إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

لا يمكننا أن نستقبل بؤس العالم

بقلم: نوفل سلامة

خلف التصريح الذي أدلى به الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون خلال اللقاء التلفزي الذي أجراه يوم الأحد 24 سبتمبر المنقضي سخطا كبيرا في الأوساط المثقفة الفرنسية والعالمية وصدمة أخرى لدى أحزاب اليسار الفرنسي وكل القوى الحية في العالم المنتصرة للمستضعفين والمهمشين في العالم حيث قال تعليقا على ما حصل من تدفقات كبيرة من المهاجرين الأفارقة خلال يومين فقط إلى السواحل الإيطالية بلغت قرابة 6000 مهاجر قادمين من تونس وتحديدا من ميناء صفاقس " إن أوروبا لا يمكنها أن تستوعب كل بؤس العالم وإن الفضاء الأوروبي غير قابل لاستقبال المزيد من هذا البؤس".

فهل بدأ ماكرون يقترب من رؤية الأطراف المعادية للمهاجرين والأجانب وهو القادم للحكم من مشارب فكرية وسطية ليبرالية ؟ وهل في خطابه الموصوف بالهجين ما يلمح إلى دغدغة مشاعر الأحزاب اليمينية المتطرفة التي لا ترى مكانا للأفارقة فوق أرض فرنسا والتي تعتبر أن فرنسا يجب أن تبقى للفرنسيين وأن الأولوية في العمل والاستفادة من الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة يجب أن تكون للفرنسيين المنحدرين من أب وأم فرنسيين من أصول فرنسية بيضاء ؟

استعارة ماكرون للعبارة الشهيرة لرئيس الوزراء الاشتراكي الأسبق ميشال روكار ( 1930 / 2016 ) " لا يمكننا أن نستقبل بؤس العالم برمته " التي قالها في سياق التحول الذي عرفه اليسار الفرنسي في التعامل مع قضية المهاجرين من المسلمين وبداية التنبه إلى التوغل الأجنبي في النسيج الاجتماعي الفرنسي وخاصة تمدد الجاليات المسلمة والانتشار المكثف للحضور الإسلامي عبر تجليات انتشار بناء المساجد وارتداء اللباس الإسلامي والمحافظة على العادات والتقاليد الإسلامية وهو سياق مشابه لسياق هجرة الإنسان الإفريقي ضحية واقعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي الطارد له وغير القابل بوجوده كشفت عن الوجه الحقيقي للرجل الأوروبي وحقيقة فكر الحداثة الغربية وحقيقة التنوير الغربي وديمقراطيته ومنظومته لحقوق الإنسان .

هذا التصريح الصادم قد كشف عن حقيقة التوجهات السياسية الأوروبية في التعاطي مع ملف الهجرة غير النظامية وعن الموقف من الإنسان الافريقي الذي غادر موطنه الأصلي وخاطر بحياته في رحلة تراجيدية بحثا عن واقع أفضل ومستقبل عله يحقق له بعض وجوده وكرامته التي لم يجدها في موطنه الغارق في الفساد المالي والمحسوبية والفقر والهشاشة والتهميش وتغلغل الفوارق الاجتماعية.

أوروبا غير مستعدة لاستيعاب بؤس العالم مقولة تعبر عن حالة مفزعة من الاستخفاف بهذا الملف الحارق الذي يختصر في تشبيه المهاجرين الذين طردتهم بلدانهم بالنفايات التي تلقى في سلة المهملات وبالأفراد غير المرغوب في استقبالهم لبؤسهم وعجزهم عن البقاء في بلدانهم الأصلية وتحقيق حلمهم في العيش الكريم فينالهم الاغتراب مضاعفا غربة الوطن الطارد واغتراب القبول بإدماجهم .

تصريح ينم عن عقلية استعلائية ونظرة تدعي التفوق وتنم عن مشاعر عنصرية وعقلية استعمارية متواصلة متغافلة عن كل ما قامت به أوروبا في القارة الافريقية في زمن الحقبة الاستعمارية وترتيب لإستراتيجية أحادية وضعتها أوروبا في مخابر الأحزاب اليمينية العنصرية التى لا ترى من حل لهذا الملف إلا في التعاطي الأمني وهذا ما يفسر الحرص الشديد على جعل تونس حرس حدود للسواحل الإيطالية من وراء الاغراءات والوعود بالمساعدة التي تتبجح بها أوروبا ضمن اتفاقية مزمع امضاؤها في شهر أكتوبر القادم حيث صرح نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإيطالي " انطونيو ناتالي " أنه يعتزم زيارة تونس في أكتوبر المقبل لتوقيع اتفاقية حول الهجرة القانونية وأن إيطاليا ترغب في تشجيع الهجرة النظامية التي تعود بالنفع على جهات مختلفة مثل التوظيف وأن إيطاليا مستعدة لزيادة عدد التونسيين المؤهلين للعمل بمقدار أربعة ألاف تتوفر فيهم الكفاءة والخبرة والصنعة.

لن نستقبل بؤس العالم برمته هو عنوان الاستراتيجية الأوروبية التي ترتب لملف الهجرة غير النظامية والخطة التي وضعتها أوروبا للتعاطي مع الأفارقة جنوب الصحراء القادمين في تدفقات كبيرة نحو ما يعتبرونه حقا لهم في الوصول إلى أوروبا والعمل فيها بعد أن تعرضت بلدانهم زمن استعمارها إلى نهب كبير لخيراتها وتأخر كبير في نهضتها وتعمد ابقائها متخلفة وتابعة للغرب ومرتهنة له.هذه الاستراتيجية أصبحت اليوم بيّنة المعالم وتقوم على عنصرين الأول ضرورة التوصل إلى اتفاق مع تونس وبلدان شمال إفريقيا الأخرى وإقناعها أن تلعب دور شرطي المتوسط مقابل الحصول على خدمات وإعانات يتم الاتفاق عليها. العنصر الثاني بناء مراكز للاحتجاز هي عبارة عن محتشدات مهمتها الفرز القصري لكل من يصل إلى تونس وتحديد من يستحق العبور إلى السواحل الإيطالية من أصحاب الكفاءات من الذين تتوفر فيهم المهارات الصناعية واليدوية التي تحتاجها إيطاليا وإرجاع البقية إلى بلدانهم الأصلية أو الإبقاء عليهم في تونس إذا قبلت بإبقائهم للعمل فوق التراب التونسي.

في كتابه بؤس العالم يتحدث أستاذ علم الاجتماع والمفكر الفرنسي " بيير بورديو " ( 1930 / 2002 ) عن ملامح أزمة العالم في الزمن الراهن ويكشف قبح هذا العصر وينتقد منظومته الفكرية والسياسية ويعري مأزق الحداثة الغربية التي أفرزت هذه المعاناة التي يعيشها جزء من العالم وجانب من الإنسانية التي تعيش حالة المجتمعات المتفجرة والمجتمعات الطاردة لأبنائها بسبب معاناتها الصامتة والتي جعلت حالة العجز ووطأ الحاجة دافعا لها للبحث عن حلول بديلة من خارج ذاتها ومن خارج الحلول الجماعية وحلول الدولة الوطنية .

ينتقد بيير بورديو هذا العالم الموسوم بالبؤس والسياسات التي انتجت هذا الألم ومسؤولية الغرب في انتاج هذه المعاناة التي تضرر منها جانب كبير من الإنسانية التي تضطر أن تقاوم من أجل البقاء ويتوقف عند هذا العجز الذي يتخبط فيه الغرب لحل الأزمات التي انتجها بقوله " إن السياسيين عاجزون عن تلمس الطريق وإيجاد الحلول للتدخل في المجتمع الذين ساهموا في تحويله إلى الأسوأ ".

اليوم تظهر حركة تمرد واسعة على الأوضاع العالمية وموجة من رفض القوانين الظالمة التي تحكم المجتمعات وعملية قطع الصلة مع كل النظام الاجتماعي للعالم المتحضر بأسره بقوانينه وأعرافه وقيمه وتنديد بإجحاف التاريخ وبالحضارة الزائفة ومحاولة لإنهاء تاريخ كتبه ويواصل في كتابته الرجل الأوروبي من أجل حياة جديدة تكون خارج التاريخ الذي كتبوه وتسمو فوقه.

 

 

 

لا يمكننا أن نستقبل بؤس العالم

بقلم: نوفل سلامة

خلف التصريح الذي أدلى به الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون خلال اللقاء التلفزي الذي أجراه يوم الأحد 24 سبتمبر المنقضي سخطا كبيرا في الأوساط المثقفة الفرنسية والعالمية وصدمة أخرى لدى أحزاب اليسار الفرنسي وكل القوى الحية في العالم المنتصرة للمستضعفين والمهمشين في العالم حيث قال تعليقا على ما حصل من تدفقات كبيرة من المهاجرين الأفارقة خلال يومين فقط إلى السواحل الإيطالية بلغت قرابة 6000 مهاجر قادمين من تونس وتحديدا من ميناء صفاقس " إن أوروبا لا يمكنها أن تستوعب كل بؤس العالم وإن الفضاء الأوروبي غير قابل لاستقبال المزيد من هذا البؤس".

فهل بدأ ماكرون يقترب من رؤية الأطراف المعادية للمهاجرين والأجانب وهو القادم للحكم من مشارب فكرية وسطية ليبرالية ؟ وهل في خطابه الموصوف بالهجين ما يلمح إلى دغدغة مشاعر الأحزاب اليمينية المتطرفة التي لا ترى مكانا للأفارقة فوق أرض فرنسا والتي تعتبر أن فرنسا يجب أن تبقى للفرنسيين وأن الأولوية في العمل والاستفادة من الخدمات الاجتماعية التي تقدمها الدولة يجب أن تكون للفرنسيين المنحدرين من أب وأم فرنسيين من أصول فرنسية بيضاء ؟

استعارة ماكرون للعبارة الشهيرة لرئيس الوزراء الاشتراكي الأسبق ميشال روكار ( 1930 / 2016 ) " لا يمكننا أن نستقبل بؤس العالم برمته " التي قالها في سياق التحول الذي عرفه اليسار الفرنسي في التعامل مع قضية المهاجرين من المسلمين وبداية التنبه إلى التوغل الأجنبي في النسيج الاجتماعي الفرنسي وخاصة تمدد الجاليات المسلمة والانتشار المكثف للحضور الإسلامي عبر تجليات انتشار بناء المساجد وارتداء اللباس الإسلامي والمحافظة على العادات والتقاليد الإسلامية وهو سياق مشابه لسياق هجرة الإنسان الإفريقي ضحية واقعه السياسي والاقتصادي والاجتماعي الطارد له وغير القابل بوجوده كشفت عن الوجه الحقيقي للرجل الأوروبي وحقيقة فكر الحداثة الغربية وحقيقة التنوير الغربي وديمقراطيته ومنظومته لحقوق الإنسان .

هذا التصريح الصادم قد كشف عن حقيقة التوجهات السياسية الأوروبية في التعاطي مع ملف الهجرة غير النظامية وعن الموقف من الإنسان الافريقي الذي غادر موطنه الأصلي وخاطر بحياته في رحلة تراجيدية بحثا عن واقع أفضل ومستقبل عله يحقق له بعض وجوده وكرامته التي لم يجدها في موطنه الغارق في الفساد المالي والمحسوبية والفقر والهشاشة والتهميش وتغلغل الفوارق الاجتماعية.

أوروبا غير مستعدة لاستيعاب بؤس العالم مقولة تعبر عن حالة مفزعة من الاستخفاف بهذا الملف الحارق الذي يختصر في تشبيه المهاجرين الذين طردتهم بلدانهم بالنفايات التي تلقى في سلة المهملات وبالأفراد غير المرغوب في استقبالهم لبؤسهم وعجزهم عن البقاء في بلدانهم الأصلية وتحقيق حلمهم في العيش الكريم فينالهم الاغتراب مضاعفا غربة الوطن الطارد واغتراب القبول بإدماجهم .

تصريح ينم عن عقلية استعلائية ونظرة تدعي التفوق وتنم عن مشاعر عنصرية وعقلية استعمارية متواصلة متغافلة عن كل ما قامت به أوروبا في القارة الافريقية في زمن الحقبة الاستعمارية وترتيب لإستراتيجية أحادية وضعتها أوروبا في مخابر الأحزاب اليمينية العنصرية التى لا ترى من حل لهذا الملف إلا في التعاطي الأمني وهذا ما يفسر الحرص الشديد على جعل تونس حرس حدود للسواحل الإيطالية من وراء الاغراءات والوعود بالمساعدة التي تتبجح بها أوروبا ضمن اتفاقية مزمع امضاؤها في شهر أكتوبر القادم حيث صرح نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإيطالي " انطونيو ناتالي " أنه يعتزم زيارة تونس في أكتوبر المقبل لتوقيع اتفاقية حول الهجرة القانونية وأن إيطاليا ترغب في تشجيع الهجرة النظامية التي تعود بالنفع على جهات مختلفة مثل التوظيف وأن إيطاليا مستعدة لزيادة عدد التونسيين المؤهلين للعمل بمقدار أربعة ألاف تتوفر فيهم الكفاءة والخبرة والصنعة.

لن نستقبل بؤس العالم برمته هو عنوان الاستراتيجية الأوروبية التي ترتب لملف الهجرة غير النظامية والخطة التي وضعتها أوروبا للتعاطي مع الأفارقة جنوب الصحراء القادمين في تدفقات كبيرة نحو ما يعتبرونه حقا لهم في الوصول إلى أوروبا والعمل فيها بعد أن تعرضت بلدانهم زمن استعمارها إلى نهب كبير لخيراتها وتأخر كبير في نهضتها وتعمد ابقائها متخلفة وتابعة للغرب ومرتهنة له.هذه الاستراتيجية أصبحت اليوم بيّنة المعالم وتقوم على عنصرين الأول ضرورة التوصل إلى اتفاق مع تونس وبلدان شمال إفريقيا الأخرى وإقناعها أن تلعب دور شرطي المتوسط مقابل الحصول على خدمات وإعانات يتم الاتفاق عليها. العنصر الثاني بناء مراكز للاحتجاز هي عبارة عن محتشدات مهمتها الفرز القصري لكل من يصل إلى تونس وتحديد من يستحق العبور إلى السواحل الإيطالية من أصحاب الكفاءات من الذين تتوفر فيهم المهارات الصناعية واليدوية التي تحتاجها إيطاليا وإرجاع البقية إلى بلدانهم الأصلية أو الإبقاء عليهم في تونس إذا قبلت بإبقائهم للعمل فوق التراب التونسي.

في كتابه بؤس العالم يتحدث أستاذ علم الاجتماع والمفكر الفرنسي " بيير بورديو " ( 1930 / 2002 ) عن ملامح أزمة العالم في الزمن الراهن ويكشف قبح هذا العصر وينتقد منظومته الفكرية والسياسية ويعري مأزق الحداثة الغربية التي أفرزت هذه المعاناة التي يعيشها جزء من العالم وجانب من الإنسانية التي تعيش حالة المجتمعات المتفجرة والمجتمعات الطاردة لأبنائها بسبب معاناتها الصامتة والتي جعلت حالة العجز ووطأ الحاجة دافعا لها للبحث عن حلول بديلة من خارج ذاتها ومن خارج الحلول الجماعية وحلول الدولة الوطنية .

ينتقد بيير بورديو هذا العالم الموسوم بالبؤس والسياسات التي انتجت هذا الألم ومسؤولية الغرب في انتاج هذه المعاناة التي تضرر منها جانب كبير من الإنسانية التي تضطر أن تقاوم من أجل البقاء ويتوقف عند هذا العجز الذي يتخبط فيه الغرب لحل الأزمات التي انتجها بقوله " إن السياسيين عاجزون عن تلمس الطريق وإيجاد الحلول للتدخل في المجتمع الذين ساهموا في تحويله إلى الأسوأ ".

اليوم تظهر حركة تمرد واسعة على الأوضاع العالمية وموجة من رفض القوانين الظالمة التي تحكم المجتمعات وعملية قطع الصلة مع كل النظام الاجتماعي للعالم المتحضر بأسره بقوانينه وأعرافه وقيمه وتنديد بإجحاف التاريخ وبالحضارة الزائفة ومحاولة لإنهاء تاريخ كتبه ويواصل في كتابته الرجل الأوروبي من أجل حياة جديدة تكون خارج التاريخ الذي كتبوه وتسمو فوقه.

 

 

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews