إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

فوضى الطرقات.. تجسيد لتفكك مجتمعي معلن..

تسجل حوادث المرور في بلادنا ارتفاعا لافتا ومخيفا لأن تداعياتها الاجتماعية والاقتصادية سلبية سواء في أبعادها المادية أو المعنوية. ورغم تعدد الحملات التحسيسية وارتفاع الأصوات التي تدق ناقوس الخطر فإن عديد المؤشرات تدل على أن الظاهرة مرشحة لمزيد الاستفحال. هناك بلا شك ضعف الجانب الزجري في القانون إلى جانب ما يحيط بمراقبة الطرقات والسهر على تطبيق القانون من ملابسات ومن إمكانية الالتفاف عليه. يضاف إلى ذلك أن أغلب الطرقات التونسية تفتقر إلى أبسط تجهيزات الوقاية خاصة ليلا. ولكن يبدو أن استفحال الاستخفاف بقانون الطرقات يدل على ما هو أعمق من ذلك وله أيضا تداعيات تتجاوز انعكاساته المباشرة على العلاقات الاجتماعية وعلى الاقتصاد ما دام ينعكس سلبيا على الناتج المحلي الإجمالي. يمكن قراءة سلوك "الكائن التونسي" في علاقته بالطريق العام وبقوانين سير الأشخاص والعربات قراءة "سوسيولوجية" خاصة وأن ملاحظة بسيطة تبرز اختلاف هذه العلاقة من مجتمع إلى آخر ومن فترة تاريخية إلى أخرى. ولا شك انه لا يخلو مجتمع إنساني من "تجاوزات" تطال قانون الطرقات وأنه توجد علاقة واضحة بين تقدم مجتمع ما ودرجة احترامه لقوانين وقواعد السير في الطريق العام.

ولا شك أن الشواهد اليومية التي تدل على عمليات انتهاك مقصود وممنهج لقواعد المرور لا تحصى وقد تحولت إلى "مكون أساسي" في الحياة اليومية للتونسي منذ اللحظة التي يغادر فيها محل سكناه. وحتى الأجانب الذين يقيمون في تونس أو يزورونها فإنهم يلاحظون ذلك ومنذ سنوات لأن الظاهرة قد أخذت في التشكل والتضخم منذ مطلع الألفية الحالية كمؤشر على بروز خلل في علاقة التونسي بالقانون. هناك حادثتان رسختا في ذهني في هذا الإطار. ترتبط الحادثة الأولى بصديق أقنع مواطنا ألمانيا بأن يستثمر في تونس وعرض عليه مشاريع وقوانين تشجيع الاستثمار. قبل الألماني الفكرة وقرر زيارة تونس، التي لم يسبق له أن زارها لقضاء عطلته الصيفية وأيضا لمزيد التعمق في موضوع الاستثمار في تونس. وباختصار اعتبر الضيف الألماني أن تونس بلد رائع كوجهة سياحية ولكن لا يمكن الاستثمار فيه. لماذا؟ لأن الشعب الذي لا يحترم قانون الطرقات وقواعد السير لا يمكن أن يحترم أي قانون. هكذا كان جواب الضيف الألماني. الحادثة الثانية حدثني بها سائق "تاكسي" واعتبر أنها كانت درسا جعله حريصا على احترام قانون الطرقات. وتتمثل وقائعها في أنه كان ينقل، في حدود الرابعة من صباح يوم شتوي بارد سائحا فرنسيا من المطار إلى نزل في شارع الحبيب بورقيبة. في مستوى شارع محمد الخامس قرر السائق، بعد أن تأكد من خلوّ الطريق، ألا يحترم الضوء الأحمر. ولكن ما راعه إلا والسائح يطلب منه التوقف وينزل من السيارة ويتمسك بعدم مواصلة الطريق إلى النزل، ويعتبر أن سلوك سائق سيارة الأجرة لا يختلف عن سلوك شخص يحاول قتل الأبرياء بدم بارد ودون أن يكون واعيا بخطورة سلوكه. تبرز الحادثتان ارتباط السلوك في الطريق العمومي بالثقافة السائدة وخاصة درجة استبطان القوانين وتمثلها وتحولها إلى قواعد ملزمة للسلوك وخاصة إلى دورها في تكريس العيش المشترك.

ويبدو من الصعب فصل سلوك التونسي "المروري" عن علاقته المتوترة والتي تقوم على "الاستنفار" مع الفضاء العام. تكفي الإشارة إلى العنف اللفظي الذي نقدم فيه "دروسا لبقية المجتمعات. ونضيف إلى ذلك الاعتداء على المحيط والبيئة بشكل يومي وهو ما يبرز في أطنان من أعقاب السجائر وكل أنواع النفايات التي يقع الإلقاء بها بلا خجل ولا وجل في الفضاء العام. هذه الخلفية " السلوكية" يتنزل في إطارها سلوك التونسي المروري سواء كان يقود عربة أو مترجلا. يتغذى هذا السلوك بتمثل ضعيف أو يكاد يكون مفقودا للقانون وهو ما يفتح الباب أمام "اجتهادات" يومية في الالتفاف عليه في الطريق. المترجل في تونس لا يعترف بالأضواء التي تنظم حركة المرور وينتهكها أمام أعين شرطي المرور الذي يبدو كأنه غير معني بفرض سلطة القانون. ويبدو الأمر "عاديا" في مجتمع لا يتحدث قادة الرأي فيه عن إنفاذ القانون بل "يبشرون" بالعمل من أجل تفعيله. ولا يخجل عدد من سواق العربات من التهجم اللفظي على من يقف عندما تكون الأضواء حمراء أو من يمنعهم من السير في الاتجاه المعاكس أو الاتجاه الذي يمنع السير فيه. ولا يمكن عزل "الشغف بانتهاك قانون الطرقات" عن وضعية الخضوع للقانون بشكل عام في المجتمع التونسي. مجتمعنا يستبطن فكرة أن القانون لم يوضع إلا لينتهك وليقع الالتفاف عليه وأن العلاقات الإنسانية والموقع الاجتماعي والمكانة الرمزية ليست إلا أدوات مساعدة على ذلك. هذا "الاعتقاد" يتغذى من بعض الوقائع وأيضا من خطاب السنوات الأخيرة الذي بالغ في الحديث عن فساد في دوائر القرار والمال وهو ما "يدفع" بقية المواطنين للبحث عن مجال يتشبهون فيه مع أصحاب النفوذ ويقدم مجال السير في الطريق العمومي وقيادة العربات الفضاء الأكثر قسمة وتوفرا للجميع. ومن المضحكات/ المبكيات في هذا الإطار أن "التدريب" على انتهاك قوانين المرور يبدأ من بعض مدارس تعليم السياقة .

وإلى جانب الاستنفار والعلاقة المرتبكة مع الفضاء العام تبرز علاقة التونسي بالطرقات والمرور جوانب أخرى تجسد ما يعتبره مصطفى حجازي من تمظهرات "التخلف الاجتماعي" وهو ما يتجلى في العدوانية اللفظية والسلوكية تجاه النساء إذ تنهال على المرأة، لمجرد خطأ بسيط، كل أنواع النقد ومظاهر الغضب والعنف اللفظي. وتكتمل الدائرة نتيجة سلوك رد الفعل الذي أصبحت تعتمده بعض النساء في إطار "التشبه بالسلوك الذكوري". ومن أبرز مظاهر "التخلف الاجتماعي" تعمد أولياء من الجنسين انتهاك أبسط قواعد المرور والعيش المشترك أمام المدارس والمعاهد وبحضور أبنائهم وبناتهم مع ما يعنيه ذلك من تسرب منطق انتهاك القانون وعدم احترام القانون واعتماد القوة والعنف إلى الأبناء والبنات وهو ما يعني توفير أرضية لإعادة إنتاج الفوضى وعدم احترام القانون.

هشام الحاجي

فوضى الطرقات.. تجسيد لتفكك مجتمعي معلن..

تسجل حوادث المرور في بلادنا ارتفاعا لافتا ومخيفا لأن تداعياتها الاجتماعية والاقتصادية سلبية سواء في أبعادها المادية أو المعنوية. ورغم تعدد الحملات التحسيسية وارتفاع الأصوات التي تدق ناقوس الخطر فإن عديد المؤشرات تدل على أن الظاهرة مرشحة لمزيد الاستفحال. هناك بلا شك ضعف الجانب الزجري في القانون إلى جانب ما يحيط بمراقبة الطرقات والسهر على تطبيق القانون من ملابسات ومن إمكانية الالتفاف عليه. يضاف إلى ذلك أن أغلب الطرقات التونسية تفتقر إلى أبسط تجهيزات الوقاية خاصة ليلا. ولكن يبدو أن استفحال الاستخفاف بقانون الطرقات يدل على ما هو أعمق من ذلك وله أيضا تداعيات تتجاوز انعكاساته المباشرة على العلاقات الاجتماعية وعلى الاقتصاد ما دام ينعكس سلبيا على الناتج المحلي الإجمالي. يمكن قراءة سلوك "الكائن التونسي" في علاقته بالطريق العام وبقوانين سير الأشخاص والعربات قراءة "سوسيولوجية" خاصة وأن ملاحظة بسيطة تبرز اختلاف هذه العلاقة من مجتمع إلى آخر ومن فترة تاريخية إلى أخرى. ولا شك انه لا يخلو مجتمع إنساني من "تجاوزات" تطال قانون الطرقات وأنه توجد علاقة واضحة بين تقدم مجتمع ما ودرجة احترامه لقوانين وقواعد السير في الطريق العام.

ولا شك أن الشواهد اليومية التي تدل على عمليات انتهاك مقصود وممنهج لقواعد المرور لا تحصى وقد تحولت إلى "مكون أساسي" في الحياة اليومية للتونسي منذ اللحظة التي يغادر فيها محل سكناه. وحتى الأجانب الذين يقيمون في تونس أو يزورونها فإنهم يلاحظون ذلك ومنذ سنوات لأن الظاهرة قد أخذت في التشكل والتضخم منذ مطلع الألفية الحالية كمؤشر على بروز خلل في علاقة التونسي بالقانون. هناك حادثتان رسختا في ذهني في هذا الإطار. ترتبط الحادثة الأولى بصديق أقنع مواطنا ألمانيا بأن يستثمر في تونس وعرض عليه مشاريع وقوانين تشجيع الاستثمار. قبل الألماني الفكرة وقرر زيارة تونس، التي لم يسبق له أن زارها لقضاء عطلته الصيفية وأيضا لمزيد التعمق في موضوع الاستثمار في تونس. وباختصار اعتبر الضيف الألماني أن تونس بلد رائع كوجهة سياحية ولكن لا يمكن الاستثمار فيه. لماذا؟ لأن الشعب الذي لا يحترم قانون الطرقات وقواعد السير لا يمكن أن يحترم أي قانون. هكذا كان جواب الضيف الألماني. الحادثة الثانية حدثني بها سائق "تاكسي" واعتبر أنها كانت درسا جعله حريصا على احترام قانون الطرقات. وتتمثل وقائعها في أنه كان ينقل، في حدود الرابعة من صباح يوم شتوي بارد سائحا فرنسيا من المطار إلى نزل في شارع الحبيب بورقيبة. في مستوى شارع محمد الخامس قرر السائق، بعد أن تأكد من خلوّ الطريق، ألا يحترم الضوء الأحمر. ولكن ما راعه إلا والسائح يطلب منه التوقف وينزل من السيارة ويتمسك بعدم مواصلة الطريق إلى النزل، ويعتبر أن سلوك سائق سيارة الأجرة لا يختلف عن سلوك شخص يحاول قتل الأبرياء بدم بارد ودون أن يكون واعيا بخطورة سلوكه. تبرز الحادثتان ارتباط السلوك في الطريق العمومي بالثقافة السائدة وخاصة درجة استبطان القوانين وتمثلها وتحولها إلى قواعد ملزمة للسلوك وخاصة إلى دورها في تكريس العيش المشترك.

ويبدو من الصعب فصل سلوك التونسي "المروري" عن علاقته المتوترة والتي تقوم على "الاستنفار" مع الفضاء العام. تكفي الإشارة إلى العنف اللفظي الذي نقدم فيه "دروسا لبقية المجتمعات. ونضيف إلى ذلك الاعتداء على المحيط والبيئة بشكل يومي وهو ما يبرز في أطنان من أعقاب السجائر وكل أنواع النفايات التي يقع الإلقاء بها بلا خجل ولا وجل في الفضاء العام. هذه الخلفية " السلوكية" يتنزل في إطارها سلوك التونسي المروري سواء كان يقود عربة أو مترجلا. يتغذى هذا السلوك بتمثل ضعيف أو يكاد يكون مفقودا للقانون وهو ما يفتح الباب أمام "اجتهادات" يومية في الالتفاف عليه في الطريق. المترجل في تونس لا يعترف بالأضواء التي تنظم حركة المرور وينتهكها أمام أعين شرطي المرور الذي يبدو كأنه غير معني بفرض سلطة القانون. ويبدو الأمر "عاديا" في مجتمع لا يتحدث قادة الرأي فيه عن إنفاذ القانون بل "يبشرون" بالعمل من أجل تفعيله. ولا يخجل عدد من سواق العربات من التهجم اللفظي على من يقف عندما تكون الأضواء حمراء أو من يمنعهم من السير في الاتجاه المعاكس أو الاتجاه الذي يمنع السير فيه. ولا يمكن عزل "الشغف بانتهاك قانون الطرقات" عن وضعية الخضوع للقانون بشكل عام في المجتمع التونسي. مجتمعنا يستبطن فكرة أن القانون لم يوضع إلا لينتهك وليقع الالتفاف عليه وأن العلاقات الإنسانية والموقع الاجتماعي والمكانة الرمزية ليست إلا أدوات مساعدة على ذلك. هذا "الاعتقاد" يتغذى من بعض الوقائع وأيضا من خطاب السنوات الأخيرة الذي بالغ في الحديث عن فساد في دوائر القرار والمال وهو ما "يدفع" بقية المواطنين للبحث عن مجال يتشبهون فيه مع أصحاب النفوذ ويقدم مجال السير في الطريق العمومي وقيادة العربات الفضاء الأكثر قسمة وتوفرا للجميع. ومن المضحكات/ المبكيات في هذا الإطار أن "التدريب" على انتهاك قوانين المرور يبدأ من بعض مدارس تعليم السياقة .

وإلى جانب الاستنفار والعلاقة المرتبكة مع الفضاء العام تبرز علاقة التونسي بالطرقات والمرور جوانب أخرى تجسد ما يعتبره مصطفى حجازي من تمظهرات "التخلف الاجتماعي" وهو ما يتجلى في العدوانية اللفظية والسلوكية تجاه النساء إذ تنهال على المرأة، لمجرد خطأ بسيط، كل أنواع النقد ومظاهر الغضب والعنف اللفظي. وتكتمل الدائرة نتيجة سلوك رد الفعل الذي أصبحت تعتمده بعض النساء في إطار "التشبه بالسلوك الذكوري". ومن أبرز مظاهر "التخلف الاجتماعي" تعمد أولياء من الجنسين انتهاك أبسط قواعد المرور والعيش المشترك أمام المدارس والمعاهد وبحضور أبنائهم وبناتهم مع ما يعنيه ذلك من تسرب منطق انتهاك القانون وعدم احترام القانون واعتماد القوة والعنف إلى الأبناء والبنات وهو ما يعني توفير أرضية لإعادة إنتاج الفوضى وعدم احترام القانون.

هشام الحاجي

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews