحد ركائز الدستور الإندونيسي. والملفت للنظر في واقع اقتصاد اندونيسيا، أنها لم تلتجئ إلى الاقتراض الخارجي إلا في حالات محدودة وللضرورة الاقتصادية عند الحاجة وهو ما مثل داعما كبيرا وايجابيا على مستوى زيادة الثقة الدولية في الاقتصاد الاندونيسي ليرتفع بذلك نسق الاستثمارات الخارجية وأصبحت من ابرز الدول الجاذبة للاستثمار ولكبرى الشركات في الأسواق العالمية، كما أعطت اندونيسيا الأولوية في النسيج الاقتصادي للمؤسسات الصغرى والمتوسطة حتى أصبحت اليوم المشروعات الصغيرة والمتوسطة تمثل أكثر من 97% من الاقتصاد الاندونيسي وهو الأمر الذي ساعدها على تحقيق معدلات نمو عاليه ألحقتها بالمجموعات الاقتصادية الكبرى في العالم...

والتوجه الذي اختارته اندونيسيا في السنوات الأخيرة الذي أعطى أكله في وقت وجيز من خلال الأداء الاقتصادي المستقر الذي حافظت عليه رغم الهزات التي مرت بها اقتصاديات العالم على اختلافها واستطاعت إلى جانب الصين والهند ان تكون الدولة الوحيدة في العالم التي حافظت على معدل نمو يناهز 4 في المائة. وبين ثنايا الإحصائيات والأرقام التي تؤكد تبوأ الدولة الاندونيسية مراكز متقدمة في الاقتصاد الآسيوي والعالمي لتحتل المركز الرابع آسيويا والسادس عشر عالميا، تستوقفنا التوجهات التنموية التي انتهجتها اندونيسيا بهدف بسط التقسيم العادل بين مواطنيها ونجحت في تحفيزهم على مزيد العمل والعطاء في مجالات العلم والإنتاج والفن مع المحافظة على كل أسس التعايش السلمي بين الديانات والثقافات التي تزخر بها الدولة الاندونيسية والضاربة في التاريخ....

السياحة والاستثمار في تعدد وتنوع الديانات

وهذا ما وجدناه في مختلف زياراتنا الميدانية التي قمنا بها في ربوع وأقاليم وجزر اندونيسيا في الرحلة الاستكشافية التي نظمتها سفارة الدولة الاندونيسية بتونس لوفد من الصحفيين التونسيين مؤخرا، والتي تتجلى في المعابد والكنائس والجوامع التي تزخر بها اندونيسيا تجسيدا لقيمة التعايش السلمي بين الديانات في المجتمع الاندونيسي الذي يمارس العديد من الديانات، حتى أن الدستور الإندونيسي اعترف بحرية ممارسة الأفراد لدياناتهم، ولكن الحكومة لا تعترف إلا بخمس ديانات وهي السائدة هناك ألا وهي الإسلام، والهندوسية، والبوذية، والمسيحية، والديانة الكونفوشيوسية..

وانطلاقا من جاكرتا وصولا إلى جزيرة بالي، يمكن أن نتذكر قائمة هذه المعابد والمساجد والكنائس والتي على رأسها مسجد الاستقلال، احد اكبر المساجد في جنوب شرق آسيا وأضخمها من حيث البناء وقدرة استيعابه للمصليين التي تصل إلى 200 ألف مصلي ويقع المسجد في ساحة مارديكا بالعاصمة جاكارتا، ومباشرة قبالة المسجد نجد الكنيسة الكاثوليكية، لتتواصل الرحلة بين عدد كبير من المعابد الموزعة على كامل جزيرة بالي تحديدا بين المنطقتين التي مكثنا فيها لستة أيام وهي " اوبود" و "كوتا" أين وجدنا"Taman Ayun"، أحد أجمل المعابد الهندوسية في بالي، ويقع غرب أوبود، على بعد حوالي 17 كم شمال دينباسار، وهو أيضا ثاني أكبر معبد في بالي بعد بيساكيه.

كما نجد "بوجا ماندالا" المجمع الديني الفريد من نوعه يقع في نوسا دوا، بالي، تم بناؤه في عام 1997 وهو موطن لخمسة أماكن عبادة مختلفة تمثل الديانات الخمس الرئيسية في إندونيسيا: الهندوسية والبوذية والكاثوليكية والبروتستانتية والإسلام، وفي نفس الأماكن وسط تعدد الديانات كان لجمال الطبيعة نصيبا من جولتنا الاستكشافية، مع واحدة من المناطق السياحية التي تستقطب سنويا الملايين من السياح من أصقاع العالم وهي "Waterblow" التي تقع تحديدا في جنوب بالي، فضلا عن مزارع الأرز الواسعة التي تتوزع على طول الجزيرة وفي الجبال تعكس الثروة الزراعية الضخمة التي تزخر بها اندونيسيا ...

وهذه الفسيفساء المتنوعة من الديانات والفنون المصاحبة لها ولثقافاتها، نجحت اندونيسيا في استثمارها لصالحها وحققت من خلالها نموا في العديد من القطاعات المرتبطة بها ولعل أبرزها القطاع السياحي الذي حقق تطورا هاما في السنوات الأخيرة لتصبح اليوم اندونيسيا وعلى وجه الخصوص جزيرة بالي الأشهر من بين مناطق العالم والأكثر استقطابا للسياح..

وتشير الإحصائيات الحديثة إلى أن عائدات السياحة في اندونيسيا بلغت 3.25 مليار دولار أمريكي في الربع الثاني من سنة 2023، وبمساهمة تقدر بـ 413.73 تريليون روبية أي ما يعادل الـ 30 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي فقط في الربع الأول من سنة 2023.

وللفن والتراث والثقافة باع في الدولة الاندونيسية اختزلتها المتاحف والحدائق المترامية الأطراف على السهول والجبال وعلى طول سواحل جزيرة بالي التي تعد واحدة من أكثر الوجهات السياحية زيارة من قبل السياح، حيث تتنوع الفنون في إندونيسيا بين النحت والتشكيل والرسم والخرز والسلال وتصميم المنسوجات والفنون البصرية وغيرها، وقد شكلت الثقافات الآسيوية إلى جانب الاتصالات الحديثة مع الغرب وامتزجت مع الذوق الفني والحسي الشعبي ما يعرف بالفن الفن الإندونيسي النادر والفريد من نوعه..

وكان للأثر الفني عمقا كبيرا تجلى في عدد من المواقع التي قمنا بزيارتها من أسواق محلية وحدائق، وعلى رأسها الحديقة الثقافية "Garuda Wisnu Kencana " التي تقع تحديدا في أونغاسان، وهي موطن لتمثال ضخم للإله الهندوسي "فيشنو" يركب على ظهر جارودا، طائر أسطوري يبلغ طوله 121 مترا ...

 ومع كل هذا التنوع والثراء الذي تزخر به اندونيسيا، تواصل الدولة الاندونيسية توسيع كل الاستثمارات في القطاعات التي تحتويها في خطط وبرامج جديدة بهدف مزيد توسيع تواجدها في العالم اقتصاديا وثقافيا من خلال الترفيع في صادراتها إلى العالم واستقطاب أكثر ما يمكن من السياح عبر تحسين قطاع الخدمات بإطلاق خطة حكومية جريئة ومكلفة وهي نقل العاصمة جاكارتا بكل مكوناتها إلى عاصمة جديدة تسمى "نوسانتارا"، والتي تعني "الأرخبيل" باللغة الجاوية، باعتبار أن العاصمة الحالية جاكارتا أصبحت أكثر ازدحاما بالنظر إلى الكثافة السكانية فيها، وأصبحت ملوثة وتغرق بمعدلات تنذر بالخطر بسبب الإفراط في استخراج المياه الجوفية.

لتكون بذلك اندونيسيا الدولة الثالثة في جنوب شرق آسيا التي تنقل عاصمتها، بعد ماليزيا وميانمار مما ستساعد هذه الفكرة إعادة التوطين لتوسيع نشر الأنشطة الاقتصادية خارج جزيرة جاوة الأكثر اكتظاظًا بالسكان، وتضييق فجوة الدخل مع بقية البلاد..

ما بقي في البال

قيمة العمل والتسامح بين الديانات والعطاء غير المشروط والاستغلال المحكم لخيرات الطبيعة والتعويل على فئة الشباب...، من ابرز الميزات التي بقيت في البال بعد العودة من رحلة استكشاف اندونيسيا، دون أن ننسى النهضة الاقتصادية التي وصلت إليها هذه الدولة الناشئة في ظرف وجيز لتضاهي اليوم أقوى اقتصاديات العالم وتفتك مكانها في صفوف الأسواق العالمية المتقدمة، وهو ما يحيلنا إلى أن تبادل التجارب الناجحة تبقى الفكرة الأنجع في الظرف الحالي للاستفادة منها في بلداننا العربية الإسلامية التي مازالت تواجه صعوبات تنموية واقتصادية ثقيلة... واليوم بالفعل يمكن أن نعتبر نهضة اندونيسيا ومنوالها التنموي العادل وتعويلها على الشباب ودعمها للفقراء من ابرز التجارب النموذجية التي يجب أن نقتدي بها في خططنا المستقبلية وبالأخص في ما يتعلق بخطة التبادل التجاري باعتبارها الخطة الأقرب للتفعيل على ارض الواقع في الظرف الراهن، والتي من المنتظر أن تأت أكلها على المدى القصير والمتوسط، لما لا وتونس اليوم تزخر بثروات قيمة يمكن تصديرها إلى السوق الآسياوية عبر اندونيسيا حتى ترتفع صادراتنا المحلية باتجاه أسواق جديدة في قطاعات واعدة وذات قيمة مضافة على غرار التمور والنسيج وزيت الزيتون.. وتحقيق نسب نمو ايجابية في قادم الأيام..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 اندونيسيا وطريق النهضة الاقتصادية..   من دولة ناشئة إلى أكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا ورابع سوق استهلاك في العالم

 

- 30 مليار دولار مساهمة السياحة في الناتج المحلي الإجمالي فقط في الربع الأول من سنة 2023

-"بالي" منطلقها.. الاستثمار في تنوع الديانات تجاريا وفنيا وثقافيا

اندونيسيا-الصباح- من مبعوثتنا وفاء بن محمد

 كانت الانطلاقة اقتصادية بامتياز، من العاصمة جاكارتا، في الجولة الاستكشافية التي نظمتها سفارة الجمهورية الاندونيسية بتونس منصف شهر أكتوبر لوفد من الصحفيين التونسيين، الانطلاقة كانت من المعرض التجاري الدولي الاندونيسي الثامن والثلاثين " ترايد اكسبو 38" في مدينة "بي اس دي" تانجيرانج، هذا الفضاء الذي اختصر بكل تفاصيله واقع وحجم اقتصاد اندونيسيا في المشهد العالمي وما حققته من تنمية ونهضة اقتصادية جعلت منها تجربة نموذجية ناجحة تحتذي بها اليوم اغلب دول العالم..

وأنت تتجول في أروقة المعرض التجاري في جاكارتا على مساحة واسعة تتوزع على ثمانية أقسام من المعروضات في العديد من القطاعات الحيوية والاقتصادية، تكتشف من الوهلة الأولى التنوع والثراء الصناعي والتجاري والزراعي والخدماتي، وهي التي تعد دعائم المنظومة الاقتصادية الاندونيسية التي بفضلها نجحت وأصبحت من أقوى اقتصاديات العالم اليوم وهي التي تصنف رابع سوق عالمية..

وفي الحقيقة هذه التظاهرة هي واحدة فقط من بين التظاهرات الاقتصادية الدولية التي تنظمها اندونيسيا بشكل دوري وعلى كامل أشهر السنة باعتبار الحركية الاقتصادية الكبرى التي تتميز بها لتصبح ابرز الدول التي تستقطب رواد المال والأعمال والمستثمرين في أسواق العالم، لتوجه بطريقة سلسلة البوصلة إلى قطاعات أخرى تكتسي أهمية هي الأخرى على غرار السياحة والثقافة والفن وتكتمل بالتالي الأهداف التي وضعتها الدولة الاندونيسية لتحقيق نهضتها الشاملة في ظرف وجيز...

من اقتصاد ناشئ إلى كتلة وازنة في اقتصاديات العالم

وهنا حري بنا أن نقف بالأرقام والإحصائيات التي تؤكد النهضة الاقتصادية التي حققتها اندونيسيا، وهي التي تعد من الاقتصاديات الناشئة ومتوسطة الدخل، لتحتل اليوم المرتبة 16 في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي الاسمي وبالمرتبة السابعة كأكبر اقتصاد في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي بالقدرة الشرائية بقيمة تناهز 1.10 تريليون دولار، بزيادة قدرت بـ 5.17 بالمائة مقارنة بسنة 2022، كما تعد اندونيسيا اكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا وتعد رابع اكبر سوق استهلاك في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية والصين والهند... مع توقعات بان يتخطى اقتصاد الإنترنت لإندونيسيا حاجز 130 مليار دولار بحلول عام 2025.

هذه الدولة التي تزخر باليد العاملة خاصة في جزء هام منها من فئة الشباب من جملة عدد السكان ما يقارب 279 مليون شخص، وهذا ما يجعلها رابع أكبر دولة من حيث التعداد السكاني، وتبلغ مساحة إندونيسيا نحو مليون و919 كيلومتراً، وهي صاحبة أكبر أرخبيل وعدد من الجزر في العالم، حيث تمتلك 17500 جزيرة من بينها 600 جزيرة غير مأهولة بالسكان، وتتميز إندونيسيا بالتعددية الثقافية والدينية والعرقية، إذ يسكن الأرخبيل ما يصل إلى 300 جماعة عرقية ومختلف الديانات، ولكنها تعيش بانسجام بفضل "مبدأ بانكسيلا"، أحد ركائز الدستور الإندونيسي. والملفت للنظر في واقع اقتصاد اندونيسيا، أنها لم تلتجئ إلى الاقتراض الخارجي إلا في حالات محدودة وللضرورة الاقتصادية عند الحاجة وهو ما مثل داعما كبيرا وايجابيا على مستوى زيادة الثقة الدولية في الاقتصاد الاندونيسي ليرتفع بذلك نسق الاستثمارات الخارجية وأصبحت من ابرز الدول الجاذبة للاستثمار ولكبرى الشركات في الأسواق العالمية، كما أعطت اندونيسيا الأولوية في النسيج الاقتصادي للمؤسسات الصغرى والمتوسطة حتى أصبحت اليوم المشروعات الصغيرة والمتوسطة تمثل أكثر من 97% من الاقتصاد الاندونيسي وهو الأمر الذي ساعدها على تحقيق معدلات نمو عاليه ألحقتها بالمجموعات الاقتصادية الكبرى في العالم...

والتوجه الذي اختارته اندونيسيا في السنوات الأخيرة الذي أعطى أكله في وقت وجيز من خلال الأداء الاقتصادي المستقر الذي حافظت عليه رغم الهزات التي مرت بها اقتصاديات العالم على اختلافها واستطاعت إلى جانب الصين والهند ان تكون الدولة الوحيدة في العالم التي حافظت على معدل نمو يناهز 4 في المائة. وبين ثنايا الإحصائيات والأرقام التي تؤكد تبوأ الدولة الاندونيسية مراكز متقدمة في الاقتصاد الآسيوي والعالمي لتحتل المركز الرابع آسيويا والسادس عشر عالميا، تستوقفنا التوجهات التنموية التي انتهجتها اندونيسيا بهدف بسط التقسيم العادل بين مواطنيها ونجحت في تحفيزهم على مزيد العمل والعطاء في مجالات العلم والإنتاج والفن مع المحافظة على كل أسس التعايش السلمي بين الديانات والثقافات التي تزخر بها الدولة الاندونيسية والضاربة في التاريخ....

السياحة والاستثمار في تعدد وتنوع الديانات

وهذا ما وجدناه في مختلف زياراتنا الميدانية التي قمنا بها في ربوع وأقاليم وجزر اندونيسيا في الرحلة الاستكشافية التي نظمتها سفارة الدولة الاندونيسية بتونس لوفد من الصحفيين التونسيين مؤخرا، والتي تتجلى في المعابد والكنائس والجوامع التي تزخر بها اندونيسيا تجسيدا لقيمة التعايش السلمي بين الديانات في المجتمع الاندونيسي الذي يمارس العديد من الديانات، حتى أن الدستور الإندونيسي اعترف بحرية ممارسة الأفراد لدياناتهم، ولكن الحكومة لا تعترف إلا بخمس ديانات وهي السائدة هناك ألا وهي الإسلام، والهندوسية، والبوذية، والمسيحية، والديانة الكونفوشيوسية..

وانطلاقا من جاكرتا وصولا إلى جزيرة بالي، يمكن أن نتذكر قائمة هذه المعابد والمساجد والكنائس والتي على رأسها مسجد الاستقلال، احد اكبر المساجد في جنوب شرق آسيا وأضخمها من حيث البناء وقدرة استيعابه للمصليين التي تصل إلى 200 ألف مصلي ويقع المسجد في ساحة مارديكا بالعاصمة جاكارتا، ومباشرة قبالة المسجد نجد الكنيسة الكاثوليكية، لتتواصل الرحلة بين عدد كبير من المعابد الموزعة على كامل جزيرة بالي تحديدا بين المنطقتين التي مكثنا فيها لستة أيام وهي " اوبود" و "كوتا" أين وجدنا"Taman Ayun"، أحد أجمل المعابد الهندوسية في بالي، ويقع غرب أوبود، على بعد حوالي 17 كم شمال دينباسار، وهو أيضا ثاني أكبر معبد في بالي بعد بيساكيه.

كما نجد "بوجا ماندالا" المجمع الديني الفريد من نوعه يقع في نوسا دوا، بالي، تم بناؤه في عام 1997 وهو موطن لخمسة أماكن عبادة مختلفة تمثل الديانات الخمس الرئيسية في إندونيسيا: الهندوسية والبوذية والكاثوليكية والبروتستانتية والإسلام، وفي نفس الأماكن وسط تعدد الديانات كان لجمال الطبيعة نصيبا من جولتنا الاستكشافية، مع واحدة من المناطق السياحية التي تستقطب سنويا الملايين من السياح من أصقاع العالم وهي "Waterblow" التي تقع تحديدا في جنوب بالي، فضلا عن مزارع الأرز الواسعة التي تتوزع على طول الجزيرة وفي الجبال تعكس الثروة الزراعية الضخمة التي تزخر بها اندونيسيا ...

وهذه الفسيفساء المتنوعة من الديانات والفنون المصاحبة لها ولثقافاتها، نجحت اندونيسيا في استثمارها لصالحها وحققت من خلالها نموا في العديد من القطاعات المرتبطة بها ولعل أبرزها القطاع السياحي الذي حقق تطورا هاما في السنوات الأخيرة لتصبح اليوم اندونيسيا وعلى وجه الخصوص جزيرة بالي الأشهر من بين مناطق العالم والأكثر استقطابا للسياح..

وتشير الإحصائيات الحديثة إلى أن عائدات السياحة في اندونيسيا بلغت 3.25 مليار دولار أمريكي في الربع الثاني من سنة 2023، وبمساهمة تقدر بـ 413.73 تريليون روبية أي ما يعادل الـ 30 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي فقط في الربع الأول من سنة 2023.

وللفن والتراث والثقافة باع في الدولة الاندونيسية اختزلتها المتاحف والحدائق المترامية الأطراف على السهول والجبال وعلى طول سواحل جزيرة بالي التي تعد واحدة من أكثر الوجهات السياحية زيارة من قبل السياح، حيث تتنوع الفنون في إندونيسيا بين النحت والتشكيل والرسم والخرز والسلال وتصميم المنسوجات والفنون البصرية وغيرها، وقد شكلت الثقافات الآسيوية إلى جانب الاتصالات الحديثة مع الغرب وامتزجت مع الذوق الفني والحسي الشعبي ما يعرف بالفن الفن الإندونيسي النادر والفريد من نوعه..

وكان للأثر الفني عمقا كبيرا تجلى في عدد من المواقع التي قمنا بزيارتها من أسواق محلية وحدائق، وعلى رأسها الحديقة الثقافية "Garuda Wisnu Kencana " التي تقع تحديدا في أونغاسان، وهي موطن لتمثال ضخم للإله الهندوسي "فيشنو" يركب على ظهر جارودا، طائر أسطوري يبلغ طوله 121 مترا ...

 ومع كل هذا التنوع والثراء الذي تزخر به اندونيسيا، تواصل الدولة الاندونيسية توسيع كل الاستثمارات في القطاعات التي تحتويها في خطط وبرامج جديدة بهدف مزيد توسيع تواجدها في العالم اقتصاديا وثقافيا من خلال الترفيع في صادراتها إلى العالم واستقطاب أكثر ما يمكن من السياح عبر تحسين قطاع الخدمات بإطلاق خطة حكومية جريئة ومكلفة وهي نقل العاصمة جاكارتا بكل مكوناتها إلى عاصمة جديدة تسمى "نوسانتارا"، والتي تعني "الأرخبيل" باللغة الجاوية، باعتبار أن العاصمة الحالية جاكارتا أصبحت أكثر ازدحاما بالنظر إلى الكثافة السكانية فيها، وأصبحت ملوثة وتغرق بمعدلات تنذر بالخطر بسبب الإفراط في استخراج المياه الجوفية.

لتكون بذلك اندونيسيا الدولة الثالثة في جنوب شرق آسيا التي تنقل عاصمتها، بعد ماليزيا وميانمار مما ستساعد هذه الفكرة إعادة التوطين لتوسيع نشر الأنشطة الاقتصادية خارج جزيرة جاوة الأكثر اكتظاظًا بالسكان، وتضييق فجوة الدخل مع بقية البلاد..

ما بقي في البال

قيمة العمل والتسامح بين الديانات والعطاء غير المشروط والاستغلال المحكم لخيرات الطبيعة والتعويل على فئة الشباب...، من ابرز الميزات التي بقيت في البال بعد العودة من رحلة استكشاف اندونيسيا، دون أن ننسى النهضة الاقتصادية التي وصلت إليها هذه الدولة الناشئة في ظرف وجيز لتضاهي اليوم أقوى اقتصاديات العالم وتفتك مكانها في صفوف الأسواق العالمية المتقدمة، وهو ما يحيلنا إلى أن تبادل التجارب الناجحة تبقى الفكرة الأنجع في الظرف الحالي للاستفادة منها في بلداننا العربية الإسلامية التي مازالت تواجه صعوبات تنموية واقتصادية ثقيلة... واليوم بالفعل يمكن أن نعتبر نهضة اندونيسيا ومنوالها التنموي العادل وتعويلها على الشباب ودعمها للفقراء من ابرز التجارب النموذجية التي يجب أن نقتدي بها في خططنا المستقبلية وبالأخص في ما يتعلق بخطة التبادل التجاري باعتبارها الخطة الأقرب للتفعيل على ارض الواقع في الظرف الراهن، والتي من المنتظر أن تأت أكلها على المدى القصير والمتوسط، لما لا وتونس اليوم تزخر بثروات قيمة يمكن تصديرها إلى السوق الآسياوية عبر اندونيسيا حتى ترتفع صادراتنا المحلية باتجاه أسواق جديدة في قطاعات واعدة وذات قيمة مضافة على غرار التمور والنسيج وزيت الزيتون.. وتحقيق نسب نمو ايجابية في قادم الأيام..

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews