إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

الكاتب ومدير مهرجان الشعر الدولي بتوزر محمد بوحوش لـ"الصباح": "إن كنت لا تستطيع رفع الظّلم فأخبر عنه الجميع على الأقلّ "،هذا هو دور المثقف العربي اليوم

حوار محسن بن احمد

هادئ الطبع ، دقيق الملاحظة، قليل الكلام ،عميق في بوحه الإبداعي بشتى انواعه قصة كان او رواية او شعرا، رجل الوفاق على الساحة الثقافية والفكرية. هو الشاعر والكاتب الروائي محمد بوحوش المدير الحالي للمهرجان الدولي للشعر بتوزر وصاحب المؤلفات الروائية والقصصية والشعرية التي تغوص في المجتمع بأدق تفاصيله .

محمد بوحوش أيضا رجل المغامرات الإبداعية وهو وراء أكثر من تجربة تطرح إشكاليات وتقدم رؤى جديدة في الكتابة الإبداعية فيها استشراف للمستقبل وبحث عن التفرد وهو يتحدث في هذا الحوار عن الكثير من هواجسه الإبداعية ويكشف البعض من تفاصيل نهجه الإبداعي.

**بعد أكثر من أربعين سنة على تأسيس المهرجان الدولي للشعر بتوزر، أيّ إضافة قدمها للمشهد الثّقافيّ والشّعريّ الوطنيّ والعربيّ ؟

- كان يسمّى مهرجان الشّعر العربيّ الحديث بالجريد أسّسه في بداية الثّمانينات ثلّة من الشّعراء والنّقابيّين منهم سالم عبد المجيد والصّادق شرف ومحمّد لمين الشّريف والشّاذلي السّاكر ومحمّد عمّار شعابنيّة (رحمه اللّه) ومحمّد علي الهاني وأحميده الصّولي وعمران بكيرة وغيرهم.

ثمّ بعد الثّورة بسنة واحدة أقدمتْ مجموعة من الشّباب على تدويل المهرجان وتأسيس جمعيّة له كنت واحدا منهم، وترأّست لسنة واحدة الجمعيّة. لاقى هذا اعتراض عدد هامّ من شعراء الجهة على أساس الاستيلاء على مهرجان عريق وتغيير هويّته. لكن أمام الإصرار والنّجاح، وانفتاح المهرجان خلال دوراته اللّاحقة على الأفق العالميّ استتبّ الوضع. فأصبح المهرجان الدّوليّ للشّعر بتوزر نافذة مفتوحة على العالم. استضاف شعراء ونقّادا من مختلف دول العالم مثل كوبا وفينزويلا والهند وإيران وأمريكا والأرجنتين وباكستان والفيليبيّن ودول البلقان وجميع دول أوروبا وكندا وأمريكا. إضافة إلى استضافات من أغلب الدّول العربيّة. لقد أصبح للمهرجان روّاده من العالم وصار يحظى بسمعة دوليّة وإشعاعا وجاذبيّة.

ودعني أقل إنّ المهرجان الدّوليّ للشّعر بتوزر كان له الأسبقيّة والفضل في تدويل مهرجانات شعريّة تونسيّة أخرى. حتّى انّ الكثير ممّن استضفناهم في توزر عادوا ضيوفا على مهرجانات أخرى. ثمّ لا أمرّ من دون تذكيرك بأنّ المهرجان عرّف باسم توزر ثقافيّا، على الصّعيد العالميّ. هناك مشاريع شعريّة أنجزت في توزر تعدّ بالعشرات من قبل شعراء من أوروبا خاصّة كإيطاليا وكوبا وسويسرا. وأكتفي بأن أعرض مثال الشّاعرة السّويسريّة 'نيكول كوبّي' الّتي صوّرت أغلب قصائدها في بلاد الجريد، ولها أكثر من خمسين عملا شعريّا جلّه أنجز في توزر. مثلما ساهم المهرجان في ترويج توزر سياحيّا والتّعريف بمعالمها وطبيعتها الخلّابة من خلال ما نشر من فيديوهات عنها ومن مقالات صحفيّة. وبذلك أصبح مهرجان توزر قبلة للشّعراء من الوطن العربيّ ومن مختلف دول العالم، بل أحيانا أمنية الشّعراء للمشاركة فيه.

** من وجهة نظرك هل مازالت المهرجانات الشّعريّة ضروريّة للمبدع في تونس وخارجها؟

- أجل: المهرجانات الشّعريّة ما تزال ضروريّة. وهي تقريبا أهمّ ما تبقّى للشّعراء. فوجودها، بعلّاتها، أفضل من عدم وجودها أصلا.

ولها فضل في التّعريف بالمنجز الشّعريّ التّونسيّ داخل تونس وخارجها. أنا أعتبر المهرجانات، على كثرتها، ظاهرة إيجابيّة تدلّ على ديناميكيّة رغم بعض مظاهر التّكرار الّذي يشوبها و"الإخوانيّات".

** ما هي أولويّات المهرجان اليوم؟

-الحقيقة أنّني لا أفكّر إلّا في المشاركات العربيّة والأجنبيّة الّتي ترسّخ الطّابع الدّوليّ للمهرجان، فأقترح على الهيئة المديرة ما يمكن أن أقترحه من أسماء. لأنّني أتعامل مع الهيئة من خارجها بصفة مجانيّة كداعم لها بصفة مدير مهرجان. إذ أنّني غادرت الجمعيّة منذ سنة 2014. وأوضّح أنّ بعض الشّعراء في تونس يوّجهون إليّ رغبتهم في المشاركة معتقدين أنّني صاحب قرار. والحقيقة أنّني أحيل طلباتهم إلى الهيئة المديرة لجمعيّة المهرجان، فهي من تقرّر بناء على إمكانيّاتها المتاحة وعلى تقديرها. إذن أنا لا أفكّر إلّا في الضّيوف العرب والأجانب ولا يعنيني التّمويل وغيره من المسائل. لكنّي أهتمّ أيضا بعنصر التّنظيم. هذا هو دوري بفضل الثّقة الّتي أحظى بها من قبل زملائي داخل الهيئة المديرة وخارجها. علما بأنّني قلّما أقرأ شعرا في المهرجان، ولم أتحصّل مطلقا على أيّ مكافأة ماليّة من جمعيّته، بل إنّني أرفض المكافأة أصلا، وأحيانا أكون أنا من يقدّم المساعدة الماليّة للمهرجان متى حدث خلل مّا أو ظرف قاهر.

**تشكو عديد المهرجانات الشّعريّة والأدبيّة بصفة عامّة من ندرة التّمويل هل مهرجان توزر الدّوليّ للشّعر بمنأى عن هذا الإشكال؟

التّمويل هو فعلا معضلة جميع المهرجانات. أضف إلى ذلك أنّ وزارة الثّقافة ومندوبياتها الجهويّة ومؤسّساتها لم تعد تتبنّى سوى بعض الأنشطة والمهرجانات الدّوليّة الكبرى، وأوكلت للجمعيّات مهمّة القيام بالأنشطة الثّقافيّة منذ الثّورة. لكنّها ضيّقت عليها من حيث التّمويل حيث يتطلّب ذلك ملفّات ووثائق عديدة، ناهيك عن ضرورة أن تكون وضعيّة الجمعيّات مسوّاة مع مكاتب الأداءات. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّه من المجحف أن تكون الجمعيّات كالشّركات مدرجة بالسّجلّ الوطنيّ للمؤسّسات ومنخرطة بالضّمان الاجتماعيّ وتدفع شهريّا مبالغ ماليّة لدى القباضات الماليّة. وبناء على ذلك فإنّه من الضّروريّ مراجعة المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المتعلّق بتنظيم الجمعيّات لتخفيف العبء عن الجمعيّات ومراقبتها وتفويض صلاحيّات لها مقابل عقود إنجاز تظاهرات ثقافيّة محدّدة من قبيل المهرجانات والنّدوات.

بالنّسبة إلى المهرجان الدّوليّ بتوزر فإنّه يعوّل دوما على ما تسنده وزارة الثّقافة والمندوبيّة الجهويّة بتوزر وولاية توزر وأحيانا بلديّتها وما يقدّمه بعض الشّركاء من خدمات. وبالرّغم من ذلك فإنّ الموارد تعدّ شحيحة لاسيّما إذا تعلّق الأمر بالمهرجانات الشّعريّة الوطنيّة أو الدّوليّة.

**توجّه الشّاعر محمّد بوحوش إلى الرّواية أليس في ذلك إعلان عن تقصير الشّعر في التّعبير عمّا يخالجك من تفاعلات مع ما نعيشه من حراك على أكثر من مستوى وطنيّا ودوليّا.

-جئت إلى الرّواية من باب القصّة. إذ أنّني أصدرت مجموعات قصصيّة قبل أن أكتب الرّواية. أمّا عن توجّهي لهذا الجنس الأدبيّ فيمكنني القول إنّ الرّواية تقوم على التّفاصيل و"الثّرثرة". فيما الشّعر يتطلّب التّكثيف وقول الكثير في قليل من الكلمات.

ولمّا كانت لديّ أفكار كثيرة ورسائل ومواضيع تتطلّب الثّرثرة والتّفصيل فقد جنحت إلى كتابة الرّواية. وذلك من باب أنّ الأدب هو رسالة فنيّة أو لا يكون عكس ما قاله أستاذنا محمود المسعديّ من أنّ الأدب مأساة أو لا يكون. فأصدرت خمس روايات أغلبها يندرج في تفكيك البنية العقائديّة، سردا، وفضح ممارسات التّنظيمات الإرهابيّة ومنها تنظيم داعش. فضلا عن سرد ما يتعلقّ بالاغتيالات السّياسيّة في تونس إبّان حكم التّرويكا وما تقوم به أيضا السّلطة السّياسيّة من قمع للفرد وإنتاج للإرهاب والإجرام والانحراف والتّشرّد.

ولا يفوتني القول إنّ الشّعر عاجز عن التّفصيل والتّوضيح والشّرح أمام الرّواية الّتي يمكنها استيعاب ذلك. ثمّ إنّ لكلّ جنس أدبيّ خصوصيّاته. إذ ما يزال الشّعر مثيرا لوجدان النّاس وداعيا إلى القيم الإنسانية النّبيلة ويلقى رواجا حينما ينتمي إلى ما أسمّيه بشعر الحياة. ورغم أنّني أكتب الرّواية والقصّة والقصّة القصيرة جدّا فإنّي أعتبر نفسي شاعرا بالأساس إذ أنّني أصدرت إلى حدّ الآن 15 عملا شعريّا منها ثلاثة أعمال باللّغة الفرنسيّة، وكتابا شعريّا بالأنقليزيّة. وأواصل كتابة الشّعر غير مكترث بالدّعوات والضّجيج. ولعلمك أيضا أنّني لم أدخل يوما بيوت الشّعر في تونس ولا شاركت في أعرق المهرجانات باستثناء تلبية دعوات خارج تونس بالمغرب وسوريا والإمارات وصدور بعض كتبي في فرنسا ومصر والمغرب.

**هل تقرأ ما ينشر من شعر على وسائل التّواصل الاجتماعيّ؟

-أتاحت وسائل التّواصل الاجتماعيّ وغيرها من الوسائط الرّقميّة أن يعبّر جميع النّاس عمّا يعتريهم من مشاغل. لذلك نرى الجميع يوقّع ويدوّن ويكتب أشعارا وخواطر وقصصا وتغريدات ومقالات وهلمّ جرّا... والحقيقة أنّ هذا له وجهان: وجه سيّء قوامها تعويم الجيّد في الرّديء مثلما تعوّم العملة السّيّئة العملة الجيّدة كما هو في قانون 'غريشام'. علاوة على أنّ هذه المواقع تساهم في صناعة النّجوميّة الزّائفة وتغيّب الأدب الجيّد القليل، فيطفو على السّطح الأدب الكثير الرّديء.

أمّا الوجه الآخر فأعتبره إيجابيّا طالما أنّ هناك أناسا يكتبون، وبالتّالي لا بدّ أن يكونوا من جمهور قرّاء الأدب في زمن تقهقرت فيه القراءة. ثمّ هم يعبّرون عمّا يختلج في عقولهم ووجدانهم. وهذا أمر جيّد ومفيد.

** هل مازلنا نعتبر أنّ الشّعر قادر اليوم على مخاطبة وعي الإنسان في عصر الصّورة والأنترنت؟

-الشّعر يعاني من أزمة جمهور ويبدو لي ذلك طبيعيّا أمام زحف الصّورة والأنترنت. والشّعر في تقديريّ يحتاج إلى روافد أخرى.

يحتاج الشّعر في تقديري إلى المزج بينه وبين الفنون الأخرى كالصّورة والفنّ التّشكيليّ والرّسم ومسرحة النّصّ الشّعريّ وتلحينه وغنائه وما إلى ذلك من روافد فنيّة شتّى. وبذلك يستفيد الشّعر من هذه الفنون ويرسّخ وجوده كفنّ أصيل محرّض ومحفّز ومرسّخ للقيم الإنسانيّة النّبيلة

**كيف تتفاعل كمثقّف ما يعيشه حاليّا الفلسطينيّون في قطاع غزّة؟

-في حياتي كلّها أميل إلى الصّمت والفعل بدل الثّرثرة والكلام المجانيّ. من الطّبيعيّ جدّا أن أكون من متابعي الحرب على غزّة. لكنّني أعمل على الفعل بحشد التّضامن الفعليّ مع الشّعب الفلسطينيّ كجمع التبرّعات، والحثّ على تقديم المساعدة سواء من خلال واجبي المهنيّ أو كفرد ينتمي إلى هذا العالم، وينتصر للقضايا العادلة ومنها حقّ الشّعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره كباقي الشّعوب الّتي نالت استقلالها.

أتابع بتأمّل وألم ما يحدث في الأراضي الفلسطينيّة وفي كلّ مرّة أخرج باستنتاجات وأفكار تدعّم في الغالب أفكاري السّابقة عن القضيّة الفلسطينيّة وعن همجيّة النّظام الرّأسماليّ العالميّ.

** ما هو دور المثقّف العربيّ اليوم تجاه حرب الإبادة التي تتعرّض لها غزّة هذه الأيام من الجيش الصّهيونيّ؟

-"إن كنت لا تستطيع رفع الظّلم فأخبر عنه الجميع على الأقلّ"، هذه المقولة تنطبق على المثقّف العربيّ. فأقلّ دور له هو دعم الشّعب الفلسطينيّ بما أتيح له من إمكانيّات ماديّة ونشر الوعي في صفوف النّاس بعدالة القضيّة الفلسطينيّة. أنا على نهج الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين ومبادئها وتقييمها من أنّ العدوّ الرّئيس للشّعوب ومنها الشّعب الفلسطينيّ هو الولايات المتّحدة الأمريكيّة والكيان الصّهيونيّ الّذي زرعوه كبؤرة للاستعمار وتخريب للأوطان العربيّة. فإذا كان لا بدّ من دور للمثّقف العربي فهو تكريس هذا الوعي لدى عامّة النّاس وذلك أضعف الإيمان. ولا بدّ من أن يكون المثقّف العربيّ على وعي تامّ بأنّ الأنظمة العربيّة الّتي تحكمها برجوازيّات طفيليّة ريعيّة لا يرجى منها خيرا، وهي جزء لا يتجزّأ من النّظام الرّأسماليّ العالميّ الجائر. فضلا عن كون المنوال الدّيمقراطيّ الغربيّ بشعاراته من حريّة وحقوق إنسان وديمقراطيّة إنّما هو تظليل وتزييف لوعي الشّعوب بما في ذلك الشّعوب الغربيّة.

لقد كشفت الحرب على غزّة عنصريتهم وكذب إعلامهم، وأنّ ديمقراطيتهم تفتقد لأيّ مضمون اقتصاديّ واجتماعيّ. فهي ديمقراطيّة طبقيّة قائمة على استغلال الإنسان حيثما كان، وعلى الاستعمار والحروب وتدمير كوكب الأرض. حرب غزّة لا بدّ أن ترسّخ وعي المثقّف العربيّ بأنّ الفرز أصبح واضحا بين يمين استعماريّ عنصريّ ببنوكه العالميّة ومنظّماته الدّوليّة وجمعيّاته الإنسانيّة وبين قوى اليسار وما تبقّى من رائحة اليسار في بعض البلدان وبعض الأنظمة الوطنيّة في أمريكا اللاتينيّة وأفريقيا خاصّة وهو المحور النّاهض والمعادي للهيمنة والدّاعي إلى حقّ الشّعوب في تقرير مصيرها.

**لو طلبت منك أن تحدّثني عن توزر. ماذا تقول؟

-توزر من الجهات الّتي تحظى بجمال وبموارد طبيعيّة كثيرة يمكن أن تجعل منها جنّة وقطبا اقتصاديّا. ففيها الشّمس والرّياح والرّمال والشطّ والجبال والصّحراء والسّدود والواحات والفوسفاط وفيها تراث حضاريّ ثمين ومعالم ثقافيّة وسياحيّة مبهرة.

لو استغلّت هذه الموارد لكانت توزر قطبا تنمويّا وعالميّا. ومقابل ذلك تراجعت توزر ثقافيّا واقتصاديّا وعلى جميع الأصعدة تقريبا.

ولا بدّ أن أشير هنا إلى أنّي قد طرحت في السّنة الفارطة بمعيّة الأديب المغربي عبد اللّه المتّقي مشروعا ثقافيّا موسوما بـ «مؤسّسة الشّابيّ"ّ الّتي يمكنها أن تقدّم الإضافة والإشعاع وطنيّا ودوليّا على غرار مؤسّسة محمود درويش في رام اللّه. لذلك فإنّ توزر تحتاج إلى مشاريع كبيرة لتنهض، ويكفي أن تكون قطبا للطّاقات المتجدّدة وللسيّاحة الصّحراويّة والايكولوجيّة والزّراعات البيولوجيّة وعاصمة ثقافيّة.

 

 

 

 

 

 

الكاتب ومدير مهرجان الشعر الدولي بتوزر محمد بوحوش لـ"الصباح":  "إن كنت لا تستطيع رفع الظّلم فأخبر عنه الجميع على الأقلّ "،هذا هو دور المثقف العربي اليوم

حوار محسن بن احمد

هادئ الطبع ، دقيق الملاحظة، قليل الكلام ،عميق في بوحه الإبداعي بشتى انواعه قصة كان او رواية او شعرا، رجل الوفاق على الساحة الثقافية والفكرية. هو الشاعر والكاتب الروائي محمد بوحوش المدير الحالي للمهرجان الدولي للشعر بتوزر وصاحب المؤلفات الروائية والقصصية والشعرية التي تغوص في المجتمع بأدق تفاصيله .

محمد بوحوش أيضا رجل المغامرات الإبداعية وهو وراء أكثر من تجربة تطرح إشكاليات وتقدم رؤى جديدة في الكتابة الإبداعية فيها استشراف للمستقبل وبحث عن التفرد وهو يتحدث في هذا الحوار عن الكثير من هواجسه الإبداعية ويكشف البعض من تفاصيل نهجه الإبداعي.

**بعد أكثر من أربعين سنة على تأسيس المهرجان الدولي للشعر بتوزر، أيّ إضافة قدمها للمشهد الثّقافيّ والشّعريّ الوطنيّ والعربيّ ؟

- كان يسمّى مهرجان الشّعر العربيّ الحديث بالجريد أسّسه في بداية الثّمانينات ثلّة من الشّعراء والنّقابيّين منهم سالم عبد المجيد والصّادق شرف ومحمّد لمين الشّريف والشّاذلي السّاكر ومحمّد عمّار شعابنيّة (رحمه اللّه) ومحمّد علي الهاني وأحميده الصّولي وعمران بكيرة وغيرهم.

ثمّ بعد الثّورة بسنة واحدة أقدمتْ مجموعة من الشّباب على تدويل المهرجان وتأسيس جمعيّة له كنت واحدا منهم، وترأّست لسنة واحدة الجمعيّة. لاقى هذا اعتراض عدد هامّ من شعراء الجهة على أساس الاستيلاء على مهرجان عريق وتغيير هويّته. لكن أمام الإصرار والنّجاح، وانفتاح المهرجان خلال دوراته اللّاحقة على الأفق العالميّ استتبّ الوضع. فأصبح المهرجان الدّوليّ للشّعر بتوزر نافذة مفتوحة على العالم. استضاف شعراء ونقّادا من مختلف دول العالم مثل كوبا وفينزويلا والهند وإيران وأمريكا والأرجنتين وباكستان والفيليبيّن ودول البلقان وجميع دول أوروبا وكندا وأمريكا. إضافة إلى استضافات من أغلب الدّول العربيّة. لقد أصبح للمهرجان روّاده من العالم وصار يحظى بسمعة دوليّة وإشعاعا وجاذبيّة.

ودعني أقل إنّ المهرجان الدّوليّ للشّعر بتوزر كان له الأسبقيّة والفضل في تدويل مهرجانات شعريّة تونسيّة أخرى. حتّى انّ الكثير ممّن استضفناهم في توزر عادوا ضيوفا على مهرجانات أخرى. ثمّ لا أمرّ من دون تذكيرك بأنّ المهرجان عرّف باسم توزر ثقافيّا، على الصّعيد العالميّ. هناك مشاريع شعريّة أنجزت في توزر تعدّ بالعشرات من قبل شعراء من أوروبا خاصّة كإيطاليا وكوبا وسويسرا. وأكتفي بأن أعرض مثال الشّاعرة السّويسريّة 'نيكول كوبّي' الّتي صوّرت أغلب قصائدها في بلاد الجريد، ولها أكثر من خمسين عملا شعريّا جلّه أنجز في توزر. مثلما ساهم المهرجان في ترويج توزر سياحيّا والتّعريف بمعالمها وطبيعتها الخلّابة من خلال ما نشر من فيديوهات عنها ومن مقالات صحفيّة. وبذلك أصبح مهرجان توزر قبلة للشّعراء من الوطن العربيّ ومن مختلف دول العالم، بل أحيانا أمنية الشّعراء للمشاركة فيه.

** من وجهة نظرك هل مازالت المهرجانات الشّعريّة ضروريّة للمبدع في تونس وخارجها؟

- أجل: المهرجانات الشّعريّة ما تزال ضروريّة. وهي تقريبا أهمّ ما تبقّى للشّعراء. فوجودها، بعلّاتها، أفضل من عدم وجودها أصلا.

ولها فضل في التّعريف بالمنجز الشّعريّ التّونسيّ داخل تونس وخارجها. أنا أعتبر المهرجانات، على كثرتها، ظاهرة إيجابيّة تدلّ على ديناميكيّة رغم بعض مظاهر التّكرار الّذي يشوبها و"الإخوانيّات".

** ما هي أولويّات المهرجان اليوم؟

-الحقيقة أنّني لا أفكّر إلّا في المشاركات العربيّة والأجنبيّة الّتي ترسّخ الطّابع الدّوليّ للمهرجان، فأقترح على الهيئة المديرة ما يمكن أن أقترحه من أسماء. لأنّني أتعامل مع الهيئة من خارجها بصفة مجانيّة كداعم لها بصفة مدير مهرجان. إذ أنّني غادرت الجمعيّة منذ سنة 2014. وأوضّح أنّ بعض الشّعراء في تونس يوّجهون إليّ رغبتهم في المشاركة معتقدين أنّني صاحب قرار. والحقيقة أنّني أحيل طلباتهم إلى الهيئة المديرة لجمعيّة المهرجان، فهي من تقرّر بناء على إمكانيّاتها المتاحة وعلى تقديرها. إذن أنا لا أفكّر إلّا في الضّيوف العرب والأجانب ولا يعنيني التّمويل وغيره من المسائل. لكنّي أهتمّ أيضا بعنصر التّنظيم. هذا هو دوري بفضل الثّقة الّتي أحظى بها من قبل زملائي داخل الهيئة المديرة وخارجها. علما بأنّني قلّما أقرأ شعرا في المهرجان، ولم أتحصّل مطلقا على أيّ مكافأة ماليّة من جمعيّته، بل إنّني أرفض المكافأة أصلا، وأحيانا أكون أنا من يقدّم المساعدة الماليّة للمهرجان متى حدث خلل مّا أو ظرف قاهر.

**تشكو عديد المهرجانات الشّعريّة والأدبيّة بصفة عامّة من ندرة التّمويل هل مهرجان توزر الدّوليّ للشّعر بمنأى عن هذا الإشكال؟

التّمويل هو فعلا معضلة جميع المهرجانات. أضف إلى ذلك أنّ وزارة الثّقافة ومندوبياتها الجهويّة ومؤسّساتها لم تعد تتبنّى سوى بعض الأنشطة والمهرجانات الدّوليّة الكبرى، وأوكلت للجمعيّات مهمّة القيام بالأنشطة الثّقافيّة منذ الثّورة. لكنّها ضيّقت عليها من حيث التّمويل حيث يتطلّب ذلك ملفّات ووثائق عديدة، ناهيك عن ضرورة أن تكون وضعيّة الجمعيّات مسوّاة مع مكاتب الأداءات. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّه من المجحف أن تكون الجمعيّات كالشّركات مدرجة بالسّجلّ الوطنيّ للمؤسّسات ومنخرطة بالضّمان الاجتماعيّ وتدفع شهريّا مبالغ ماليّة لدى القباضات الماليّة. وبناء على ذلك فإنّه من الضّروريّ مراجعة المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المتعلّق بتنظيم الجمعيّات لتخفيف العبء عن الجمعيّات ومراقبتها وتفويض صلاحيّات لها مقابل عقود إنجاز تظاهرات ثقافيّة محدّدة من قبيل المهرجانات والنّدوات.

بالنّسبة إلى المهرجان الدّوليّ بتوزر فإنّه يعوّل دوما على ما تسنده وزارة الثّقافة والمندوبيّة الجهويّة بتوزر وولاية توزر وأحيانا بلديّتها وما يقدّمه بعض الشّركاء من خدمات. وبالرّغم من ذلك فإنّ الموارد تعدّ شحيحة لاسيّما إذا تعلّق الأمر بالمهرجانات الشّعريّة الوطنيّة أو الدّوليّة.

**توجّه الشّاعر محمّد بوحوش إلى الرّواية أليس في ذلك إعلان عن تقصير الشّعر في التّعبير عمّا يخالجك من تفاعلات مع ما نعيشه من حراك على أكثر من مستوى وطنيّا ودوليّا.

-جئت إلى الرّواية من باب القصّة. إذ أنّني أصدرت مجموعات قصصيّة قبل أن أكتب الرّواية. أمّا عن توجّهي لهذا الجنس الأدبيّ فيمكنني القول إنّ الرّواية تقوم على التّفاصيل و"الثّرثرة". فيما الشّعر يتطلّب التّكثيف وقول الكثير في قليل من الكلمات.

ولمّا كانت لديّ أفكار كثيرة ورسائل ومواضيع تتطلّب الثّرثرة والتّفصيل فقد جنحت إلى كتابة الرّواية. وذلك من باب أنّ الأدب هو رسالة فنيّة أو لا يكون عكس ما قاله أستاذنا محمود المسعديّ من أنّ الأدب مأساة أو لا يكون. فأصدرت خمس روايات أغلبها يندرج في تفكيك البنية العقائديّة، سردا، وفضح ممارسات التّنظيمات الإرهابيّة ومنها تنظيم داعش. فضلا عن سرد ما يتعلقّ بالاغتيالات السّياسيّة في تونس إبّان حكم التّرويكا وما تقوم به أيضا السّلطة السّياسيّة من قمع للفرد وإنتاج للإرهاب والإجرام والانحراف والتّشرّد.

ولا يفوتني القول إنّ الشّعر عاجز عن التّفصيل والتّوضيح والشّرح أمام الرّواية الّتي يمكنها استيعاب ذلك. ثمّ إنّ لكلّ جنس أدبيّ خصوصيّاته. إذ ما يزال الشّعر مثيرا لوجدان النّاس وداعيا إلى القيم الإنسانية النّبيلة ويلقى رواجا حينما ينتمي إلى ما أسمّيه بشعر الحياة. ورغم أنّني أكتب الرّواية والقصّة والقصّة القصيرة جدّا فإنّي أعتبر نفسي شاعرا بالأساس إذ أنّني أصدرت إلى حدّ الآن 15 عملا شعريّا منها ثلاثة أعمال باللّغة الفرنسيّة، وكتابا شعريّا بالأنقليزيّة. وأواصل كتابة الشّعر غير مكترث بالدّعوات والضّجيج. ولعلمك أيضا أنّني لم أدخل يوما بيوت الشّعر في تونس ولا شاركت في أعرق المهرجانات باستثناء تلبية دعوات خارج تونس بالمغرب وسوريا والإمارات وصدور بعض كتبي في فرنسا ومصر والمغرب.

**هل تقرأ ما ينشر من شعر على وسائل التّواصل الاجتماعيّ؟

-أتاحت وسائل التّواصل الاجتماعيّ وغيرها من الوسائط الرّقميّة أن يعبّر جميع النّاس عمّا يعتريهم من مشاغل. لذلك نرى الجميع يوقّع ويدوّن ويكتب أشعارا وخواطر وقصصا وتغريدات ومقالات وهلمّ جرّا... والحقيقة أنّ هذا له وجهان: وجه سيّء قوامها تعويم الجيّد في الرّديء مثلما تعوّم العملة السّيّئة العملة الجيّدة كما هو في قانون 'غريشام'. علاوة على أنّ هذه المواقع تساهم في صناعة النّجوميّة الزّائفة وتغيّب الأدب الجيّد القليل، فيطفو على السّطح الأدب الكثير الرّديء.

أمّا الوجه الآخر فأعتبره إيجابيّا طالما أنّ هناك أناسا يكتبون، وبالتّالي لا بدّ أن يكونوا من جمهور قرّاء الأدب في زمن تقهقرت فيه القراءة. ثمّ هم يعبّرون عمّا يختلج في عقولهم ووجدانهم. وهذا أمر جيّد ومفيد.

** هل مازلنا نعتبر أنّ الشّعر قادر اليوم على مخاطبة وعي الإنسان في عصر الصّورة والأنترنت؟

-الشّعر يعاني من أزمة جمهور ويبدو لي ذلك طبيعيّا أمام زحف الصّورة والأنترنت. والشّعر في تقديريّ يحتاج إلى روافد أخرى.

يحتاج الشّعر في تقديري إلى المزج بينه وبين الفنون الأخرى كالصّورة والفنّ التّشكيليّ والرّسم ومسرحة النّصّ الشّعريّ وتلحينه وغنائه وما إلى ذلك من روافد فنيّة شتّى. وبذلك يستفيد الشّعر من هذه الفنون ويرسّخ وجوده كفنّ أصيل محرّض ومحفّز ومرسّخ للقيم الإنسانيّة النّبيلة

**كيف تتفاعل كمثقّف ما يعيشه حاليّا الفلسطينيّون في قطاع غزّة؟

-في حياتي كلّها أميل إلى الصّمت والفعل بدل الثّرثرة والكلام المجانيّ. من الطّبيعيّ جدّا أن أكون من متابعي الحرب على غزّة. لكنّني أعمل على الفعل بحشد التّضامن الفعليّ مع الشّعب الفلسطينيّ كجمع التبرّعات، والحثّ على تقديم المساعدة سواء من خلال واجبي المهنيّ أو كفرد ينتمي إلى هذا العالم، وينتصر للقضايا العادلة ومنها حقّ الشّعب الفلسطينيّ في تقرير مصيره كباقي الشّعوب الّتي نالت استقلالها.

أتابع بتأمّل وألم ما يحدث في الأراضي الفلسطينيّة وفي كلّ مرّة أخرج باستنتاجات وأفكار تدعّم في الغالب أفكاري السّابقة عن القضيّة الفلسطينيّة وعن همجيّة النّظام الرّأسماليّ العالميّ.

** ما هو دور المثقّف العربيّ اليوم تجاه حرب الإبادة التي تتعرّض لها غزّة هذه الأيام من الجيش الصّهيونيّ؟

-"إن كنت لا تستطيع رفع الظّلم فأخبر عنه الجميع على الأقلّ"، هذه المقولة تنطبق على المثقّف العربيّ. فأقلّ دور له هو دعم الشّعب الفلسطينيّ بما أتيح له من إمكانيّات ماديّة ونشر الوعي في صفوف النّاس بعدالة القضيّة الفلسطينيّة. أنا على نهج الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين ومبادئها وتقييمها من أنّ العدوّ الرّئيس للشّعوب ومنها الشّعب الفلسطينيّ هو الولايات المتّحدة الأمريكيّة والكيان الصّهيونيّ الّذي زرعوه كبؤرة للاستعمار وتخريب للأوطان العربيّة. فإذا كان لا بدّ من دور للمثّقف العربي فهو تكريس هذا الوعي لدى عامّة النّاس وذلك أضعف الإيمان. ولا بدّ من أن يكون المثقّف العربيّ على وعي تامّ بأنّ الأنظمة العربيّة الّتي تحكمها برجوازيّات طفيليّة ريعيّة لا يرجى منها خيرا، وهي جزء لا يتجزّأ من النّظام الرّأسماليّ العالميّ الجائر. فضلا عن كون المنوال الدّيمقراطيّ الغربيّ بشعاراته من حريّة وحقوق إنسان وديمقراطيّة إنّما هو تظليل وتزييف لوعي الشّعوب بما في ذلك الشّعوب الغربيّة.

لقد كشفت الحرب على غزّة عنصريتهم وكذب إعلامهم، وأنّ ديمقراطيتهم تفتقد لأيّ مضمون اقتصاديّ واجتماعيّ. فهي ديمقراطيّة طبقيّة قائمة على استغلال الإنسان حيثما كان، وعلى الاستعمار والحروب وتدمير كوكب الأرض. حرب غزّة لا بدّ أن ترسّخ وعي المثقّف العربيّ بأنّ الفرز أصبح واضحا بين يمين استعماريّ عنصريّ ببنوكه العالميّة ومنظّماته الدّوليّة وجمعيّاته الإنسانيّة وبين قوى اليسار وما تبقّى من رائحة اليسار في بعض البلدان وبعض الأنظمة الوطنيّة في أمريكا اللاتينيّة وأفريقيا خاصّة وهو المحور النّاهض والمعادي للهيمنة والدّاعي إلى حقّ الشّعوب في تقرير مصيرها.

**لو طلبت منك أن تحدّثني عن توزر. ماذا تقول؟

-توزر من الجهات الّتي تحظى بجمال وبموارد طبيعيّة كثيرة يمكن أن تجعل منها جنّة وقطبا اقتصاديّا. ففيها الشّمس والرّياح والرّمال والشطّ والجبال والصّحراء والسّدود والواحات والفوسفاط وفيها تراث حضاريّ ثمين ومعالم ثقافيّة وسياحيّة مبهرة.

لو استغلّت هذه الموارد لكانت توزر قطبا تنمويّا وعالميّا. ومقابل ذلك تراجعت توزر ثقافيّا واقتصاديّا وعلى جميع الأصعدة تقريبا.

ولا بدّ أن أشير هنا إلى أنّي قد طرحت في السّنة الفارطة بمعيّة الأديب المغربي عبد اللّه المتّقي مشروعا ثقافيّا موسوما بـ «مؤسّسة الشّابيّ"ّ الّتي يمكنها أن تقدّم الإضافة والإشعاع وطنيّا ودوليّا على غرار مؤسّسة محمود درويش في رام اللّه. لذلك فإنّ توزر تحتاج إلى مشاريع كبيرة لتنهض، ويكفي أن تكون قطبا للطّاقات المتجدّدة وللسيّاحة الصّحراويّة والايكولوجيّة والزّراعات البيولوجيّة وعاصمة ثقافيّة.

 

 

 

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews