إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

نريدها مدرسة تهتمّ بالتّلميذ إنسانا عزيزا

 

كم هو جميل ورائق حين أراكم تمحون هذه الكلمة أو تلك أو ذاك السطر وتشطبونها بالقلم ثم تعيدون كتابتها. ففي إعادة الكتابة تكون القراءة مرّتين

بقلم:مصدّق الشّريف

ما إن كدنا نتجاوز العشر الأيام الأولى من شهر أوت حتى أصبح الحديث في وسائل الإعلام جميعها عن العودة المدرسية، وبالتحديد، عن الأدوات والمحفظة ولباس التلميذ وزيّ الرياضة والاشتراك في النقل العموميّ... جميع النّاس بمن فيهم رئيس الدولة خرج إلى الأسواق وتفقد الأسعار وأوصى خيرا بالعائلة التونسية لاسيما الضعيفة الدخل منها في هذه المناسبة...

والعودة المدرسية والجامعيّة تمثّل كابوسا بالنسبة إلى الأولياء يؤرقهم ويقضّ مضاجعهم. ربّما أصنّفُ نفسي من أصحاب السّلوك المثالي. لم أطلب على امتداد العقود التي درّست فيها ولو مرّة من أيّ تلميذ نوع كرّاسات أو أقلام معيّن. كنت أدعو التلاميذ فقط إلى الانتباه لما يسجّلون من السّبورة أو لما أقول لهم أثناء الدّرس. كنت حريصا على أن يستوعبوا جيّدا ما يُملى عليهم أو يُنسخ منتبها إلى ما ستتلقاه عقولهم. كنت أقول لهم، وهم شهود على ما قلته،: "اكتبوا حتى على ورق كيس الاسمنت بعد فتحه وتنظيفه وتقسيمه إلى أوراق".

 كنت أحجّر عليهم استعمال الممحاة المائية ولا أقبل مناقشتي في ذلك. كنت أقول لهم:" كم هو جميل عندي ورائق حين أراكم تمحون هذه الكلمة أو تلك أو ذاك السطر وتشطبونها بالقلم ثم تعيدون كتابتها. ففي إعادة الكتابة تكون القراءة مرّتين مثلما يقول المثل الفرنسي "Ecrire c’est lire deux fois".

آه كم وددت أن أسمع وأقرأ في وسائل الإعلام عن حبال الوداد بين الأسرة والمربين وبين التلاميذ والمؤسسة التربوية...

لا أعتقد أنّ ذاكرة التلاميذ ستحتفظ في يوم من الأيام بأنواع الكراسات الرفيعة ولوالبها أو بحافظة الأقلام أو بأنواع أقلام الحبر الجافة ومناظرها الخلابة. أشياء أخرى تبقى في البال. تعمّر ولا تفنى ولو طالت الأعوام وتعاقبت العقود. تظلّ في إحدى زوايا القلب.

أذكر أن أخي فتحي ذهب مُكرها إلى المدرسة. جاءه صوت جارنا الذي ضاق ذرعا بعبثه وعبث أترابه في "بورة الجراية" مزعجا مؤرّقا شامتا: "جاءكم حبس بوك حمد".

عند الظهيرة رجع أخي فتحي منبسطا منشرح الصدر في أول يوم له في العام الدراسي. لقد قال له معلمه سي محمد العيادي رحمه الله: "أنت أخو المنجي الله ينجيك خذ مكانك" وهو يربت على كتفيه.

أخي جمال هو الآخر حين رأى قامة معلمه ونظارتيه الكبيرتين حزن وأخرج لسانه صائحا: "لن أدخل إلى الساحة" وهمّ بالفرار. معلمه سي عبد السلام سمع صياحه فاقترب منه. مدّ له يده وقبله وقال له: "ما اسمك؟" أجاب وهو يشهق بكاء ودموعه تتصبب غزيرة على وجنتيه: جمال". ردّ عليه المعلم رحمه الله: "جمال سيد الرجال". ابتسم جمال ثم ضحك وانقلبت دموع الحزن إلى دموع الفرح. سار يمشي مزهوّا ويده تمسك يد معلمه.

