إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

بعد عشر سنوات من انطلاقها: التعاون الصيني العربي في نطاق مبادرة ”الحزام والطريق” : ثلاثة مقترحات من اجل شراكة فعالة وعادلة

 

بقلم: أ/د كريم بن كحلة

تحتفل مبادرة «الحزام والطريق» الصينية خلال شهر أكتوبر الحالي بمرور عشر سنوات منذ انطلاقها.

وتضم هذه المبادرة إلى حد اليوم اكثر من 150 بلدا و30 منظمة دولية ساهمت مع الصين في انجاز أكثر من 3000 مشروع تعاون ضخم في جميع أنحاء العالم بحجم استثمارات فاق الألف مليار دولار.

وتهدف هذه المبادرة إلى بناء منصة للتعاون الدُّوَليّ المربح للجميع تكون بمنزلة "المنفعة العامة الكونية المشتركة" والمحرك الأساسي "للتنمية الخضراء" في العالم . كما تطمح هذه المبادرة إلى تطوير البنية التحتية في العديد من بلدان افريقيا و"الجنوب الشامل" (Global South) والربط بين هذه البلدان على مستوى التجهيزات وكذلك على مستوى العامل البشرى والشعوب. وقد قدمتها الصين كأهم مبادرة اقتصاديه في القرن 21 بينما يقارنها البعض بمخطط مارشال الذي مكن الولايات المتحدة وأوروبا من اعادة بناء اقتصاداتها بعد الحرب العالمية الثانية.

امتدادا لتجرِبة طويلة في التعاون الناجح مع الصين، اختارت تونس ان تنظم إلى هذه المبادرة وان توقع مذكرة التفاهم المتعلقة بها. ولكن ورغم الفرص - وكذلك بعض المخاطر- التي ترتبط بهذا الانضمام فان تونس لم تطرح تصورا واضح يمكنها من التموقع الناجع (الاستراتيجي) داخل هذا المشروع والاستفادة المباشرة وغير المباشرة من الاستثمارات وكذلك التحولات التي ترافقه.

فعلى سبيل المثال وبعد ان لمحت سلطات البلاد بالقول إنها مهتمة بالانضمام إلى مجموعة البريكس لم تتخذ أي اجراء عملي ولم تفصح على قرارات أو حتى تصورات عمليّة تتجاوز حسن النوايا والخطابات العامة.

علاوة على ذلك، ورغم ان الصين الشعبية تلعب دورا محوريًا في هذا التكتل العالمي الجديد، فإن مجموعة البريكس لا تقتصر على هذا العملاق الاقتصادي الذي لا يزال يعد نفسه من بين الدول النامية.

ويبقى السؤال قائمًا : كيف يمكن لبلد في حجم تونس ان يستفيد بشكل أفضل من طريق الحرير؟ وهل يمكن له - وهذا هو السؤال الأصعب وربما الأهم - المساهمة بقدر ما في بناء هذه الطريق وفي إنجاحها أو حتى في التأثير على "قواعد اللعبة" التي ستبرز وستتغير تدريجيًا مع تطور العلاقات الاقتصادية حول هذه الطريق ومع تبلور موازنات جيوستراتيجية جديدة ستحكم العالم في هذا القرن؟

 ستطرح هذه الورقة ثلاث أفكار أساسيّة تهم شروط التعاون في بناء " الحزام والطريق" مع العالم العربي عامة ومع تونس خاصة .تتعلّق الفكرة الأولى بضرورة أن ترتكز الريادة العالمية الجديدة (The New Global Leadership) التي يساهم فيها مشروع الحزام والطريق على مفهوم المسؤولية وليس فقط المصلحة.

وتتوقف النقطة الثانية على ضرورة إصلاح الحوكمة(Governance) في بعض البلدان العربيّة دون أن يقتصر هذا المفهوم على المقاربة الغربية

وتقترح النقطة الثالثة فكره الانتقال من براديغم “الطريق” (طريق الحرير) الى براديغم “شبكات الحرير (paradigmshift)”وهذا ما يمكن ان يعطي دورا محوريا لدوله مثل تونس.

I- الصين الشعبية والريادة العالميّة الجديدة: من المصالح إلى المسؤوليات

في نظري واستنادًا إلى العديد من الدلائل المتوفّرة فإن الصين الشعبية سائرة نحو الارتقاء إلى مرتبة القوة الاقتصادية الأولى في العالم وهى بذلك ستتمكن من تحقيق طموحاتها المشروعة التي يمكن الاطلاع عليها مثلا في الكتاب الأبيض للدفاع٠

ولكنني اعتقد ان هذه الريادة أو القيادة العالمية الجديدة (New Global Leadership) يجب أن تختلف عن القيادات التي سبقتها لاسيما في القرن الماضى٠

فخلافًا للقرن العشرين فإن الرّيادة في القرن 21 تقتضي عدم الاقتصار على معطى المصالح الاقتصادية او السياسيّة وتجاوزها ولبلوغ مستوى المسؤوليّة

وتكتسي هذه القيادة القائمة على المسؤولية أهمية كبرى نظرا لما عانته شعوب العالم من عواقب القيادة الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية التي لم تكترث بالقيم الأخلاقيّة لتلك الشعوب أو التي اعتمدت الخلط بين هذه القيم الاخلاقية والهيمنة الثقافية والمصالح السياسية.

كما أن هذا البعد القيمي والأخلاقي للقيادة القائمة على المسؤولية اصبح ضروريّ نظرًا لتشعب الاشكاليات والمخاطر الناتجة عن التحولات العالمية في بداية هذا القرن (خاصة في الجانب التكنولوجي والإيكولوجي) والتي تخلق المزيد من الفوارق بين البلدان وداخلها.

على أن هذه الريادة القائمة على المسؤوليّة تقتضي تصور آخر لمصلحة مشتركة بين كل البشر و لحقوق الإنسان وللعلاقات الدوليّة ولفض النزاعات والتآزر العالمي.

كما تتطلب ان لا نتوقف على من سيتحكم في الرأسمالية العالمية الجديدة، بل ان نفكر في وسائل هذا التحكم وفي نوع الرأسمالية المرجوة وكذلك فرص النجاح والتعريف بفكرة “الحضارة البيئية” التي اعتمدتها الصين الشعبية في دستورها والتي ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالزعامة الصينية على كل قطاعات الاقتصاد الأخضر والتحول الايكولوجي الذي يعتبر اهم تحدّ لهذا القرن.

 II-العالم العربي: من أجل حوكمة ومفهوم حوكمة جديدان

يجب التذكير أن مفهوم العالم العربي ينطوي على خاصيات اقتصاديه وسياسيه جِدّ متباينة وإن انخراط البلدان المنتجة للنفط في مشروع الحزام والطريق يعتمد على موارد ودوافع لا تتوفر في البلدان العربيّة الأخرى.

ثم ان هذه الاختلافات والتباينات تعد من أهم معوقات التعاون بين دولة الصين الشعبية والعالم العربي كوحدة مفترضة بل وبين الدول العربيّة نفسها.

وفى كل الحالات وحتى ينجح التعاون في نطاق هذا المشروع الضخم وجب تفادى بعض المنزلقات التي يمكن تلخيصها في عشرة نقاط اساسية:

1. ضرورة التحكم في المديونية في بلدان العالم العربي وعدم التسرع في اطلاق استثمارات ضخمة تكاد تكون استعراضية في البنية التحتية، دون التحقق من ربحية المشروعات على المدى المتوسط والطويل

2. إضفاء أكثر شفافية على المشروعات والبرامج والاتفاقيات المبرمة من طرف الدول العربية

3. التحقق من استدامة المشروعات وتأثيرها على استدامة النمو

4. الحرص على نقل التكنولوجيا والمعرفة حتى تستفيد المجتمعات والاقتصاديات العربية من انخراطها في هذا المشروع الضخم

5. الحرص على بروز فاعلين اقتصاديين عرب أكفاء وقادرين على التعامل بنوع من الندية مع المؤسسات الصينيّة

6. الحرص على تفادي مخاطر التنمية الغير متوازنة وغير الدامجة كأن تعمق المشروعات الكبرى الفوارق الجهوية والاجتماعيّة او ان تهدد التوازنات المالية والاقتصادية والاجتماعية والايكولوجية.

7. تفادي التعطيلات البيروقراطية وتحسين مناخ الأعمال بصفة عامة

8. التصدي للوبيات ورفع الحواجز للاستثمارات الكبرى مثل تلك التي تتعلق بقوانين الشغل والصفقات العمومية الدولية وقوانين المناطق الحرة من الاداءات

9. تغيير نموذج التنمية للخروج من الرَّيْع المرتبط بالموارد النفطية أو بالسياسات الحمائية والقطاعية للدولة

10. صياغة مشروعات كبرى في نطاق تصور للاندماج الاقتصادي بين البلدان العربيّة وتفادى تكرار نفس المشاريع التي تنافس بعضها البعض

كل هذه الشروط تحيلنا إلى مسألة الحوكمة٠ حوكمة البلدان العربية ولكن أيضا ما يسمى بحوكمة التكتلات والمنظمات العربية .

غير أنه وفي ظل مشروع الحزام والطريق لا ينبغي استخدام هذه التحديات المتعلقة بالحوكمة كأداة لفرض خيارات معينة على هذه البلدان كما لا ينبغي أن تقتصر الحوكمة على النموذج الغربي الذي تتداوله بعض المؤسسات المالية العالميّة الغربيّة٠

 ولعل فضيحة التلاعب بنتائج تقارير مناخ الأعمال (Doing business) التي كان يستعملها البنك الدولي والعديد من المؤسسات الآخري كمقياس للحوكمة احسن دليل على الحاجة لمراجعة جذرية لمفهوم الحوكمة المتداول في الغرب والمسقط على بلدان "الجنوب الكبير".

III- تونس وبناء " الحزام والطريق " : من براديغم الطريق إلى براديغم الشبكة

على الرغْم من انخراطها في مشروع الحزام والطريق ورغم أن هذا الانخراط مكّن تونس من تحقيق العديد من المشروعات الهامّة التي لاقت استحسانا كبيرًا لدى المواطنين ورغم أن تونس كانت من أهم محطات إحدى طرق الحرير القديمة التي كانت تعبر البلاد نحو الجزائر والمغرب ودول جنوب الصحراء، فإن مشاركة وتموقع تونس في الطريق الجديدة قابل للتحسين بصفة كبيرة.

فتونس اليوم تعد من أهم البلدان العربية في جانب قيمة رأس مالها البشري وهى فاعل محوري في الحفاظ على استقرار أوروبا بالحد من الهجرة غير الشرعيّة من جنوب الصحراء الأفريقية.

كما أن تونس تعد إحدى بلدان إعادة تموقع العديد من الشركات التي قررت الاقتراب من أسواقها بعد أزمة الكوفيد.

 فعلى سبيل المثال يمكن لتونس أن تكون منصة لشركات صينية في ميدان النسيج والملابس التي تريد الاقتراب من السوق الأوروبية خاصة في إنتاج مرن لسلاسل قصيرة.

لكن دور تونس في مشروع الحزام والطريق يمكن ان يأخذ منحى آخر في صورة المرور من القيادة حسب المصالح إلى القيادة حسب المسؤوليات وبالخصوص إذا وقع اعتماد نموذج الشبكة عوضا عن نموذج الطريق لتصور علاقات الصين ببقية العالم.

فإذا افترضنا او قبلنا مبدأ ان العالم الحالي يقتضي المرور من البراديغم القديم للطريق إلى البراديغم العصري وما بعد الحداثي للشبكات كتمثل للعلاقات لا فقط الاقتصادية بل الحضارية بين الدول , تصبح تونس التي كانت عبر الأزمان واحدة من أهم نقاط التقاطع و "ملتقى للحضارات" احد اهم العقد او”الغرز”(node) الإنسانية لشبكات الحرير الجديدة وليس فقط محطة اقتصادية في طريق عابرة.

وإذ كان القائد القرطاجي حنبعل يقول عند تقدمه نحو رومَا عبر جبال الألب منذ قرابة 2300 سنة " إن لم نجد طريقًا فسنبني طريق" نحن نقول "ان لم نجد شبكة فسنبنى وننسج شبكة للحرير" تكون تونس لا محالة وبصفة تكاد تكون طبيعيّة أحد اهم نِقَاط تقاطعاتها٠.

إن النظر والتفكير في تموقع استراتيجي واكثر نجاعة لتونس في مبادرة "الطريق والحزام" وتطوير علاقاتها بالصين الشعبية لتبلغ مستويات مهمة تخدم مصالح البلدين في الارتقاء إلى مرتبة البلدان المتقدمة لا يتعارض مع علاقات تونس بشركائها وحلفائها التقليديين.

بل ان المزايا والمنافع التي يمكن ان تجنيها تونس من المساهمة في مبادرة "الطريق والحزام" يمكن ان تصبح خير داعم لهذه العلاقات التقليدية التي ستتأثر حتما بما يجري هذه الأيام على الساحة الدولية وبالخصوص الموقف الدَّوْليّ من القضية الفلسطينية.

 

 

 

بعد عشر سنوات من انطلاقها:  التعاون الصيني العربي في نطاق مبادرة ”الحزام والطريق” : ثلاثة مقترحات من اجل شراكة فعالة وعادلة

 

بقلم: أ/د كريم بن كحلة

تحتفل مبادرة «الحزام والطريق» الصينية خلال شهر أكتوبر الحالي بمرور عشر سنوات منذ انطلاقها.

وتضم هذه المبادرة إلى حد اليوم اكثر من 150 بلدا و30 منظمة دولية ساهمت مع الصين في انجاز أكثر من 3000 مشروع تعاون ضخم في جميع أنحاء العالم بحجم استثمارات فاق الألف مليار دولار.

وتهدف هذه المبادرة إلى بناء منصة للتعاون الدُّوَليّ المربح للجميع تكون بمنزلة "المنفعة العامة الكونية المشتركة" والمحرك الأساسي "للتنمية الخضراء" في العالم . كما تطمح هذه المبادرة إلى تطوير البنية التحتية في العديد من بلدان افريقيا و"الجنوب الشامل" (Global South) والربط بين هذه البلدان على مستوى التجهيزات وكذلك على مستوى العامل البشرى والشعوب. وقد قدمتها الصين كأهم مبادرة اقتصاديه في القرن 21 بينما يقارنها البعض بمخطط مارشال الذي مكن الولايات المتحدة وأوروبا من اعادة بناء اقتصاداتها بعد الحرب العالمية الثانية.

امتدادا لتجرِبة طويلة في التعاون الناجح مع الصين، اختارت تونس ان تنظم إلى هذه المبادرة وان توقع مذكرة التفاهم المتعلقة بها. ولكن ورغم الفرص - وكذلك بعض المخاطر- التي ترتبط بهذا الانضمام فان تونس لم تطرح تصورا واضح يمكنها من التموقع الناجع (الاستراتيجي) داخل هذا المشروع والاستفادة المباشرة وغير المباشرة من الاستثمارات وكذلك التحولات التي ترافقه.

فعلى سبيل المثال وبعد ان لمحت سلطات البلاد بالقول إنها مهتمة بالانضمام إلى مجموعة البريكس لم تتخذ أي اجراء عملي ولم تفصح على قرارات أو حتى تصورات عمليّة تتجاوز حسن النوايا والخطابات العامة.

علاوة على ذلك، ورغم ان الصين الشعبية تلعب دورا محوريًا في هذا التكتل العالمي الجديد، فإن مجموعة البريكس لا تقتصر على هذا العملاق الاقتصادي الذي لا يزال يعد نفسه من بين الدول النامية.

ويبقى السؤال قائمًا : كيف يمكن لبلد في حجم تونس ان يستفيد بشكل أفضل من طريق الحرير؟ وهل يمكن له - وهذا هو السؤال الأصعب وربما الأهم - المساهمة بقدر ما في بناء هذه الطريق وفي إنجاحها أو حتى في التأثير على "قواعد اللعبة" التي ستبرز وستتغير تدريجيًا مع تطور العلاقات الاقتصادية حول هذه الطريق ومع تبلور موازنات جيوستراتيجية جديدة ستحكم العالم في هذا القرن؟

 ستطرح هذه الورقة ثلاث أفكار أساسيّة تهم شروط التعاون في بناء " الحزام والطريق" مع العالم العربي عامة ومع تونس خاصة .تتعلّق الفكرة الأولى بضرورة أن ترتكز الريادة العالمية الجديدة (The New Global Leadership) التي يساهم فيها مشروع الحزام والطريق على مفهوم المسؤولية وليس فقط المصلحة.

وتتوقف النقطة الثانية على ضرورة إصلاح الحوكمة(Governance) في بعض البلدان العربيّة دون أن يقتصر هذا المفهوم على المقاربة الغربية

وتقترح النقطة الثالثة فكره الانتقال من براديغم “الطريق” (طريق الحرير) الى براديغم “شبكات الحرير (paradigmshift)”وهذا ما يمكن ان يعطي دورا محوريا لدوله مثل تونس.

I- الصين الشعبية والريادة العالميّة الجديدة: من المصالح إلى المسؤوليات

في نظري واستنادًا إلى العديد من الدلائل المتوفّرة فإن الصين الشعبية سائرة نحو الارتقاء إلى مرتبة القوة الاقتصادية الأولى في العالم وهى بذلك ستتمكن من تحقيق طموحاتها المشروعة التي يمكن الاطلاع عليها مثلا في الكتاب الأبيض للدفاع٠

ولكنني اعتقد ان هذه الريادة أو القيادة العالمية الجديدة (New Global Leadership) يجب أن تختلف عن القيادات التي سبقتها لاسيما في القرن الماضى٠

فخلافًا للقرن العشرين فإن الرّيادة في القرن 21 تقتضي عدم الاقتصار على معطى المصالح الاقتصادية او السياسيّة وتجاوزها ولبلوغ مستوى المسؤوليّة

وتكتسي هذه القيادة القائمة على المسؤولية أهمية كبرى نظرا لما عانته شعوب العالم من عواقب القيادة الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية التي لم تكترث بالقيم الأخلاقيّة لتلك الشعوب أو التي اعتمدت الخلط بين هذه القيم الاخلاقية والهيمنة الثقافية والمصالح السياسية.

كما أن هذا البعد القيمي والأخلاقي للقيادة القائمة على المسؤولية اصبح ضروريّ نظرًا لتشعب الاشكاليات والمخاطر الناتجة عن التحولات العالمية في بداية هذا القرن (خاصة في الجانب التكنولوجي والإيكولوجي) والتي تخلق المزيد من الفوارق بين البلدان وداخلها.

على أن هذه الريادة القائمة على المسؤوليّة تقتضي تصور آخر لمصلحة مشتركة بين كل البشر و لحقوق الإنسان وللعلاقات الدوليّة ولفض النزاعات والتآزر العالمي.

كما تتطلب ان لا نتوقف على من سيتحكم في الرأسمالية العالمية الجديدة، بل ان نفكر في وسائل هذا التحكم وفي نوع الرأسمالية المرجوة وكذلك فرص النجاح والتعريف بفكرة “الحضارة البيئية” التي اعتمدتها الصين الشعبية في دستورها والتي ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالزعامة الصينية على كل قطاعات الاقتصاد الأخضر والتحول الايكولوجي الذي يعتبر اهم تحدّ لهذا القرن.

 II-العالم العربي: من أجل حوكمة ومفهوم حوكمة جديدان

يجب التذكير أن مفهوم العالم العربي ينطوي على خاصيات اقتصاديه وسياسيه جِدّ متباينة وإن انخراط البلدان المنتجة للنفط في مشروع الحزام والطريق يعتمد على موارد ودوافع لا تتوفر في البلدان العربيّة الأخرى.

ثم ان هذه الاختلافات والتباينات تعد من أهم معوقات التعاون بين دولة الصين الشعبية والعالم العربي كوحدة مفترضة بل وبين الدول العربيّة نفسها.

وفى كل الحالات وحتى ينجح التعاون في نطاق هذا المشروع الضخم وجب تفادى بعض المنزلقات التي يمكن تلخيصها في عشرة نقاط اساسية:

1. ضرورة التحكم في المديونية في بلدان العالم العربي وعدم التسرع في اطلاق استثمارات ضخمة تكاد تكون استعراضية في البنية التحتية، دون التحقق من ربحية المشروعات على المدى المتوسط والطويل

2. إضفاء أكثر شفافية على المشروعات والبرامج والاتفاقيات المبرمة من طرف الدول العربية

3. التحقق من استدامة المشروعات وتأثيرها على استدامة النمو

4. الحرص على نقل التكنولوجيا والمعرفة حتى تستفيد المجتمعات والاقتصاديات العربية من انخراطها في هذا المشروع الضخم

5. الحرص على بروز فاعلين اقتصاديين عرب أكفاء وقادرين على التعامل بنوع من الندية مع المؤسسات الصينيّة

6. الحرص على تفادي مخاطر التنمية الغير متوازنة وغير الدامجة كأن تعمق المشروعات الكبرى الفوارق الجهوية والاجتماعيّة او ان تهدد التوازنات المالية والاقتصادية والاجتماعية والايكولوجية.

7. تفادي التعطيلات البيروقراطية وتحسين مناخ الأعمال بصفة عامة

8. التصدي للوبيات ورفع الحواجز للاستثمارات الكبرى مثل تلك التي تتعلق بقوانين الشغل والصفقات العمومية الدولية وقوانين المناطق الحرة من الاداءات

9. تغيير نموذج التنمية للخروج من الرَّيْع المرتبط بالموارد النفطية أو بالسياسات الحمائية والقطاعية للدولة

10. صياغة مشروعات كبرى في نطاق تصور للاندماج الاقتصادي بين البلدان العربيّة وتفادى تكرار نفس المشاريع التي تنافس بعضها البعض

كل هذه الشروط تحيلنا إلى مسألة الحوكمة٠ حوكمة البلدان العربية ولكن أيضا ما يسمى بحوكمة التكتلات والمنظمات العربية .

غير أنه وفي ظل مشروع الحزام والطريق لا ينبغي استخدام هذه التحديات المتعلقة بالحوكمة كأداة لفرض خيارات معينة على هذه البلدان كما لا ينبغي أن تقتصر الحوكمة على النموذج الغربي الذي تتداوله بعض المؤسسات المالية العالميّة الغربيّة٠

 ولعل فضيحة التلاعب بنتائج تقارير مناخ الأعمال (Doing business) التي كان يستعملها البنك الدولي والعديد من المؤسسات الآخري كمقياس للحوكمة احسن دليل على الحاجة لمراجعة جذرية لمفهوم الحوكمة المتداول في الغرب والمسقط على بلدان "الجنوب الكبير".

III- تونس وبناء " الحزام والطريق " : من براديغم الطريق إلى براديغم الشبكة

على الرغْم من انخراطها في مشروع الحزام والطريق ورغم أن هذا الانخراط مكّن تونس من تحقيق العديد من المشروعات الهامّة التي لاقت استحسانا كبيرًا لدى المواطنين ورغم أن تونس كانت من أهم محطات إحدى طرق الحرير القديمة التي كانت تعبر البلاد نحو الجزائر والمغرب ودول جنوب الصحراء، فإن مشاركة وتموقع تونس في الطريق الجديدة قابل للتحسين بصفة كبيرة.

فتونس اليوم تعد من أهم البلدان العربية في جانب قيمة رأس مالها البشري وهى فاعل محوري في الحفاظ على استقرار أوروبا بالحد من الهجرة غير الشرعيّة من جنوب الصحراء الأفريقية.

كما أن تونس تعد إحدى بلدان إعادة تموقع العديد من الشركات التي قررت الاقتراب من أسواقها بعد أزمة الكوفيد.

 فعلى سبيل المثال يمكن لتونس أن تكون منصة لشركات صينية في ميدان النسيج والملابس التي تريد الاقتراب من السوق الأوروبية خاصة في إنتاج مرن لسلاسل قصيرة.

لكن دور تونس في مشروع الحزام والطريق يمكن ان يأخذ منحى آخر في صورة المرور من القيادة حسب المصالح إلى القيادة حسب المسؤوليات وبالخصوص إذا وقع اعتماد نموذج الشبكة عوضا عن نموذج الطريق لتصور علاقات الصين ببقية العالم.

فإذا افترضنا او قبلنا مبدأ ان العالم الحالي يقتضي المرور من البراديغم القديم للطريق إلى البراديغم العصري وما بعد الحداثي للشبكات كتمثل للعلاقات لا فقط الاقتصادية بل الحضارية بين الدول , تصبح تونس التي كانت عبر الأزمان واحدة من أهم نقاط التقاطع و "ملتقى للحضارات" احد اهم العقد او”الغرز”(node) الإنسانية لشبكات الحرير الجديدة وليس فقط محطة اقتصادية في طريق عابرة.

وإذ كان القائد القرطاجي حنبعل يقول عند تقدمه نحو رومَا عبر جبال الألب منذ قرابة 2300 سنة " إن لم نجد طريقًا فسنبني طريق" نحن نقول "ان لم نجد شبكة فسنبنى وننسج شبكة للحرير" تكون تونس لا محالة وبصفة تكاد تكون طبيعيّة أحد اهم نِقَاط تقاطعاتها٠.

إن النظر والتفكير في تموقع استراتيجي واكثر نجاعة لتونس في مبادرة "الطريق والحزام" وتطوير علاقاتها بالصين الشعبية لتبلغ مستويات مهمة تخدم مصالح البلدين في الارتقاء إلى مرتبة البلدان المتقدمة لا يتعارض مع علاقات تونس بشركائها وحلفائها التقليديين.

بل ان المزايا والمنافع التي يمكن ان تجنيها تونس من المساهمة في مبادرة "الطريق والحزام" يمكن ان تصبح خير داعم لهذه العلاقات التقليدية التي ستتأثر حتما بما يجري هذه الأيام على الساحة الدولية وبالخصوص الموقف الدَّوْليّ من القضية الفلسطينية.

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews