بعد مرور ثلاثين عاماً بالتمام والكمال على توقيع اتفاق أوسلو، يحق لنا، ليس فقط أن نقيّم تلك التجربة التي تركت آثاراً عميقة على الوضع الفلسطيني، بل وأن نقيّم أيضاً المنطلقات والدوافع الفكرية والرؤى التي قادت إلى نهج أوسلو الذي ما زال مستمرا، مشكلا اليوم نقطة الخلاف الجوهرية في الساحة الفلسطينية.
ولعل أحد إشكاليات الوضع الفلسطيني أن القوى الممارسة لنهج أوسلو تتجنب (أو ترفض) الدخول في نقاش فكري أو سياسي جدي حول صوابية هذا النهج أو سلامته، بل تكتفي بالاختباء خلف ذريعة واحدة، وهي "الواقعية" في التعاطي مع وضع سياسي صعب ومعقد.
كان اتفاق أوسلو فخاً كبيراً نُصب ببراعة من الحركة الصهيونية للقيادة الرسمية الفلسطينية، بغرض امتصاص نتائج الانتفاضة الأولى التي غيرت موازين القوى على الأرض، وأجبرت إسرائيل على الدخول في مفاوضات مع الجانب الفلسطيني، ولإحداث شرخ عميق في الساحة الفلسطينية، وكسب الوقت لتكريس الاحتلال وتوسيع الاستيطان وبناء منظومة أبارتهايد عنصرية، غرضها تصفية حقوق الشعب الفلسطيني، و انتزاع شرعية فلسطينية وعربية ودولية لمشروع الاستيطان الكولونيالي الصهيوني.
ارتكب الجانب الفلسطيني سبعة أخطاء إستراتيجية في مفاوضات واتفاق أوسلو:-
أولا،توقيع الاتفاق دون اشتراط وقف الاستيطان، كما كان يصر الوفد الفلسطيني الرسمي في واشنطن، والذي أديرت مفاوضات أوسلو السرية من خلف ظهره، ومن دون علمه، ومن دون استشارته.
وكان هذا الخطأ بمثابة الخطيئة الكبرى لذلك الاتفاق، والدليل القاطع على ذلك ارتفاع عدد المستوطنين المستعمرين من 121 ألفاً عندما وقع الاتفاق إلى 750 ألفاً اليوم، أصبح لديهم 14 عضواً في الكنيست الإسرائيلي وأصبحوا يمثلون قوة سياسية فاشية لها دور حاسم في الحكومة الإسرائيلية بقيادة الفاشيين سموتريتش وبن غفير.
ثانيا، انعدام التكافؤ بين الجانبين، حيث اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، وحقها في الوجود مقابل مجرد الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً للفلسطينيين، بل قبل الجانب الفلسطيني بوسم نضاله الوطني ومقاومته المسلحة بالإرهاب، وتعهد بالتخلي عنها، وقبل الاعتراف بإسرائيل من دون تحديد حدودها، ومن دون أي ضمانات بحق العودة للاجئين الفلسطينيين الذين شردتهم من ديارهم عبر النكبة والمجازر الوحشية.
ثالثا،كان الاتفاق جزئياً انتقالياً من دون تحديد النتيجة النهائية بإنهاء الاحتلال وقيام دولة فلسطينية مستقلة، بل تتضمن قبولاً بجعل قضايا جوهرية، مثل اللاجئين وحق العودة، والقدس، والحدود، والاستيطان غير الشرعي، ومياه الأراضي المحتلة، قضايا متنازع عليها، وتحولت السنوات الست لإنهاء التفاوض إلى ثلاثين عاماً، وبعد أن ضمنت إسرائيل أن أراضي 48 محسومة إسرائيلياً تدرجت من اعتبار الأراضي المحتلة أراضي متنازعا عليها عند توقيع الاتفاق، إلى أراض يهودية خاصة باليهود، ومن ثم أقرت قانون الدولة اليهودية، الذي اعتبر حق تقرير المصير في أرض فلسطينيين التاريخية بكاملها، والتي يسمونها أرض إسرائيل، محصوراً باليهود فقط.
وقد تدرجت الحكومات الإسرائيلية من المماطلة بالمفاوضات سنوات طويلة كما وعد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق شامير، إلى وقفها بالكامل منذ عام 2014، والادعاء بعدم وجود شريك فلسطيني.
وهكذا سلبت إسرائيل بالتوسع الاستيطاني الأرض، وسلبت بالعملية السياسية الشيء الوحيد الذي منحته لقيادة منظمة التحرير في اتفاقات أوسلو، وهو حقها في التفاوض باسم الفلسطينيين.
رابعا،كان من أكبر الأخطاء القبول بتجزئة الأراضي المحتلة إلى تقسيمات "أ، ب، ج"، وأتاح ذلك لإسرائيل عزل 62% من الضفة الغربية، تسمى مناطق (ج)، وتخصيصها بالكامل للتوسع الاستيطاني، وتجزئة ما تبقى إلى 224 من الغيتوهات المعزولة بالحواجز، و المستوطنات والجدار، والطرق العنصرية المحرمة على الفلسطينيين.
خامسا، القبول بعقيدة ومبدأ التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال، ما وضع السلطة والقيادة الرسمية في معضلة تناقض وصدام مع شعبها ومع قوى المقاومة الفلسطينية.
سادسا،أحدث اتفاق أوسلو تجزئة للشعب الفلسطيني، وشرخاً وانقساما سياسياً عميقاً في الساحة الفلسطينية. أصبح قاعدة لانقسامات عديدة أخرى، مثل الانقسام بين الضفة والقطاع، وبين حركتي فتح وحماس، ولكن الأخطر كان إحداث شرخ عميق بين مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل (أراضي 1948) والخارج والأراضي المحتلة.
سابعا،فتح اتفاق أوسلو الباب على مصراعيه للتطبيع العربي والدولي مع كيان الاحتلال والتمييز العنصري.
من الناحية الفكرية، بُني نهج (واتفاق) أوسلو على ثلاثة أوهام: وهم الحل الوسط مع الحركة الصهيونية، ووهم حل الدولتين بديلا للهدف الاستراتيجي الفلسطيني الأصلي بإقامة دولة ديمقراطية واحدة على كامل فلسطين التاريخية، ووهم الدور الأمريكي في تحقيق تلك الحلول. وجميعها أوهام أثبتت ثلاثون عاماً عدم صحتها.
وإذا كان الاعتقاد بوهم الحل الوسط مع الحركة الصهيونية كان له ما يبرره كاجتهاد عندما وقع اتفاق أوسلو نتيجة الضغوط الدولية والظروف الصعبة التي كانت تعيشها منظمة التحرير الفلسطينية، فإن الاستمرار في التمسك به والمراهنة على نهج المفاوضات، بعد كل هذه السنوات، وبعد كل ما فعلته الحركة الصهيونية وحكام إسرائيل حتى بأصحاب اتفاق أوسلو، بما في ذلك اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين والشهيد ياسر عرفات، والادعاء بعدم وجود شريك فلسطيني، يمثل خطيئة لا تغتفر، ولا مبرر لها على الإطلاق.(يتبع)
بقلم: مصطفى البرغوثي
بعد مرور ثلاثين عاماً بالتمام والكمال على توقيع اتفاق أوسلو، يحق لنا، ليس فقط أن نقيّم تلك التجربة التي تركت آثاراً عميقة على الوضع الفلسطيني، بل وأن نقيّم أيضاً المنطلقات والدوافع الفكرية والرؤى التي قادت إلى نهج أوسلو الذي ما زال مستمرا، مشكلا اليوم نقطة الخلاف الجوهرية في الساحة الفلسطينية.
ولعل أحد إشكاليات الوضع الفلسطيني أن القوى الممارسة لنهج أوسلو تتجنب (أو ترفض) الدخول في نقاش فكري أو سياسي جدي حول صوابية هذا النهج أو سلامته، بل تكتفي بالاختباء خلف ذريعة واحدة، وهي "الواقعية" في التعاطي مع وضع سياسي صعب ومعقد.
كان اتفاق أوسلو فخاً كبيراً نُصب ببراعة من الحركة الصهيونية للقيادة الرسمية الفلسطينية، بغرض امتصاص نتائج الانتفاضة الأولى التي غيرت موازين القوى على الأرض، وأجبرت إسرائيل على الدخول في مفاوضات مع الجانب الفلسطيني، ولإحداث شرخ عميق في الساحة الفلسطينية، وكسب الوقت لتكريس الاحتلال وتوسيع الاستيطان وبناء منظومة أبارتهايد عنصرية، غرضها تصفية حقوق الشعب الفلسطيني، و انتزاع شرعية فلسطينية وعربية ودولية لمشروع الاستيطان الكولونيالي الصهيوني.
ارتكب الجانب الفلسطيني سبعة أخطاء إستراتيجية في مفاوضات واتفاق أوسلو:-
أولا،توقيع الاتفاق دون اشتراط وقف الاستيطان، كما كان يصر الوفد الفلسطيني الرسمي في واشنطن، والذي أديرت مفاوضات أوسلو السرية من خلف ظهره، ومن دون علمه، ومن دون استشارته.
وكان هذا الخطأ بمثابة الخطيئة الكبرى لذلك الاتفاق، والدليل القاطع على ذلك ارتفاع عدد المستوطنين المستعمرين من 121 ألفاً عندما وقع الاتفاق إلى 750 ألفاً اليوم، أصبح لديهم 14 عضواً في الكنيست الإسرائيلي وأصبحوا يمثلون قوة سياسية فاشية لها دور حاسم في الحكومة الإسرائيلية بقيادة الفاشيين سموتريتش وبن غفير.
ثانيا، انعدام التكافؤ بين الجانبين، حيث اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بإسرائيل، وحقها في الوجود مقابل مجرد الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً للفلسطينيين، بل قبل الجانب الفلسطيني بوسم نضاله الوطني ومقاومته المسلحة بالإرهاب، وتعهد بالتخلي عنها، وقبل الاعتراف بإسرائيل من دون تحديد حدودها، ومن دون أي ضمانات بحق العودة للاجئين الفلسطينيين الذين شردتهم من ديارهم عبر النكبة والمجازر الوحشية.
ثالثا،كان الاتفاق جزئياً انتقالياً من دون تحديد النتيجة النهائية بإنهاء الاحتلال وقيام دولة فلسطينية مستقلة، بل تتضمن قبولاً بجعل قضايا جوهرية، مثل اللاجئين وحق العودة، والقدس، والحدود، والاستيطان غير الشرعي، ومياه الأراضي المحتلة، قضايا متنازع عليها، وتحولت السنوات الست لإنهاء التفاوض إلى ثلاثين عاماً، وبعد أن ضمنت إسرائيل أن أراضي 48 محسومة إسرائيلياً تدرجت من اعتبار الأراضي المحتلة أراضي متنازعا عليها عند توقيع الاتفاق، إلى أراض يهودية خاصة باليهود، ومن ثم أقرت قانون الدولة اليهودية، الذي اعتبر حق تقرير المصير في أرض فلسطينيين التاريخية بكاملها، والتي يسمونها أرض إسرائيل، محصوراً باليهود فقط.
وقد تدرجت الحكومات الإسرائيلية من المماطلة بالمفاوضات سنوات طويلة كما وعد رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق شامير، إلى وقفها بالكامل منذ عام 2014، والادعاء بعدم وجود شريك فلسطيني.
وهكذا سلبت إسرائيل بالتوسع الاستيطاني الأرض، وسلبت بالعملية السياسية الشيء الوحيد الذي منحته لقيادة منظمة التحرير في اتفاقات أوسلو، وهو حقها في التفاوض باسم الفلسطينيين.
رابعا،كان من أكبر الأخطاء القبول بتجزئة الأراضي المحتلة إلى تقسيمات "أ، ب، ج"، وأتاح ذلك لإسرائيل عزل 62% من الضفة الغربية، تسمى مناطق (ج)، وتخصيصها بالكامل للتوسع الاستيطاني، وتجزئة ما تبقى إلى 224 من الغيتوهات المعزولة بالحواجز، و المستوطنات والجدار، والطرق العنصرية المحرمة على الفلسطينيين.
خامسا، القبول بعقيدة ومبدأ التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال، ما وضع السلطة والقيادة الرسمية في معضلة تناقض وصدام مع شعبها ومع قوى المقاومة الفلسطينية.
سادسا،أحدث اتفاق أوسلو تجزئة للشعب الفلسطيني، وشرخاً وانقساما سياسياً عميقاً في الساحة الفلسطينية. أصبح قاعدة لانقسامات عديدة أخرى، مثل الانقسام بين الضفة والقطاع، وبين حركتي فتح وحماس، ولكن الأخطر كان إحداث شرخ عميق بين مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل (أراضي 1948) والخارج والأراضي المحتلة.
سابعا،فتح اتفاق أوسلو الباب على مصراعيه للتطبيع العربي والدولي مع كيان الاحتلال والتمييز العنصري.
من الناحية الفكرية، بُني نهج (واتفاق) أوسلو على ثلاثة أوهام: وهم الحل الوسط مع الحركة الصهيونية، ووهم حل الدولتين بديلا للهدف الاستراتيجي الفلسطيني الأصلي بإقامة دولة ديمقراطية واحدة على كامل فلسطين التاريخية، ووهم الدور الأمريكي في تحقيق تلك الحلول. وجميعها أوهام أثبتت ثلاثون عاماً عدم صحتها.
وإذا كان الاعتقاد بوهم الحل الوسط مع الحركة الصهيونية كان له ما يبرره كاجتهاد عندما وقع اتفاق أوسلو نتيجة الضغوط الدولية والظروف الصعبة التي كانت تعيشها منظمة التحرير الفلسطينية، فإن الاستمرار في التمسك به والمراهنة على نهج المفاوضات، بعد كل هذه السنوات، وبعد كل ما فعلته الحركة الصهيونية وحكام إسرائيل حتى بأصحاب اتفاق أوسلو، بما في ذلك اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحق رابين والشهيد ياسر عرفات، والادعاء بعدم وجود شريك فلسطيني، يمثل خطيئة لا تغتفر، ولا مبرر لها على الإطلاق.(يتبع)