أذكر كيف كانت عظام أحد زملائي الذين درسوا معي في أول سنة لي في التعليم الابتدائي بارزة من شدّة الهزال. كان يقف منكّس الرأس في طابور التلاميذ المعوزين الذي ينتظرون مجيء دورهم لتسلّم كوب الحليب في الصباح. ذات يوم حمّله سيدي المعلم مسؤوليّة توزيع كراسات القسم ولم يرسل أحدا غيره من التلاميذ إلى مكتب السيد المدير. نسي زميلي مشاعر البؤس وخرج من عزلته وحقّق تفوقا في الامتحانات.

سيدي المعلم محسن الطرابلسي، أمده الله بالصّحة والعافية، درّسني مادة الفرنسية وأنا تلميذ في السنة الرابعة ابتدائيّا في السنة الدراسية 1964/1965. ظللت أتنسم أخباره من بعيد. كان رؤوفا معنا معشر التلاميذ. حفظنا جدول الضّرب بين الهزل والجدّ. لم يهدأ لي بال حتى تعرّفت على مقرّ سكناه. رحّب بي. وجدته يشكو آلاما في رجليه. كان يمشي بصعوبة مستعينا بعكاز.

بقي سؤال يعاشرني منذ أكثر من خمسة عقود. تحيّنت مناسبة اللقاء بسيدي محسن وسألته: "لماذا كنت إثر دخولك مباشرة لقاعة الدرس مع حدود الثامنة صباحا تبعث بأحد من التلاميذ ليأتيك بقطعة من الشوكولاتة وخبزة صغيرة؟ لا أنسى أنّك كنت تعطي بالتناوب في كلّ مرة مجموعة من التلاميذ ما تيسّر من الخبز والشوكولاتة". ضحك سيّدي المعلم حتى كاد يسقط حنكه وقال لي: "في تلك السنة 1964/1965" كنتُ حديث العهد بالزواج. كنت حريصا على عدم إيقاظ العروس من سباتها".

وددتُ ألاّ يكون الحديث عن مستلزمات المدرسة إلاّ لماما. وددت أن يكون عن القلوب التي تنافر ودّها. وددت أن يكون الخطاب في مفتتح هذه السنة الدراسية الجديدة حريصا على لمّ شتات العائلة والإطار التّربويّ. ما أصعب بقاء العلاقات على هذه الحال داخل المجتمع فهي شبيهة بالزجاجة كسرها لا يُشعب (لا يُجبر).

نريدها مدرسة تهتمّ بالتّلميذ إنسانا عزيزا

 

كم هو جميل ورائق حين أراكم تمحون هذه الكلمة أو تلك أو ذاك السطر وتشطبونها بالقلم ثم تعيدون كتابتها. ففي إعادة الكتابة تكون القراءة مرّتين

بقلم:مصدّق الشّريف

ما إن كدنا نتجاوز العشر الأيام الأولى من شهر أوت حتى أصبح الحديث في وسائل الإعلام جميعها عن العودة المدرسية، وبالتحديد، عن الأدوات والمحفظة ولباس التلميذ وزيّ الرياضة والاشتراك في النقل العموميّ... جميع النّاس بمن فيهم رئيس الدولة خرج إلى الأسواق وتفقد الأسعار وأوصى خيرا بالعائلة التونسية لاسيما الضعيفة الدخل منها في هذه المناسبة...

والعودة المدرسية والجامعيّة تمثّل كابوسا بالنسبة إلى الأولياء يؤرقهم ويقضّ مضاجعهم. ربّما أصنّفُ نفسي من أصحاب السّلوك المثالي. لم أطلب على امتداد العقود التي درّست فيها ولو مرّة من أيّ تلميذ نوع كرّاسات أو أقلام معيّن. كنت أدعو التلاميذ فقط إلى الانتباه لما يسجّلون من السّبورة أو لما أقول لهم أثناء الدّرس. كنت حريصا على أن يستوعبوا جيّدا ما يُملى عليهم أو يُنسخ منتبها إلى ما ستتلقاه عقولهم. كنت أقول لهم، وهم شهود على ما قلته،: "اكتبوا حتى على ورق كيس الاسمنت بعد فتحه وتنظيفه وتقسيمه إلى أوراق".

 كنت أحجّر عليهم استعمال الممحاة المائية ولا أقبل مناقشتي في ذلك. كنت أقول لهم:" كم هو جميل عندي ورائق حين أراكم تمحون هذه الكلمة أو تلك أو ذاك السطر وتشطبونها بالقلم ثم تعيدون كتابتها. ففي إعادة الكتابة تكون القراءة مرّتين مثلما يقول المثل الفرنسي "Ecrire c’est lire deux fois".

آه كم وددت أن أسمع وأقرأ في وسائل الإعلام عن حبال الوداد بين الأسرة والمربين وبين التلاميذ والمؤسسة التربوية...

لا أعتقد أنّ ذاكرة التلاميذ ستحتفظ في يوم من الأيام بأنواع الكراسات الرفيعة ولوالبها أو بحافظة الأقلام أو بأنواع أقلام الحبر الجافة ومناظرها الخلابة. أشياء أخرى تبقى في البال. تعمّر ولا تفنى ولو طالت الأعوام وتعاقبت العقود. تظلّ في إحدى زوايا القلب.

أذكر أن أخي فتحي ذهب مُكرها إلى المدرسة. جاءه صوت جارنا الذي ضاق ذرعا بعبثه وعبث أترابه في "بورة الجراية" مزعجا مؤرّقا شامتا: "جاءكم حبس بوك حمد".

عند الظهيرة رجع أخي فتحي منبسطا منشرح الصدر في أول يوم له في العام الدراسي. لقد قال له معلمه سي محمد العيادي رحمه الله: "أنت أخو المنجي الله ينجيك خذ مكانك" وهو يربت على كتفيه.

أخي جمال هو الآخر حين رأى قامة معلمه ونظارتيه الكبيرتين حزن وأخرج لسانه صائحا: "لن أدخل إلى الساحة" وهمّ بالفرار. معلمه سي عبد السلام سمع صياحه فاقترب منه. مدّ له يده وقبله وقال له: "ما اسمك؟" أجاب وهو يشهق بكاء ودموعه تتصبب غزيرة على وجنتيه: جمال". ردّ عليه المعلم رحمه الله: "جمال سيد الرجال". ابتسم جمال ثم ضحك وانقلبت دموع الحزن إلى دموع الفرح. سار يمشي مزهوّا ويده تمسك يد معلمه.

أذكر كيف كانت عظام أحد زملائي الذين درسوا معي في أول سنة لي في التعليم الابتدائي بارزة من شدّة الهزال. كان يقف منكّس الرأس في طابور التلاميذ المعوزين الذي ينتظرون مجيء دورهم لتسلّم كوب الحليب في الصباح. ذات يوم حمّله سيدي المعلم مسؤوليّة توزيع كراسات القسم ولم يرسل أحدا غيره من التلاميذ إلى مكتب السيد المدير. نسي زميلي مشاعر البؤس وخرج من عزلته وحقّق تفوقا في الامتحانات.

سيدي المعلم محسن الطرابلسي، أمده الله بالصّحة والعافية، درّسني مادة الفرنسية وأنا تلميذ في السنة الرابعة ابتدائيّا في السنة الدراسية 1964/1965. ظللت أتنسم أخباره من بعيد. كان رؤوفا معنا معشر التلاميذ. حفظنا جدول الضّرب بين الهزل والجدّ. لم يهدأ لي بال حتى تعرّفت على مقرّ سكناه. رحّب بي. وجدته يشكو آلاما في رجليه. كان يمشي بصعوبة مستعينا بعكاز.

بقي سؤال يعاشرني منذ أكثر من خمسة عقود. تحيّنت مناسبة اللقاء بسيدي محسن وسألته: "لماذا كنت إثر دخولك مباشرة لقاعة الدرس مع حدود الثامنة صباحا تبعث بأحد من التلاميذ ليأتيك بقطعة من الشوكولاتة وخبزة صغيرة؟ لا أنسى أنّك كنت تعطي بالتناوب في كلّ مرة مجموعة من التلاميذ ما تيسّر من الخبز والشوكولاتة". ضحك سيّدي المعلم حتى كاد يسقط حنكه وقال لي: "في تلك السنة 1964/1965" كنتُ حديث العهد بالزواج. كنت حريصا على عدم إيقاظ العروس من سباتها".

وددتُ ألاّ يكون الحديث عن مستلزمات المدرسة إلاّ لماما. وددت أن يكون عن القلوب التي تنافر ودّها. وددت أن يكون الخطاب في مفتتح هذه السنة الدراسية الجديدة حريصا على لمّ شتات العائلة والإطار التّربويّ. ما أصعب بقاء العلاقات على هذه الحال داخل المجتمع فهي شبيهة بالزجاجة كسرها لا يُشعب (لا يُجبر).

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews