إشترك في النسخة الرقمية لجريدة الصباح و LE TEMPS

النيجر : نهاية هوس استعماري (1/2)

بقلم خليفة السويح

 باحث في تاريخ إفريقيا المعاصر والبعثات الأممية بالكنغو

صدر له بفرنسا كتاب السياسة الفرنسية في إفريقيا عقاب غينيا

احتفى قائد عسكري فرنسي بنجاح التغلغل الاستعماري سنة 1900 بالنيجر بتأليف كتاب وصف فيه نيجر بأنها "طريق مفتوح لإمبراطوريتنا الإفريقية " وقلب محصن للجيش الفرنسي في الصحراء الكبرى. لكن  دماء مقاومة أريقت ونزفت مظالم من هذا البلد الذي مزقه التقسيم الاستعماري المفتعل فالنيجر التي سماها الفزاري ارض الذهب والغنية بالثروات الطبيعية وتعتبر من أهم منتجي الاورانيوم والذهب في العالم تصنف كأفقر بلد في العالم يقطنها 26.2 مليون ساكن (2022) يعيش نصفهم الفقر المدقع يحظون بأخفض معدل أمل حياة عند الولادة وأعلى معدل للامية في العالم ويدرس اغلب أطفالهم في مدارس من القش جبلوا على حياة شظف حيث لا نور كهربائي ولا مياه صالحة للشرب ولا طرقات معبدة ولا رعاية صحية في الغالب.

نشأة دموية

تضج  الذاكرة الجماعية لسكان الصحراءبدراما غطرسة الجيش الفرنسي. سيرت فرنسا لبسط نفوذها من سنة 1897 إلى سنة 1900 حملات عسكرية قادها عسكريون عديمي الشفقة أشهرها رعبا حملة فولي- شنوان Voulet-Chanoin نسبة الى العقيد بول فولي (33 سنة) وجوليان شانوان( 29 سنة ). انطلقت حملة فولي-شنوان من السينغال سنة 1899 لإخضاع غرب إفريقيا وصولا إلى تشاد مرتكبين طيلة 3 أشهر مجازر دموية أينما حلوا في طريقهم. أحرقت الحملة قرى ومدنا وقامت بسبي واغتصاب النساء وإعدام الشباب والشيوخ ورمى القادة بالرصاص كل مقاوم وتم إتلاف المحاصيل والمواشي خاصة في بلاد الهوسا وغرب النيحر. أثار ما ارتكب من جرائم القيادة العليا للجيش الفرنسي التي وضعت حدا لهذه الكتيبة الدموية ولكن التنكيل بالقرى والمقاومين في نيجر تواصل بوتيرة حادة ضد قرى الطوارق من طرف القائد لامي  LAMYوتعرضت القرى الواقعة على ضفاف نهر النيجر إلى النهب والحرق  كما تم قمع ثورات في جنوب نيجر في سنة 1900 و 1901 و 1905. اثر إخضاعها بالحديد والنار أحدثت النيجر كمجال عسكري فرنسي في 7 سبتمبر 1911 ثم مستعمرة تابعة لفيدرالية غرب إفريقيا الفرنسية في 3 أكتوبر 1922.

مأزق جغرافي

سنة 1962 صدر تقرير عن الأمم المتحدة أكد انه لا توجد مناطق أخرى في العالم بهذا العدد الكبير من الدويلات الصغيرة في العالم مثل غرب إفريقيا وهو ما حدا بالمفكر الألمعي السينغالي شيخ انتا ديوب إلى استشراف ان ذلك سيؤدي إلى بروز دول بوليسية صغيرة تسيرها سفارات أجنبية .  إن غرب إفريقيا في مأزق جغرافي جزأته فرنسا إلى دول صغيرة اثر إصدارها لقانون 1956 والذي ينسب الى غاستون ديفار ( رجل سياسة ورئيس بلدية مارسيليا لعشرات السنين). كان هدف ديغول بتحريض من هوفوات بوانيي هو صنع دول ضعيفة هشة يسهل لفرنسا السيطرة عليها . قسمت غرب إفريقيا إلى دول ساحلية ودول حبيسة مغلقة انعزالية لا تتمتع بممرات مائية ولا منافذ بحرية.النيجر بلد منعزل يعتبر ميناء عاصمة البنين بورتو نوفو منفذه البحري الوحيد على العالم. كانت الوحدة الإفريقية هي الحل الأسلم لتجاوز مأزق الخرائط الاستعمارية. لكن هوفوات بوانني رئيس الكوت ديفوار هدد وحرض الرئيس النيجيري هاماني ديوري على رفض أية مبادرة وحدة افريقية مقابل ضمان حكمه . انسحب هاماني ديوري من فيدرالية مالي التي نشات سنة 1960 بين مالي( السودان سابقا) والسينغال والتي تكفل الرئيس الشاعر ليولد سيدار سنغور والجنرال ديغول وجاك فوكار بإجهاضها حيث ولدت ميتة . لم تراع السلط الاستعمارية أي معطى اجتماعي اثني أو عرقي أو ديني في تقسيم النيجر حيث مزقت قبيلة الهاوسا المسلمة بين النيجر ونيجيريا ومالي وبوركينا وتشاد وشتت الفولاني المسلمين بين الدول وتمزقت وحدة شعب الطوارق بين دول الصحراء. تحولت النيجر إلى دولة صغيرة ضعيفة ذات قلق جغرافي محاصرة تشبه ملجئ ومخيم أو سجن وجد فيه الرعاة الرحل ومربو المواشي والصيادون والفلاحون المستقرون أنفسهم وجها لوجه فاحتدت صراعاتهم على الأرض والمرعى والماء والآبار. تضاربت داخل الوطن المصطنع انماط عيش سكان الشمال وسكان الجنوب وبين الفولاني والطوارق وبين العرب والصحراويين وهو ما سيشكل فتيل تناقضات وصراعات وانعدام امن وتصفية حسابات ليومنا الحالي.

اغتيال رمزي

كان الزعيم الوطني النيجري دجيبو باكاري أولى ضحايا استفتاء 28 سبتمبر 1958 الفرنسية الذي طرحه الجنرال ديغول اثر عودته لحكم فرنسا سنة 1958. طرحت فرنسا في هذا الاستفتاء سؤالا محددا ب"نعم" او"لا" للانضمام للمجموعة الإفريقية الفرنسية التي ستعوض صوريا الإمبراطورية الفرنسية. اختار معظم زعماء البلدان الإفريقية الفرانكفونية التصويت بنعم ومن أبرزهم هوفوات بوانييي وسنغور عتاة داعمي فرنسا وكان دجيبو باكاري الذي ولد سنة 1922 بقرية ساندوري قرب نيامي عاصمة نيجر أول زعيم وطني إفريقي يختار استقلال بلاده ودعى الشعب النيجري للتصويت ب"لا" ضد مشروع ديغول الاستعماري. كان دجيبو معلما ونقابيا أسس حزب الوطن "صوابا " في بداية الخمسينات وأصبح أول رئيس وزراء لنيجر سنة 1957. وصمت الإدارة الفرنسية دجيبو بالمتطرف والمتعصب ومثير للقلاقل وتكفل الحاكم الفرنسي للنيجر جون توبي Jean Toby بتزوير الانتخابات لصالح ال"نعم" وإبقاء النيجر في ركاب فرنسا. تم تعويضه بهاماني ديوري الذي أصبح أول رئيس لنيحر من 1960 الى 1974. وقع اقصاء دجيبو باكاري من الحياة السياسية وتعرض للهرسلة والمضايقات والاعتقالات واجبر على النفي ومنع حزبه من ممارسة أي نشاط سياسي وتوفي الزعيم الوطني باكاري منسيا ومهمشا ووأد معه أول مشروع تحرر فعلي لنيجر.

(يتبع)

 

النيجر : نهاية هوس استعماري (1/2)

بقلم خليفة السويح

 باحث في تاريخ إفريقيا المعاصر والبعثات الأممية بالكنغو

صدر له بفرنسا كتاب السياسة الفرنسية في إفريقيا عقاب غينيا

احتفى قائد عسكري فرنسي بنجاح التغلغل الاستعماري سنة 1900 بالنيجر بتأليف كتاب وصف فيه نيجر بأنها "طريق مفتوح لإمبراطوريتنا الإفريقية " وقلب محصن للجيش الفرنسي في الصحراء الكبرى. لكن  دماء مقاومة أريقت ونزفت مظالم من هذا البلد الذي مزقه التقسيم الاستعماري المفتعل فالنيجر التي سماها الفزاري ارض الذهب والغنية بالثروات الطبيعية وتعتبر من أهم منتجي الاورانيوم والذهب في العالم تصنف كأفقر بلد في العالم يقطنها 26.2 مليون ساكن (2022) يعيش نصفهم الفقر المدقع يحظون بأخفض معدل أمل حياة عند الولادة وأعلى معدل للامية في العالم ويدرس اغلب أطفالهم في مدارس من القش جبلوا على حياة شظف حيث لا نور كهربائي ولا مياه صالحة للشرب ولا طرقات معبدة ولا رعاية صحية في الغالب.

نشأة دموية

تضج  الذاكرة الجماعية لسكان الصحراءبدراما غطرسة الجيش الفرنسي. سيرت فرنسا لبسط نفوذها من سنة 1897 إلى سنة 1900 حملات عسكرية قادها عسكريون عديمي الشفقة أشهرها رعبا حملة فولي- شنوان Voulet-Chanoin نسبة الى العقيد بول فولي (33 سنة) وجوليان شانوان( 29 سنة ). انطلقت حملة فولي-شنوان من السينغال سنة 1899 لإخضاع غرب إفريقيا وصولا إلى تشاد مرتكبين طيلة 3 أشهر مجازر دموية أينما حلوا في طريقهم. أحرقت الحملة قرى ومدنا وقامت بسبي واغتصاب النساء وإعدام الشباب والشيوخ ورمى القادة بالرصاص كل مقاوم وتم إتلاف المحاصيل والمواشي خاصة في بلاد الهوسا وغرب النيحر. أثار ما ارتكب من جرائم القيادة العليا للجيش الفرنسي التي وضعت حدا لهذه الكتيبة الدموية ولكن التنكيل بالقرى والمقاومين في نيجر تواصل بوتيرة حادة ضد قرى الطوارق من طرف القائد لامي  LAMYوتعرضت القرى الواقعة على ضفاف نهر النيجر إلى النهب والحرق  كما تم قمع ثورات في جنوب نيجر في سنة 1900 و 1901 و 1905. اثر إخضاعها بالحديد والنار أحدثت النيجر كمجال عسكري فرنسي في 7 سبتمبر 1911 ثم مستعمرة تابعة لفيدرالية غرب إفريقيا الفرنسية في 3 أكتوبر 1922.

مأزق جغرافي

سنة 1962 صدر تقرير عن الأمم المتحدة أكد انه لا توجد مناطق أخرى في العالم بهذا العدد الكبير من الدويلات الصغيرة في العالم مثل غرب إفريقيا وهو ما حدا بالمفكر الألمعي السينغالي شيخ انتا ديوب إلى استشراف ان ذلك سيؤدي إلى بروز دول بوليسية صغيرة تسيرها سفارات أجنبية .  إن غرب إفريقيا في مأزق جغرافي جزأته فرنسا إلى دول صغيرة اثر إصدارها لقانون 1956 والذي ينسب الى غاستون ديفار ( رجل سياسة ورئيس بلدية مارسيليا لعشرات السنين). كان هدف ديغول بتحريض من هوفوات بوانيي هو صنع دول ضعيفة هشة يسهل لفرنسا السيطرة عليها . قسمت غرب إفريقيا إلى دول ساحلية ودول حبيسة مغلقة انعزالية لا تتمتع بممرات مائية ولا منافذ بحرية.النيجر بلد منعزل يعتبر ميناء عاصمة البنين بورتو نوفو منفذه البحري الوحيد على العالم. كانت الوحدة الإفريقية هي الحل الأسلم لتجاوز مأزق الخرائط الاستعمارية. لكن هوفوات بوانني رئيس الكوت ديفوار هدد وحرض الرئيس النيجيري هاماني ديوري على رفض أية مبادرة وحدة افريقية مقابل ضمان حكمه . انسحب هاماني ديوري من فيدرالية مالي التي نشات سنة 1960 بين مالي( السودان سابقا) والسينغال والتي تكفل الرئيس الشاعر ليولد سيدار سنغور والجنرال ديغول وجاك فوكار بإجهاضها حيث ولدت ميتة . لم تراع السلط الاستعمارية أي معطى اجتماعي اثني أو عرقي أو ديني في تقسيم النيجر حيث مزقت قبيلة الهاوسا المسلمة بين النيجر ونيجيريا ومالي وبوركينا وتشاد وشتت الفولاني المسلمين بين الدول وتمزقت وحدة شعب الطوارق بين دول الصحراء. تحولت النيجر إلى دولة صغيرة ضعيفة ذات قلق جغرافي محاصرة تشبه ملجئ ومخيم أو سجن وجد فيه الرعاة الرحل ومربو المواشي والصيادون والفلاحون المستقرون أنفسهم وجها لوجه فاحتدت صراعاتهم على الأرض والمرعى والماء والآبار. تضاربت داخل الوطن المصطنع انماط عيش سكان الشمال وسكان الجنوب وبين الفولاني والطوارق وبين العرب والصحراويين وهو ما سيشكل فتيل تناقضات وصراعات وانعدام امن وتصفية حسابات ليومنا الحالي.

اغتيال رمزي

كان الزعيم الوطني النيجري دجيبو باكاري أولى ضحايا استفتاء 28 سبتمبر 1958 الفرنسية الذي طرحه الجنرال ديغول اثر عودته لحكم فرنسا سنة 1958. طرحت فرنسا في هذا الاستفتاء سؤالا محددا ب"نعم" او"لا" للانضمام للمجموعة الإفريقية الفرنسية التي ستعوض صوريا الإمبراطورية الفرنسية. اختار معظم زعماء البلدان الإفريقية الفرانكفونية التصويت بنعم ومن أبرزهم هوفوات بوانييي وسنغور عتاة داعمي فرنسا وكان دجيبو باكاري الذي ولد سنة 1922 بقرية ساندوري قرب نيامي عاصمة نيجر أول زعيم وطني إفريقي يختار استقلال بلاده ودعى الشعب النيجري للتصويت ب"لا" ضد مشروع ديغول الاستعماري. كان دجيبو معلما ونقابيا أسس حزب الوطن "صوابا " في بداية الخمسينات وأصبح أول رئيس وزراء لنيجر سنة 1957. وصمت الإدارة الفرنسية دجيبو بالمتطرف والمتعصب ومثير للقلاقل وتكفل الحاكم الفرنسي للنيجر جون توبي Jean Toby بتزوير الانتخابات لصالح ال"نعم" وإبقاء النيجر في ركاب فرنسا. تم تعويضه بهاماني ديوري الذي أصبح أول رئيس لنيحر من 1960 الى 1974. وقع اقصاء دجيبو باكاري من الحياة السياسية وتعرض للهرسلة والمضايقات والاعتقالات واجبر على النفي ومنع حزبه من ممارسة أي نشاط سياسي وتوفي الزعيم الوطني باكاري منسيا ومهمشا ووأد معه أول مشروع تحرر فعلي لنيجر.

(يتبع)

 

  Conception & Réalisation  Alpha Studios Copyright © 2023  assabahnews