الحديث عن استقلالية البنك المركزي بدا له وجاهة انطلاقا من اجحاف البنك نفسه في ممارسة هذه الاستقلالية حتى بدا كأنه يشكلّ دولة داخل الدولة
بقلم: ريم بالخذيري
أحيت زيارة الرئيس قيس سعيد الى مقرّ البنك المركزي التونسي مؤخرا الجدل حول هذه المؤسسة الوطنية وحول دورها ودور مختلف المؤسسات فيها في دعم الاقتصاد ومقاومة غسيل الأموال.
كما تجدّد الحديث عن استقلالية البنك المركزي ومطالبة البعض بضرورة التخلي عن هذه الاستقلالية.
وهذا ما يتماهى تقريبا مع ما قاله الرئيس خلال تلك الزيارة حينما أكّد "إن سياسات البنك المركزي يجب أن تكون في تناسق مع السياسات الحكومية"، مضيفا أن مراجعة قانونه "لن تحد من استقلالية هذه المؤسسة".
وقال إن من يستفيد من الفصل الخاص باستقلالية البنك هي البنوك التجارية.
وبالعودة الى نشأة البنوك المركزية نذكر ان السويد هي من وضعت اللبنة الأولى لأول بنك مركزي في العالم وذلك عام 1668 والهدف من إنشائه حينها كان "تمويل الإنفاق العسكري" في الحروب.
والبنك المركزي كان هدفه الأول هو إقراض الحكومة أو تمويلها، وشراء الديون التي تدين بها للجهات الأخرى، قبل أن تصبح مهمته وضع سقف محدد لعديد المعاملات المالية وتعديل العملة، وطباعة النقد المتداول بشكل احتكاري.
وفي تونس تأسس البنك المركزي في 19 سبتمبر 1958 وهو مؤسسة عمومية تتمتع بالشخصية المدنية وبالاستقلال المالي وله 12 فرعا في كل من تونس العاصمة، بنزرت، سوسة، صفاقس، نابل، ڨابس، ڨفصة، الڨصرين، القيروان، المنستير، جندوبة، مدنين. وكان يعمل في تناغم مع الحكومة ومرتبطا بتوجهاتها .
لكن بمقتضى القانون 35 لسنة 2016، لم يعد مسموحاً للحكومة إصدار أي تعليمات للبنك المركزي، كما حصل على السلطة المطلقة في ضبط السياسة النقدية، والإنفاق والتحكم في الاحتياطي النقدي، والتصرف في الذهب.
ومنذ عام 2016، أصبح الاقتراض الداخلي للدولة يتم عبر البنوك التجارية، والتي تراكم أرباحا كثيرة وهو ما أضر بتمويل المشاريع و بمناخ الاستثمار.فتغوّلت بذلك هذه البنوك و تحول البنك المركزي حارسا لها يصمت في كثير من الأحيان عن تجاوزاتها.
استقلالية نافعة أم مضرّة؟
الحديث عن استقلالية البنك المركزي بدا له وجاهة انطلاقا من اجحاف البنك نفسه في ممارسة هذه الاستقلالية حتى بدا كأنه يشكلّ دولة داخل الدولة .غير أن استقلالية البنوك المركزية في حد ذاتها مطلوبة ومعمول بها في أغلب دول العالم .في هذا السياق يوضح المستشار المالي ورئيس إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية في صندوق النقد الدولي توبياس أدريان، في تقرير له نشر على الموقع الرسمي للصندوق في عام 2019 أنه في المجمل تعتبر استقلالية البنوك المركزية أمراً جديداً نسبياً، فقد اكتسبت الفكرة زخماً في سبعينيات القرن الماضي، لكن تبين أنها عامل مهم ومحقق للاستقرار بالنسبة للبلدان التي تسعى لتحرير قرارات السياسة النقدية من التأثير السياسي.
ومن هنا يشترط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومختلف البنوك الاستثمارية العالمية للتعامل مع الدول استقلالية البنك المركزي على الحكومة .
وبالتالي فانأيّ دولة في العالم لديها سياسة اقتصادية مستهدفة تعتمد على جناحين، هما السياسة النقدية ويختص بها البنك المركزي، بينما الجناح الآخر السياسة المالية المنوط بها لوزارة المالية، ويجب أن تكون السياستان متناغمتين دائماً.لكن في تونس فانّ هذا التناغم يبدو مفقودا بحكم تعسّف البنك المركزي كما قلنا في استعمال هذه الاستقلالية بل انّه يعتبر نفسه فوق وزارة المالية ويجب اعطاؤها الأوامر والتحذيرات من التضخم بدل العمل سويّا وهذه مهام ولئن كانت في صلب مهامه فإنها عادة لا تأخذ بعين الاعتبار من طرف الأخيرة.
ويستند دعاة تخلي البنك المركزي عن استقلاليته على جملة من المبررات منها أنّ الدولة هي المكتتب الوحيد والحصري في رأس مال البنك المركزيوهو ما يمنح الحكومة حق التدخل في السياسة النقدية وتوجيهها حسب ما تراه صالحا حتى وان عارضته المؤسسة المالية الأولى في البلاد.
وبالتالي فهو يجب أن يخضع لإجراءات رقابية من الدولة وليس من حقه المطالبة بالاستقلالية عن الحكومة خاصة فيما يتعلق بالسياسة النقدية.ويتهم البنك المركزي أنّ هدفه الوحيد هو مالي بحت ولا علاقة له بالبعد الاقتصادي والتوازنات المالية الداخلية والخارجية.
كما انّ هذه الاستقلالية وفق رأيهم يعني تجريد الدولة من اليات التمويل ودفعها الى خيارات الاقتراض الداخلي والخارجي والترفيع في الضرائب وهو واقع الحال اليوم.فالبنك المركزي في واد واهتمامات المواطن وعلاقته به تنحصر في الترفيع في الفائدة المديرية وما يخدم مصالح البنوك.
هي آراء لاتستقيم باعتقادي لأن البنك المركزي لا يمكن أن يكون خارج الدولة وأن استقلاليته هي ضمان للدولة نفسها فهو المستشار المالي لها وعليها أن تأخذ بتحذيراته وتوصياته وهو المفوض الرسمي لها مع الجهات المقرضة والمانحة. واستقلاليته صمّام أمان لهذه الجهات.
المحصّلة أن الحديث عن استقلالية البنوك المركزية عن الحكومات لايزال محلّ جدل في الدول النامية ومنها تونس لكن يبقى المزعج هو التطرّف في استعمال حق الاستقلالية من الطرف الأول(البنك المركزي) والإصرار على الاشراف والتدخل من الطرف الثاني(الحكومة) .
في حين أنّ هذا الجدل حسم في كبرى الدول لصالح استقلالية بنوكها المركزية . بل ان الحكومات ذاتها تحرص على هذه الاستقلالية ولا تسمح بالمسّ بها .
ان استقلالية البنك المركزي في تونس رغم ما يعاب على استعمال هذه الاستقلالية في بعض الأحيان الاّ أن ذلك جنّب انزلاق الدينار الى مستويات لا يمكن السيطرة عليها . كما أنه نجح في الحدّ من وصول التضخم الى مستويات خطيرة تهدّد مباشرة الاقتصاد والعباد.
الحديث عن استقلالية البنك المركزي بدا له وجاهة انطلاقا من اجحاف البنك نفسه في ممارسة هذه الاستقلالية حتى بدا كأنه يشكلّ دولة داخل الدولة
بقلم: ريم بالخذيري
أحيت زيارة الرئيس قيس سعيد الى مقرّ البنك المركزي التونسي مؤخرا الجدل حول هذه المؤسسة الوطنية وحول دورها ودور مختلف المؤسسات فيها في دعم الاقتصاد ومقاومة غسيل الأموال.
كما تجدّد الحديث عن استقلالية البنك المركزي ومطالبة البعض بضرورة التخلي عن هذه الاستقلالية.
وهذا ما يتماهى تقريبا مع ما قاله الرئيس خلال تلك الزيارة حينما أكّد "إن سياسات البنك المركزي يجب أن تكون في تناسق مع السياسات الحكومية"، مضيفا أن مراجعة قانونه "لن تحد من استقلالية هذه المؤسسة".
وقال إن من يستفيد من الفصل الخاص باستقلالية البنك هي البنوك التجارية.
وبالعودة الى نشأة البنوك المركزية نذكر ان السويد هي من وضعت اللبنة الأولى لأول بنك مركزي في العالم وذلك عام 1668 والهدف من إنشائه حينها كان "تمويل الإنفاق العسكري" في الحروب.
والبنك المركزي كان هدفه الأول هو إقراض الحكومة أو تمويلها، وشراء الديون التي تدين بها للجهات الأخرى، قبل أن تصبح مهمته وضع سقف محدد لعديد المعاملات المالية وتعديل العملة، وطباعة النقد المتداول بشكل احتكاري.
وفي تونس تأسس البنك المركزي في 19 سبتمبر 1958 وهو مؤسسة عمومية تتمتع بالشخصية المدنية وبالاستقلال المالي وله 12 فرعا في كل من تونس العاصمة، بنزرت، سوسة، صفاقس، نابل، ڨابس، ڨفصة، الڨصرين، القيروان، المنستير، جندوبة، مدنين. وكان يعمل في تناغم مع الحكومة ومرتبطا بتوجهاتها .
لكن بمقتضى القانون 35 لسنة 2016، لم يعد مسموحاً للحكومة إصدار أي تعليمات للبنك المركزي، كما حصل على السلطة المطلقة في ضبط السياسة النقدية، والإنفاق والتحكم في الاحتياطي النقدي، والتصرف في الذهب.
ومنذ عام 2016، أصبح الاقتراض الداخلي للدولة يتم عبر البنوك التجارية، والتي تراكم أرباحا كثيرة وهو ما أضر بتمويل المشاريع و بمناخ الاستثمار.فتغوّلت بذلك هذه البنوك و تحول البنك المركزي حارسا لها يصمت في كثير من الأحيان عن تجاوزاتها.
استقلالية نافعة أم مضرّة؟
الحديث عن استقلالية البنك المركزي بدا له وجاهة انطلاقا من اجحاف البنك نفسه في ممارسة هذه الاستقلالية حتى بدا كأنه يشكلّ دولة داخل الدولة .غير أن استقلالية البنوك المركزية في حد ذاتها مطلوبة ومعمول بها في أغلب دول العالم .في هذا السياق يوضح المستشار المالي ورئيس إدارة الأسواق النقدية والرأسمالية في صندوق النقد الدولي توبياس أدريان، في تقرير له نشر على الموقع الرسمي للصندوق في عام 2019 أنه في المجمل تعتبر استقلالية البنوك المركزية أمراً جديداً نسبياً، فقد اكتسبت الفكرة زخماً في سبعينيات القرن الماضي، لكن تبين أنها عامل مهم ومحقق للاستقرار بالنسبة للبلدان التي تسعى لتحرير قرارات السياسة النقدية من التأثير السياسي.
ومن هنا يشترط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومختلف البنوك الاستثمارية العالمية للتعامل مع الدول استقلالية البنك المركزي على الحكومة .
وبالتالي فانأيّ دولة في العالم لديها سياسة اقتصادية مستهدفة تعتمد على جناحين، هما السياسة النقدية ويختص بها البنك المركزي، بينما الجناح الآخر السياسة المالية المنوط بها لوزارة المالية، ويجب أن تكون السياستان متناغمتين دائماً.لكن في تونس فانّ هذا التناغم يبدو مفقودا بحكم تعسّف البنك المركزي كما قلنا في استعمال هذه الاستقلالية بل انّه يعتبر نفسه فوق وزارة المالية ويجب اعطاؤها الأوامر والتحذيرات من التضخم بدل العمل سويّا وهذه مهام ولئن كانت في صلب مهامه فإنها عادة لا تأخذ بعين الاعتبار من طرف الأخيرة.
ويستند دعاة تخلي البنك المركزي عن استقلاليته على جملة من المبررات منها أنّ الدولة هي المكتتب الوحيد والحصري في رأس مال البنك المركزيوهو ما يمنح الحكومة حق التدخل في السياسة النقدية وتوجيهها حسب ما تراه صالحا حتى وان عارضته المؤسسة المالية الأولى في البلاد.
وبالتالي فهو يجب أن يخضع لإجراءات رقابية من الدولة وليس من حقه المطالبة بالاستقلالية عن الحكومة خاصة فيما يتعلق بالسياسة النقدية.ويتهم البنك المركزي أنّ هدفه الوحيد هو مالي بحت ولا علاقة له بالبعد الاقتصادي والتوازنات المالية الداخلية والخارجية.
كما انّ هذه الاستقلالية وفق رأيهم يعني تجريد الدولة من اليات التمويل ودفعها الى خيارات الاقتراض الداخلي والخارجي والترفيع في الضرائب وهو واقع الحال اليوم.فالبنك المركزي في واد واهتمامات المواطن وعلاقته به تنحصر في الترفيع في الفائدة المديرية وما يخدم مصالح البنوك.
هي آراء لاتستقيم باعتقادي لأن البنك المركزي لا يمكن أن يكون خارج الدولة وأن استقلاليته هي ضمان للدولة نفسها فهو المستشار المالي لها وعليها أن تأخذ بتحذيراته وتوصياته وهو المفوض الرسمي لها مع الجهات المقرضة والمانحة. واستقلاليته صمّام أمان لهذه الجهات.
المحصّلة أن الحديث عن استقلالية البنوك المركزية عن الحكومات لايزال محلّ جدل في الدول النامية ومنها تونس لكن يبقى المزعج هو التطرّف في استعمال حق الاستقلالية من الطرف الأول(البنك المركزي) والإصرار على الاشراف والتدخل من الطرف الثاني(الحكومة) .
في حين أنّ هذا الجدل حسم في كبرى الدول لصالح استقلالية بنوكها المركزية . بل ان الحكومات ذاتها تحرص على هذه الاستقلالية ولا تسمح بالمسّ بها .
ان استقلالية البنك المركزي في تونس رغم ما يعاب على استعمال هذه الاستقلالية في بعض الأحيان الاّ أن ذلك جنّب انزلاق الدينار الى مستويات لا يمكن السيطرة عليها . كما أنه نجح في الحدّ من وصول التضخم الى مستويات خطيرة تهدّد مباشرة الاقتصاد والعباد.