إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

ممنوع من الحياد.. انقلاب الغابون.. إذا عرف السبب ..

 

من الصور التي بقيت عالقة في ذاكرتي عن الغابون خلال مشاركة في تغطية الدورة التاسعة لوزراء الإعلام للمؤتمر الإسلامي، قبل أن تتحول الى التعاون الإسلامي في العاصمة الغابونية، ليبروفيل في أفريل 2012 مشهد موقع السفارة الفرنسية العملاق الجاثم في ساحة الاستقلال على امتداد شارع pont pirah  ودون أدنى مبالغة يمكن القول إن السفارة هي أقرب إلى قاعدة عسكرية أكثر من أي شيء آخر وهي تحتل مساحة رهيبة وتتجاوز في هيبتها القصر الرئاسي ذاته بما يجعلها تثير الأنظار، وأذكر أن تجاوز موقع السفارة الفرنسية في ليبروفيل يحتاج لنحو ربع ساعة بالسيارة.. وفي ذلك بالتأكيد رمزية كبيرة لوزن وموقع وهيمنة فرنسا على الغابون وعلى القارة الإفريقية عموما بعد انقضاء نحو ستة عقود على استقلال الدول التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي.. أستحضر هذه الصورة اليوم فيما لا تزال الأخبار شحيحة بشأن ما سيؤول إليه آخر الانقلابات المسجلة  قبل ساعات في الغابون هذا البلد الإفريقي الذي يلتحق بركب الانقلابات المتكررة المسجلة من بوركينا فاسو ومالي والنيجر... طبعا ليس بالإمكان التكهن ما إذا ستكون الغابون آخر القائمة في سلسلة الانقلابات المتواترة في القارة الإفريقية أو ما إذا سنكون على موعد مع انقلاب جديد خاصة بعد رفض المعارضة  في زمبابوي نتائج الانتخابات الرئاسية وتشكيكها في النتائج وهو ما حدث في الغابون حيث تم الانقلاب بعد وقت وجيز من الإعلان عن فوز الرئيس علي بنغو الذي خلف والده في السلطة بولاية رئاسية ثالثة الأمر الذي لم يجد قبولا لدى المؤسسة العسكرية.. ولاشك أن في الإعلان عن الانقلاب عبر محطة "الغابون 24 التي تبث من داخل القصر الرئاسي ما يعني أن بنغو الرئيس المعزول فقد حماية حرسه الخاص.. وفي انتظار ما ستؤول إليه تطورات الأحداث في مختلف العواصم الإفريقية التي شهدت انقلابات عسكرية في الأشهر القليلة القادمة يمكن القول إنه برغم أن الانقلابات العسكرية تبقى من أسوأ وأخطر الأساليب للوصول الى الحكم وهي مدانة ومرفوضة لسبب مهم جدا وهو أن الدخول في الانقلابات العسكرية إذا ما بدأ لا يمكن أن يتوقف وسيتكرر كل حين.. ومع ذلك نقول إن ما حدث في الغابون فجر الأمس لم يكن مفاجئا والأكيد أنه إذا عرف السبب بطل العجب.. الملاحظ أيضا أن رفض وتنديد الاتحاد الإفريقي ومعه الاتحاد الأوروبي وكل القوى الغربية لم يعد له تأثير يذكر على الانقلابيين الذين يبدو أنهم وجدوا في المظاهر الاحتفالية الشعبية بالانقلابيين من النيجر الى الغابون ما يحصنهم أمام التحذيرات والتهديدات والعقوبات القادمة.. وفي ذلك ما يحمل في طياته أكثر من رسالة الى أكثر من طرف أولهم الحكام الأفارقة الذين جعلوا من الجمهوريات الإفريقية "جملوكيات" متوارثة لعائلات متنفذة وهذا كان حال علي بنغو الذي عين بعد وفاة والده عمر بنغو في اعقاب واحد واربعين عاما قضاها في السلطة وحكم البلاد بقبضة من حديد وجعل ولاءه لرمز الاستعمار السابق فرنسا التي تتحكم تقريبا بأغلب الاستثمارات علي بنغو منح أبناءه التسعة كل الأولويات ليجمعوا ثروة طائلة في فرنسا هي اليوم محل تحقيق وبحث.. حكاية عمر بنغو ومن بعده علي بنغو قد لا تختلف كثيرا عن بقية مغامرات الحكام الأفارقة ممن طبعوا مع الفشل وتبنوا نموذجا للحكم في خدمة المستعمرات السابقة بدل خدمة الشعوب.. الغابون كأغلب الدول الإفريقية ليس بلدا فقيرا فهو معروف بثرواته النفطية والغابية والمنغنيز ولكن الرئيس عمر بنغو الذي حكم البلاد طوال أربعين عاما قبل أن يخلفه ابنه علي بنغو طوال أربعة عشرة عاما والذي أطيح به بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية أراد غير ذلك. ذالك ان واحدا بين كل ثلاثة غابونيين فيه يعيشون تحت خط الفقر.. والغابون بلد المليوني ساكن منفتح ويحتضن مستثمرين من شتى أنحاء العالم وجاليات عربية وجدت في هذا البلد الفرصة لتفرض نفسها في مجالات السياحة والفندقة.. بداية التسعينات أقدم الغابون على تطوير نظام التعددية الحزبية ووضع دستوراً ديمقراطيًا جديدًا يسمح بعملية انتخابية أكثر شفافية وبإصلاح العديد من المؤسسات الحكومية. وساعدت الكثافة السكانية الصغيرة جنبا إلى جنب مع الموارد الطبيعية الوفيرة والاستثمار الأجنبي الخاص في جعل الغابون واحدة من أكثر بلدان المنطقة ازدهارًا، حيث يُعد مؤشر التنمية البشرية للغابون هو الأعلى في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء.. ولكن  القبول بشروط اللعبة الديموقراطية كان ظاهريا ولم يدفع للتحرر من مغريات السلطة والرغبة في تأبيد الحكم وإلغاء المعارضة وخدمة المصالح الشخصية والتحكم في الثروات جعل الغابون يعود الى دائرة الانقلابات بسبب الاستبداد والفساد التسلط والحكم المطلق الذي لا يمكن إلا أن يكون كارثيا في نتائجه مهما طال أمده.. الأكيد أن إفريقيا تحتاج الى الارتقاء الى مرتبة المواطنة والى التحرر من القيود والألغام التي تفرض على شعوبها ان تكون في مرتبة دونية والى التخلص من نموذج الحكم الذي فرض عليها فرضا وهذا لن يتحقق بدون استعادة شعوب إفريقيا القدرة على التحكم في مواردهم وبدون توفر الأدوات الكفيلة بتحقيق ذلك وأولها التعليم والقضاء على الجهل والتخلف والمرض والأوبئة والتوجه لبناء  المجتمعات والاستفادة من الثروات الطبيعية لتحقيق التنمية وبناء علاقات مع مختلف الشركاء في العالم للاستفادة من كل التجارب والمساعدات للخروج من دائرة التسلط والفساد والانقلابات ..

آسيا العتروس

ممنوع من الحياد..   انقلاب الغابون.. إذا عرف السبب ..

 

من الصور التي بقيت عالقة في ذاكرتي عن الغابون خلال مشاركة في تغطية الدورة التاسعة لوزراء الإعلام للمؤتمر الإسلامي، قبل أن تتحول الى التعاون الإسلامي في العاصمة الغابونية، ليبروفيل في أفريل 2012 مشهد موقع السفارة الفرنسية العملاق الجاثم في ساحة الاستقلال على امتداد شارع pont pirah  ودون أدنى مبالغة يمكن القول إن السفارة هي أقرب إلى قاعدة عسكرية أكثر من أي شيء آخر وهي تحتل مساحة رهيبة وتتجاوز في هيبتها القصر الرئاسي ذاته بما يجعلها تثير الأنظار، وأذكر أن تجاوز موقع السفارة الفرنسية في ليبروفيل يحتاج لنحو ربع ساعة بالسيارة.. وفي ذلك بالتأكيد رمزية كبيرة لوزن وموقع وهيمنة فرنسا على الغابون وعلى القارة الإفريقية عموما بعد انقضاء نحو ستة عقود على استقلال الدول التي كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي.. أستحضر هذه الصورة اليوم فيما لا تزال الأخبار شحيحة بشأن ما سيؤول إليه آخر الانقلابات المسجلة  قبل ساعات في الغابون هذا البلد الإفريقي الذي يلتحق بركب الانقلابات المتكررة المسجلة من بوركينا فاسو ومالي والنيجر... طبعا ليس بالإمكان التكهن ما إذا ستكون الغابون آخر القائمة في سلسلة الانقلابات المتواترة في القارة الإفريقية أو ما إذا سنكون على موعد مع انقلاب جديد خاصة بعد رفض المعارضة  في زمبابوي نتائج الانتخابات الرئاسية وتشكيكها في النتائج وهو ما حدث في الغابون حيث تم الانقلاب بعد وقت وجيز من الإعلان عن فوز الرئيس علي بنغو الذي خلف والده في السلطة بولاية رئاسية ثالثة الأمر الذي لم يجد قبولا لدى المؤسسة العسكرية.. ولاشك أن في الإعلان عن الانقلاب عبر محطة "الغابون 24 التي تبث من داخل القصر الرئاسي ما يعني أن بنغو الرئيس المعزول فقد حماية حرسه الخاص.. وفي انتظار ما ستؤول إليه تطورات الأحداث في مختلف العواصم الإفريقية التي شهدت انقلابات عسكرية في الأشهر القليلة القادمة يمكن القول إنه برغم أن الانقلابات العسكرية تبقى من أسوأ وأخطر الأساليب للوصول الى الحكم وهي مدانة ومرفوضة لسبب مهم جدا وهو أن الدخول في الانقلابات العسكرية إذا ما بدأ لا يمكن أن يتوقف وسيتكرر كل حين.. ومع ذلك نقول إن ما حدث في الغابون فجر الأمس لم يكن مفاجئا والأكيد أنه إذا عرف السبب بطل العجب.. الملاحظ أيضا أن رفض وتنديد الاتحاد الإفريقي ومعه الاتحاد الأوروبي وكل القوى الغربية لم يعد له تأثير يذكر على الانقلابيين الذين يبدو أنهم وجدوا في المظاهر الاحتفالية الشعبية بالانقلابيين من النيجر الى الغابون ما يحصنهم أمام التحذيرات والتهديدات والعقوبات القادمة.. وفي ذلك ما يحمل في طياته أكثر من رسالة الى أكثر من طرف أولهم الحكام الأفارقة الذين جعلوا من الجمهوريات الإفريقية "جملوكيات" متوارثة لعائلات متنفذة وهذا كان حال علي بنغو الذي عين بعد وفاة والده عمر بنغو في اعقاب واحد واربعين عاما قضاها في السلطة وحكم البلاد بقبضة من حديد وجعل ولاءه لرمز الاستعمار السابق فرنسا التي تتحكم تقريبا بأغلب الاستثمارات علي بنغو منح أبناءه التسعة كل الأولويات ليجمعوا ثروة طائلة في فرنسا هي اليوم محل تحقيق وبحث.. حكاية عمر بنغو ومن بعده علي بنغو قد لا تختلف كثيرا عن بقية مغامرات الحكام الأفارقة ممن طبعوا مع الفشل وتبنوا نموذجا للحكم في خدمة المستعمرات السابقة بدل خدمة الشعوب.. الغابون كأغلب الدول الإفريقية ليس بلدا فقيرا فهو معروف بثرواته النفطية والغابية والمنغنيز ولكن الرئيس عمر بنغو الذي حكم البلاد طوال أربعين عاما قبل أن يخلفه ابنه علي بنغو طوال أربعة عشرة عاما والذي أطيح به بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية أراد غير ذلك. ذالك ان واحدا بين كل ثلاثة غابونيين فيه يعيشون تحت خط الفقر.. والغابون بلد المليوني ساكن منفتح ويحتضن مستثمرين من شتى أنحاء العالم وجاليات عربية وجدت في هذا البلد الفرصة لتفرض نفسها في مجالات السياحة والفندقة.. بداية التسعينات أقدم الغابون على تطوير نظام التعددية الحزبية ووضع دستوراً ديمقراطيًا جديدًا يسمح بعملية انتخابية أكثر شفافية وبإصلاح العديد من المؤسسات الحكومية. وساعدت الكثافة السكانية الصغيرة جنبا إلى جنب مع الموارد الطبيعية الوفيرة والاستثمار الأجنبي الخاص في جعل الغابون واحدة من أكثر بلدان المنطقة ازدهارًا، حيث يُعد مؤشر التنمية البشرية للغابون هو الأعلى في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء.. ولكن  القبول بشروط اللعبة الديموقراطية كان ظاهريا ولم يدفع للتحرر من مغريات السلطة والرغبة في تأبيد الحكم وإلغاء المعارضة وخدمة المصالح الشخصية والتحكم في الثروات جعل الغابون يعود الى دائرة الانقلابات بسبب الاستبداد والفساد التسلط والحكم المطلق الذي لا يمكن إلا أن يكون كارثيا في نتائجه مهما طال أمده.. الأكيد أن إفريقيا تحتاج الى الارتقاء الى مرتبة المواطنة والى التحرر من القيود والألغام التي تفرض على شعوبها ان تكون في مرتبة دونية والى التخلص من نموذج الحكم الذي فرض عليها فرضا وهذا لن يتحقق بدون استعادة شعوب إفريقيا القدرة على التحكم في مواردهم وبدون توفر الأدوات الكفيلة بتحقيق ذلك وأولها التعليم والقضاء على الجهل والتخلف والمرض والأوبئة والتوجه لبناء  المجتمعات والاستفادة من الثروات الطبيعية لتحقيق التنمية وبناء علاقات مع مختلف الشركاء في العالم للاستفادة من كل التجارب والمساعدات للخروج من دائرة التسلط والفساد والانقلابات ..

آسيا العتروس